فصل: تفسير الآية رقم (10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏فاتخذه وكيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 9‏]‏، والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله‏.‏

وضمير ‏{‏يقولون‏}‏ عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استُغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن لو استقاموا على الطريقة‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏ الآيات من سورة ‏{‏قل أوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 1‏]‏، ولأنه سيأتي عقبه قوله ‏{‏وذَرْني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ فيبين المراد من الضمير‏.‏

وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق ‏(‏9، 10‏)‏ ‏{‏أرأيت الذي ينهَى عبداً إذا صلى‏}‏ قيل هو أبو جهل تهدّد رسول الله لئن صلى في المسجد الحرام ليَفْعَلَنّ ويفعلَنّ‏.‏ وفيها‏:‏ ‏{‏إِن الإِنسان ليطغى أن رءاه استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏ قيل هو الأخنس بن شريق «تنكَّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه»، وفي سورة القلم ‏(‏2 15‏)‏ ‏{‏ما أنت بنِعْمة ربّك بمجنون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فستبصر ويُبصرون بأيكم المفتون‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطِع كلّ حلاّف مهين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏قال أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 15‏]‏ ردّاً لمقالاتهم‏.‏ وفي سورة المدثر ‏(‏11 25‏)‏ إن كانت نزلت قبل سورة المزمل ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إلاَّ قول البشر‏}‏، قيل‏:‏ قائل ذلك الوليد بن المغيرة‏.‏ فلذلك أمر الله رسوله بالصبر على ما يقولون‏.‏

والهجر الجميل‏:‏ هو الحسَن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال‏:‏ كَريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويَعْرِض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جُردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصاً، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدّراً قبيحاً، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنيَ أُلقِيَ إليَّ كتاب كريم‏}‏ في سورة النمل ‏(‏29‏)‏، ومن هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏فصبر جميل‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏18‏)‏، وقوله فاصبر صبراً جميلاً في سورة المعارج ‏(‏5‏)‏‏.‏

فالهجر الجميل هو الذي يَقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرَّضاً لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك‏.‏ فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجراً جميلاً، أي أن يهجرهم ولا يزيدَ على هجرهم سَبّاً أو انتقاماً‏.‏

وهذا الهجر‏:‏ هو إمساك النبي عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ واصبر على ما يقولون‏.‏

وليس منسحباً على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي‏.‏

وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعاً خُلُقياً بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإِنسان في مخالطَة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطاً فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يَرضْ نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

القول فيه كالقول في ‏{‏فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث‏}‏ في سورة القلم ‏(‏44‏)‏، أي دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم‏.‏

وانتصب المكذبين‏}‏ على المفعول معه، والواو واو المعية‏.‏

والمكذبون هم من عناهم بضمير ‏{‏يقولون‏}‏ و‏{‏اهجرهم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏، وهم المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإِضمار لإِفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد‏.‏

ووصَفَهم ب ‏{‏أولي النَّعمة‏}‏ توبيخاً لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديداً لهم بأن الذي قال ‏{‏ذرني والمكذبين‏}‏ سيزيل عنهم ذلك التنعم‏.‏

وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدُّون سعة العيش ووفرة المال كمالاً، وكانوا يعيّرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزُون الآيات‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 29، 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 12‏]‏‏.‏

و ‏{‏النَّعمة‏}‏‏:‏ هنا بفتح النون باتفاق القراء‏.‏ وهي اسم للترفه، وجمعها أنعُم بفتح الهمزة وضم العين‏.‏

وأما النِّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإِنسان من عافية، وأمن ورزق، ونحو ذلك من الرغائب‏.‏ وجمعها‏:‏ نِعَم بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نِعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب‏.‏ وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كَسْرَة إِتباع‏.‏

والنُّعمة بضم النون اسم للمسرّة فيجوز أن تجمع على نُعْم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نُعَم بضم ففتح مثل‏:‏ غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن‏.‏

وجعلهم ذوي النَّعمة المفتوحة النون للإِشارة إلى أن قُصارى حظهم في هذه الحياة هي النَعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإِقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضل سبيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏ وتعريف ‏{‏النَّعمة‏}‏ للعهد‏.‏

والتمهيل‏:‏ الإِمهال الشديد، والإِمهال‏:‏ التأجيل وتأخير العقوبة، وهو مترتب في المعنى على قوله‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏، أي وانتظر أن ننتصِرْ لك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تستعجل لهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏

و ‏{‏قليلاً‏}‏ وصف لمصدر محذوف، أي تمهيلاً قليلاً‏.‏ وانتصب على المفعول المطلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

وهذا تعليل لجملة ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردِّك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفراً، فأعد الله لهم ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضداً لأصول النَّعمة التي خُوِّلوها، فبطِروا بها وقابلوا المنعِم بالكفران‏.‏

فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود‏.‏ والجحيم‏:‏ وهو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد‏.‏ والطعام‏:‏ ذو الغُصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد‏.‏ والأنكال‏:‏ جمع نِكْل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف‏.‏ وهو القيد الثقيل‏.‏

والغُصَّة بضم الغين‏:‏ اسم لأثر الغصّ في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعَبرة‏.‏

وإضافة الطعام إلى الغُصة إضافة مجازية وهي من الإِضافة لأدنى ملابسة، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبَشاعةٍ أو يبوسة‏.‏

والعذاب الأليم‏:‏ مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة‏.‏ وقد عرّف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم‏.‏

وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النَّعمة ‏(‏بالفتح‏)‏‏.‏

وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها، و‏(‏لدى‏)‏ يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة‏.‏ والتقدير‏:‏ لدى خزائننا، أي خزائن العذاب، ويجوز أن يكون مجازاً في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله‏.‏

ويتعلق ‏{‏يوم ترجف‏}‏ بالاستقرار الذي يتضمنه خبر ‏{‏إن‏}‏ في قوله ‏{‏إن لدينا أنكالاً‏.‏

والرجف‏:‏ الزلزلة والاضطراب، والمراد‏:‏ الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها‏.‏

