فصل: تفسير الآيات رقم (14- 15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

إضراب انتقالي، وهو للترقي من مضمون ‏{‏يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ إلى الإِخبار بأن الكافر يَعلَم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال‏:‏ ‏{‏يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ ولم أدر ما حِسَابيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25، 26‏]‏، ‏{‏ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ونظم قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ صالح لإِفادة معنيين‏:‏

أولهما أن يكون ‏{‏بصيرة‏}‏ بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون ‏{‏بصيرة‏}‏ خبراً عن ‏{‏الإنسان‏}‏‏.‏ و‏{‏على نفسه‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏بصيرة‏}‏، أي الإِنسان بصيرٌ بنفسه‏.‏ وعُدّي بحرف ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً‏}‏‏.‏ وهاء ‏{‏بصيرة‏}‏ تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسَّابة، أي الإِنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ‏.‏

والمعنى الثاني‏:‏ أن يكونَ ‏{‏بصيرة‏}‏ مبتدأ ثانياً، والمراد به قرين الإِنسان من الحفظة وعلى نفسه خبرَ المبتدأ الثاني مقدماً عليه، ومجموعُ الجملة خبراً عن ‏{‏الإنسان‏}‏، و‏{‏بصيرة‏}‏ حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير، أي مبصر والهاء للمبالغة، كما تقدم في المعنى الأول، وتكون تعدية ‏{‏بصيرة‏}‏ ب ‏{‏على‏}‏ لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول‏.‏

ويحتمل أن تكون ‏{‏بصيرة‏}‏ صفة لموصوف محذوف، تقديرة‏:‏ حجة بصيرة، وتكون ‏{‏بصيرة‏}‏ مجازاً في كونها بينة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمودَ الناقة مبصرة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ والتأنيثُ لتأنيث المَوصوف‏.‏

وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإِيجازها ووفرة معانيها‏.‏

وجملة ‏{‏ولو ألقَى معاذيرَه‏}‏ في موضع الحال من المبتدأ وهو الإِنسان، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها‏.‏

‏{‏لو‏}‏ هذه وَصْلِيَّةٌ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره‏.‏

والإِلقاء‏:‏ مراد به الإِخبار الصريح على وجه الاستعارة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ في سورة النحل ‏(‏86‏)‏‏.‏

والمعاذير‏:‏ اسم جمع مَعذرة، وليس جمعاً لأن معذرة حقه أن يُجمع على معَاذر، ومثل المعاذير قولهم‏:‏ المناكير، اسم جمع مُنْكَر‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ أن معاذير هُنا جمع مِعْذار بكسر الميم وهو السِتر بلغة اليمن يكون الإِلقاء مستعملاً في المعنى الحقيقي، أي الإِرخاء، وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذباً بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره‏.‏

ومعاذيره‏}‏‏:‏ جمع معرف بالإِضافة يدل على العموم‏.‏ فمن هذه المعاذير قولهم‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لعليَ أعْمَلُ صالحاً فيما تركتُ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ ومنها قولهم‏:‏ ‏{‏ما جاءَنا من بشير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 19‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء أضَلونا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

هذه الآية وقعت هنا معترضة‏.‏ وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يُحرك به لسانه يُريد أن يحفَظَه مخافةَ أن يتَفَلَّتَ منه، أو من شدة رغبته في حِفْظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنَزَل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ به لسانك لتَعْجَل بِه إِنَّ علينا جمعَه وقرآنه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ جَمْعَه في صدرك ثم تَقْرَأُه فإذا قرأنَاه فاتّبعْ قُرْآنه قال فاستَمِعْ له وأنْصِتْ، ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك، أي أن تقرأه» اه‏.‏ فلما نزل هذا الوحي في أثناء نزول السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يَكن سورةً مستقلة كان ملحقاً بالسورة وواقعاً بين الآي التي نَزَل بينها‏.‏

فضمير ‏{‏به‏}‏ عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه‏}‏، أي إذا قَرأه جبريل عنا، فأُسْنِدَتْ القراءةُ إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي، والقرينة واضحة‏.‏

ومعنى ‏{‏فاتَّبع قرآنه‏}‏، أي أنْصِتْ إلى قِرَاءتِنَا‏.‏

فضمير ‏{‏قَرأناه‏}‏ راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في ‏{‏لا تُحرك به‏}‏ وهو القرآن بالمعنى الأسمي، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع ‏{‏ومَا نتنزّل إلاّ بأمر ربك‏}‏ في سورة مريم ‏(‏64‏)‏، ووقوع ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوسطى في أثناء أحكام الزوجات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏238‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة‏:‏ هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير‏.‏ وذكر الفخر عن القفال أنه قال‏:‏ إن قوله‏:‏ لا تُحرك به لسانك‏}‏ ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإِنسان المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏ينبَّأ الإِنسان‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏ فكان ذلك للإِنسان حا لَما يُنَبَّأُ بقبائح أفعاله فيقال له‏:‏ اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له‏:‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإِقرار، ثمّ إن علينا بيان مراتب عقوبته، قال القفال‏:‏ فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه‏.‏

وأقول‏:‏ إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه‏.‏

والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة‏:‏ أن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلّت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عَده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطاً لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه، فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لمَا كان يلاقيه في ذلك من الشدة‏.‏

و ‏(‏قرآن‏)‏ في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغُفران والفُرقان، قال حسان في رثاء عثمان بن عفان‏:‏

يقَطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا ***

ولفظ ‏{‏علينا‏}‏ في الموضعين للتكفل والتعهّد‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ في ‏{‏ثم إن علينا بيانه‏}‏ للتراخي في الرتبة، أي التفاوتتِ بين رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قولُه ‏{‏إنَّ علينا جَمْعه وقرآنه‏}‏، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي ‏{‏إِن علينا بيانه‏}‏‏.‏ ومعنى الجملتين‏:‏ أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظاً في الصدور بيّناً لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قُرب أو بُعد‏.‏

فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه‏.‏

وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبيّن متمسكين بأن ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي وهو متمسَّك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته ‏{‏ثم‏}‏ إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن، ولأن ‏{‏ثم‏}‏ قد عَطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ ‏{‏بيانه‏}‏ خاصة، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقاً لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

