فصل: تفسير الآيات رقم (10- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏ويل يومئذٍ للمكذبين‏}‏ يجوز أن تكون مبينة لمضموم جملة‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 4، 5‏]‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ يفيد تنوينُه جملةً محذوفة جعل التنوين عوضاً عنها تقديرها‏:‏ يومَ إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين‏.‏

ويجوز أن تكون ابتدائيّة وبَيْن المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين، فتكون هذه الجملة إدماجاً لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين‏.‏

وقد ذُكر المكذبون مجملاً في قوله‏:‏ ‏{‏للمكذبين‏}‏ ثم أعيد مفصلاً ببيان متعلق التكذيب، وهو ‏{‏بيوم الدين‏}‏ لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه‏.‏

ومعنى التكذيب ب«يوم الدين» التكذيب بوقوعه‏.‏

فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وما يكذب به إلا كل معتدٍ أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ أي أن تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم‏.‏ فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد‏.‏ ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة‏.‏ كل على حسب عمله‏:‏ فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى اللَّه الملك الحق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115، 116‏]‏‏.‏

وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي‏:‏ معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين‏.‏

والاعتداء‏:‏ الظلم، والمعتدي‏:‏ المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها‏.‏

والأثيم‏:‏ مبالغة في الآثِم، أي كثير الإثم‏.‏

وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين‏.‏

فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط‏.‏

فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطيرَ الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه أو يَؤُول إليه، لأن من لم يعرض عليهم القرآنُ منهم لو عرض عليه القرآن لكذَّب به تكذيباً يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله‏.‏

ولك أن تجعل القصر ادعائياً ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن‏.‏ ومعنى الادعاء أن من لم يُؤثَر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كَلا تكذيببٍ مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين‏}‏ صفة لمعتد أو حال منه‏.‏

والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنّها التي تُتْلَى وتُقرأ‏.‏

والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي القصة، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون يُنَظِّرون قِصص القرآن بقصة رُستم، وإسفنديار، عند الفرس، ولعل الكلمة معربة عن الرومية، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏

والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقتْه أجيال، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لِمَا سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار، فحسبوها من قصص الأسمار‏.‏ واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة، بهتاناً منهم‏.‏

وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحِيرَة فكان يحدث بها في مكة ويقول‏:‏ أنا أحسن حديثاً من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين‏.‏

وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة كل معتد‏}‏ ظاهر في عدم التخصيص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏الاولين * كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

اعتراض بالردع وبيان له، لأن ‏{‏كلاّ‏}‏ ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل‏.‏ وحرف ‏{‏بل‏}‏ للإِبطال تأكيداً لمضمون ‏{‏كلاّ‏}‏ وبياناً وكشفاً لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرَهم من الرّيْن‏.‏

والرّين‏:‏ الصدأ الذي يعلو حديدَ السيف والمِرآةِ، ويقال في مصدر الرَّين الرانُ مثل العيب والعَاب، والذيْم والذام‏.‏

وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الريْن، فيقال‏:‏ ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الريْن، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا‏:‏ ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ران على قلوبهم‏}‏ هو من باب رَان الرينُ على السيف، وليس من باب رانَ السيفُ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون‏:‏ رِين على قلب فلان وفلان مَرينٌ على قلبه‏.‏

والمعنى‏:‏ غَطَّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهمُ القرآن والبوننِ الشاسِع بينه وبين أساطير الأولين‏.‏

وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها‏.‏

وقرأه عاصم بالوقف على لام ‏(‏بل‏)‏ والابتداء بكلمة ران تجنباً للإدغام‏.‏

وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام ‏{‏بل‏}‏ ليبين أنها لام‏.‏ قال في «اللسان»‏:‏ إظهار اللام لغة لأهل الحجاز‏.‏ قال سيبويه‏:‏ هما حسنان، وقال الزجاج‏:‏ الإِدغام أرجح‏.‏

والقلوب‏:‏ العقول ومَحالُّ الإِدراك‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم اللَّه على قلوبهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏7‏)‏‏.‏

ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماءَ فاشمأزت منه لبرده بَرِّديهِ تَجديه سَخيناً أي بَلْ رديه وذلك من المُلَح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخيناً‏.‏

وما كانوا يكسبون‏}‏ ما عملوه سالفاً من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خُلُقاً متأصلاً فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها‏.‏

روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صُقِلَ قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون‏}‏ ‏"‏ قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح‏.‏

ومجيء ‏{‏يكسبون‏}‏ بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي‏.‏

وفي ذكر فعل ‏{‏كانوا‏}‏ دون أن يقال‏:‏ ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد‏:‏ ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يَكونوا مناط تكليف أيامئذ‏.‏

فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة‏.‏

و ‏{‏كلاّ‏}‏ الثانية تأكيد ل ‏{‏كلا‏}‏ الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخاً‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ‏}‏ ‏{‏لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم * ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ‏}‏‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون‏}‏ وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب‏.‏

فأما الإهانة فحجْبُهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد «الكشاف»‏:‏

إذا اعتروا باب ذي عُبِّيَّه رجِبوا *** والناسُ من بين مَرجوب ومَحْجوب

وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان‏.‏

ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار‏:‏ ‏{‏على الأرائك ينظرون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 23‏]‏ وكذلك أيضاً لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏، وليكون الكلام مفيداً للمعنيين قيل‏:‏ «عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال‏:‏ عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران ‏(‏77‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا ينظر إليهم يوم القيامة‏.‏‏}‏ وأما العذاب فهو ما في قوله‏:‏ ثم إنهم لصالوا الجحيم‏}‏‏.‏

وقد عطفت جملته بحرف ‏{‏ثم‏}‏ الدالة في عطفها الجُملَ على التراخي الرتبي وهو ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة‏.‏

و«صالوا» جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم سيصلون عذاب جهنم‏.‏

وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ فعطف الجملة بحرف ‏{‏ثم‏}‏ اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بُعد درجته في الغرض المسوق له الكلام‏.‏

واقتضى اسم الإِشارة أنهم صاروا إلى العذاب، والإِخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذّبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها‏.‏

أو يكون قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون‏}‏

‏[‏الزخرف‏:‏ 77، 78‏]‏ فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماداً على قرينة عطف جملة هذا المقال ب ‏{‏ثم‏}‏ الدالة على التراخي‏.‏

وبني فعل ‏{‏يقال‏}‏ للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول‏.‏

وجيء باسم الموصول ليُذَكَّروا تكذيبهم به في الدنيا تنديماً لهم وتحزيناً‏.‏

وتقديم ‏{‏به‏}‏ على ‏{‏تكذبون‏}‏ للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل ‏{‏تكذبون‏}‏ إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدّى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذَّب فيعدّى بالباء‏.‏ ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين‏:‏ هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فيجوز أن تكون كلمة ‏{‏كلا‏}‏ مما قيل لهم مع جملة ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ردعاً لهم فهي من المحكى بالقول‏.‏

ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن إبطالاً لتكذيبهم المذكور‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كتاب مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ‏}‏‏.‏

يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله‏:‏ ‏{‏يشهده المقربون‏}‏ من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال‏}‏ الخ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏ الخ أسلوباً ومقابلةً‏.‏ فالوجه أن يكون مضمونها قسيماً لمضمون شبيهها فتحصلُ مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرضُ لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار‏.‏

ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحداً وجَّه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون، وأعقبه بتوجيه كلام للأبرار الذين هم بضد ذلك، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه‏.‏

ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ على وجه التوبيخ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديماً للذين أنكروه وتحسيراً لهم على ما أفاتوه من الخير‏.‏

و ‏{‏الأبرار‏}‏‏:‏ جمع بر بفتح الباء، وهو الذي يعمل البِر، وتقدم في السورة التي قبل هذه‏.‏

والقول في الكتاب ومظروفيته في عِلِّيين، كالقول في ‏{‏إن كتاب الفجار لفي سجين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وعليون‏:‏ جمع عِلِّيِّ، وَعِلِّيٌّ على وزن فعِّيل من العلو، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس‏.‏

وعن الفراء أن ‏{‏عليين‏}‏ لا وَاحد له‏.‏ يريد‏:‏ أن عليين ليس جمع ‏(‏علِيٌ‏)‏ ولكنّه عَلَم على مكان الأبرار في الجنّة إذ لم يسمع عن العرب ‏(‏عِلّيّ‏)‏ وإنّما قالوا‏:‏ عِلِّيَّة للغرفة، وعليون عَلَم بالغلبة لمحلة الأبرار‏.‏

واشتق هذا الاسم من العلوّ، وهو علوّ اعتباري، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم، فاستُكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماماً لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير‏.‏

والقول في ‏{‏وما أدراك ما عليون‏}‏ كالقول في ‏{‏وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 8، 9‏]‏ المتقدم‏.‏

و ‏{‏يشهده‏}‏ يطلعون عليه، أي يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يُعلن بأسماء النابغين في التعليم، وأسماء الأبطال في الكتائب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ إلى آخرها‏.‏ ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحاً وتوصيفاً وفصلاً، وهي مبيِّنة لجملة‏:‏ ‏{‏إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم، وهو المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ فيكون قولُ ذلك لهم، تحسيراً وتنديماً على تفريطهم في الإِيمان‏.‏

وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قُرر للجملة من الخصوصيات‏.‏

وذُكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم‏.‏ خلافاً لما جاء في جملة‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ تنويهاً بوصف الأبرار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على الأرائك‏}‏ خبر ثان عن الأبرار، أي هم على الأرائك، أي متكئون عليها‏.‏

والأرائك‏:‏ جمع أريكة بوزن سفينة، والأريكة‏:‏ اسم لمجموع سَرير ووسادتِه وحَجلةٍ منصوبة عليهما، فلا يقال‏:‏ أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة، وقيل‏:‏ إنها حبشيَّة وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏متكئين فيها على الأرائك‏}‏ في سورة الإنسان ‏(‏13‏)‏‏.‏

و ‏{‏ينظرون‏}‏ في موضع الحال من الأبرار‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏ينظرون‏}‏ إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 15‏]‏ والتقدير‏:‏ ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقام الوعد والتكريم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تَعرف‏}‏ بصيغة الخطاب ونصب ‏{‏نضرة‏}‏ وهو خطاب لغير معين‏.‏ أي تعرف يا من يراهم‏.‏ وقرأه أبو جعفر ويعقوب «تُعْرَف» بصيغة البناء للمجهول ورفع «نضرةُ»‏.‏

ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله‏.‏ وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به‏.‏

والخطابُ بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة، وهذه الجملة خبر ثالث عن ‏{‏الأبرارَ‏}‏ أو حال ثانية له‏.‏

والنضْرة‏:‏ البهجة والحُسن، وإضافة ‏{‏نضرة‏}‏ إلى ‏{‏النعيم‏}‏ من إضافة المسبب إلى السبب، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ تبدو على وجهه ملامح السرور‏.‏

وجملة ‏{‏يسقون من رحيق‏}‏ خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه‏.‏ وعبر ب ‏{‏يسقون‏}‏ دون‏:‏ يشربون، للدلالة على أنهم مخدُومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة‏.‏ وذلك من تمام الترفه ولذة الراحة‏.‏

والرحيق‏:‏ اسم للخمر الصافية الطيبة‏.‏

والمختوم‏:‏ المسدود إناؤه، أي بَاطيَتُه، وهو اسم مفعول من خَتمه إذا شدّ بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه، تطبع فيه وهو رَطْب فإذا يبس تعذر فسخها، ويسمى ما تُطبع به خاتَماً بفتح الفوقية، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم، قال جرير‏:‏

إن الخليفة أن الله سربله *** سِرْبَال مُلك به تُزجَى الخواتيم

والختام بوزن كتاب‏:‏ اسم للطين الذي يُختم به كانوا يجعلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادةِ صفائها وحفظ رائحتها‏.‏ وجُعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضاً عن طين الخَتم‏.‏

والمِسك مادة حيوانية ذاتُ عَرْف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة، وهذه المادة تتكون في غُدّة مملوءة دَماً تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها‏.‏ وهي جِلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون‏:‏ فَأرة المسك‏.‏

وفُسر ‏{‏ختامه مسك‏}‏ بأن المعنى ختام شُربه، أي آخر شربه مسك، أي طعم المسك بمعنى نكهته، وأنشد ابن عطية قول ابن مُقْبِل‏:‏

مما يُعتِّق في الحانوت قَاطفُها *** بالفُلفل الجَوْن والرُّماننِ مَخْتومُ

أي ينتهي بلذع الفلفل وطَعْم الرمان‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ختامه مسك‏}‏ نعت ل ‏{‏رحيق‏}‏‏.‏ أو بدل مفصل من مجمل، أو استئناف بياني ناشئ عن وصف الرحيق بأنه ‏{‏مختوم‏}‏ أنْ يسأل سائل عن ختامها أي شَيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ختامه مسك‏}‏ وجملة ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏‏.‏

واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله‏:‏ ‏{‏وفي ذلك‏}‏ هو مبدأ الجملة‏.‏ وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيققِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال‏.‏ ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها‏.‏ والفاءُ إما أن تكون فصيحة، والتقدير‏:‏ إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون، أو التقدير‏:‏ وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط، كما روي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كما تكونوا يُوَلّ عليكم ‏"‏ بجزم «تكونوا» و«يُوَلّ»، فالتقدير‏:‏ إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون‏.‏ وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير، والتقدير‏:‏ وتنافسوا صيغة أمر في ذلك، فليتنافس المتنافسون فيه، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏يسقون من رحيق‏}‏ الخ وجملة‏:‏ ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏‏.‏