والكثيب‏:‏ الرمل المجتمع كالربوة، أي تصير حجارةُ الجبال دُقاقاً‏.‏

ومهيل‏:‏ اسم فعول من هال الشيءَ هيلاً، إذا نثره وصبّه، وأصله مهيول، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو، لأنها زائدة ويدُلُّ عليها الضمة‏.‏

وجيء بفعل كانت‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وكانت الجبال كثيباً‏}‏، للإِشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي‏.‏ ووجه مخالفته لأسلوب ‏{‏ترجف‏}‏ أن صيرورة الجبال كثباً أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف، إلاّ أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم

والمناسبة لذلك التخلصُ إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجراً جميلاً إذ قال له ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وعذاباً أليماً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1113‏]‏‏.‏

فالكلام استئناف ابتدائي، ولا يُعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله‏.‏

فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين‏:‏ مذهب الجمهور ومذهب السكاكي‏.‏

والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثَل مضروب للمشركين‏.‏

وهذا أول مثَل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة‏.‏

واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإِعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مِثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏فقالوا أنؤمن لبشرين مثِلنا وقومُهما لنا عابدون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏ وقد قال أهل مكة ‏{‏لولا نُزِّل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا ‏{‏لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتَوْا عُتُوّاً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبيء صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفراً‏.‏

وأُكد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولاً‏.‏

ونكر ‏{‏رسولاً‏}‏ لأنهم يعلمون المعنيَّ به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإِرسال‏.‏

وأدمج في التنظير والتهديدِ وصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهداً عليهم‏.‏

والمراد بالشهادة هنا‏:‏ الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف ‏{‏شاهداً‏}‏ موافقاً لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإِبلاغ‏.‏

وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

‏{‏وتنكير رسولاً‏}‏ المرسَل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإِرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإِرسال في قوله‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا إلى فرعون‏}‏ إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولاً‏.‏

وتفريع ‏{‏فعصى فرعون الرسول‏}‏ إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحلّ بالمخاطبين لمَّا عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مِثلُ ما حلّ بفرعون‏.‏

وفي إظهار اسم فرعون في قوله‏:‏ ‏{‏فعصى فرعون‏}‏ دون أن يؤتَى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول‏.‏

ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أوّل مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفاً بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفاً فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عينَ الأولى‏.‏

والأخذ مستعمل في الإِهلاك مجازاً لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئاً من موضعه وجعله عنده‏.‏

والوبيل‏:‏ فعيل صفة مشبهة من وبُل المكان، إذا وَخِم هواؤه أو مَرعَى كَلَئِه، وقال زهير‏:‏

إلى كَلإٍ مُسْتَوبِللٍ مُتَوَخِّم ***

وهو هنا مستعار لسَيّئ العاقبة شديدَ السوء، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

الاستفهام ب ‏(‏كيف‏)‏ مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلاّ المؤاخذة بما شهد به، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتِّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنُه أن يثير فيهم تفكيراً من النجاة من الوقوع فيما هُدِّدوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى‏.‏

فالمعنى‏:‏ هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة، ففعل الشرط من قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ كفرتم‏}‏ مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدّوام من فعل ‏{‏كفرتم‏}‏ وإلاّ فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية‏.‏

و ‏{‏يوماً‏}‏ منصوب على المفعول به ل ‏{‏تتقون‏}‏‏.‏ واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر‏.‏

ووصف اليوم بأنه ‏{‏يجعل الولدان شيباً‏}‏ وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده‏.‏ وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو‏:‏

إذن والله نَرميهم بحرب *** تُشيب الطفل من قبل المشيب

فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت‏.‏ وقال العيني‏:‏ لم أجده في ديوانه‏.‏ وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله‏:‏

دَعانيَ من نجدٍ فإن سنينه *** لَعِبْنَ بنا شِيباً وشيبننا مردا

وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد ‏{‏يجعل الولدان شيباً‏}‏ إلى اليوم مجاز عقلي بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمَن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفاً‏.‏

والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله‏:‏ ‏{‏يجعل الولدان شيباً‏.‏

وجملة السماء منفطر به‏}‏ صفة ثانية‏.‏

والبَاء بمعنى ‏(‏في‏)‏ وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولاً ورعباً مما كني عنه بجملة ‏{‏يجعل الولدان شيباً‏.‏‏}‏ أي السماء عَلى عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه‏.‏

والانفطار‏:‏ التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏ في سورة المعارج ‏(‏4‏)‏‏.‏

وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعباً وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا لَه أثر في زيادة نكالهم‏.‏

ويجوز أن تجعل جملة السماء منفطر به‏}‏ مستأنفة معترضة بين جملة ‏{‏فكيف تتقون‏}‏ الخ، وجملة ‏{‏كان وعده مفعولاً‏}‏ والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائداً إلى الكفر المأخوذ من فعل ‏{‏كفرتم‏.‏

ويجوز أن يكون الإِخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ، أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمان ولداً لقد جئتم شيئاً إدَّاً يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 88 90‏]‏‏.‏

ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع‏.‏ قال الفراء‏:‏ السماء تذكَّر على التأويل بالسقف لأن أصل تسميتها سماءً على التشبيه بالسقف، أي والسقف مُذكر والسماء مؤنث‏.‏ وتبعه الجوهري وابن برّي‏.‏ وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر‏:‏

فلو رَفع السماءُ إليه قوماً *** لحقنا بالسماء مع السحاب

وأنشد ابن برّي أيضاً في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر‏:‏

وقالت سماءُ البيت فوقَك مُخْلَقٌ *** ولمَّا تَيَسَّر اجْتِلاَءُ الركَائب

ولا ندري مقدار صحة هاذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر‏.‏ وقيل‏:‏ إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياساً على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه‏.‏

ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث، إلى التذكير إيثاراً لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحرفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنَّبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انفطرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 1‏]‏ إذ ليس في الفعل إلاّ حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل، فجاءت بعدها تاء التأنيث‏.‏

