فصل: تفسير الآيات رقم (15- 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏لبالمرصاد * فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربى أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا‏}‏ ‏{‏أَهَانَنِ‏}‏‏.‏

دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة‏.‏

ودلت ‏(‏أمّا‏)‏ على معنى‏:‏ مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالِها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبْلَ الفاء المتصلة بها، فَلاح ذلك برقاً وامضاً، وانجلى بلمعة ما كان غامضاً، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفياً، فلنبينه بياناً جليّاً، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثَّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رُسُل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي نُهوا عنها، بطرون بالنعمة، معجَبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العِبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك تَرفاً وطغياناً وبطراً، وتنبيهُهم على خطاهم إذْ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهةٌ توهَّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يَكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا الوهَم مُسوِّلاً لهم التذكيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقَتْر الرزق‏.‏ وقد تكرر في القرآن التعرض لإِبطال ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55، 56‏]‏‏.‏

وقد تضمن هذا الوهَم أصولاً انبنى عليها، وهي‏:‏ إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال‏.‏

ففاء التفريع مرتبطة بجملة‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلاً‏.‏

والمعنى‏:‏ هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته‏.‏

فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسَعَة في الدنيا تكريماً من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانَةً أهانه الله بها‏.‏

وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ‏}‏

‏[‏فصلت‏:‏ 50‏]‏‏.‏

فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالباً على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية‏:‏

مَجَلَّتُهم ذَاتُ الإله ودينُهم *** قَويم فَمَا يَرْجُونَ غَيْرَ العَوَاقِب

وَلا يَحْسَبُون الخَيْرَ لا شَرَّ بعدَه *** ولا يحسبُون الشرَّ ضَرْبَةَ لازِبِ

وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏‏.‏ فمناط الردع والإبطال كِلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكرمه ونعمه‏}‏‏.‏

واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلَللِ والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هَرم فيهم وفي ذويهم، قال النابغة‏:‏

تَغْشَى مَتَالِفَ لا يُنْظِرْنَكَ الهَرَمَا ***

ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية‏.‏

وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية، قال طرفة‏:‏

فلو شاءَ ربّي كنتُ قيسَ بنَ عاصم *** ولو شَاء رَبي كنتُ عَمْرَو بنَ مَرْثَدِ

فأصبحتُ ذا مال كثيرٍ وطاف بي *** بَنُون كرامٌ سَادَة لمُسَوَّد

وجعلوا هذا الغرور مقياساً لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبيء صلى الله عليه وسلم وعنده عَمَّار، وبلالٌ، وخبابٌ، وسالمٌ، مولَى أبي حذيفة، وصُبَيح مولى أُسَيْد، وصُهَيْبٌ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبيء أطْرُدهم عنك فَلَعلّك إن طردتهم أن نتبعك‏.‏ وقالوا لأبي طالب‏:‏ لو أن ابن أخيك طَرد هؤلاء الأعْبُدَ والحُلَفَاءَ كان أعظمَ له في صدُورنا وأدلى لاتِّباعنا إياه‏.‏ وفي ذلك نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم‏}‏ الآية كما تقدم في سورة الأنعام ‏(‏52‏)‏‏.‏

فنبه الله على خطإ اعتقادهم بمناسبة ذكر مُماثِلِهِ ممَّا اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجباً صَب العذاب عليهم، وأعْلَمهم أن أحوال الدنيا لا تُتخذ أصلاً في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة‏.‏

والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عُرفي مراد به الناسُ المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله‏:‏ ‏{‏إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4، 5‏]‏ ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ إريد إنسان معين، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن الغيرة عن ابن عباس، وقيل‏:‏ أمية بن خَلَف عن مقاتل والكلبي، وقيل‏:‏ أبيّ بن خلف عن الكلبي أيضاً، وإنما هؤلاء المسمَّوْن أعلام التضليل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن حيث كان هذا غالباً على الكفّار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع ‏(‏كذا‏)‏ بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اه‏.‏

واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفْته منافع ذلك، تحكيماً للشاهية ومحبةِ النفس ورجْماً بالغيب وافتيَاتاً على الله، وإذا صادف أحدَهم من الحوادث ما جلبَ له ضرّاً تخيّله بأوهامه انتقاماً من الله قصدَه به، تشاؤماً منهم‏.‏

فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراماً من الله لهم ليسوا أهلاً لكرامة الله‏.‏

وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الزرق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة‏.‏

فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرَفَ أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنةً من ذلك لبعض ضعفاء الإِيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد بن الرّاوندي‏.‏ عن تزلزل فهمهم وقلة علمهم بقوله‏:‏

كم عاقللٍ عاقللٍ أعْيَتْ مذاهبُه *** وجَاهِللٍ جاهللٍ تلقاه مرزوقاً

هذا الذي تَرك الأَفْهام حائرةً *** وصيَّر العالِم النحرير زنديقاً

وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما يُنِيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه، وعِلْم الله واسع وتصرفاتُه شتّى وكلها صادرة عن حكمة ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى‏.‏ وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سمة خرق العادة‏.‏ فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ لِلأمَاراتتِ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94، 95‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 126‏]‏‏.‏

وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعضها جار على ما قدَّره من نظام العالم وكلٌّ قد قضاه وقدَّره وسبق علمه به ورَبَط مسبباتِه بأسبابه مباشرةً أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومِه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهَمه ولم تنهَضْ دلائله، ويُفوِّض ما أشكل عليه إلى علم الله‏.‏

وليس مثلُ هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية‏.‏ وقد نجد في بعض العوامّ ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإِيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية‏.‏

لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنُحْيِينَّه حياة طيبة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده‏.‏ وقد حكَى عن نوح قولَه لقومه‏:‏ ‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10 12‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءِ على الأمم العظيمة القاهرة‏.‏ وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه‏.‏

وحرف ‏(‏أمَا‏)‏ يفيد تفصيلاً في الغالب، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذواتتٍ وأحوال‏.‏ ولذلك قد تكرر في الكلام، فليس التفصيلُ المستفاد منها بمعنى تبييننِ مجمللٍ قبلَها، بل هو تفصيل وتقابُل وتوازن، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له ‏(‏أمَّا‏)‏، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على ‏(‏أما‏)‏، وإنما تعلقه بما قبله تعلَّقُ المفرع بمنشئه لا تفصيل بيان على مجمل‏.‏

فالمفصل هنا أحوال الإِنسان الجاهِل فُصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبَّر عنهما بالظرفين في قوله‏:‏ ‏{‏إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه‏}‏ الخ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه‏}‏ الخ‏.‏ وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المُجمل ولكنه تمييز وفصْل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط‏.‏

وقد تقدم ذكر ‏(‏أمّا‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

والابتلاء‏:‏ الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختباراً لثبات النفس وخُلق الأناة والصبر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضاً‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليبلوني أأشكر أم أكفر‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ونبلوكم بالشر والخير فتنة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏ والأشهر أنه الإِختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين‏.‏

والمعنى‏:‏ إذا جَعَلَ ربُّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهراً لحاله في الشكر والكفر، وفي الصبر والجزع، توهَّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا‏.‏

والإِكرام‏:‏ قال الراغب‏:‏ أن يُوصَل إلى الإِنسان كرامة، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة، وأن يُجعل ما يوصل إليه شيئاً كريماً، أي شريفاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏، أي جعلهم كراماً اه يريد أن الإِكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريماً في صنفه فيصدق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ بأن يصيب الإِنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه، أو بأن جُعل كريماً سيداً شريفاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ من المعنى الأول للإِكرام وقوله‏:‏ ‏{‏فيقول ربي أكرمني‏}‏ من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏ونعمه‏}‏ صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظاً لهم ومعاملة بالرحمة، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر مُنعَم عليه في الدنيا، وهو قول الماتريدي والباقِلاني‏.‏ وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخُلف لفظي‏.‏

ومعنى ‏{‏نعّمه‏}‏ جعله في نعمة، أي في طيب عيش‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فقدر عليه رزقه‏}‏ أعطاه بقَدْر محدود، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضاً عن الدال، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو بسط اللَّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والهاء في ‏{‏رزقه‏}‏ يجوز أن تعود إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ من إضافة المصدر إلى المفعول، ويجوز أن تعود إلى ‏{‏ربه‏}‏ من إضافة المصدر إلى فاعله‏.‏

والإِهانة‏:‏ المعاملة بالهون وهو الذل‏.‏

وإسناد ‏{‏فأكرمه ونعمه‏.‏‏.‏‏.‏ فقدر عليه رزقه‏}‏ إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإِنسان أو انساق له قَدَر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعضُ الحوادث بعضاً، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فُرصها ومناسباتها‏.‏

والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم، وإنما يتكلم الانسان عن اعتقاد‏.‏ فالمعنى‏:‏ فيقول ربي أكرمني، معتقداً ذلك، ويقول‏:‏ ربيَ أهانني، معتقداً ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة، أو يتذمروا من الضيق والحاجة، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم‏.‏

وتقديم ‏{‏ربي‏}‏ على فعل ‏{‏أكرمني‏}‏ وفعللِ ‏{‏أهانني‏}‏، دون أن يقول‏:‏ أكرمني ربي أو أهانني ربي، لقصد تقوّي الحكم، أي يقول ذلك جازماً به غير متردد‏.‏

وجملتا‏:‏ ‏{‏فيقول‏}‏ في الموضعين جوابان ل ‏(‏إمَّا‏)‏ الأولى والثانية، أي يطرد قول الإِنسان هذه المقالة كلَّما حصلتْ له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق‏.‏

وأوثِر الفعل المضارع في الجوابين لإِفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين‏.‏

وحرف ‏{‏كَلاّ‏}‏ زجر عن قول الإِنسان ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ عند حصول النعمة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ربيَ أهانني‏}‏ عندما يناله تقتير، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كِلاَ القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلاً على منزلته عند الله تعالى‏.‏

وإنما يُعرَف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏103 105‏)‏‏.‏ فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعَث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبَرَّهُ‏.‏