والتنافس‏:‏ تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس‏.‏ فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد‏.‏

ولام الأمر في ‏{‏فليتنافس‏}‏ مستعملة في التحريض والحث‏.‏

و ‏{‏مِزاجه‏}‏‏:‏ ما يمزج به‏.‏ وأصله مصدر مازج بمعنى مزَج، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سَوْرتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغُتّه غتّاً فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تُشرب ممزوجة بالماء‏.‏ قال كعب بن زهير‏:‏

شُجَّت بذي شبم من ماء محقبة *** صَاف بأبْطَحَ أضحى وهَو مَشمول

وقال حسان‏:‏

يَسقون مَن وَرَدَ البريضَ عليهمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ

وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم‏.‏ كقول لبيد‏:‏

أغلي السِّباء بكل أدكن عاتق *** أو جونة قُدحت وفُض ختامها

و‏{‏تسنيم‏}‏ علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام‏.‏ ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام‏.‏ وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفاً عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه‏:‏ «هذا مما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17‏]‏، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به‏.‏ ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله‏:‏ ‏{‏عيناً يشرب بها المقربون‏}‏، أي حال كون التسنيم عيناً يشرب منها المقرّبون‏.‏

و ‏{‏المقرَّبون‏}‏‏:‏ هم الأبرار، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون‏.‏

وباء ‏{‏يشرب بها‏}‏ إما سببية، وعُدي فعل ‏{‏يشرب‏}‏ إلى ضمير العين بتضمين ‏{‏يشرب‏}‏ معنى‏:‏ يمزج، لقوله‏:‏ ‏{‏ومزاجه من تسنيم‏}‏ أي يمزجون الرحيق بالتسنيم‏.‏ وإمَّا باء الملابسة وفعل ‏{‏يشرب‏}‏ معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسين حولها‏.‏ أو الباء بمعنى ‏(‏مِن‏)‏ التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء، وينسب إلى الكوفيين‏.‏ واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون ‏(‏مِن‏)‏، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب‏:‏

شَرْبنَ بماء البحر ثم ترفَّعت *** متَى لُجَج خُضر لَهُن نَئيجُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

هذه من جملة القول الذي يقال يوم القيامة للفجار المحكيّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ لأنه مرتبط بقوله في آخره‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ إذ يتعين أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فَاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ حكاية كلام يصدر في يوم القيامة، إذ تعريف «اليوم» باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقّت به الفعل المتعلق هو به، ومعلوم أن اليوم الذي يَضحَك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله‏:‏ ‏{‏كانوا من الذين آمنوا يضحكون‏}‏ ظاهر في أنه حكاية كوننٍ مضى، وكذلك معطوفاته من قوله‏:‏ «وإذا مَرّوا، وإذا انقلبوا، وإذا رَأوهم» فدل السياق على أن هذا الكلام حكاية قول ينادي به يوم القيامة مِن حضرة القدس على رؤوس الأشهاد‏.‏

فإذا جريتَ على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جُمل ‏{‏كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ الآيات، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ إلى هنا فهذه متصلة بها‏.‏ والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإِضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم‏:‏ إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضاً، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله‏:‏ ‏{‏ثم إنهم لصَالوا الجحيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 16‏]‏ واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏إنهم لصالوا الجحيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 16‏]‏ باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ فالتعبير بالذين أجرموا إذَن جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات‏.‏

وقد اتّضح بما قرَّرناه تناسب نظم هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 18‏]‏ إلى هنا مزِيدَ اتضاح، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه، سوى أن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال‏:‏ «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ على حكاية ما يقال اه‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

والمقصود من ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حِدة، وذكر حال المسلمين على حِدة، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معاً‏.‏

وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

والافتتاح ب ‏{‏إن الذين أجرموا‏}‏ بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإِشعار بأنه خبر مهم‏.‏ والمراد ب ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم‏.‏

وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، والنضْر بن الحارث، كانوا يضحكون من عمار بن ياسر، وخباب بن الأرَتّ، وبلال، وصهيب، ويستهزئون بهم‏.‏

وعبر بالموصول وهذه الصلة‏:‏ ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام، وليظهر موقع قوله‏:‏ ‏{‏هل ثُوِّب الكفار ما كانوا يفعلون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 36‏]‏‏.‏

والإِجرام‏:‏ ارتكاب الجُرم وهو الإثم العظيم، وأعظم بالإِجرام الكُفر ويؤذن تركيب «كانوا يضحكون» بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي، وصوغ ‏{‏يضحكون‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم‏.‏

وتعدية فعل ‏{‏يضحكون‏}‏ إلى الباعث على الضحك بحرف ‏{‏مِن‏}‏ هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن ‏(‏مِن‏)‏ ابتدائية تشبَّه الحالةُ التي تبعث على الضحك بمكان يَصدر عنه الضحك، ومثله أفعال‏:‏ سخر منه، وعجب منه‏.‏

ومعنى يضحكون منهم‏:‏ يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزأوون بالمؤمنين ومعظمهم ضعاف أهل مكة فيضحكون منهم، والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مرّوا بهم يتغامزون‏}‏‏.‏

واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم تلك الحالة نحو‏:‏ ‏{‏فتبسم ضاحكاً مِن قولها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏ وإذا كان مجموعَ هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو‏:‏ ‏{‏وكنتم منهم تضحكون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وقول عبد يغوث الحارث‏:‏

وتَضحك منّي شَيْخَةٌ عبشميّة *** كأنْ لَم تَرى قبلي أسيراً يمانياً

والتغامز‏:‏ تفاعل من الغمز ويُطلق على جسّ الشيء باليد جسّاً مكيناً، ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالةِ كعوبها‏.‏ وفي حديث عائشة‏:‏ «لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمزَ رِجْلَيَّ فقبضتُهما»‏.‏

ويطلق الغمز على تحريك الطَّرْف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإِطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه‏.‏

وضمير ‏{‏مروا‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏{‏الذين أجرموا‏}‏ فيكون ضمير ‏{‏بهم‏}‏ عائداً إلى ‏{‏الذين آمنوا‏}‏، ويجوز العكس، وأما ضمير ‏{‏يتغامزون‏}‏ فمتمحّض للعود إلى ‏{‏الذين أجرموا‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ وإذا مرّ المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أوْ وإذا مرّ الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم، وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنين عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيراً بمكة حين نزول هذه السورة، فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يُقرَّعُون به يوم القيامة‏.‏