وجملة ‏{‏كان وعده مفعولاً‏}‏ صفة أخرى ل ‏{‏يوماً،‏}‏ وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإِنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم‏.‏

وضمير ‏{‏وعده‏}‏ عائد إلى ‏{‏يوماً‏}‏ الموصوف، وإضافة ‏(‏وعد‏)‏ إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمناً استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلاً‏.‏

والإِشارة ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى الآيات المتقدمة من قوله‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجَهين به ابتداءً هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدًى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر على ما يقولون‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والتذكِرة‏:‏ اسم لمصدر الذُكر بضم الذال، الذي هو خطور الشيء في البال، فالتذكرة‏:‏ الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض‏.‏

وفرع على هذا التحريض التعريضيَّ تحريضٌ صريح بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً‏}‏ أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلاً فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تَبق للمتغافل معذرة‏.‏

والإِتيان بموصول ‏{‏من شاء‏}‏ من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلاّ مشيئته، لأن قوله‏:‏ ‏{‏إن هذه تذكرة‏}‏ قرينة على ذلك‏.‏ ومن هذا القبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقل الحقُ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ فليس ذلك إباحةً للإِيمان والكفر ولكنه تحريض على الإِيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط‏.‏ ولذلك قال ابن عطية‏:‏ ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد‏.‏

وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلاً ما من السُبل قال‏:‏ وهو حسن، فيبقى ظاهر الآية على حاله من التّخيير اه‏.‏

وقد علمت ممّا قرّرناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربّه‏}‏ تمثيل لحال طالب الفوز والهُدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أريَ السبيلَ الذي يبلِّغه إلى مقصده فلم يبق له ما يعوقه عن سلوكه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

من هنا يبتدئ ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة‏.‏

وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملاً بالأمر الذي في أول السورة من قوله‏:‏ ‏{‏قم الليل إلاّ قليلاً‏}‏ الآية ‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعاً لقوله فيها‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة‏.‏

واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسْبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها‏.‏ والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة‏.‏

ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمان عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة‏.‏ ومثلُه ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة‏.‏

ولا ينبغي أن يطال القول في أنَّ القيام الذي شُرع في صدر السورة كان قياماً واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسياً به وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسَخ وجوب قيام الليل، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضاً على المسلمين، وهو تأويل، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على الأمة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجَرى ذكر تعويضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج، وأن جوب الخمس على النبي صلى الله عليه وسلم مثل وجوبها على المسلمين‏.‏ وهذا قول ابن عباس لأنه قال‏:‏ إن قيام الليل لم ينسخه إلاّ آية‏:‏ ‏{‏إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل‏}‏ الآية، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى الله عليه وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه ‏{‏فاقرءوا ما تيسر من القرآن‏}‏‏.‏

وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلةَ بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه‏:‏ «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعدَه بقليل استيقظ رسول الله» ثم وصف وُضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح‏.‏ وابن عباس يومئذٍ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة‏.‏

ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلاّ حين احتجز موضعاً من المسجد لقيامه في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا يَنْسِلون إلى المسجد ليصلّوا بصلاة نبيئهم صلى الله عليه وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم‏:‏

‏"‏ لقد خشيت أن تفرض عليكم ‏"‏ وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة‏.‏

وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضاً عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلاّ لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قُدر أن بعض قيام الليل كان مفروضاً لكان قيامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أداء لذلك المفروض، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحفصة وقد قصَّت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم في الليل»‏.‏

وافتتاح الكلام ب ‏{‏إن ربك يعلم أنك تقوم‏}‏ يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أُمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدرِ المعين فيه النصففِ أو أنقصَ منه قليلاً أو زائدٍ عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثُلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما قضى موسى الأجل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏ أنه قضى أقصَى الأجلين وهو العشر السنون‏.‏

وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه ‏"‏

وتأكيد الخبر ب ‏{‏إِنَّ‏}‏ للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربّه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد‏.‏

ولم تزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيامَ مقامه بمكة، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم من قيام الليل الواجِب منه والرغيبةِ‏.‏

وفي حديث علي بن أبي طالب ‏"‏ أنه سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى منزله فقال‏:‏ كان إذا أوَى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء‏:‏ جُزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزَّأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئاً فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمةَ من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ‏"‏

وإيثار المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يعلم‏}‏ للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده وذلك إيذان بأنه بمحل الرضى منه‏.‏

وفي ضده قوله‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله المعوقين منكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏ لأنه في معرض التوبيخ، أي لم يزل عالماً بذلك حيناً فحيناً لا يخفى عليه منه حصة‏.‏

و ‏{‏أدْنى‏}‏ أصله أقرب، من الدنُوّ، استعير للأَقَلّ لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر‏.‏

وهو منصوب على الظرفيّة لفعل ‏{‏تقوم‏}‏، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو زد عليه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ثُلثي‏}‏ بضم اللام على الأصل‏.‏ وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏ونصفَه وثلثَه‏}‏ بخفضهما عطفاً على ‏{‏ثلثي الليل‏}‏، أي أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه‏.‏

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب ‏{‏ونصفه وثلثه‏}‏ على أنهما منصوبان على المفعول ل ‏{‏تقومُ‏}‏، أي تقوم ثلثي الليل، وتقوم نصف الليل، وتقوم ثلثَ الليل، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث‏.‏ وهذه أحوال مختلفة في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله ‏{‏قم الليل إلاّ قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو زد عليه‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة، وهي جملة ‏{‏والله يقدر الليل والنهار‏}‏ أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها‏.‏ فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات‏.‏ فمن العجاب قول الفرّاء أن النصب أشبه بالصواب‏.‏

و ‏{‏طائفة‏}‏ عطف على اسم ‏{‏إنَّ‏}‏ بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعدَ ذكرِ خبرِ ‏{‏إنّ‏}‏ لأنه يقدر رفعه حينئذٍ على الاستئناف كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفاً فإن بين قيام النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتاً في الحكم والمقدار، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله‏.‏ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن ويعاملهم، وأما الله فغاضب عليهم ولاَعنُهم‏.‏ وهذا وجه العدول عن أن يقول‏:‏ إنَّ الله يعلم أنكم تقومون‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أنك تقوم‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وطائفة‏}‏ الخ‏.‏