فمناط الردع جعل الإِنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإِهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإِهانة لأن الله أهان الكافرَ بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق‏.‏

وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإِنسان بقوله‏:‏ ‏{‏فأكرمه‏}‏ وبين إبطال ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ لأن الإِبطال وارد على ما قصده الإِنسان بقوله‏:‏ ‏{‏ربي أكرمن‏}‏ أن ما ناله من النعمة علامةٌ على رضى الله عنه‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسراراً وعِللاً لا يُحاط بها، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقْيسة وهمية، والاستناد لمألوفات عادية، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله‏.‏ وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها‏.‏ وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها‏.‏

وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏ربي‏}‏ في الموضعين بفتح الياء‏.‏ وقرأ الباقون بسكونها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فقدر عليه‏}‏ بتخفيف الدال‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال‏.‏

وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏أكرمن، وأهانن‏}‏ بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف‏.‏ وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف‏.‏ وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف‏.‏ و‏{‏كلاّ‏}‏ ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإِنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسبباً على إرادة الله تكريم الإِنسان ولا على إرادته إهانته‏.‏ وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 13‏]‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ‏}‏ ‏{‏للهاليتيم * وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين * وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً‏}‏‏.‏

‏{‏بل‏}‏ إضراب انتقالي‏.‏ والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقللِ إليه مناسبةُ المقابَلةِ لمضمون ‏{‏فأكرمه ونعمه‏}‏ من جهة ما توهموه أن نعمة مالِهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يُكرموا عبيده شُحّاً بالنعمة إذ حَرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحْتاجُون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏لا تكرمون اليتيم‏}‏ استئناف كما يقتضيه الإضراب، فهو إمّا استئناف ابتداء كلام، وإما اعتراض بين ‏{‏كلاّ‏}‏ وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم‏:‏ سَد خَلته، وحسن معاملته، لأنه مظنة الحاجة لفقدِ عائِلِه، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباءُ لأبنائهم الصغار‏.‏ وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات‏.‏

والبِرّ، لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يُدِلّ هو عليه‏.‏

و ‏{‏اليتيم‏}‏‏:‏ الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء، وتعريفه للجنس، أي لا تكرمون اليتامى‏.‏ وكذلك تعريف ‏{‏المسكين‏}‏‏.‏

ونفي الحَض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى، وهي دلالة فحوى الخطاب، أي لقلّة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفْعَ وساطة، بَلْهَ أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم‏.‏

و ‏{‏طعام‏}‏ يجوز أن يكون اسماً بمعنى المطعوم، فالتقدير‏:‏ ولا تحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم‏.‏ والمعنى‏:‏ ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكينَ فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏

و ‏{‏المسكين‏}‏‏:‏ الفقير وتقدم في سورة براءة‏.‏

وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نُفِي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضُّوا على طعام المسكين، عُلم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم‏.‏

ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإِطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغباً في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏ أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «لا تُكرمون، ولا تَحضون، وتأكلون، وتُحبون» بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة‏.‏ وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بذلك فضحاً لدخائلهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول أهلكت مالاً لبداً أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ولا تحضُّون‏}‏ بضم الحاء مضارع حضّ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف ‏{‏تَحَاضُّون‏}‏ بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاضّ بعضهم بعضاً، وأصله تتحاضّون فحذفت إحدى التاءين اختصاراً للتخفيف أي تتمالؤون على ترك الحض على الإطعام‏.‏

و ‏{‏التراث‏}‏‏:‏ المال الموروث، أي الذي يُخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله‏:‏ وُرَاث بواو في أوله بوزن فُعال من مادة وَرث بمعنى مفعول مثل الدُّقاق، والحُطام، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تُجاه، وتُخَمة، وتُهْمة، وتُقَاةٍ وأشباهها‏.‏

والأكل‏:‏ مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعاً لا يُبقي منه شيئاً‏.‏ وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب‏.‏

وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم‏.‏

وأشعر قوله‏:‏ ‏{‏تأكلون‏}‏ بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التُراث دون أن يقال‏:‏ وتأكلون المال لأن التراث مال ماتَ صاحبه وأكْلُه يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغرٍ أو أنوثة‏.‏

واللَّمُّ‏:‏ الجمع، ووصْفُ الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة، أي أكلاً جامعاً مال الوارثين إلى مال الآكِللِ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والجم‏:‏ الكثير، يقال‏:‏ جَمَّ الماءُ في الحوض، إذا كثر، وبِئر جموم بفتح الجيم‏:‏ كثيرةُ الماء، أي حباً كثيراً، ووصْف الحُبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس‏.‏

فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد، أي حبّاً مفرطاً، وذلك محل ذم حب المال، لأن إفراد حبه يوقع في الحِرص على اكتسابه بالوسائل غير الحَق كالغصب والاختلاس والسرقة وأكل الأمانات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏جَمّاً‏}‏‏.‏

زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين، وأكلُهم التراث الذي هو مالُ غير آكله، وعن حب المال حبّاً جمّاً‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الارض دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجئ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى * يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي انْتُقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏ الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة‏.‏ فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذاباً لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قَسْراً فلا ينفعهم التذكر، ويندمون ولات ساعةَ مندم‏.‏