رجوع إلى مَهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجِع المتكلم إلى وَصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل، فكلمة ‏{‏كلاّ‏}‏ ردع وإبطال‏.‏ يجوز أن يكون إبطالاً لما سبق من قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه إلى قوله‏:‏ ولو ألقى معاذيره‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3 15‏]‏، فأعيد ‏{‏كَلاّ‏}‏ تأكيداً لنظيره ووصلاً للكلام بإعادة آخر كلمة منه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن مَزَاعِمَهُم باطلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بل تحبون العاجلة‏}‏ إضراب إبطالي يُفصِّل ما أجمله الردع ب ‏{‏كّلا‏}‏ من إبطال ما قبلها وتكذيبِه، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة ‏(‏فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة، أي جرى على الأمر والنهي الشرعيين لم يكن مذموماً‏.‏ قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون ‏{‏وابتغ فِيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون إبطالاً لما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏ولو ألقى معاذيره‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 15‏]‏ فهو استئناف ابتدائي‏.‏ والمعنى‏:‏ أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، أي آثروا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حساباً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تحبون‏}‏ و‏{‏تذرون‏}‏ بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مُواجَهة بالتفريع لأن ذلك أبلغ فيه‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة، والضمير عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 14‏]‏ جاء ضمير جمع لأن الإِنسان مراد به الناس المشركون، وفي قوله‏:‏ ‏{‏بل تحبون‏}‏ ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وُفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

المراد ب ‏{‏يومئذٍ‏}‏ يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداءً من قوله‏:‏ ‏{‏يقول الإِنسان يومئذٍ أين المفر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 10‏]‏، وأعيد مرتين‏.‏

والجملة المقدرة المضاف إليها ‏(‏إذْ‏)‏، والمعوَّضُ عنها التنوين تقديرها‏:‏ يوم إذ بَرَق البصر‏.‏

وقد حصل من هذا تخلص إلى إجمال حال الناس يوم القيامة بين أهل سعادة وأهل شقاوة‏.‏

فالوجوه الناضرة وجوه أهل السعادة والوجوه الباسرة وجوه أهل الشقاء، وذلك بين من كلتا الجملتين‏.‏

وقد علم الناس المعنيَّ بالفريقين مما سبق نزوله من القرآن كقوله في سورة عبس ‏(‏40 42‏)‏‏:‏ ‏{‏وَوُجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة‏}‏ فعُلم أن أصل أسباب السعادة الإِيمان بالله وحده وتصديق رسُوله والإِيمان بما جاء به الرسول، وأن أصل أسباب الشقاء الإشراك بالله وتكذيب الرسول ونبذ ما جاء به‏.‏ وقد تضمن صدر هذه السورة ما ينبئ بذلك كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وتنكير ‏{‏وجوه‏}‏ للتنويع والتقسيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فريقٌ في الجنة وفريق في السعير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ وقول الشاعر وهو من أبيات «كتاب الآداب» ولم يعزُه ولا عَزَاهُ صاحبُ «العُباب» في شرحه‏:‏

فيومٌ علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نُسَر

وقول أبي الطيب‏:‏

فيوماً بخيل تَطْرُد الروم عنهم *** وَيْومٌ بِجُود تَطرد الفَقر والجَدْبا

فالوجوه الناضرة الموصوفةُ بالنضْرة ‏(‏بفتح النون وسكون الضاد‏)‏ وهي حسن الوجه من أثر النعمة والفرح، وفعله كنصَر وكرُم وفرِح، ولذلك يقال‏:‏ ناضر ونَضير ونَضِر، وكُني بنضرة الوجوه عن فرح أصحابها ونعيمهم، قال تعالى في أهل السعادة ‏{‏تعرف في وجوههم نضرة النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ لأن ما يحصل في النفس من الانفعالات يظهر أثره‏.‏

وأخبر عنها خبراً ثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ وظاهر لفظ ‏{‏ناظرة‏}‏ أنه من نظَر بمعنى‏:‏ عايَن ببصره إعلاناً بتشريف تلك الوجوه أنها تنظر إلى جانب الله تعالى نظراً خاصاً لا يشاركها فيه من يكون دون رتبهم، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة «أن أناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ قال‏:‏ هَل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنكم لا تُضَارُّون في رؤية ربكم يومئذٍ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما»‏.‏

وفي رواية «فإنكم ترونه كذلك» وساق الحديث في الشفاعة‏.‏

وروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال‏:‏ «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال‏:‏ إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامُون في رؤيته» وربما قال‏:‏ «سترون ربكم عياناً»‏.‏

وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إذا دخل أهل الجنةِ الجنةَ يقول الله تعالى‏:‏ تُريدون شيئاً أزيدكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ألَم تبيّض وجوهنا ألم تُدْخِلْنا الجنة وتنجِّنا من النار، قال‏:‏ فيَكْشِف الحجابَ فما يُعطَوْن شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم»

فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإِجمال دلالة ظنية لاحتِمَالها تأويلات تأوَّلَها المعتزلةُ بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخوِّل رؤيتها لغير أهل السعادة‏.‏

ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها لأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات، ومقدارٍ يُحَاطُ بجميعه أو ببعضِه، إذا كانت الرؤية بصرية، فلا جرم أن يُعد الوعد برؤية أهل الجنة ربَّهم تعالى من قبيل المتشابه‏.‏

ولعلماء الإِسلام في ذلك أفهام مختلفة، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جَروا على طريقتهم التي تخلقوا بها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من الإِيمان بما ورد من هذا القبيل على إِجماله، وصرف أنظارهم عن التعمّق في تشخيص حقيقته وإدراجه تحت أحد أقسام الحكم العقلي، فقد سمعوا هذا ونظائره كلَّها أو بعضَها أو قليلاً منها، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله، ولكنهم انصرفوا إلى ما هو أحق بالعناية وهو التهمّم بإقامة الشريعة وبثّها وتقرير سلطانها، مع الجزم بتنزيه الله تعالى عن اللوازم العارضة لظواهر تلك الصفات، جاعلين إِمامهم المرجوع إليه في كل هذا قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏ليسَ كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشوى‏:‏ 11‏]‏، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله‏:‏ ‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ بالنسبة إلى مقامنا هذا، مع اتفاقهم على أنّ عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإِيمان، فلما نبعَ في علماء الإِسلام تطلّب معرفة حقائق الأشياء وألْجأهُم البحثُ العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأَفهام أهل العلم من الخَلف لأن طريقتهم في العلم طريقةُ تمحيص وهي اللائقة بعصرهم، وقارِن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإِسلامية من النِحل الاعتقادية، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم، وحَدَا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإِقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرارِ كلِّ حقيقة في نصابها، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل‏.‏

فسلكت جماعات مسالك التأويل الإِجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا التنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصِّلون صَرفها عن ظواهرها بل يُجملون التأويل، وهذه الطائفة تُدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتاً جعلها فرقاً‏:‏ فمنهم الحنابلة، والظاهرية، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة‏.‏

ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع التقييد بأنها مؤوَّلة عن ظواهرها بوجه الإِجمال‏.‏ وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكَرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول‏.‏

ومنهم فِرق النُّظَّارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية‏.‏

فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربَّهم ناسجة على هذا المنوال‏:‏

فالسلف أثبتوها دون بحث، والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوْه قطعياً وألْغَوْها‏.‏

والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب‏.‏

وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالماً من اتجاه نقوض ومُنُوع ومعارضات، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصاً من اتجاه مُنُوع مجردة أو مع المستندات، فطال الْأخذ والرد‏.‏ ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد‏.‏

ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى‏.‏

وهذا معنى قول سلفنا‏:‏ إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة، وإن اشمأزّ منها المعتزلة‏.‏

هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم، وأمّا ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال لن تراني‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏143‏)‏‏.‏

وتقديم المجرور من قوله‏:‏ إلى ربها‏}‏ على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة‏.‏

وبين ‏{‏ناضرة‏}‏ و‏{‏ناظرة‏}‏ جناس محرف قريب من التامّ‏.‏

وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله‏:‏ ‏{‏وجوهٌ يومئذٍ ناضرة‏}‏ أنها أُرِيدَ بها التفصيل والتقسيم لمقابلتِه بقوله‏:‏ ‏{‏ووجوهٌ يومئذٍ باسرة‏}‏، على حد قول الشاعر‏:‏

فيوم علينا ويومٌ لنا *** ويومٌ نُساء ويوم نسر

وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذٍ هي وجوه أهل الشقاء‏.‏ وأعيد لفظ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ تأكيداً للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم‏.‏

و ‏{‏باسرة‏}‏‏:‏ كالحة مِن تيقن العذاب، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم عبس وبسر‏}‏ في سورة المدثر ‏(‏22‏)‏‏.‏

فجملة تَظُنّ أن يُفْعَل بها فاقرة‏}‏ استئناف بياني لبيان سبب بسورها‏.‏

و ‏{‏فاقرة‏}‏‏:‏ داهية عظيمة، وهو نائب فاعل ‏{‏يُفعل بها‏}‏ ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعهُ ليس مؤنثاً حقيقياً، مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه، وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث‏.‏ وإِفراد ‏{‏فاقرة‏}‏ إفراد الجنس، أي نوعاً عظيماً من الداهية‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يُكتنه كنهها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ردع ثان على قول الإِنسان ‏{‏أيَّانَ يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏، مؤكِّد للردع الذي قبله في قوله‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بل تحبّون العاجلة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المَساق‏}‏ أُتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيُّؤِ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى‏.‏

وعن المغيرة بن شعبة يقولون‏:‏ القيامة القيامةُ، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال‏:‏ «أمَّا هذا فقد قامت قيامته»، فحالة الاحْتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يَعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرةً‏.‏

وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل‏:‏ ارتدعوا وتنبهوا على ما بَيْن أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعاً على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكداً للردع الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كلا بل تحبون العاجلة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 20‏]‏ بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة‏.‏

و ‏{‏إذا بلغت التراقي‏}‏ متعلق بالكون الذي يُقدر في الخبر وهو قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي‏.‏

وجملة ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏ بيان للردع وتقريب لإِبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيّان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعني قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏‏.‏

وتقديم ‏{‏إلى ربك‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏المساق‏}‏ للاهتمام به لأنه مناط الإِنكار منهم‏.‏

وضمير ‏{‏بلغت‏}‏ راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل ‏{‏بلغَتْ‏}‏ ومن ذكر ‏{‏التراقي‏}‏ فإن فعل ‏{‏بلغت التراقي‏}‏ يدل أنها روح الإنسان‏.‏ والتقدير‏:‏ إذا بلغت الروحُ أو النفس‏.‏ وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي‏:‏

أمَاوِيَّ ما يغني الثَّراء عن الفتى *** إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بهَا الصدر

أي إذا حشرجت النفس‏.‏ ومن هذا الباب قول العرب «أرْسَلَتْ» يريدون‏:‏ أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع‏.‏

والأنفاسُ‏:‏ جمع نفَس، بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق‏.‏

و ‏{‏التراقي‏}‏‏:‏ جمع تَرْقُوة ‏(‏بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث‏)‏ وهي ثُغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله‏.‏

فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أُمِن اللبس، لأن في تثنية ترقوة شيئاً من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مِثل ما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ في سورة ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ومعنى بلغتْ التراقي‏}‏‏:‏ أن الروح بلغت الحُنْجُرة حَيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلاّ في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى‏:‏

‏{‏فلولا إذا بلغت الحُلقوم الآية‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

واللام في ‏{‏التراقي‏}‏ مثل اللام في المساق فيقال‏:‏ هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تَرَاقِيَه، أي الإِنساننِ‏.‏

ومعنى ‏{‏وقيل مَنْ رَاقٍ‏}‏ وقال قائل‏:‏ من يَرْقِي هذا رُقْيَات لشفائه‏؟‏ أي سأل أهلُ المريض عن وِجْدَاننِ أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به والبحث عن عارف برقية المريض عادة عَربية ورد ذكرها في حديث السَرِيَّة الذين أَتَوْا على حيّ من أحياء العرب إذْ لُدغ سيد ذلك الحي فعَرض لهم رجل من أهل الحي، فقال‏:‏ هل فيكم مِن راق‏؟‏ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً‏.‏ رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب‏.‏

والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث‏:‏ هي كلام خاص معتقَد نفعه يقوله قائل عند المريض واضعاً يده في وقت القراءة على موضع الوَجَع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي مِن صَرَع الجنون ومن ضُر السموم ومن الحُمَّى‏.‏

ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سَمَّوا الراقي ونحوه عَرَّافاً، قال رؤبة بن العجاج

‏:‏ *** بَذَلْتُ لعَرَّاف اليَمامة حُكْمَهُ

وعَرَّاففِ نجدٍ إِنْ هُمَا شَفَيَانِي *** فما تركَا من عُوذَة يعرفانها

ولا رُقْيَةٍ بهَا رَقَيَاني ***

وقال النابغة يذكر حالةَ من لدغته أفعى‏:‏

تناذرها الراقُون من سُوء سمعها *** تُطلقه طَوْراً وطَوراً تُراجع

وكانَ الراقي ينفث على المَرْقِيّ ويتفُل، وأشار إليه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله‏:‏ «ثم إنه طَمَس المكتوب على غَفلة، وتَفَلَ عليه مِائَةَ تَفْلَة»‏.‏

وأصل الرقية‏:‏ ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقواللٍ ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياءَ كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة، وقد جاء في الإِسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏ظَنَّ‏}‏ عائد إلى الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏بل يريد الإِنسان‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 5‏]‏ أي الإِنسان الفاجر‏.‏

والظن‏:‏ العلم المقارب لليقين، وضمير ‏{‏أنه‏}‏ ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراقُ، أي فراق الحياة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والتفَّت الساقُ بالساق‏}‏ إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفافُ ساقَي المحْتضر بعد موته إذ تُلَفُّ الأَكفان على ساقيْه ويُقرن بينهما في ثوب الكفن فكُلُّ ساق منهما ملتفة صحبةَ الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيَّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة‏.‏