ووُصف ‏{‏طائفة‏}‏ بأنهم ‏(‏من الذين معه‏)‏، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية، أي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام‏.‏ أي المصاحبين لك في قيام الليل، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم، ففي حديث عائشة في «صحيح البخاري» «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال‏:‏ قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشِيت أن تُفرض عليكم، وذلك في رمضان»‏.‏

وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عَدَدْنا منهم‏:‏ عبدَ الله بن مسعود، وعبد الله بن عَمْرو، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء، وزينبَ بنتَ جحش، وعبدَ الله بن عُمَرَ، والحَولاء بنتَ تُوَيْت الأسدية، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقاً في أحاديث التهجد من «صحيح البخاري»‏.‏

واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك‏.‏

فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنهم فيما فعلوا‏.‏

والمقصود‏:‏ التمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل ‏{‏عَلِم‏}‏ في جملة ‏{‏علم أن سيكون منكم مرضى‏}‏ الخ ولم يقل‏:‏ وأن سيكون منكم مرضى بالعطف‏.‏

وجملة ‏{‏والله يقدر الليل والنهار‏}‏ معترضة بين جملتي ‏{‏إن ربّك يعلم أنك تقوم‏}‏ وجملة ‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏علم أن لن تحصوه‏}‏ يجوز أن تكون خبراً ثانياً عن ‏{‏إنَّ‏}‏ بعد الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل‏}‏ الخ‏.‏

ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً لما ينشأ عن جملة ‏{‏إن ربّك يعلم أنك تقوم‏}‏ من ترقب السامع لمعرفة ما مُهّد له بتلك الجملة، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏تحصوه‏}‏ عائد إلى القيام المستفاد من ‏{‏أنك تقوم‏.‏

والإِحصاء حقيقته‏:‏ معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدّوا شيئاً كثيراً جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإِطاقة‏.‏ شُبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل، بالأشياء المعدودة، وبهذا فسر الحسن وسفيان، ومنه قوله في الحديث استقيموا ولن تُحصوا أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة، أي فخذوا منها بقدر الطاقة‏.‏

وأنْ‏}‏ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة، وقد وقع الفصل بين ‏{‏أنْ‏}‏ وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلاً غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح‏.‏

و ‏{‏أنْ‏}‏ وجملتها سادة مسد مفعولي ‏{‏علم‏}‏ إذ تقديره علم عَدَم إحصائِكُمُوه واقعاً‏.‏

وفرع على ذلك ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ وفعل ‏{‏تاب‏}‏ مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه، بفعل ‏{‏تاب‏}‏ المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله‏.‏

والوجه أن يكون الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تحصوه‏}‏ وما بعده موجهاً إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل‏:‏ إِما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله‏:‏ ‏{‏وطائفة من الذين معك،‏}‏ وإِما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُظن تعذر الإِحصاء عليه، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏أن سيكونُ منكم مرضى‏}‏ الخ‏.‏

ومعنى ‏{‏فاقرأوا ما تيسر من القرآن‏}‏ فصلُّوا ما تيسر لكم، ولما كانت الصلاة لا تخلو عن قراءة القرآن أُتبع ذلك بقوله هنا‏:‏ ‏{‏فاقرأوا ما تيسر من القرآن‏}‏، أي صلوا كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وقرآنَ الفجر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإِيجاز‏.‏

والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنيّة وهو شيء كثير من القرآن المكيُّ كله وشيء من المدني، وليس مثل قوله في صدر السورة ‏{‏ورتل القرءان ترتيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏ كما علمت هنالك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما تيسر من القرءان‏}‏ أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزئ من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع، ولئن سلمنا، فإن ما تيسر مجمل وقد بينه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا صَلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ‏"‏، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يرو عنه أنه قرأ في الصلاة أقلَّ من سورة، وهو الواجب عند جمهور الفقهاء، فيكره أن يَقرأ المصلي بعضَ سورة في الفريضة‏.‏ ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان، وعند الضرورة، ففي «الصحيح» «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فأخذته بُحَّة فركع»، أي في أثناء السّورة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه‏:‏ تجزئ قراءة آية من القرآن ولو كانت قصيرة ومثَّله الحنفية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُدْهامَّتَان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 64‏]‏ ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين‏.‏

وتعيين من تجب عليه القراءة من منفرد وإمام ومأموم مُبين في كتب الفقه‏.‏

وفعلُ ‏(‏تاب‏)‏ إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف ‏(‏على‏)‏ لتضمينه معنى مَنَّ وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والندم منه عدي بما يناسب‏.‏

وقد نسخت هذه الآية تحديدَ مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل من ثلثه، وأصحاب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه‏.‏

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة ‏{‏عَلِمَ أنْ لَنْ تُحصوه،‏}‏ وهذا تخفيف آخر لأجل أحوال أخرى اقتضت التخفيف‏.‏

وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإِسلامية‏.‏ وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار‏:‏

الضرب الأول‏:‏ أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله‏:‏ ‏{‏أن سيكون منكم مرضى‏.‏

الضرب الثاني‏}‏‏:‏ الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش من تجارة وصناعة وحراثة وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله‏:‏ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏ وفضل الله هو الرزق‏.‏

الضرب الثالث‏:‏ أعمال لمصالح الأمة وأشار إليها قوله‏:‏ ‏{‏وآخرون يقاتلون في سبيل الله‏}‏ ودخل في ذلك حراسة الثغور والرِباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإِسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء‏.‏

وهذا كله من شؤون الأمة على الإِجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم كما في القتال في سبيل الله، والمرض ففي الحديث‏:‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين‏.‏

وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات‏.‏

وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلاّ تنويهاً بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر‏.‏

روي عن ابن مسعود أنه قال «أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسباً فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ ‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله‏}‏‏.‏