فحاصل الكلام السابق أن الإِنسان الكافر مغرور يَنُوط الحوادث بغير أسبابها، ويتوهمها على غير ما بها ولا يُصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طولَ حياته في عَماية، وقد زجروا عن ذلك زجراً مؤكداً‏.‏

وأَتبع زجرهم إنذاراً بأنهم يحين لهم يوم يُفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإِفاقة‏.‏

والمقصود من هذا الكلام هو قوله‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد‏}‏، وقوله ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏، وأما ما سبق من قوله ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏وجيء يومئذٍ بجهنم‏}‏ فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عُرِّف بإضافة جملة ‏{‏دكت الأرض‏}‏ وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب‏.‏

والدّك‏:‏ الحَطْم والكسر‏.‏

والمراد بالأرض الكُرَة التي عليها الناس، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشئ عن فساد الكون الكائنة عليه الآن، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 1‏]‏ الآية‏.‏

و ‏{‏دكاً دكاً‏}‏ يجوز أن يكون أولهما منصوباً على المفعول المطلق المؤكِّد لفعله‏.‏ ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دَكُّ الجبال، وإذ قد كان أمراً خارقاً للعادة كان المقام مقتضياً تحقيق وقوعه حقيقةً دون مجاز ولا مبالغة، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏فدكتا دكة واحدة‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏14‏)‏ ف ‏{‏دكّا‏}‏ الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن «دُكّتا» الدك أي هو دَكّ حقيقي، و‏{‏دَكا‏}‏ الثاني منصوباً على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباتُه زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي‏.‏

وعلى هذا درج الرضي قال‏:‏ ويستثنى من منع تأكيد النكرات ‏(‏أي تأكيداً لفظياً‏)‏ شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكماً لا محكوماً عليه كقوله صلى الله عليه وسلم

‏"‏ فنكاحها باطل باطل باطل ‏"‏‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دكت الأرض دكاً دكاً‏}‏ فهو مثل‏:‏ ضَرَبَ ضَرَب زيدٌ ا ه‏.‏

وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 14‏]‏ ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة‏.‏

ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيِّن للنوع‏.‏ وتأويله‏.‏ أنه دكّ يعقُب بعضه بعضاً كما تقول‏:‏ قرأت الكتاب باباً باباً وبهذا المعنى فسّر صاحب «الكشاف» وجمهور المفسرين من بعده‏.‏ وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي‏:‏ «قال ابن الحاجب‏:‏ لعلّه قالَه في «أماليه على المقدمة الكافية» وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في «إيضاح المفصل» بينت له حسابه باباً باباً، أي مفصلاً‏.‏ والعرب تكرر الشيء مرتين» فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظُ المكرّر، فإذا قلت‏:‏ بَيَّنْت له الكتاب باباً باباً فمعناه بينته له مفصلاً باعتبار أبوابه اه‏.‏

قلت‏:‏ هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول‏.‏

وفي «تفسير الفخر»‏:‏ وقيل‏:‏ فبُسِطَتَا بسطةً واحدة فصارتا أرضاً لا ترى فيها أمتاً وتبعه البيضاوي يعني‏:‏ أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء‏.‏

ولك أن تجعل صفة واحدة مجازاً في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم‏:‏ هو وحيد قومه، ووحيد دهره، فلا يعارض قوله‏:‏ ‏{‏دكاً دكاً‏}‏ بهذا التفسير‏.‏ وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغةِ فَاعل فلم يسمع‏:‏ هو واحد قومه‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والملك صفّاً صفّاً‏}‏ ف ‏{‏صفّاً‏}‏ الأول حال من ‏{‏الملك‏}‏‏.‏

و ‏{‏صَفّاً‏}‏ الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف، أي صفّاً بعد صفِّ، أو خَلْفَ صفّ، أو صنفاً من الملائكة دون صنف، قيل‏:‏ ملائكة كل سَماء يكونون صفّاً حول الأرض على حدة‏.‏

قال الرضي وأما تكرير المنكَّر في قولك، قرأت الكتاب سورةً سورةً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء ربك والملك صفاً صفاً‏}‏ فليس في الحقيقة تأكيداً إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى‏.‏ والمعنى‏:‏ جميع السور وصفوفاً مختلفة ا ه‏.‏ وشذّ من المفسرين من سكت عنه‏.‏ ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد‏.‏

وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء‏.‏

وأما إسناده إلى الملَك فإما حقيقةٌ، أو على معنى الحضور وأيًّا مَّا كان فاستعمال ‏(‏جاء‏)‏ من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته، أو في مَجَازَيْه‏.‏

و ‏{‏الملَك‏}‏‏:‏ اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق، أي والملائكة‏.‏

والصف‏:‏ مصدر صَفَّ الأشْياءَ إذا جعل الواحد حذو الآخر، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً‏}‏ في سورة طه ‏(‏64‏)‏‏.‏