والإِنقلاب‏:‏ الرجوع إلى الموضع الذي جيء منه‏.‏ يقال‏:‏ انقلب المسافر إلى أهله وفي دعاء السفر‏:‏ «أعوذُ بك من كآبة المنقلب»‏.‏ وأصله مستعار من قَلَب الثوب، إذا صرفه من وجه إلى وجه آخر، يقال‏:‏ قلب الشيء، إذا أرجعه‏.‏

وأهل الرجل‏:‏ زوجه وأبناؤه، وذكر الأهل هنا لأنهم ينبسط إليهم بالحديث فلذلك قيل‏:‏ ‏{‏إلى أهلهم‏}‏ دون‏:‏ إلى بيوتهم‏.‏

والمعنى‏:‏ وإذا رجع الذين أجرموا إلى بيوتهم وخلَصوا مع أهلهم تحدثوا أحاديث الفكاهة معهم بذكر المؤمنين وذمهم‏.‏

وتكرير فعل‏:‏ ‏{‏انقلبوا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏انقلبوا فاكهين‏}‏ من النسج الجزل في الكلام كان يكفي أن يقول‏:‏ وإذا انقلبوا إلى أهلهم فَكِهوا، أو إذا انقلبوا إلى أهلهم كانوا فاكهين‏.‏ وذلك لما في إعادة الفعل من زيادة تقرير معناه في ذهن السامع لأنه مما ينبغي الاعتناء به، ولزيادة تقرير ما في الفعل من إفادة التجدد حتى يكون فيه استحضار الحالة‏.‏ قال ابن جنّي في كتاب «التنبيه على إعراب الحماسة» عند قول الأحوص‏:‏

فإذَا تَزولُ تزولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادِرُه على الأقران

محال أن تقول إذا قمتُ قمتُ وإذا أقعدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول، أي فلا يستقيم جعل الثاني جواباً للأول‏.‏ وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة ومثله قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏ ولو قال‏:‏ هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفدِ القول شيئاً لأنه كقولك الذي ضربتُه ضربتُه والتي أكرمتُها أكرمتُها ولكن لما اتصل ب ‏{‏أغويناهم‏}‏ الثانية قولُه‏:‏ ‏{‏كما غوينا‏}‏ أفاد الكلام كقولك الذي ضربتُه ضربتُه لأنه جاهل‏.‏ وقد كان أبو عَلي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك اه‏.‏

وقد مضى ذلك في سورة القصص وفي سورة الفرقان‏.‏

و ‏{‏فاكهين‏}‏ اسم فاعل فاكه، وهو من فَكِه من باب فرح إذا مزَح وتحدَّث فأضحَكَ، والمعنى‏:‏ فاكهين بالتحدث عن المؤمنين، فحذف متعلق ‏{‏فاكهين‏}‏ للعلم بأنه من قبيل متعلقات الأفعال المذكورة معه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فاكهين‏}‏ بصيغة الفاعل‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم وأبو جعفر «فكهين» بدون ألف بعد الفاء على أنه جمع فَكِه، وهو صفة مشبهة وهما بمعنى واحد مثل فارح وفرح‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هما لغتان‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏}‏ حكت ما يقوله الذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم أي يجمعون بين الأذى بالإِشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلاناً به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإِسلام إلى الكفر، أم كان قولاً يقوله بعضهم لبعض إذا رأوا المؤمنين كما يفكهون بالحديث عن المؤمنين في خلواتهم، وبذلك أيضاً فارق مضمون هذه الجملة مضمون الجمل التي قبلها مع ما في هذه الجملة من عموم أحوال رؤيتهم سواء كانت في حال المرور بهم أو مشاهدة في مقرهم‏.‏

ومرادهم بالضلال‏:‏ فساد الرأي‏.‏ لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي، أي هؤلاء سيئوا الرأي إذِ اتبعوا الإِسلام وانسلخوا عن قومهم، وفرطوا في نعيم الحياة طمعاً في نعيم بعد الموت وأقبلوا على الصلاة والتخلّق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاماً وعنتاً لأنهم بمعزل عن مقدرة قَدْر الكمال النفساني وما همهم إلا التلذذ الجثماني‏.‏

وكلمة ‏{‏إذا‏}‏ في كل جملة من الجمل الثلاث ظرف متعلّق بالفعل الموالي له في كل جملة‏.‏

ولم يعرج أحد من المفسّرين على بيان مفاد جملة‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون‏}‏ مع ما قبلها‏.‏ وقال المهايمي في «تبصرة الرحمان»‏:‏ «وإذا رأوهم يُؤْثِرون الكمالاتتِ الحقيقية على الحسية» فقدَّر مفعولاً محذوفاً لفعل ‏{‏رأوهم‏}‏ لإِبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجُمل التي قبلها وقد علمت عدم الاحتياج إليه ولقد أحسن في التنبيه عليه‏.‏

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد تحقيق الخبر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما أرسلوا عليهم حافظين‏}‏ في موضع الحال أي يلمزوهم بالضلال في حال أنهم لم يرسلهم مرسل ليكونوا موكلين بأعمالهم فدل على أن حالهم كحال المرسَل ولذلك نُفي أن يكونوا أرسلوا حافظين عليهم فإن شدة الحرص على أن يقولوا‏:‏ إن هؤلاء لضالون، كلما رأوهم يشبه حال المرسَل ليتتبع أحوال أحد ومن شأن الرسول الحرص على التبليغ‏.‏

والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين، أي لم يكونوا مقَيَّضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم‏.‏

فمعنى الحِفظ هنا الرَّقابة ولذلك عدّي بحرف ‏(‏على‏)‏ ليتسلط النفي على الإِرسال والحِفظ ومعنَى الاستعلاء المجازي الذي أفاده حرف ‏(‏على‏)‏ فينتفي حالُهم الممثَّلُ‏.‏

وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بمفاد حرف الاستعلاء وبمجروره معَ الرعاية على الفاصلة‏.‏

وأفادت فاء السّببيّة في قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سبباً في جزائهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقاً‏.‏

وتقديم «اليوم» على ‏{‏يضحكون‏}‏ للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ في اتصال نظمه بما قبله غموض‏.‏ وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية‏.‏ ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفاً منصوباً يقتضي أن اليوم مراد به يومٌ حاضر في وقت نزول الآية نظير وقتتِ كلام المتكلم إذا قال‏:‏ اليوم يكون كذا، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر، فليس ضَحِك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجَزاء، ولا يستقيم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ بمعنى‏:‏ فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏.‏

وابن عطية استشعر إشكالها فقال‏:‏ «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون اه‏.‏

وهو انقداح زناد يحتاج في تَنَوُّرِهِ إلى أعواد‏.‏

فإمّا أن نجعل ما قبله متصلاً بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 17‏]‏ إلى هنا كما تقدم‏.‏

وإمّا أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين آمنوا‏}‏ الخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله‏:‏ ‏{‏ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ يقال لهم اليومَ الذين آمنوا يضحكون منكم‏.‏

وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا من الكفار يضحكون‏}‏ دون أن يقال‏:‏ فاليوم يضحك الذين آمنوا، لإِفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏كانوا من الذين آمنوا يضحكون‏}‏ أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليومَ المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس‏.‏

وتقديم ‏{‏من الكفار‏}‏ على متعلَّقه وهو ‏{‏يضحكون‏}‏ للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلاً لإِساءتهم عند سماع هذا التقريع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الكفار‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار، عُدل عن أن يقال‏:‏ منهم يضحكون، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار‏.‏

ومفعول ‏{‏ينظرون‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏من الكفار يضحكون‏}‏ تقديره‏:‏ ينظرونهم، أي يشاهدون المشركين في العذاب والإِهانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

فذلكة لِما حُكي من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة، فالمعنى فقَد جوزي الكفار بما كانوا يفعلون وهذا من تمام النداء الذي يعلق به يوم القيامة‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ تقريري وتعجيب من عدم إِفلاتهم منه بعد دهور‏.‏

والاستفهام من قبيل الطلب فهو من أنواع الخطاب‏.‏

والخطاب بهذا الاستفهام موجه إلى غير معيّن بل إلى كل من يسمع ذلك النداء يوم القيامة‏.‏ وهذا من مقول القول المحذوف‏.‏

و ‏{‏ثُوِّب‏}‏ أعطِيَ الثوابَ، يقال‏:‏ ثَوَّبَهُ كما يقال‏:‏ أثابه، إذا أعطاه ثواباً‏.‏

والثواب‏:‏ هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في «الصحاح»، وهو ظاهر «الأساس» ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية‏.‏ وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال‏:‏ إنه يستعمل في جزاء الخير والشر‏.‏ أراد أنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله‏:‏ ‏{‏الكفار‏}‏ ما كانوا يفعلون كقول عمرو بن كلثوم‏:‏

نزلتم منزل الأضياف منا *** فعجَّلنا القِرى أن تَشْتُمونا

قَرَيْناكم فعَجَّلْنا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِرْداة طحونا

ومن قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما كانوا يفعلون‏}‏ موصول وهو مفعول ثان لفعل ‏{‏ثوب‏}‏ إذ هو من باب أعطى‏.‏ وليس الجزاء هو ما كانوا يفعلونه بل عبر عنه بهذه الصلة لمعادلته شدَّةَ جرمهم على طريقة التشبيه البليغ، أو على حذف مضاف تقديره‏:‏ مثلَ، ويجوز أن يكون على نزع الخافض وهو باء السببية، أي بما كانوا يفعلون‏.‏

وفي هذه الجملة محسن براعة المقطع لأنها جامع لما اشتملت عليه السورة‏.‏

سورة الانشقاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ‏(‏1‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ‏(‏3‏)‏ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ‏(‏4‏)‏ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قدم الظرف ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ على عامله وهو ‏{‏كادح‏}‏ للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار‏:‏ يا أيها الإِنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ‏.‏

ولكن لما تعلق ‏{‏إذا‏}‏ بجزء من جملة ‏{‏إنك كادح‏}‏ وكانت ‏{‏إذا‏}‏ ظرفاً متضمناً معنى الشرط صار‏:‏ يا أيها الإنسان إنك كادح جواباً لشرط ‏{‏إذا‏}‏ ولذلك يقولون ‏{‏إذا‏}‏ ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوباً بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف للزمان المستقبل، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه ‏{‏إذا‏}‏ مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضيّ للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل ‏{‏إذا‏}‏ القطع بوقوع الشرط‏.‏

وانشقت مطاوع شَقَّها، أي حين يشقُّ السماءَ شَاق فتنشق، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها‏}‏‏.‏

والانشقاق هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انفطرت‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 1‏]‏ وهو انشقاق يلوح للناس في جوّ السماء من جرَّاء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم‏.‏

وقدّم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ دون أن يقال‏:‏ إذا انشقت السماء لإفادة تقوّي الحكم وهو التعليق الشرطي، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه ‏{‏إذا‏}‏ في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف ‏(‏إنْ‏)‏‏.‏

‏{‏وأذنت‏}‏، أي استمعت، وفِعل أذِن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأُذْن بضم الهمزة آلة السمع في الإِنسان يقال أَذِن له كما يقال‏:‏ استمع له، أي أصغى إليه أُذنَهُ‏.‏

وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق‏.‏ وليس هو باستعارة تبعية ولا تمثيلية‏.‏

والتعبير ب «ربها» دون غير ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه، لِمَا يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وحقت‏}‏ معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليه‏.‏

والمعنى‏:‏ وهي محقوقة بأن تَأْذِن لربّها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتدّ خَلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها، فهو الذي إذا شاء أزالها‏.‏

فمتعلّق ‏{‏حقّت‏}‏ محذوف دل عليه فعل‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها‏}‏، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال‏:‏ حُقَّ فلان بكذا، أي توجه عليه حقّ‏.‏ ولما كان فاعل توجيه الحَق غيرَ واضح تعيينُه غالباً، كان فهل حُقّ بكذا، مبنياً للمجهول في الاستعمال، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول، فيقال‏:‏ حقيق عليه كذا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حقيق على أن لا أقول على اللَّه إلا الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 105‏]‏ وهو محقوق بكذا، قال الأعشى‏:‏

لمحقُوقه أن تستجيبي لصوته *** وأن تعلمي أن المُعان مُوفقُ

والقول في جملة‏:‏ ‏{‏وإذا الأرض مدت‏}‏ مثل القول في جملة ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي‏.‏

ومَدّ الأرض‏:‏ بسطها، وظاهر هذا أنها يُزال ما عليها من جبال كما يُمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105 107‏]‏‏.‏

ومن معاني المدّ أن يكون ناشئاً عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلازل وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها‏.‏

ومن معاني المدّ أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير‏.‏ وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما يحيط بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوالُ هذا العالم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وألقت ما فيها‏}‏ صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مدّ الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثلُ البراكين واندفاعُ الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان‏.‏

‏{‏وتخلت‏}‏ أي أخرجت ما في باطنها فلما يبق منه شيء لأن فعل تخلّى يدل على قوة الخلوّ عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإِكرام‏.‏

والمعنى‏:‏ إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وتقدم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏وأذنت لربها وحقت‏}‏ آنفاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ إلى آخره جواب ‏{‏إذا‏}‏ باعتبار ما فُرع عليه من قوله‏:‏ ‏{‏فملاقيه‏}‏ ونسب هذا إلى المبرد، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه‏.‏

فالمعنى‏:‏ إذا السماء انشقت وإذا الأرض مُدّت لاقيتَ ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله‏:‏ ‏{‏إنك كادح إدماجاً بمنزلة الاعتراض أمام المقصود‏.‏