ويجوز أن يَكون ذلك تمثيلاً فإن العرب يستعملون الساق مثلاً في الشدة وجِدّ الأمر تمثيلاً بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون‏:‏ قامت الحرب على ساق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏يسأل أيان يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فالضمير عائد إلى الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ أي لجهله البعث لم يستعد له‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏كذّب‏}‏ ليشمل كلَّ ما كذب به المشركون، والتقدير‏:‏ كذب الرسولَ والقرآنَ وبالبعث، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإِسلام‏.‏

ويجوز أن يكون الفاء تفريعاً وعطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذٍ المساق‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خالياً من العُدّة لذلك اللقاء‏.‏

وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره‏:‏ فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم‏.‏

وقد ورد ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا دُكّت الأرض دكاً دكاً وجاء ربك والملَك صفاً صفاً وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإِنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21 24‏]‏‏.‏

وفعل ‏{‏صَدَّق‏}‏ مشتق من التصديق، أي تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذّب‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ فلا ءامن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبَعض المفسرين فَسَّر ‏{‏صدَّق‏}‏ بمعنى أعطى الصَّدَقة، وهو غير جار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال‏:‏ تَصَدق، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن كذب‏}‏‏.‏

وعُطف ‏{‏ولا صلّى‏}‏ على نفس التصديق تشويهاً له بأن حاله مبائن لأحْوَال أهل الإِسلام‏.‏ والمعنى‏:‏ فلم يؤمن ولم يسلم‏.‏

و ‏{‏لا‏}‏ نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير‏:‏

فَلا هو أخفاها ولم يتقدم ***

وهذا معنى قول الكسائي «‏(‏لا‏)‏ بمعنى ‏(‏لَم‏)‏ ولكنه يقرن بغيره يقول العرب‏:‏ لا عبدُ الله خارج ولا فلان، ولا يقولون‏:‏ مررت برجل لاَ محسن حتى يقال‏:‏ ولا مجمل» اه فإذا لم يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مُضِيَ إلاّ في إرادة الدعاء نحو‏:‏ «لا فُضَّ فُوك» وشذ ما خالف ذلك‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ اقْتَحَمَ العقَبَةَ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ فإنّه على تأويل تكرير النّفي لأنّ مفعول الفعل المنفي بحرف ‏{‏لا‏}‏ وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بيَّنها قوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام إلى قوله‏:‏ ‏{‏من الذين ءامنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏‏.‏ فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل‏:‏ فَكَّ رقبة ولا أطعَم يتيماً ولا أطعم مسكيناً ولا آمن‏.‏

وجملة ‏{‏ولكن كذب‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فلا صدّق‏}‏‏.‏

وحرف ‏{‏لكن‏}‏ المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مُخفَّفَ النون المشددة أختَ ‏(‏إنّ‏)‏ هو حرف استدراك، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إِما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، وإما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو ‏{‏ما كان محمدٌ أبَاً أحد من رجالكم ولكن رسولَ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وحرف ‏{‏لكن‏}‏ المخفف لا يعمل إعراباً فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجُملة ‏{‏ولكن كذب وتولى‏}‏ أفادت معنيين‏:‏ أحدهما توكيد قوله ‏{‏فلا صدَّق‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏كَذب‏}‏، وثانيهما زيادة بيان معنى ‏{‏فَلا صدق‏}‏ بأنه تولَّى عمداً لأنّ عدم التصديق له أحوال، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ إبليس أبى واستكبر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والتكذيب‏:‏ تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم

والتولي‏:‏ الإِعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن‏.‏

وفاعل ‏{‏صَدق‏}‏ والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإِنسان المتقدم ذكره‏.‏

و ‏{‏يتمطّى‏}‏‏:‏ يمشي المُطَيْطَاءَ ‏(‏بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة‏)‏ وهي التبختر‏.‏

وأصل ‏{‏يتمطى‏}‏‏:‏ يتمطط، أي يتمدد لأن المتبختر يمُدّ خطاه وهي مشية المعجب بنفسه‏.‏ وهنا انتهى وصف الإِنسان المكذب‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهياً بنفسه غير مفكر في مصيره‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ قال جمهور المتأولين‏:‏ هذه الآية كلها من قوله‏:‏ ‏{‏فَلا صدّق ولا صلّى‏}‏ نزلت في أبي جهل بن هشام، قال‏:‏ ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتمطى‏}‏ فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اه‏.‏ وفيه نظر سيأتي قريباً‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أولَى لك‏}‏ وعيد، وهي كلمة تَوعُّد تجري مَجرى المَثَل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم، والمراد به ما يراد بقولهم‏:‏ ويل لك، من دعاء على المجرور باللام بعدها، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه‏.‏

‏{‏فأوْلى‏}‏‏:‏ اسم تفضيل من وَلي، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه، قال الأصمعي‏:‏ معناه‏:‏ قاربكَ ما تَكره، قالت الخنساء‏:‏

همَمْتُ بنفسيَ كُلَّ الهموم *** فأولى لنفسيَ أولى لها

وكان القانص إذا أفلتَه الصيدُ يخاطب الصيد بقوله‏:‏ ‏{‏أولى لك‏}‏ وقد قيل‏:‏ إن منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولى لهم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فأولى لهم طاعة وقول معروف‏}‏ في سورة القتال ‏(‏20، 21‏)‏ على أحد تأويلين يجعل طاعة وقول معروف‏}‏ مستأنفاً وليس فاعلاً لاسم التفضيل، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن ‏{‏أولى‏}‏ عَلم لمعنى الوَيل وأن وزنه أفْعل من الويل وهو الهلاك، فأصل تصريفه أوْيَل لك، أي أشدُّ هلاكاً لك فوقع فيه القلب ‏(‏لطلب التخفيف‏)‏ بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أوْلَى بوزن أفلَحَ، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفاً فقالوا‏:‏ أولى في صورة وزن فَعْلى‏.‏

والكاف خطاب للإِنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهاراً وإضماراً، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإِنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ أولَى له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأولى‏}‏ تأكيد ل ‏{‏أَوْلى لك‏}‏ جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعي عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر‏.‏

قال قتادة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبَّبَ أبا جهل بثيابه وقال له ‏{‏أولى لك فأولى ثم أولَى لك فأولى‏}‏ قال أبو جهل‏:‏ يتهددني محمد ‏(‏أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد‏)‏ فوالله إني لأَعَزُّ أهللِ الوادي‏.‏ وأنزل الله تعالى ‏{‏أولى لك فأولى‏}‏ كما قَال لأبي جهل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أولى لك فأولى‏}‏ تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق‏.‏

وجيء بحرف ‏{‏ثم‏}‏ لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد، وتهديد بأشدَّ مما أفاده التهديد الأول وتأكيدُه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وأحسب أن المراد‏:‏ كُلُّ إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بل الإِنسان على نفسه بصيرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3 14‏]‏، وما أبو جهل إلاّ مِن أولهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديداً لأمثاله‏.‏

وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتُدئ به فارتبط بقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ فكأنه قيل‏:‏ أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسبُ أن نتركه في حالة العدم‏.‏

وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعُه بقوله‏:‏ ‏{‏أن يُترك سُدى‏}‏ كما ستعلمه‏.‏

والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وأصل معنى الترك‏:‏ مفارقة شيء شيئاً اختياراً من التَّارك، ويطلق مجازاً على إهمال أحد شيئاً وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي‏.‏

والمراد بما يترك عليه الإِنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حالَ العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدَّم وأخر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وعُدل عن بناء فعل يَترك للفاعل فبني للنائب إيجازاً لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق‏:‏ ‏{‏أن لن نجمع عظامه فكأنه قال‏:‏ أيحسب الإِنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى‏.‏

فجاء ذِكر سُدى‏}‏ هنا على طريقة الإِدماج فيما سيق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإِنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازِيه على ما عَمِله في حياته الأولى‏.‏

وفي إعادة ‏{‏أيحسب الإنسان‏}‏ تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله‏:‏ ‏{‏ألم يك نطفة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 37‏]‏ إلى آخر السورة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يترك سدى‏}‏ تكرير وتعداد للإِنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإِنسان وأخّر‏.‏

ومعنى هذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏‏.‏

و ‏{‏سُدى‏}‏ بضم السين وبالقصر‏:‏ اسم بمعنى المهمل ويقال‏:‏ سَدى بفتح السِّين والضمُّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال‏:‏ إبل سُدًى، وجمل سُدًى ويشتق منه فعل فيقال‏:‏ أسْدى إبله وأسديت إِبلي، وألفه منقلبة عن الواو‏.‏

ولم يفسر صاحب «الكشاف» هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع ‏{‏سُدى‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُترك‏}‏‏.‏

فإن الذي خلق الإِنسان في أحسن تقويم وأبدَعَ تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان لِيستعملها في منافعَ لا تنحصر أو في ضد ذلك مِن مفاسد جسيمة، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليهِ المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلاّ الأَنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يَهِيمُون في كل وادي، وتركُهم مَضرباً لقوللِ المثل «فإنّ الريح للعادِي»‏.‏

ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏، أي لا نعيد خلقه ونبعثَه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يُترك سُدى‏}‏ مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة ‏{‏أن يترك سدى‏}‏، أي لا يحسب أنه يترك غير مَرعِيّ بالتكليف كما تُترك الإِبل، وذلك يقتضي المجازاةَ‏.‏ وعن الشافعي‏:‏ لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمتُ أن السُّدَى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه‏.‏ وقد تبين من هذا أن قوله‏:‏ ‏{‏أن يترك سدى‏}‏ كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 40‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

استئناف هو علة وبيان للإِنكار المسوق للاستدلال بقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن يُترك‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏ الذي جعل تكريراً وتأييداً لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه الآية، أي أنَّ خلق الإِنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانِهِ دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانياً بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا‏:‏ أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه ويُعد ذلك متعذراً‏.‏ ألم نَبْدَأ خلقه إذْ كوَّنَّاه نطفة ثم تطوَّر خلقُه أطوَاراً فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانياً كذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

وهذه الجمل تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏‏.‏

وهذا البيان خاص بأحد معنيي التَّرك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيَّده قوله‏:‏ ‏{‏سُدَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 36‏]‏ أي تركه بدون جَزاء على أعماله لأن فائدة الإِحياء أن يجازى على عمله‏.‏ والمعنى‏:‏ أيحسب أن يترك فانياً ولا تجدد حياته‏.‏

ووقع وصف ‏{‏سدى‏}‏ في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة، وانتُقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة، فكان وقوعه إدماجاً‏.‏

فالإِنسان خُلق من ماء وطُوِّر أطواراً حتى صار جسداً حيّاً تامّ الخلقة والإِحساسسِ فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإِناث، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلاّ هو‏.‏

والنُطفة‏:‏ القليل من الماء سمي بها ماء التناسل، وتقدم في سورة فاطر‏.‏

واختلف في تفسير معنى ‏{‏تُمنَى‏}‏ فقال كثير من المفسرين معناه‏:‏ تراق‏.‏ ولم يُذكر في كتب اللغة أن فعل‏:‏ مَنَى أو أمْنَى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية ‏(‏مِنًى‏)‏ التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تُراق بها دماء الهدي، ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية‏.‏

وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح، فاسم ‏(‏مِنى‏)‏ عَلَم مرتجل، وقال ثعلب‏:‏ سميت بذلك من قولهم‏:‏ منَى الله عليه الموت، أي قدَّره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن ابن شميل وعن ابن عيينة‏.‏ وفسر بعضهم ‏{‏تُمنى‏}‏ بمعنى تخلق من قولهم منَى الله الخلق، أي خلقهم‏.‏ والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تُمْنُون‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏58‏)‏‏.‏

والعلقة‏:‏ القطعة الصغيرة من الدم المتعقد‏.‏

وعطف فعل كان علقة‏}‏ بحرف ‏{‏ثم‏}‏ للدلالة على التراخي الرتبي فإنّ كَوْنه علقة أعجب من كونه نطفةً لأنه صار علقة بعد أن كان ماءً فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من مجموعهما عَلقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم ‏(‏46‏)‏

‏{‏من نطفة إذا تمنى‏}‏

ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله‏:‏ فخلق‏}‏ بالفاء، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح‏.‏

وضمير ‏{‏خلق‏}‏ عائد إلى ‏{‏ربك‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وكذلك عطف ‏{‏فسَوّى‏}‏ بالفاء‏.‏

والتسوية‏:‏ جعل الشيء سواء، أي معدلاً مقوماً قال تعالى‏:‏ ‏{‏فسواهن سبع سماوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2‏]‏، أي فجعله جسداً من عظم ولحم‏.‏ ومفعول ‏(‏خلق‏)‏ ومفعول ‏(‏سوى‏)‏ محذوفان لدلالة الكلام عليهما، أي فخلقه فسوّاه‏.‏ وعُقب ذلك بخلقه ذكراً أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضاً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تُمنى‏}‏ بالفوقية على أنه وصف ل ‏{‏نطفة‏}‏‏.‏ وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف ‏{‏مَنِيّ‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإِنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضُه أو معظمه فهو إلى بَثثِ الحياة فيه وإعادةِ ما فنِيَ من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم‏.‏

والاستفهام إنكار للمنفي إنكارَ تقرير بالإِثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن يقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرَّر إن أراد إنكاراً كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإِنكار‏.‏

وقد جاء في هذا الختام بمحسّن ردّ العجز على الصدر، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث، وتسلسلَ الكلام في ذلك بأفانين من الإِثبات والتهديد والتشريط والاستدلال، إلى أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحييَ الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوّي بَنَانه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وتعميم الموتى في قوله‏:‏ ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ بعدَ جريان أسلوببِ الكلام على خصوص الإِنسان الكافر أو خصوص كافر معيّن، يجعل جملة ‏{‏أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ تذييلاً‏.‏