وعن ابن عمر‏:‏ «ما خلق الله موتة بعد الموت في سبيل الله أحب إليَّ من أن أموت بين شُعْبَتَي رَحْلي أبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض»‏.‏

فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم‏.‏

ومعنى ‏{‏يضربون في الأرض‏}‏ يسيرون في الأرض‏.‏

وحقيقة الضرب‏:‏ قرع جسم بجسم آخر، وسُمّي السير في الأرض ضرباً في الأرض لتضمين فعل ‏{‏يضربون‏}‏ معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف ‏{‏في‏}‏ لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏101‏)‏‏.‏

والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ أي التجارة في مدة الحج، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏ مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثيراً ويكون في النهار فيحتاج المسافر للنوم في النهار‏.‏

وفُرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال‏:‏ ‏{‏فاقرأوا ما تيسر منه‏}‏ أي من القرآن‏.‏

وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار‏.‏

وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين، أو بيانَ لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير لازم لهم‏.‏

وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجباً عليهم أو رفَع وجوبه‏.‏ ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقِيَ حكمُ القيام ورُخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي بالمظنة والحكم هنا عدمي، أي عدم الإِيجاب فهو نظير قصر الصلاة في السفر على قول عائشة أم المؤمنين‏:‏ «إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر»، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر‏.‏

وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركناً من أركان الإِسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه‏.‏

وأما حكم القيام فهو ما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏قم الليل إلاّ قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏ وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة‏.‏ وقد مضى ذلك كله‏.‏ فهذه الآية صالحة لأن تكون أصلاً للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلاً تقاس عليه الرخص العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الْأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏‏.‏

وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن في الصلوات الخمس ما يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة‏.‏

وعطف ‏{‏وءاتوا الزكاة‏}‏ تتميم لأن الغالب أنه لم يَخلُ ذكر الصلاة من قرن الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر رضي الله عنه «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة»‏.‏

وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يُقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حالُ معطي الصدقة مستجيباً رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضاً في أنه حقيق بأن يُرجع إليه ما أقرضه، وذلك في الثواب الذي يُعطاه يوم الجزاء‏.‏

ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المنّ والأذى، والحُسن متفاوت‏.‏

والحَسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك‏.‏

وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏245‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له ضعافاً كثيرة‏}‏ وفي سورة التغابن ‏(‏17‏)‏ ‏{‏إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفْه لكم‏}‏

وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً‏}‏‏.‏

تذييل لما سبق من الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً‏}‏، فإن قوله‏:‏ ‏{‏من خير‏}‏ يعم جميع فعل الخير‏.‏

وفي الكلام إيجازُ حَذْف‏.‏ تقدير المحذوف‏:‏ وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ شرطية‏.‏ ومعنى تقديم الخير‏:‏ فعله في الحياة، شُبِّه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثَقَلَه وأدوَاتِه وبعضَ أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت وصوله‏.‏

و ‏{‏من خير‏}‏ بيان لإِبهام ‏{‏ما‏}‏ الشرطية‏.‏

والخير‏:‏ هو ما وصفه الدين بالحُسْن ووعد على فعله بالثواب‏.‏

ومعنى ‏{‏تجدوه‏}‏ تجدوا جزاءه وثوابه، وهو الذي قصده فاعله، فكأنه وجد نفس الذي قدَّمه، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائِه باسم المعوض عنه والمجازَى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يَكنز المال ولا يؤدي حقه «مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ يأخذ بلِهْزِمَتَيْه يقول‏:‏ أنا مالك أنا كنزك»‏.‏

وضمير الغائب في ‏{‏تجدوه‏}‏ هو المفعول الأول ل ‏(‏تجدوا‏)‏ ومفعوله الثاني ‏{‏خيراً‏}‏‏.‏

والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافاً للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأنَّ أفْعَلَ مِن كَذا، أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه‏.‏

و ‏{‏خيراً‏}‏‏:‏ اسم تفضيل، أي خيراً مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير، بل المراد مضاعفة الجزاء، لما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 17‏]‏ وغير ذلك من كثير من الآيات‏.‏

وأفاد ضمير الفصل هنا مجرد التأكيد لتحقيقه‏.‏

وعُطف ‏{‏وأعظمَ أجراً‏}‏ على ‏{‏خيراً‏}‏ أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل‏.‏

وانتصب ‏{‏أجراً‏}‏ على أنه تمييز نسبة ل ‏{‏أعظمَ‏}‏ لأنه في معنى الفعل‏.‏ فالتقدير‏:‏ وأعظم أجره، كما تقول‏:‏ وجدته مُنبسطاً كفاً، والمعنى‏:‏ أن أجره خيرٌ وأعظمُ ممّا قدمتوه‏.‏

يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفاً على جملة ‏{‏وما تقدموا لأنفسكم‏}‏ الخ، فيكون لها حكم التذييل إرشاداً لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبةً منه‏.‏

ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشاداً من الله لما يسُدّ مسدّ قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربّه إذا انتبه من أجزاء الليل، وهو مشمول لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 18‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ينزل ربّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعْطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له»‏.‏ وقال‏:‏ «من تَعَارَّ من الليل فقال‏:‏ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ثم قال اللهم اغفر لي أوْ دعا استجيب له»‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ تعليل للأمر بالاستغفار، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة‏.‏ والمقصود من هذا التعليل الترغيبُ والتحريض على الاستغفار بأنه مرجوّ الإِجابة‏.‏ وفي الإِتيان بالوصفين الدّالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإِجابة‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

نوديّ النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة‏.‏ وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال‏:‏ دثروني دثروني، أو قال‏:‏ زملوني، أو قال‏:‏ زملوني فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها المدثر‏.‏

وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها المزمل‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1‏]‏ ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف‏.‏

و ‏{‏المدثر‏}‏‏:‏ اسم فاعل من تدثّر، إذا لبس الدِّثَار، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادَّعى‏.‏

والدِّثار‏:‏ بكسر الدال‏:‏ الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الذي يُلبس مباشِراً للجسد الذي يسمى شعاراً‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ الأنصار شِعَار والناسُ دِثَار ‏"‏