وجوز المبرد أن يكون جواب إذا‏}‏ محذوفاً دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فملاقيه‏}‏ والتقدير‏:‏ إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيتَ أيها الإنسان ربك‏.‏

وجوز الفرّاء أن يكون جواب ‏{‏إذا‏}‏ قوله ‏{‏وأذنت لربها‏}‏ وإن الواو زائدة في الجواب‏.‏ ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت ‏{‏إذا‏}‏ بعد ‏(‏حتى‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ أو بعد ‏(‏لما‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ الجواب‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 7‏]‏، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس‏.‏

والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ لتعريف الجنس وهو للاستغراق كما دل عليه التفصيل في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله‏:‏ كان به بصيراً‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث‏.‏ فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإِنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير‏.‏

وقيل‏:‏ أريد إنسان معين فقيل‏:‏ هو الأسود بن عبد الأسد ‏(‏بالسين المهملة في «الاستيعاب» و«الإِصابة» ووقع في «الكشاف» بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في «جامع الأصول» بالمهملة‏)‏، وقيل‏:‏ أُبيّ بن خلف، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء‏.‏

والكدحُ‏:‏ يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيَّها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في «الأساس» فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي‏.‏ وظاهر كلام الراغب أن حقيقته‏:‏ إتعاب النفس في العمل والكد‏.‏ وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف ‏(‏إلى‏)‏ تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن ‏{‏كادح‏}‏ معنى ساععٍ لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملاً لغد وهكذا، وذلك يتقضَّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جُعِل كدحُه إلى ربه‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف ‏(‏إنَّ‏)‏، ويجوز أن يضمن ‏{‏كادح‏}‏ معنى ماش فيكون المجرور ظرفاً لغواً‏.‏

و ‏{‏كدحاً‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد ‏{‏كادح‏}‏ المضمن معنى ساع إلى ربك، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر‏.‏

وضمير النصب في «ملاقيه» عائد إلى الرب، أي فملاق ربك، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 15‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ‏(‏7‏)‏ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ‏(‏10‏)‏ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ‏(‏11‏)‏ وَيَصْلَى سَعِيرًا ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ‏(‏13‏)‏ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ‏(‏14‏)‏ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

هذا تفصيل الإِجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏ أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏، وبين منتهاهما مراتب‏.‏ وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين‏.‏

والكِتاب‏:‏ صحيفة الأعمال، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعاراً للسعادة لِما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سَموا البركة والسعادة يُمناً، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏ في سورة ‏[‏الصافات‏:‏ 28‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 41‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة‏}‏ في سورة ‏[‏الواقعة‏:‏ 8، 9‏]‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بيمينه‏}‏ للملابسة أو المصاحبة، أو هي بمعنى ‏(‏في‏)‏، وهي متعلقة ب ‏{‏أوتي‏}‏‏.‏

وحرف ‏(‏سوف‏)‏ أصله لحصول الفعل في المستقبل، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏، وهو هنا مفيد للتحقق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرارِ وهو ينقلب إلى أهله مسروراً وهو المقصود من هذا الوعد‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف نصليه ناراً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والحساب اليسير‏:‏ هو عَرْض أعماله عليه دون مناقشة فلا يَطول زمنه فيعجَّلُ به إلى الجنة، وذلك إذا كانت أعماله صالحة، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة‏.‏

ومن أوتي كتابه وراء ظهره‏}‏ هو الكافر‏.‏ والمعنى‏:‏ إنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب ‏{‏من أوتي كتابه بيمينه‏}‏ وذلك أيضاً في سورة الحاقة قوله‏:‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه‏}‏، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيراً له ويناول له من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه بحيث لا ينظر مُناوِلُه كتابَه إلى وجهه‏.‏

وظرف ‏{‏وراء ظهره‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏كتابه‏}‏‏.‏

و ‏{‏ينقلب إلى أهله‏}‏ أي يرجع‏.‏ والانقلاب‏:‏ الرجوع إلى المكان الذي جيء منه، وقد تقدم قريباً في سورة المطففين‏.‏

والأهل‏:‏ العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة‏.‏

وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسَب حساباً يسيراً في المسرّة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالماً رابحاً لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة، فذلك وجه الشبه بين الهيْأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية‏.‏

وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب، ولأنه قد لا يكون له أهل‏.‏ وهو أيضاً كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان‏.‏

والمراد بالدعاء في قوله‏:‏ ‏{‏يدعو ثبوراً‏}‏ النداء، أي ينادي الثبور بأن يقول‏:‏ يا ثبوري، أو يا ثبورا، كما يقال‏:‏ يا ويلي ويا ويلتنا‏.‏

والثبور‏:‏ الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس‏.‏

والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء‏.‏

‏{‏ويصلى‏}‏ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاهُ إذا أحرقَه‏.‏ وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف ‏{‏ويصلى‏}‏ بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صَلِي اللازم إذا مسته النار كقوله‏:‏ ‏{‏يصْلَوْنَها يوم الدين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏سعيراً‏}‏ على نزع الخافض بتقدير يُصلَّى بسعير، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوباً بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيصلون سعيراً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ فانظره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان في أهله مسروراً‏}‏ مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله‏:‏ ‏{‏أولي النعمة‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 31‏]‏ فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دَعوا بالثبور‏.‏

وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان‏:‏ «إنَّك عَلَيه لجريء» ‏(‏أي على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذه الجملة معترضة‏.‏

وموقع جملة‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏ موقع التعليل لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏وأما من أوتي كتابه وراء ظهره‏}‏ إلى آخرها‏.‏

وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ فيها مُغْننٍ عن فاء التعليل، فالمعنى‏:‏ يصلى سعيراً لأنه ظن أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، أي لأنه يُكَذِّبُ بالبعث، يقال‏:‏ حار يحور، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه، ثم أطلق على الرجوع إلى حالة كان فيها بعدَ أن فارقها، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع مثل إطلاق الرجوع عليه في قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلينا مرجعكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 23‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه على رجعه لقادر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 8‏]‏ وسُمي يومُ البعث يومَ المعاد‏.‏

وجيء بحرف ‏{‏لن‏}‏ الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه‏.‏

وحرف ‏{‏بلى‏}‏ يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو‏:‏ ‏{‏ألست بربكم قالوا بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ويقع بعد غير الاستفهام أيضاً نحو قوله تعالى‏:‏

‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وموقع ‏{‏بلى‏}‏ الاستئناف كأحرف الجواب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربه كان به بصيراً‏}‏ مبينة للإِبطال الذي أفاده حرف ‏{‏بلى‏}‏ على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث‏.‏

والمعنى‏:‏ إن ربه عليم بمآله‏.‏ وتأكيد ذلك بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإِبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى‏:‏ أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله‏:‏ ‏{‏واللَّه يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏‏.‏