سورة الإنسان

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجَّه إلى غير معين ومُسْتعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم، والتقرير يقتضي حصول العلم بما قرر به وذلك إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإِنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالاً لإِشْراك المشركين‏.‏

وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام‏.‏

فجملة ‏{‏هل أتى على الإِنسان‏}‏ تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي ‏{‏إنا خلقنا الإِنسان من نطفة أمشاج‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ الخ‏.‏

و ‏{‏هل‏}‏ حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق، وقال جمعٌ أصل ‏{‏هل‏}‏ إنها في الاستفهام مثل ‏(‏قَدْ‏)‏ في الخبر، وبملازمة ‏{‏هل‏}‏ الاستفهامَ كثير في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى ‏(‏قد‏)‏، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر، ويَتطرق إلى الاستفهام بها ما يَتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات‏.‏ وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلاّ أن يَأتيهم الله في ظلل من الغمام‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏‏.‏

وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصِّل هذا المعنى‏.‏

والمعنى‏:‏ هل يقر كل إنسان موجودٍ أنه كان معدوماً زماناً طويلاً، فلم يكن شيئاً يذكر، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته ‏(‏وإن كان قد يذكر بوجه العُموم في نحو قول الناس‏:‏ المعدوم مُتوقف وجوده على فاعل‏.‏ وقول الواقف‏:‏ حبست على ذريتي، ونحوه فإن ذلك ليس ذِكراً لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدَّر وجودُه‏)‏‏.‏ وهم لا يسَعهم إلاّ الإقرار بذلك، فلذلك اكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع‏.‏

وتعريف الإِنسان‏}‏ للاستغراق مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِن الإِنسان لفي خسر إلاّ الذين ءامنوا‏}‏ الآية ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏، أي هل أتى على كل إنسان حينُ كان فيه معدوماً‏.‏

و ‏{‏الدهر‏}‏‏:‏ الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي‏.‏

والحين‏:‏ مقدار مُجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه‏.‏

وجملة ‏{‏لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ يجوز أن تكون نعتاً ل ‏{‏حين‏}‏ بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ ‏{‏حين‏}‏ على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ إذ التقدير‏:‏ لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، فالتقدير هنا‏:‏ لم يكن فيه الإِنسان شيئاً مذكوراً، أي كان معدوماً في زمن سبق‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة حالاً من ‏{‏الإنسان‏}‏، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت‏.‏

والشيء‏:‏ اسم للموجود‏.‏

والمذكورُ‏:‏ المعيّن الذي هو بحيث يُذكر، أي يعبّرُ عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال‏.‏ ويعلَّق لفظه الدال عليه بالأفعال‏.‏

فأمّا المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعيّن له فلا يذكر إلاّ بعنوانه العام كما تقدّم آنفاً، وليس هذا هو المراد بالذّكر هنا‏.‏

ولهذا نجعل ‏{‏مذكوراً‏}‏ وصفاً ل ‏{‏شيئاً‏}‏، أريد به تقييد ‏{‏شيئاً‏}‏، أي شيئاً خاصاً وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعيِّن له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه ‏{‏هل أتى على الإِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ لما فيه من التشويق‏.‏

والتقرير يقتضي الإِقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسامع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له‏:‏ إن الله خلقه بعد أن كان معدوماً فأوجَد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنساناً، فثبت تعلُّق الخلق بالإِنسان بعد عدمه‏.‏

وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أنّ الله خلق الإِنسان لعدم جريهم على موجَب العلم حيث عبدوا أصناماً لم يخلقوهم‏.‏

والمراد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ مثل ما أريد به في قوله‏:‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏ أي كل نوع الإِنسان‏.‏

وأُدمج في ذلك كيفية خلق الإِنسان من نطفة التناسِل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة‏.‏

وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة‏.‏

و ‏{‏أمشاج‏}‏‏:‏ مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة قال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا‏.‏

وصيغة ‏{‏أمشاج‏}‏ ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد، فهي إما جمع مِشْج بكسر فسكون بوزن عِدْل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذِبح، وهذا ما اقتصر عليه في «اللسان» و«القاموس»، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سَبب وأسباب، أو جمع مَشِج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف‏.‏

والوجه ما ذهب إليه صاحب «الكشاف»‏:‏ أن ‏{‏أمشاج‏}‏ مفرد كقولهم‏:‏ بُرمة أعشار وبُرد أكياش ‏(‏بهمزة وكاف وتحتية وألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين‏)‏‏.‏ قال‏:‏ «ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مَشَج بل هما ‏(‏أي مَشج وأمشاج‏)‏ مِثلان في الإِفراد اه‏.‏ وقال بعض الكاتبين‏:‏ إنه خالف كلام سيبويه‏.‏ وأشار البيضاوي إلى ذلك، وأحسب أنه لم يَر كلام سيبويه صريحاً في منع أن يكون ‏{‏أمشاج‏}‏ مفرداً لأن أثبت الإِفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه‏.‏

فإذا كان ‏{‏أمشاج‏}‏ في هذه الآية مفرداً كان على صورة الجمع كما في «الكشاف»‏.‏ فوصف ‏{‏نطفة‏}‏ به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعاً كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، ‏(‏فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضواً‏)‏ فوصفُ النطفة يجمع الاسم للمبالغة، أي شديدة الاختلاط‏.‏

وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة‏.‏

وجملة ‏{‏نبتليه‏}‏ في موضع الحال من الإِنسان وهي حال مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم‏:‏ مررتُ برجل معه صِقر صائداً به غداً‏.‏

وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة ‏{‏خلقنا‏}‏ وبين ‏{‏فجعلناه سَميعاً بصيراً‏}‏ لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى سبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع ‏{‏نبتليه‏}‏ بعد جملة ‏{‏إنا هديناه السبيل‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة‏.‏

وجيء بجملة ‏{‏إنا هديناه السبيل بياناً لجملة نبتليه‏}‏ تفنناً في نظم الكلام‏.‏

وحقيقة الابتلاء‏:‏ الاختبار لتُعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظيم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته‏.‏

وفُرع على خلقه ‏{‏من نطفة‏}‏ أنه جعله ‏{‏سميعاً بصيراً‏}‏، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه‏:‏ سامعاً مبصراً، لأن سمع الإِنسان وبصره أكثر تحصيلاً وتمييزاً في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقَّى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وُجود الله وبديع صنعه‏.‏

وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإِنسانَ من جعله تجاه التكليف واتباع الشرائع وتلك خصيصية الإِنسان التي بها ارتكزتْ مدنيته وانتظمت جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة ‏{‏نبتليه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ ولتفصيل جملة ‏{‏فجعلناه سميعاً بصيراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏، وتخلُّصّ إلى الوعيد على الكفر والوَعد على الشكر‏.‏

وهداية السبيل‏:‏ تمثيل لحال المرشدِ‏.‏ و‏{‏السبيل‏}‏‏:‏ الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرُسل إلى العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سَيْره‏.‏

وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهاتتِ أجزاءِ الحالة المركَّبَة المشبَّهة بأجزاء الحالة المشبَّه بها، فالله تعالى كالهادي، والإِنسان يشبه السائر المتحير في الطريق، وأعمال الدين تشبه الطريق، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكان المطلوب‏.‏

وفي هذا نداء على أن الله أرشد الإِنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلالَ الاعتقاد ومفاسدَ الأعمال، فمن بَرَّأَ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة، ثم ظهر من خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إنَّ‏)‏ للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القرآن باطل‏.‏

و ‏{‏إِما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ حالان من ضمير الغيبة في ‏{‏هديناه‏}‏، وهو ضمير ‏{‏الإِنسان‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏‏.‏

و ‏{‏إما‏}‏ حرف تفصيل، وهو حرفٌ بسيط عند الجمهور‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ هو مركب من حرف ‏(‏إِنْ‏)‏ الشرطية و‏(‏مَا‏)‏ النافية‏.‏ وقد تجردت ‏(‏إنْ‏)‏ بالتركيب على الشرطية كما تجردت ‏(‏مَا‏)‏ عن النفي، فصار مجموع ‏{‏إِما‏}‏ حرف تفصيل، ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل ‏(‏اَلْ‏)‏ حرففِ التعريف‏.‏ وقدر بعض النحاة ‏{‏إما‏}‏ الثانية حرفَ عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى، وإنما العاطف الواو و‏{‏إِما‏}‏ مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شراً‏:‏

هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ *** وإِمَّا دَممٍ والموتُ بالحُر أجْدَرُ

فإن الاسمين بعد ‏(‏إما‏)‏ في الموضعين من البيت مجرورَان بالإِضافة ولذلك حذفت النون من قوله‏:‏ هما خطتَا، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية‏.‏

قال ابن جنيّ‏:‏ «أما من جرَّ ‏(‏إِسار‏)‏ فإنه حذف النون للإِضافة ولم يَعتد ‏(‏إِمَّا‏)‏ فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه، وعلى هذا تقول‏:‏ هما إِما غلاما زيدٍ وإما عمرو، وأجودُ من هذا أن تقول‏:‏ هما خطتَا إِسارٍ ومنةٍ وإِما خطتا دم ثم قال‏:‏ وأما الرفع فطريق المذهب، وظاهر أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإِضافة فقد حُكي ذلك» الخ‏.‏

ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين‏:‏ الجرِ والرفع وقريب منه كلام المرزوقي وزاد فقال «وحَذف النون إذا رفعتَ ‏(‏إسارُ‏)‏ استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدَلِه وهو قوله‏:‏ إِما إسار» الخ‏.‏

والمعنى‏:‏ إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصففِ شاكر ووصففِ كفور، فأحدُ الوصفين على الترديد مقارنٌ لحال إرشاده إلى السبيل، وهي مقارنةٌ عرفية، أي عَقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكراً وإن أعرض كان كفوراً كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقى به السباع أو اللصوصَ، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إِنا هديناه السبيل‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

أريد التخلص إلى جزاء الفريقين الشاكر والكفور‏.‏

والجملة مُستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله‏:‏ ‏{‏إمّا شاكراً وإمّا كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ يثير تطلع السامعين إلى معرفة آثار هذين الحالين المترددِ حالُه بينَهما، فابتدئ بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب‏.‏

وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإِدخال الروْع عليهم لأن المتوعِّد إذا أكَّد كلامه بمؤكِّد فقد آذن بأنه لا هوادة له في وعيده‏.‏

وأصل ‏{‏أعتَدْنا‏}‏ أعدَدنا، بدالين، أي هيأنا للكافرين، يقال‏:‏ اعتدّ كما يقال‏:‏ أعَدَّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأعَتدتْ لهن متّكَأً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقد تردد أيمة اللغة في أن أصل الفعل بدالين أو بتاء ودال فلم يجزموا بأيهما الأصل لكثرة ورود فعل‏:‏ أعدّ، وفعل اعْتَدَّ في الكلام والأظهر أنهما فعلان نشآ من لغتين غير أن الاستعمال خصّ الفعل ذا التاء بعُدة الحرب فقالوا‏:‏ عَتَاد الحرب ولم يقولوا عدَاد‏.‏

وأما العُدة بضم العين فتقع على كل ما يعد ويهيأ، يقال‏:‏ أعد لكل حال عُدة‏.‏ ويطلق العَتاد على ما يُعدّ من الأمور‏.‏

والأكثر أنه إذا أريد الإِدغام جيء بالفعل الذي عينه دال وإذا وجد مقتضى فك الإِدغام لموجب مثل ضمير المتكلم جيء بالفعل الذي عينه تاء‏.‏

والسلاسل‏:‏ القيود المصنوعة من حَلق الحديد يقيد بها الجناة والأسرى‏.‏

والأغلال‏:‏ جمع غُلّ بضم الغين، وهو حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيَّد، وتناط بها السلسلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏ فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سَوْقهم إلى جهنم‏.‏

والسعير‏:‏ النار المسعرة، أي التي سعَّرها الموقِدون بزيادة الوَقود ليشتد التهابها فهو في الأصل وصف بمعنى اسم المفعول جعل علماً على جهنم‏.‏ وقد تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏كلَّما خبَتْ زدناهم سعيراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏97‏)‏‏.‏

وكتب سلاسلا‏}‏ في المصحف الإِماممِ في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءته، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا ‏{‏سَلاسلاً‏}‏ منوناً في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذ كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين اللذيْن بعده وهما ‏{‏أغلالاً‏}‏ و‏{‏سعيراً‏}‏، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساءٍ ‏"‏ ارجِعْنَ مَأزورات غير مأجورات ‏"‏ فجعل «مأزورات» مهموزاً وحقه أن يكون بالواو لكنه هُمز لمزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر «فيقال له‏:‏ لاَ درَيْت ولا تلَيْت»، وكان الأصل أن يقال‏:‏ ولا تَلوت‏.‏ ومنه قول ابن مُقْبِل أو القَلاَّحُ‏:‏

هتَّاكُ أخْبيَةٍ وَلاَّجُ أبْوِبَةٍ *** يُخَالطُ البِرُّ منه الجِدَّ واللِّينا

فقوله ‏(‏أبوبة‏)‏ جمع باب وحقه أن يَقول أبواب‏.‏

وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة‏.‏

وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل‏.‏

واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول ‏{‏سلاسلْ‏}‏ في الوقف‏.‏ وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منوناً في الوصل‏.‏

قرأه البَزي عن ابن كثير وابنُ ذكوان عن ابن عامر وحفصٌ عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها‏.‏

فأما الذين لم ينونوا ‏{‏سلاسلا‏}‏ في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية‏.‏ وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم لرسم المصحف محمولة على أن الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيراً ما تعطى أحكام القوافي والأسجاع‏.‏