فالوصف ب ‏{‏المدثر‏}‏ حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى‏:‏ المدثر بالنبوءة، كما يقال‏:‏ ارتدى بالمجد وتأزَّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها المزمل، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودِثارها‏.‏

والقيام المأمور به ليس مستعملاً في حقيقته لأن النبي لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائماً ولا مضطجعاً ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإِقبال والتهمُّم بالإِنذار مجازاً أو كناية‏.‏

وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساوياً للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعدّ ابن مالك في التسهيل‏}‏ فعل قام من أفعال الشروع، فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يَكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في «الكشاف»‏:‏ قُم قيام عزم وتصميم‏.‏

وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مُرَّة بن مَحْكَانَ التميمي من شعراء الحماسة‏:‏

يا ربَّةَ البيتتِ قُومِي غيرَ صاغرة *** ضُمّي إليككِ رجال الحي والغُربا

فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملةٌ حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر‏:‏

على مَا قام يشتمني لئيم *** كخنزِير تمرَّغ في رماد

وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو وَلم يعرف قائله‏:‏

فقام يذود الناس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيللٍ إلى هند

وأفادت فاء ‏{‏فأنذر‏}‏ تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإِنذار‏.‏

ففعل ‏{‏قم‏}‏ منزَّل منزلة اللازم، وتفريع ‏{‏فأنذر‏}‏ عليه يبين المراد من الأمر بالقيام‏.‏

والمعنى‏:‏ يا أيها المدثر من الرعب لرؤية مَلَك الوحي لا تخف وأقبل على الإِنذار‏.‏

والظاهر‏:‏ أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمراً بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه ‏{‏إِنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وذَرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير‏.‏

ومفعول ‏{‏أنذر‏}‏ محذوف لإِفادة العُموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذٍ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

انتصب ‏{‏ربّك‏}‏ على المفعولية لفعل ‏(‏كَبِّر‏)‏ قُذم على عامله لإِفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام‏.‏

والواو عطَفت جملة ‏{‏ربَّك فكبر‏}‏ على جملة ‏{‏قم فأنذر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ودخلت الفاء على ‏(‏كَبّر‏)‏ إيذاناً بشرطٍ محذوف يكون ‏(‏كَبِّر‏)‏ جوابه، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهُيِّئ لِتقدير الشرط بتقديم المفعول‏.‏ لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ففيهما فجاهد ‏"‏ ‏(‏يعني الأبوين‏)‏‏.‏

فالتقدير‏:‏ مهمْا يكن شيء فكبّرْ ربّك‏.‏

والمعنى‏:‏ أن لا يفتر عن الإِعلان بتعظيم الله وتوحيده في كُل زمان وكل حال وهذا من الإِيجاز‏.‏ وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال‏:‏ هو كقولك زيداً فاضرب، تُريد‏:‏ زيداً اضرب‏.‏

وتكبير الرب تعظيمه ففعل ‏(‏كبّر‏)‏ يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فَعَّل، أي أخبر عنه بخبر التعظيم، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظَّم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله‏.‏

فمعنى ‏{‏وربَّك فكبِّر‏:‏‏}‏ صِف ربّك بصفات التعظيم، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها‏.‏

ومعنى ‏(‏كبِّر‏)‏‏:‏ كبره في اعتقادك‏:‏ وكبره بقولك تسبيحاً وتعليماً‏.‏ ويشمل هذا المعنى أن يقول‏:‏ «الله أكبر» لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجلّ وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحاً للصلاة‏.‏

وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏ فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة‏.‏ ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال‏:‏ وذلك قبل أن تفرض الصلاة‏.‏ فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هو في النظم مثل نظم ‏{‏وربّك فكبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 3‏]‏ أي لا تترك تطهير ثيابك‏.‏

وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة‏:‏

فشكَكْت بالرمح الأصم ثيابه *** كناية عن طعنه بالرمح‏.‏

وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك‏.‏ وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة»‏.‏ وقال‏:‏ هو غريب‏.‏

والطهارة لجسده بالأولى‏.‏

ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على ‏{‏وربَّك فكبر‏}‏ لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة‏.‏

وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه‏.‏

والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه‏.‏ وفي كلام العرب‏:‏ فلان نقي الثياب‏.‏ وقال غيلان بن سلمة الثقفي‏:‏

وإِنِّي بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنّع

وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس‏:‏

ثيابُ عوف طَهارَى نقية *** وأوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان

ودخول الفاء على فعل ‏{‏فطهر‏}‏ كما تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏وربّك فكبّر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وتقديم ‏{‏ثيابك‏}‏ على فعل ‏(‏طهِّرْ‏)‏ للاهتمام به في الأمر بالتطهير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الرجز‏}‏‏:‏ يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة‏.‏ وقال أبو العالية والربيع والكسائي‏:‏ الرّجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن‏.‏ ويحمل الرجز هنا على ما يشمل الأوثان وغيرها من أكل الميتة والدم‏.‏

وتقديم ‏{‏الرجز‏}‏ على فعل ‏(‏اهجر‏)‏ للاهتمام في مهيع الأمر بتركه‏.‏

والقول في ‏{‏والرجز فاهجر‏}‏ كالقول في ‏{‏وربّك فكبّر‏.‏

والهجر‏:‏ ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء‏.‏ والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس‏.‏

والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

مناسبة عطف ‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خُلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهياً يقتضي الأمر بالصدقة والإِكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال‏:‏ وتصدق وأُكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيراً فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت‏.‏

والسين والتاء في قوله‏:‏ ‏{‏تستكثر‏}‏ للعدّ، أي بعد ما أعطيته كثيراً‏.‏

وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم»‏.‏ ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة‏.‏

والمنّ‏:‏ تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه‏.‏

والاستكثار‏:‏ عدّ الشيء كثيراً، أي لا تستعظم ما تعطيه‏.‏

وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة‏.‏ وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى ‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ ليس شيء منها بمناسب، وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر‏.‏