وتعدية ‏{‏بصيراً‏}‏ بالباء لأنه من بَصُر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإِلصاق‏.‏

وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحَقَهُ بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح، فجَعَل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدّم صاحبها في حياته الأولى‏.‏

وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء‏.‏

وعلق وصف ‏(‏بصير‏)‏ بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور، والمراد‏:‏ العِلم بأحواله لا بذاته‏.‏

وتقديم المجرور على متعلَّقه للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ‏(‏17‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ‏(‏18‏)‏ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع القسم وجوابه، على التفصيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأما من أوتى كتابه بيمينه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 7‏]‏ إلى هنا‏:‏ فإنه اقتضى أن ثمة حساباً وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضاً جمعاً إجمالياً لما يعترض في ذلك من الأهوال‏.‏

وتقدم أن‏:‏ «لا أقسم» يراد منه أُقسم، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال والمخلوقات عند قوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بالخنس‏}‏ في سورة التكوير ‏(‏15‏)‏‏.‏

ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسَم عليه لأنّ الشفق والليل والقمر تخالط أحوالاً بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ من تفاوت الأحوال التي يختبط فيها الناس يومَ القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير من خلال أحوال شَرّ أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي‏.‏

ولعل ذِكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مِثْل حالة الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين‏.‏

والشفق‏:‏ اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس أثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعضُ جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقاً‏.‏

و ‏{‏ما وَسَق‏}‏ ‏(‏مَا‏)‏ فيه مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب‏.‏

والوسْق‏:‏ جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشراً في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 73‏]‏، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقْسم به قسماً أدمجت فيه منّة‏.‏ وقيل‏:‏ ما وسقه الليل‏:‏ النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسِق أشياء متفرقة‏.‏ وهذا أنسب بعطف القمر عليه‏.‏

واتساق القمر‏:‏ اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوَسْق بمعنى الجمع كما تقدم آنفاً وذلك في ليلة البدر، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه‏.‏

وأصل فعل اتّسق‏:‏ اوِتَسَق قلبت الواو تاء فوقية طلباً لإِدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليْها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما يُنسج عليه الكلام الذي يُرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسْج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها‏.‏

فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبَق من حقيقي ومجازي، مُتَّسَع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعَل لإِيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإِعجاز القرآني‏.‏

فأما فعل ‏{‏لتركبن‏}‏ فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدةٌ، منها الغلَب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة‏.‏

وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال‏:‏ رَكب أمراً صعباً وارتكب خطَأ‏.‏

وأما كلمة ‏{‏طبق‏}‏ فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئاً آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام «الأساس» و«الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمُسَاويه فهو حقيقة في الغِطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيَّد كالخِوان والكأس، وظاهر «الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قَيد الاعتلاء عارضاً بغلبة الاستعمال، يقال‏:‏ طابَق النعل النعل‏.‏

وأيّامَّا كان فهو اسم على وزن فَعَل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق‏.‏ وإما أن يكون أصله اسمَ الطبَق وهو الغطاء لُوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المُساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة‏.‏

ويطلق اسماً مفرداً للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل‏:‏ «وافَقَ شنّ طبَقه» أي غِطآءَه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساوٍ لما يغطّيه‏.‏ ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طُبق عليه‏.‏

ويطلق اسماً مفرداً أيضاً على شيء متخذ من أدم أوْ عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقاً لأن أصله أن يستعمل غِطَاءَ الآنية فتوضع فيه أشياء‏.‏

ويطلق اسمَ جمععٍ لطبقة‏:‏ وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثلَه في المقدار إلا أنه مرتفع عليه‏.‏ وهذا من المجاز يقال‏:‏ أتانا طَبق من الناس، أي جماعة‏.‏

ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى ‏{‏عن‏}‏ من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفةِ كلمة ‏(‏بعد‏)‏ وهو معنى مجازي‏.‏

وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقاً بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تُقْصَر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏ الآيات‏.‏ ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل‏.‏ فتتركب من هذه المحامل معاننٍ كثيرة صالحة لتأويل الآية‏.‏

فقيل المعنى‏:‏ لتركُبن حالاً بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهرُ أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين «طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و‏{‏عن‏}‏ بمعنى ‏(‏بعد‏)‏ والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لَتُلاقُنَّ هَوْلاً أعظم من هول، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زدناهم عذاباً فوق العذاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها‏.‏

وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء، وحشر، وسعادة أو شقاوة، ونعيم أو جحيم، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث مُنْكَر وفي إسناده ضعفاء، أو حالاً بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏لتركبن‏}‏ منزلة بعد منزلة على أن طبقاً اسم للمنزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتَصِيرُنَّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوماً كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيهما للتنويع‏.‏

وقيل‏:‏ من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فَوقه، لأن كل شيء يجرُّ إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضاً بالموعظة وتكون ‏{‏عن‏}‏ على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم‏.‏

ويحتمل أن يكون الركوب مجازاً في السير بعلاقة الإِطلاق، أي لتحضُرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى ربك يومئذ المساق‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 30‏]‏ وهذا تهديد لمنكريه، وأن يكون الركوب مستعملاً في المتابعة، أي لتَتَّبِعُنَّ‏.‏ وحذف مفعول‏:‏ «تركبن» بتقدير‏:‏ ليَتبعن بعضُكم بعضاً، أي في تصميمكم على إنكار البعث‏.‏ ودليل المحذوف هو قوله‏:‏ ‏{‏طبقاً عن طبق‏}‏ ويَكون ‏{‏طبقاً‏}‏ مفعولاً به وانتصاب ‏{‏طبقاً‏}‏ إما على الحال من ضمير ‏{‏تركبُنّ‏}‏‏.‏ وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية‏.‏

وموقع ‏{‏عن طبق‏}‏ موقع النعت ل ‏{‏طبقاً‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏عن‏}‏ إما المجاوزة، وإما مرادفة معنى ‏(‏بعد‏)‏ وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة، ولذلك لما ضمَّن النابغة معنى قولهم‏:‏ «ورثوا المجد كابراً عن كابر» غيَّر حرف ‏(‏عن‏)‏ إلى كلمة ‏(‏بعد‏)‏ فقال‏:‏

لآللِ الجُلاَححِ كَابِراً بعدَ كابِر ***

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ‏{‏لتركبن‏}‏ بضم الموحدة على خطاب الناس‏.‏ وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وحُمل أيضاً على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدِّهان ومرة كالمُهل‏.‏ وقيل‏:‏ خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية‏:‏ قيل‏:‏ هي عِدة بالنَّصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلاً بعد قبيل وفتحاً بعد فتح كما وجد بعد ذلك ‏(‏أي بعد نزول الآية حين قويَ جانبُ المسلمين‏)‏ فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة‏:‏ ‏{‏إنه ظن أن لن يحور‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 14‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏فما لهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال مَن أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب ‏(‏من‏)‏ الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول ‏(‏مَن‏)‏ وهو الجماعة‏.‏ والمعنى‏:‏ فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا‏.‏