وبعدُ فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سُنة مَخصوصة به وذكر الطيبي‏:‏ أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله‏:‏ ‏{‏سَلاسلا‏}‏ بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمَدّ والإِمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

هذا استئناف بياني ناشئ عن الاستئناف الذي قبله من قوله‏:‏ ‏{‏إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 4‏]‏ الخ‏.‏ فإن من عرف ما أعد للكَفُور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب‏.‏

وأخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن ‏{‏شاكراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ مذكور قبل ‏{‏كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإِطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريباً للموصوف من المشاهدة المحسوسة‏.‏

وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنون خيراً منهم في عالم الخلود، ولإِفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين‏.‏

و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ هم الشاكرون، عُبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم‏.‏

و ‏{‏الأَبرار‏}‏‏:‏ جمع بَر بفتح الباء، وجمعُ بَار أيضاً مثل شاهد وأشهاد، والبار أو البَرّ المكثر من البِرّ بكسر الباء وهو فعل الخير، ولذلك كان البَرّ من أوصاف الله تعالى قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا من قبل ندعوه أنه هو البَر الرحيم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ووصف بَرَ أقوى من بارّ في الاتصاف بالبرِ، ولذلك يقال‏:‏ الله بَر، ولم يُقل‏:‏ الله بَار‏.‏

ويجمع برّ على بَرَرة‏.‏ ووقع في «مفردات الراغب»‏:‏ أن بررة أبلغ من أبرار‏.‏

وابتدئ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها‏.‏

والكأس‏:‏ بالهمزة الإِناء المجعول للخمر فلا يسمى كأساً إلاّ إذا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأساً على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريباً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسقون فيها كأساً كان مزاجُها زنجبيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 17‏]‏ فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون ‏{‏مِن‏}‏ للابتداء وإفراد ‏{‏كأس‏}‏ للنوعية، ويجوز أن تراد الخمر فتكون ‏{‏مِن‏}‏ للتبعيض‏.‏

وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه‏.‏

والمزاج‏:‏ بكسر الميم ما يمزج به غيرُه، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيراً‏.‏

وضمير ‏{‏مزاجها‏}‏ عائد إلى ‏{‏كأس‏}‏‏.‏

فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإِضافة لأدنى ملابسة، أي مزاج ما فيها، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏

والكافور‏:‏ «زيت يستخرج من شجرة تشبه الدِفْلَى تنبت في بلاد الصين وجَاوة يتكون فيها إذا طالت مدتُها نحواً من مائتي سنة فيُغلَّى حَطَبها ويستخرج منه زيت يسمى الكَافور‏.‏ وهو ثخِن قد يتصلب فيصير كالزُبْد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذاً يتخمر فيصير مسكراً‏.‏

والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش‏.‏

فقيل إن المزاج هنا مراد به الماء والإِخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا أن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة‏:‏

وتسقى إذا ما شئت غير مُصرَّد *** بزوراء في حافاتها المسك كارع

ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة‏:‏ ‏{‏يُسْقَوْن من رحيق مختوم ختامه مسك‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏ وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان، كما قال امرؤ القيس‏:‏

صُبِّحْنَ سلافاً من رحيق مُفلفل ***

ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أو بزيته فيكون المزاج في الآية على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور‏.‏

ومن المفسرين من قال‏:‏ إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه ‏{‏عيناً يشرب بها عباد الله‏}‏ وستعلم حق المراد منه‏.‏

وإقحام فعل ‏{‏كان‏}‏ في جملة الصفة بقوله‏:‏ ‏{‏كان مزاجها كافوراً‏}‏ لإِفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه‏.‏

وانتصب ‏{‏عيناً‏}‏ على البدل من ‏{‏كافوراً‏}‏ أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله‏:‏ ‏{‏وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وعدي فعل ‏{‏يشرب‏}‏ بالباء وهي باء الإِلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم‏.‏ فالتقدير‏:‏ عيْناً يشرب عباد الله خمرهم بها، أي مصحوباً بمائها، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشرب بها عباد الله‏}‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك، وعَدّ في كتبه ذلك من معاني الباء ونُسب إلى الكوفيين‏.‏

و ‏{‏عبادُ الله‏}‏ مراد بهم‏:‏ الأبرار‏.‏ وهو إظهار في مقام الإِضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافةَ تشريف‏.‏

والتفجير‏:‏ فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حدّ ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعاً وهذا من الاستعارة‏.‏

وأكد فعل ‏{‏يفجرونها تفجيراً‏}‏ ترشيحاً للاستعارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏يَشْربون من كأس‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ الخ وبين جملة ‏{‏ويطاف عليهم بآنية من فضة‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 15‏]‏ الخ‏.‏ وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفسه السامع المغتبِط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة‏.‏ فيهتم بأن يفعل مثل ما فعلوا، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإِيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا‏.‏

والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات، بعضُه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة، فلا حاجة إلى قول الفراء‏:‏ إن في الكلام إضماراً وتقديره‏:‏ كانوا يُوفُون بالنذر‏.‏

وليست الجملة حالاً من ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏ وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالاً لكانت قيداً ل ‏{‏يشربون‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا‏.‏

والوفاء‏:‏ أداء ما وجب على المؤدي وافياً دون نقص ولا تقصير فيه‏.‏

والنذر‏:‏ ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نِيته، قال عنترة‏:‏

والنَّاذِرَيْننِ إذا لم ألْقهما دَمي ***

والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإِيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة ‏{‏الأبرار‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد ‏{‏بالنذر‏}‏ ما ينذرونه من فعل الخير المتقرَّب به إلى الله، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم‏.‏

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإِيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجباً الثناء عليهم‏.‏

والتعريف في ‏(‏النذر‏)‏ تعريف الجنس فهو يعم كل نذر‏.‏

وعطف على ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً‏}‏ لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال‏.‏

وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوْف بزمان الأشياء المخوفة‏.‏

وانتصب ‏{‏يوماً‏}‏ على المفعول به ل ‏{‏يخافون‏}‏ ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم، وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون‏.‏

ووُصِف اليومُ بأن له شرّاً مستطيراً وصفاً مشعراً بعلة خوفهم إياه‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يُفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب‏.‏

والشر‏:‏ العذاب والجزاء بالسوء‏.‏

والمستطير‏:‏ هو اسم فاعل من استطار القاصر، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر‏.‏ والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيهاً له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم‏:‏ الفجر المستطير، وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه في الأفق ويقال‏:‏ استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق‏.‏

وذكر فعل ‏{‏كان‏}‏ للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلاّ فإن شر ذلك اليوم ليس واقعاً في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه‏.‏

وصيغة ‏{‏يخافون‏}‏ دالة على تجدد خوفهم شّر ذلك اليوم على نحو قوله‏:‏ ‏{‏يوفون بالنذر‏}‏‏.‏