و ‏{‏تستكثر‏}‏ جملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏تمنن‏}‏ وهي حال مقدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏‏}‏

تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة‏.‏

والصبر‏:‏ ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها‏.‏

ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ‏.‏

ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف ‏(‏على‏)‏، يقال‏:‏ صبر على الأذى‏.‏ ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام‏.‏ ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال‏:‏ اصبر على الله، ويقال‏:‏ اصبر على حكم الله، أو لحكم الله‏.‏ فيجوز أن تكون اللام في قوله ‏{‏لربّك‏}‏ لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربّك فإنك بأعيننا‏}‏ في سورة الطور ‏(‏48‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ في سورة الإِنسان ‏(‏24‏)‏ فيناسب نداءه ب ‏{‏يا أيها المدثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏]‏ لأنه تدثر من شدة وقع رؤية المَلك، وتركُ ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب‏.‏

ويجوز أن تكون اللام للتعليل، وحذف متعلق فعل الصبر، أي اصبر لأجل ربّك على كل ما يشق عليك‏.‏

وتقديم ‏{‏لربّك‏}‏ على «‏(‏اصبر‏)‏ للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجَعل بعضهم اللام في ‏{‏لربّك‏}‏ لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى‏:‏ إنه يصبر توكلاً على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين‏.‏

والصبر تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة في‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وفي التعبير عن الله بوصف ‏(‏ربّك‏)‏ إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له‏.‏

فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإِنذار في قوله ‏{‏فأنذر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏، أي فأنذر المنذَرين وأنذرهم وقتَ النقر في الناقور وما يقع يومئذٍ بالذين أُنذروا فأعرضوا عن التذكرة، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها‏.‏

ويجوز أن يكون معطوفاً على ‏{‏فاصبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏ بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين‏.‏

و ‏{‏الناقور‏}‏‏:‏ البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصُّور وهو قرن كبير، أو شبهُه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه، قال خُفاف بن نَدْبَةَ‏:‏

إذا نَاقورُهم يوماً تَبَدَّى *** أجاب الناسُ من غرب وشَرق

ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقْر وهو صوت اللسان مثل الصفير فقوله نُقر، أي صُوِّت، أي صوَّت مُصَوِّتٌ‏.‏ وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ اسم زمان أضيف إلى جملة ‏{‏نقر في الناقور‏}‏ وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فَذلك يومئذٍ يوم عسير‏}‏ لأنه في قوة فِعْل، أي عَسُر الأمرُ على الكافرين‏.‏

وفاء ‏{‏فذلك‏}‏ لجزاء ‏(‏إذا‏)‏ لأن ‏(‏إذا‏)‏ يتضمن معنى شرط‏.‏

والإِشارة إلى مدلول ‏(‏إذا نُقر‏)‏، أي فذلك الوقت يوم عسير‏.‏

و ‏{‏يومئذٍ‏}‏ بدل من اسم الإِشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعرف ب«أل» في نحو ‏{‏ذلك الكتابُ لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه، فهو وصف مجازي عقلي‏.‏ وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث‏.‏

و ‏{‏على الكافرين‏}‏ متعلق ب ‏{‏عسير‏}‏‏.‏

ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثِه مشهور في كلامهم، قال السَمَوْأل، أوْ الحارثي‏:‏

وأيَّامُنا مشهورةٌ في عدوّنا *** لها غُرر معلومة وحُجول

وإنما الغُرر والحجول مستعارة لصفات لقائهم العدوّ في أيامهم، وفي المقامة الثلاثين «لا عَقَدَ هذا العقدَ المبجَّل، في هذا اليوم الأغَر المُحْجَل، إلاّ الذي جال وجَاب، وشب في الكُدْيَة وشَاب» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات‏}‏ في سورة فصلت ‏(‏16‏)‏‏.‏

و ‏{‏غير يسير‏}‏ تأكيد لمعنى ‏{‏عسير‏}‏ بمرادفه‏.‏ وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال‏:‏ عاجلاً غير آجل، قال طالب بن أبي طالب‏:‏

فلْيكُن المغلوبَ غيرَ الغَالِبْ *** وليكن المسلوبَ غَيْر السَّالِبْ

وعليه من غير التأكيد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضلّوا وما كانوا مهتدين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏ ‏{‏قد ضلَلْتُ إذن وما أنا من المهتدين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد ما يشعر به لفظ ‏{‏غير‏}‏ من المغايرة فيكون تعريضاً بأن له حالة أخرى، وهي اليسر، أي على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم، وبشارة المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

لما جرى ذكر الكافرين في قوله‏:‏ ‏{‏فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 9، 10‏]‏، وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقوله‏:‏ ‏{‏ولربّك فاصبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏ انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم

وقوله‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ الخ‏.‏ استئناف يؤذن بأن حدثاً كان سبباً لنزول هذه الآية عقبَ الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أُمر بالإِنذار ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتمع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليدُ بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميةُ بن خلف، والعاصي بنُ وائل، والمُطْعِم بن عَدِي‏.‏ فقالوا‏:‏ إن وفود العرب ستقدِم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الأخبار عنه‏.‏ فمن قائل يقول‏:‏ مجنون وآخر يقول‏:‏ كاهن، وآخر يقول‏:‏ شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسَمُّوا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال‏:‏ شاعر، فقال الوليد بن المغيرة‏:‏ سمعتُ كلام ابننِ الأبرص ‏(‏يعني عَبيد بن الأبرص‏)‏ وأميّة بن أبي الصلت، وعرفتُ الشعر كله، وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا‏:‏ كاهن، فقال الوليد‏:‏ ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه‏.‏ والكاهن يصدُق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال‏:‏ مجنون، فقال الوليد‏:‏ لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يُخْنَق فما هو بخنقه ولا تَخالُجِه ولا وسوسته، فقالوا‏:‏ ساحر، قال الوليد‏:‏ لقد رأينا السُّحَّار وسِحْرهم فما هو بنفثه ولا عَقْده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال‏:‏ ما لكَ يَا با عَبدِ شمس أصَبَأْتَ‏؟‏ فقال الوليد‏:‏ فكَّرت في أمر محمد وإِن أقربَ القول فيه أن تقولوا‏:‏ ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فقال ابن إسحاق‏:‏ فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله‏:‏ ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ الآيات‏.‏