ويجوز أن يكون مفرعاً على قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 6‏]‏، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه‏.‏ وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإِنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإِنسان في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان إنك كادح‏}‏ لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات‏.‏

ويجوز أن يكون تفريعاً على قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏ فيكون مخصوصاً بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ‏.‏ والضمير أيضاً التفات‏.‏

ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القَسَم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية‏.‏ والالتفات هو هو‏.‏

وتركيب «ما لهم لا يؤمنون» يشتمل على ‏(‏مَا‏)‏ الاستفهامية مُخبر عنها بالجار والمجرور‏.‏ والجملةُ بعد ‏{‏لهم‏}‏ حال من ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية‏.‏

وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكَر أن يُسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإِنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسمٌ لَكان منصوباً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين فئتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا وما لنا ألاَّ نقاتل في سبيل الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏246‏)‏‏.‏

ومتعلق يؤمنون‏}‏ محذوف يدل عليه السّياق، أي بالبعث والجزاء‏.‏

ويجوز تنزيل فعل ‏{‏يؤمنون‏}‏ منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإِيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإِشراك به‏.‏

والمعنى‏:‏ التعجيب والإِنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دُعوا إليه وأُنذروا به‏.‏

و ‏{‏لا يسجدون‏}‏ عطف على ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ ‏{‏وإذا قرئ عليهم القرآن‏}‏ ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن‏.‏

وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءةَ تبليغ ودعوة‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفراداً وقد قال له عبد الله بن أبيّ بن سلول‏:‏ «لا تَغْشَنا به في مجالسنا» وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس‏.‏

والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى‏:‏

‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً للَّه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48‏]‏، أي إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وليس في هذه الآية ما يقتضي أنَّ عند هذه الآية سجدةً من سجود القرآن والأصحّ من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافاً لابن وَهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ هي سُنة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ واجبة‏.‏ والأرجح أن عزائم السجود المسنونة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصّحابة‏.‏ وإن ثلاث آيات غير الإِحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي‏:‏ إمّا قد تُرك سجودها، وإمّا لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون‏}‏‏.‏ وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك ا ه‏.‏

قلت‏:‏ وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإِحدى عشرة وقد قال مالك في «الموطأ» بعد أن رَوى حديث أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء ‏"‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق‏.‏ وقال أحمد‏:‏ هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحجّ ففيها سجدتان عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يجوز إنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم وإنكاره عليهم إلى الإِخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإِنكار‏.‏

فالإِخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإِنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏بل‏}‏ إضراباً إبطالياً، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإِيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون، أي يستمرون على التكذيب عناداً وكبرياء ويومئ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واللَّه أعلم بما يوعون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وهذان المعنيان نظيرُ الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار ‏(‏9 10‏)‏ ‏{‏بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين‏.‏‏}‏ وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده، أي بل هم مستمرون على التكذيب عناداً وليس ذلك اعتقاداً فكما نُفي عنهم تجدُّد الإِيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أُثبت لهم تجدد التكذيب‏.‏

وقوله‏:‏ الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ بل هم يكذبون، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن به الصلة من ذمهم بالكفر للإِيماء إلى علة الخبر، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

اعتراض بين جملة ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏، وجملة‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏ وهو كناية عن الإِنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم‏.‏

ومعنى ‏{‏بما يوعون‏}‏ بما يُضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأنَّ ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التّكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولاً عند أتباعهم وبين مجاوريهم‏.‏

وأصل معنى الإِيعاء‏:‏ جعل الشيء وعاء والوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يُجمع فيه، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت فصار مشعراً بالتقتير، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجَمَع فأوعى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 18‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «لا تُوعي فيُوعي الله عليكِ» واستعمل في هذه الآية في الإِخفاء لأنّ الإِيعاء يستلزم الإِخفاء فهو هنا مجاز مرسل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏بل الذين كفروا يكذبون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وفعل «بشِّرهم» مستعار للإِنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير‏:‏ الإِخبار بما يَسرّ وينفع‏.‏ فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنَار على عَلم‏.‏ وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم‏:‏

قَرَيْنَاكُم فعجَّلْنا قِراكُم *** قُبَيْل الصبح مرْدَاةً طَحُونا

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً‏:‏ إمَّا على أنه استثناء من الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏ جرياً على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد‏.‏

وإمّا على أنه استثناء من ضمير الجمع في ‏{‏فبشرهم‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 24‏]‏ والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ وقوله في سورة البروج ‏(‏10‏)‏‏:‏ ‏{‏إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا الآية وفعل آمنوا‏}‏ على هذا الوجه مراد به المستقبل، وعبّر عنه بالماضي للتنبيه على معنى‏:‏ مَن تحقق إيمانهم، وما بينهما من قوله‏:‏ ‏{‏فما لهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 20‏]‏ إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خصّ به الأَهمَّ ممن شملهم عموم ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ هو استثناء منقطع من ضمير ‏{‏فبشرهم‏}‏ فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم‏.‏ فحرف ‏{‏إلاّ‏}‏ بمنزلة ‏(‏لكن‏)‏ والاستدراك فيه لمجرد المضادة لا لِدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يُتوهم ثبوته أو نفيُه، فهو تعريف تقريبي‏.‏

وجملة ‏{‏لهم أجر غير ممنون‏}‏ استئناف بياني كأنَّ سائلاً سأل‏:‏ كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم‏؟‏

والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبُه مع كرامة بحيث لا يعرَّض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 14‏]‏ ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببُه، والمعنى‏:‏ أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المنّ ينغّص الإِنعام قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏ وقال النابغة‏:‏

عليَّ لِعَمْرو نِعمةٌ بعدَ نعمة *** لوالده ليستْ بذات عقارب

ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري‏:‏ طعم الآلاءِ أحْلَى من المَنّ‏.‏ وهو أمرّ من الآلاء مَعَ المَنّ‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏غير ممنون‏}‏ بمعنى غير مقطوع يُقال‏:‏ مننت الحبل، إذا قطعته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 32، 33‏]‏‏.‏

سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبدَ اللَّه بن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏غير ممنون‏}‏ فقال‏:‏ غير مقطوع، فقال‏:‏ هل تعرف العرب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم قد عرفه أخو يَشكر ‏(‏يعني الحارث بن حلزة‏)‏ حيث يقول‏:‏

فتَرى خَلفَهُنّ من سرعة الرَّجْ *** ع منيناً كأنه أهْباء

المنين‏:‏ الغبار لأنها تقطعه وراءها‏.‏