وعن أبي نصر القشيري أنه قال‏:‏ قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة‏:‏ أنتَ ساحر فوجد من ذلك غمّاً وحُمَّ فتدثر بثيابه فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قم فأنذر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وأيّاما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعنِيُّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن خلقت وحيداً‏}‏ فإن كان قول الوليد صدَر منه بعد نزول صدْر هذه السورة فجملة ‏{‏ذرني ومن خلقت وحيداً‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً والمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلاً بقوله‏:‏

‏{‏ولربّك فاصبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 7‏]‏ على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل، وما بينهما اعتراض، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رَمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوماً على الأصح سواء نزل وحي بين بدء الوحي وفترته مدةَ أيام، أوْ لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعتْ فترته، فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فأخذ المشركون في الاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم

وتصدير الجملة بفعل ‏{‏ذرني‏}‏ إيماء إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتماً ومغتماً مما اختلقه الوليد بن المغيرة، فاتصاله بقوله‏:‏ ‏{‏ولربّك فاصبر يزداد وضوحاً‏.‏

وتقدم ما في نحو ذَرني‏}‏ وكَذا، من التهديد والوعيد للمذكور بعد واو المعية، في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذَرني ومن يكذّب بهذا الحديث‏}‏ في سورة القلم ‏(‏44‏)‏‏.‏

وجيء بالموصول وصلته في قوله‏:‏ ومن خلقت وحيداً‏}‏ لإِدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد‏.‏

وانتصب ‏{‏وحيداً‏}‏ على الحال من ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة‏.‏

والوحيد‏:‏ المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام، أو شهرة أو قصة، وهو فعيل من وحُد من باب كَرُم وعَلِم، إذا انفرد‏.‏

وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهي كثْرةُ الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه مِن قبله، وكان مرجعَ قريش في أمورهم لأنه كان أسنّ من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به‏.‏ وجاء هذا الوصف بعد فعل ‏{‏خلَقْت،‏}‏ ليصرف هذا الوصف عما كان مراداً به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل ‏{‏خلقتُ‏}‏ أي أوجدتُه وحيداً عن المال والبنين والبسطة، فيغيَّر عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حالُ كل مخلوق فتكون من قبيل قوله‏:‏ ‏{‏والله أخرجكم من بطون أمهاتِكم لا تعلمون شيئاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 78‏]‏ الآية‏.‏

وعطف على ذلك ‏{‏وجعلتُ له مالاً‏}‏ عطفَ الخاص على العام‏.‏

والممدود‏:‏ اسم مفعول من مَدَّ الذي بمعنى‏:‏ أطال، بأن شُبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم، أو من مدّ الذي بمعنى‏:‏ زَاد في الشْيءِ من مثله، كما يقال‏:‏ مَد الوادي النهرَ، أي مالاً مزيداً في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب‏.‏ وكان الوليد من أوسع قريش ثراءً‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإِبل والغنم والعبيد والجواري والجِنان وكانت غلة ماله ألف دينار ‏(‏أي في السنة‏)‏‏.‏

وامتنّ الله عليه بنعمة البنين ووصَفهم بشهود جمع شاهد، أي حاضر، أي لا يفارقونه فهو مستأنس بهم لا يشتغل بالُه بمغيبهم وخوففِ معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخراً له، قيل‏:‏ كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابناً، والمذكور منهم سبعة، وهم‏:‏ الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وقيس أو أبو قيس، وعبد شمس ‏(‏وبه يكنى‏)‏‏.‏

ولم يذكر ابن حزم في «جمهرة الأنساب»‏:‏ العاصي‏.‏ واقتصر على ستة‏.‏

والتمهيدُ‏:‏ مصدر مهّد بتشديد الهاء الدال على قوة المَهْد‏.‏ والمَهْد‏:‏ تسوية الأرض وإزالة ما يُقِضُّ جنب المضطجع عليها، ومَهْدُ الصبي تسمية بالمصدر‏.‏

والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر‏.‏

وأُكد ‏{‏مهَّدْتُ‏}‏ بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإِفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز‏.‏

ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة، فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع كل حلاّف مهين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 10‏]‏ الخ بناء على قول من قال‏:‏ إن المراد به الوليد بن المغيرة ‏(‏وقد علمت أنه احتمال‏)‏ لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يطمع‏}‏ للتراخي الرتبي، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يُسر أموره‏.‏ وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏كلا‏.‏

والطمع‏:‏ طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طَمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام، أو لأنّه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أنها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجاً بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة‏.‏

ولهذه النكتة عُدِل عن أن يقال‏:‏ يطمع في الزيادة، أو يطمع أن يُزاد‏.‏

وكلاّ‏}‏ ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النّعم وقطع لرجائه‏.‏

والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وفي هذا الإِبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏، ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله‏:‏ «من لم يشكر النعم فقد تعرَّض لزوالها، ومن شكرها فقد قَيَّدها بعِقَالها»‏.‏

يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلاً للردع والإِبطال، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفراناً للنعمة فكانت سبباً لقطعها عنه إذ قد تجاوز حدّ الكفر إلى المناواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعماً عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافاً للأشعري، واختار المحقّقون أنه خلاف لفظي‏.‏

ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلاّ‏}‏‏.‏

والعنيد‏:‏ الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فَعيل من‏:‏ عَنَدَ يعنِد كضرب، إذا نازع وجادل الحق البين‏.‏

وعناده‏:‏ هو محاولته الطعن في القرآن وتحيله للتمويه بأنه سحر، أو شعر، أو كلام كهانة، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش، قبل أن يلومَه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة، وهو أن يقول‏:‏ هو سحر، تشبثاً بأن فيه خصائص السحر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة‏.‏