واستعمال ‏{‏وجيء يومئذ بجهنم‏}‏ كاستعمال مَجيء الملك، أي أحضرت جهنم وفتحت أبوابها فكأنها ‏(‏جاءَ‏)‏ بها جاء والمعنى‏:‏ أظهرت لهم جهنم قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وبرزت الجحيم لمن يرى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 36‏]‏ وورد في حديث مسلم عن ابن مسعود يرفعه‏:‏ «أن لجهنم سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» وهو تفسير لمعنى ‏{‏وجيء يومئذ بجهنم‏}‏‏.‏ وأمور الآخرة من خوارق العادات‏.‏

وإنما اقتصر على ذكر جهنم لأن المقصود في هذه السورة وعيد الذين لم يتذكروا وإلا فإن الجنة أيضاً مُحضرة يومئذ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 90 91‏]‏‏.‏

و ‏{‏يومئذ‏}‏ الأول متعلق بفعل ‏{‏جيء‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وجيء يوم تُدَكّ الأرض دَكّاً دكّاً إلى آخره‏.‏

و ‏{‏يومئذ‏}‏ الثاني بدل من ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ والمعنى‏:‏ يوم تدكّ الأرض دكاً إلى آخره يتذكر الإِنسان‏.‏ والعامل في البدل والمبدل منه معاً فعل ‏{‏يتذكر‏}‏‏.‏ وتقديمه للاهتمام مع ما في الإطناب من التشويق ليحصل الإِجمال ثم التفصيل مع حسن إعادة ما هو بمعنى ‏{‏إذا‏}‏ لزيادة الربط لطول الفصل بالجمل التي أضيف إليها ‏{‏إذا‏}‏‏.‏

و ‏{‏الإِنسان‏}‏‏:‏ هو الإِنسان الكافر، وهو الذي تقدم ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 15‏]‏ الآية فهو إظهار في مقام الإِضمار لبعد مَعاد الضمير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأنى له الذكرى‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏يقول‏}‏ الخ‏.‏

و ‏{‏أنّى‏}‏ اسم استفهام بمعنى‏:‏ أين له الذكرى، وهو استفهام مستعمل في الإِنكار والنفي، والكلامُ على حذف مضاف، والتقدير‏:‏ وأين له نَفْع الذكرى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يقول يا ليتني‏}‏ الخ يجوز أن يكون قولاً باللسان تحسراً وتندماً فتكون الجملة حالاً من ‏{‏الإنسان‏}‏ أو بدل اشتمال من جملة ‏{‏يتذكر‏}‏ فإن تذكره مشتمل على تحسر وندامة‏.‏ ويجوز أن يكون قوله في نفسه فتكون الجملة بياناً لجملة ‏{‏يتذكر‏}‏‏.‏

ومفعول ‏{‏قدمت‏}‏ محذوف للإِيجاز‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لحياتي‏}‏ تحتمل معنى التوقيت، أي قدمت عند أزمان حياتي فيكون المراد الحياة الأولى التي قبل الموت‏.‏ وتحتمل أن يكون اللام للعلة، أي قدمت الأعمال الصالحة لأجل أن أحيا في هذه الدار‏.‏ والمراد‏:‏ الحياة الكاملة السالمة من العذاب لأن حياتهم في العذاب حياةُ غشاوة وغياب قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وحرف النداء في قوله‏:‏ ‏{‏يا ليتني‏}‏ للتنبيه اهتماماً بهذا التمني في يوم وقوع‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد‏}‏ رابطة لجملة ‏{‏لا يعذب‏}‏ الخ بجملة ‏{‏دكت الأرض‏}‏ لما في ‏{‏إذا‏}‏ من معنى الشرط‏.‏

والعذاب‏:‏ اسم مصدر عذّب‏.‏

والوثاق‏:‏ اسم مصدر أوثق‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يعذِّب‏}‏ بكسر الذال ‏{‏ويوثق‏}‏ بكسر الثاء على أن ‏{‏أحدٌ‏}‏ في الموضعين فاعل ‏{‏يعذِب، ويوثِق‏}‏‏.‏ وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير ‏{‏عذابه‏}‏ عائد إلى الإنسان في قوله‏:‏ ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ، أي عذاباً مثل عذابه، وانتفاء المماثلة في الشدة، أي يعذب عذاباً هو أشد عذاب يعذبه العصاة، أي عذاباً لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 115‏]‏ والمراد في شدته‏.‏

وهذا بالنسبة لبني الإنسان، وأما عذاب الشياطين فهو أشدُّ لأنهم أشد كفراً و‏{‏أحد‏}‏ يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحَدٌ في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ للَّه‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 19‏]‏ فانحصر الأحد المعذِّب ‏(‏بكسر الذال‏)‏ في فرد وهو الله تعالى‏.‏

وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال ‏{‏يعذَّب‏}‏ وفتح ثاء ‏{‏يوثق‏}‏ مبنيين للنائب‏.‏ وعن أبي قلابة قال‏:‏ «حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏{‏يعذَّب‏}‏ و‏{‏يوثَق‏}‏ بفتح الذال وفتح الثاء»‏.‏ قال الطبري‏:‏ وإسناده واهٍ وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواترُ القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يعذَّب أحدٌ مثلَ عذاب مَا يعذَّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ، ولا يوثَق أحدٌ مثلَ وَثاقه، ف ‏{‏أحد‏}‏ هنا بمنزلة «أحداً» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 115‏]‏‏.‏

والوَثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربْط ويجعل للأسير والمقُود إلى القتل‏.‏ فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71، 72‏]‏ الآية‏.‏

وانتصاب ‏{‏وثاقه‏}‏ كانتصاب ‏{‏عذابه‏}‏ على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإِنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتَّبعوا هديه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك مما يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر‏.‏

واتصالُ هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد‏.‏ وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة‏.‏ فيجوز أن يُقَال يومَ الجزاء فهو مقول قوللٍ محذوف هو جواب ‏(‏إذا‏)‏ ‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21‏]‏ الآية وما بينهما مستطرد واعتراض‏.‏

فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القُدُس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة‏:‏ فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ إظهاراً في مقام الإِضمار بقرينة تفريع ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ عليه‏.‏ ونكتةُ هذا الإِظهار ما في وصف ‏{‏رب‏}‏ من الولاء والاختصاص‏.‏ وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطَبة من التشريف لها‏.‏

وإن كان من قول الملائكة فلفظ ‏{‏ربك‏}‏ جرى على مقتضى الظاهر وعطفُ ‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ عطف تلقين يصدر من كلام الله تعالى تحقيقاً لقول الملائكة ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏‏.‏

والرجوع إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏ بحيث شُبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها‏:‏ ارجعي إليه، وهذا الرجوع خاصٌّ غير مطلق الحلول في الآخرة‏.‏

ويجوز أن تكون الآية استئنافاً ابتدائياً جرى على مناسبة ذكر عذاب الإِنسان المشرك فتكون خطاباً من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة‏.‏

والأمر في ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏ مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما ‏{‏راضية مرضية‏}‏ وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضاً، والإِضمار في قوله‏:‏ ‏{‏في عبادي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جنتي‏}‏ التفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏

وقال بعض أهل التأويل‏:‏ نزلت في معيَّن‏.‏ فعن الضحاك‏:‏ أنها نزلت في عثمان بن عفان لما تصدق ببئرِ رومة‏.‏ وعن بريدة‏:‏ أنها نزلت في حمزة حين قُتل‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في خُبَيب بن عديّ لما صلبه أهل مكة‏.‏ وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية، والاتفاقُ على أن السورة مكية إلا ما رواه الدَّاني عن بعض العلماء أنها مدنية، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة‏.‏

وعن ابن عباس وزيدِ بن حارثة وأبيّ بن كعب وابننِ مسعود‏:‏ أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد، وعلى هذا فهي متصلة بقوله‏:‏

‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 21‏]‏ الخ كالوجه الذي قبل هذا، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد‏.‏

وعن زيد بن حارثة وأبي صالح‏:‏ يقال هذا للنفس عند الموت‏.‏ وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏يأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية‏}‏ فقال أبو بكر‏:‏ ما أحسنَ هذا‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمَا إنَّ الملَك سيقولها لك عند الموت»‏.‏ وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة‏.‏

والنفس‏:‏ تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب اللَّه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله‏:‏ ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى‏.‏

و ‏{‏المطمئنة‏}‏‏:‏ اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئاً غير مضْطَرِب ولا منزعج، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب باللٍ فيكون ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة‏.‏

وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن أفْعَلَلَّ‏.‏ والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما يُنطَق به وهذا قول أبي عَمرو‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ أصل الفعل‏:‏ طَأْمَنَ فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مُطْأَمِنَّة ومصدره اطئمنان وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏260‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏103‏)‏‏.‏

ووصف النفس‏}‏ ب ‏{‏المطمئنة‏}‏ ليس وصفاً للتعريف ولا للتخصيص، أي لتمييز المخاطَبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يَعْرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإِذن لهم بدخول الجنة، فالوصف مراد به الثناء والإِيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ وتبشير من وُجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون‏.‏ ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاماً في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون‏.‏

والاطمئنان‏:‏ مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء‏.‏

وقد فُسر الاطمئنان‏:‏ بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالإخلاص في العمل، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة، وفسر بتبشيرهم بالجنة، أي قبل ندائهم ثم نُودُوا بأن يدخلوا الجنة‏.‏

والرجوع يحتمل الحقيقة والمجاز كما علمت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية‏.‏

والراضية‏:‏ التي رضت بما أُعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه‏.‏

والمرضية‏:‏ اسم مفعول وأصله‏:‏ مَرضياً عنها، فوقع فيه الحذف والإِيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإِنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو‏.‏

وفرع على هذه البشرى الإِجمالية تفصيل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فادخلي في عبادي وادخلي جنتي‏}‏ فهو تفصيل بعد الإِجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها‏.‏

والمعنى‏:‏ ادخلي في زمرة عبادي‏.‏ والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإِضافة مع قرنه بقوله‏:‏ ‏{‏جنتي‏}‏‏.‏ ومعنى هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لندخلنهم في الصالحين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 9‏]‏‏.‏

فالظرفية حقيقية وتؤول إلى معنى المعية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك مع الذين أنعم اللَّه عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏

وإضافة ‏(‏جنة‏)‏ إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏‏.‏

وهذه الإِضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلُّم حسناً بعد طريقة الغيبة بقوله‏:‏ ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏‏.‏

وتكرير فعل ‏{‏وادخلي‏}‏ فلم يقل‏:‏ فادخلي جنتي في عبادي للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقاً للمسرة لهم‏.‏

سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق‏.‏

و ‏{‏لا أقسم‏}‏ معناه‏:‏ أقسم‏.‏ وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة‏.‏

وتقدم القول في‏:‏ هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به‏.‏

والإِشارة ب«هذا» مع بيانه بالبلد، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة، ومثله ما في قوله‏:‏ ‏{‏إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏‏.‏ وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به‏.‏

والبلد‏:‏ جانب من متسع من أرض عامرةً كانتْ كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج‏:‏

بلْ بَلَدٍ ملءُ الفجاج قَتمُه ***

وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله‏.‏ ‏"‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية‏.‏ والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى ‏{‏وأنت حل‏}‏ فيجوز أن يكون ‏{‏حل‏}‏ اسم مصدرِ أحَلّ، أي أباح، فالمعنى وقد جعلَك أهلُ مكة حلالاً بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعَضْدُ شجره، وهم مع ذلك يُحلون قتلك وإخراجَك، قال هذا شُرَحْبيل بن سعد فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإِخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف ‏{‏حِلّ‏}‏ يقدر فيه مضاف يعيِّنه ما يصلح للمقام، أي وأنت حلال منك ما حُرِّم من حقِّ ساكن هذا البلد من الحُرمة والأمن‏.‏ والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحداً‏.‏ والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها، أي فهم يحرِّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏حِل‏}‏ اسماً مشتقاً من الحِلّ وهو ضد المنع، أي الذي لا تَبعة عليه فيما يفعله‏.‏ قال مجاهد والسدي، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حِل مِمن قَاتلك أن تقاتله‏.‏ وقريب منه عن ابن عباس، أي مهما تمكنتَ من ذلك‏.‏ فيصدق بالحال والاستقبال‏.‏ وقال في «الكشاف»‏:‏ «يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏، تقول لمن تَعِدُه بالإِكرام والحباء أنت مكرم محبُوّاً اه‏.‏

فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قُدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإِسلام، ووعد بأنه سيمكنه منهم‏.‏

وعلى كلا الوجهين في محمل صفة ‏{‏حِل‏}‏ هو خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال‏:‏ ‏"‏ وإنما أحلت لي ساعة من نهار ‏"‏ الحديث، وفي «الموطإ»‏:‏ «قال مالك‏:‏ ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ‏(‏أي يوم الفتح‏)‏ مُحْرِماً»‏.‏

ويُثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظرُ في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة‏.‏ قال الباجي في «المنتقى» وابنُ العربي في «الأحكام»‏:‏ الداخل مكة غيرَ مريد النسك، لحاجة تتكرر كالحَطّابينَ وأصحاب الفواكهِ والمعاش هؤلاء يجوز دخولهم غيرَ محرمين لأنهم لو كلفوا الإِحرام لَحِقتهم مشقة‏.‏ وإن كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك‏:‏ أنه لا بد من الإِحرام، وروي عنه تركُه والصحيح وجوبه، فإن تركه قال الباجي‏:‏ فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يُفصِّل أهل المذهب بين من كان من أهل داخل الميقاتتِ أو مِن خارجه‏.‏

والخلاف في ذلك أيضاً بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير إحرام إن لم يُرِد نسكاً من حج أو عمرة، وأما من كان مِن أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإِحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج‏.‏ وذهب الشافعي إلى سقوط الإِحرام عن غير قاصد النسك، ومذهب أحمد موافق مذهب مالك‏.‏

وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين‏:‏ أن معنى ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ أنه حَال، أي ساكن بهذا البلد اه‏.‏ وجعله ابن العربي قولاً ولم يَعزُه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة ‏{‏وأنت حلّ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أقسم‏}‏ فيكون القسم بالبلد مقيداً باعتبار كونه بلَد محمد صلى الله عليه وسلم وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال ‏{‏حِلّ‏}‏ بمعنى‏:‏ حَالّ، أي مقيم في مكاننٍ فإن هذا لم يرد في كتب اللغة‏:‏ «الصَحاحِ» و«اللسانِ» و«القاموسِ» و«مفرداتتِ الراغب»‏.‏ ولم يعرج عليه صاحب «الكشاف»، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله، وقال الخفاجِي‏:‏ والحِلّ‏:‏ صفة أو مصدر بمعنى الحَال هنا على هذا الوجه ولا عبرة بمن أنكره لِعدم ثبوته في كتب اللغة» اه وكيف يقال‏:‏ لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المَرجع في إثبات اللغة إلاّ كتب أيمتها‏.‏

وتكرير لفظ ‏{‏بهذا البلد‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار لقصد تجديد التعجيب‏.‏ ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يَخْرُج عن حوزتهم‏.‏

و ‏{‏والد‏}‏ وقع منكراً فهو تنكيرَ تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم‏.‏ فتعين أن يكون المرادَ والداً عظيماً، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله ‏{‏وما ولد‏}‏‏.‏

والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب ‏{‏والد‏}‏ إبراهيمَ عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجَر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وإبراهيم والد سُكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏ما وَلد‏}‏ موصول وصلة والضمير المستتر في ‏{‏ولد‏}‏ عائد إلى ‏{‏والد‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ وما ولده إبراهيم من الأبناء والذرية‏.‏ وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمداً صلى الله عليه وسلم

وفي هذا تعريض بالتنبيه للمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادُوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعِمارَةِ المسجد الحرام قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏

وجيء باسم الموصول ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وما ولد‏}‏ دون ‏(‏مَن‏)‏ مع أن ‏(‏مَن‏)‏ أكثرُ استعمالاً في إرادة العاقل وهو مراد هنا، فعُدل عن ‏(‏مَن‏)‏ لأن ‏{‏ما‏}‏ أشدُّ إبهاماً، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإِبهام لإرادة التفخيم، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه أعلم بما وضعت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ يعني مولوداً عجيبَ الشأن‏.‏ ويوضِّح هذا أن ‏{‏ما‏}‏ تستعمل نَكرة تامة باتفاق، و‏(‏مَن‏)‏ لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي‏.‏

ولان قوة الإِبهام في ‏{‏ما‏}‏ أنسب بإرادة الجماعة دون واحِدٍ معين، ألا ترى إلى قول الحَكَم الأصم الفَزاري‏:‏

اللُّؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالدهِ *** واللؤْمُ أكرمُ من وَبْر ومَا ولَدَا

يريد ومِن أولاده لا ولداً معيّناً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ جواب القسم وهو الغرض من السورة‏.‏

والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين، فالتعريف فيه تعريف الجنس، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين، فالعموم عموم عرفي، أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ، ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس‏.‏

ويجوز أن يراد به إنسان معيّن، فالتعريف تعريف العهد، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال‏:‏ أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول‏:‏ من أزالني فله كذا‏.‏ فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه، وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ وقيل‏:‏ هو الوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ هو أبو جهل‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق‏.‏

وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق‏.‏

والخلق‏:‏ إيجاد ما لم يكن موجوداً، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏‏.‏ فهو جعل يغير ذات الشيء‏.‏

والكَبَد بفتحتين‏:‏ التعب والشدة، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه، ويَحِق وِءَامُه‏.‏

وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل ‏{‏خلقنا‏}‏ على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل ‏{‏خلقنا‏}‏ كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه‏.‏ وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة‏.‏ واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر‏.‏ ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى‏.‏

فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4، 5‏]‏ بعد القسم بقوله‏:‏ ‏{‏التين والزيتون‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏ الخ‏.‏

فمعنى‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏‏:‏ أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقاً آخر، فهو في طريقة القسم والمُقسم عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏ أي كما خلقناه أول مرة في نَصَب من أطوار الحياة كذلك نخلقه خلقاً ثانياً في كَبدٍ من العذاب في الآخرة لكفره‏.‏

وبذلك يظهر موقع إدماج قوله ‏{‏في كبد‏}‏ لأن المقصود التنظير بين الخلْقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى‏.‏

والظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏في كبد‏}‏ مستعملة مجازاً في الملازمة فكأنه مظروف في الكَبَد، ونظيره قوله‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8، 9‏]‏ الآية‏.‏ فالمراد‏:‏ عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاققِ المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن الكَبَد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإِشراك وهو حين تقوُّم العقل وكماللِ الإدراك‏.‏

ومن الجائز أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتباراً لطيفاً وهو شدة تلبّس الكَبد بالإِنسان المشرك حتى كأنه خُلِق في الكَبَد‏.‏

والمعنى‏:‏ لقد خلقنا الكَبَد في الإنسان الكافر‏.‏

وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخْطئة‏.‏

وضمير ‏{‏أيَحْسِبُ‏}‏ راجع إلى الإِنسان لا محالة، ومن آثار الحيرة في معنى ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏ أن بعض المفسرين جعل ضمير ‏{‏أَيَحْسِبُ‏}‏ راجعاً إلى بعض مما يعمه لفظ الإِنسان مثل أبي الأشد الجمحي، وهو ضغث على إبّالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح‏.‏ وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لإيذانه بقلة اكتراث صاحبه به، قال عنترة‏:‏

وإذَا سَكِرْتُ فإنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ *** مالي وعِرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ

وَإذَا صَحَوْتُ فَما أقَصِّر عن نَدى *** وَكَما عَلِمْتَ شمائلي وتكَرُّمِي

وجملة‏:‏ ‏{‏يقول أهلكت مالاً‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وذلك من الكبد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏يقول أهلكت مالاً‏}‏ لأن قوله ‏{‏أهلكت مالاً لبداً‏}‏ يصدر منه وهو يحسب أنه راجَ كذبُه، على جميع الناس وهو لا يخلو من ناس يطلعون على كذبه قال زهير‏:‏

ومهْما تكنْ عند امرئ مِن خليقة

وإنْ خالها تَخفى على الناسسِ تُعْلَمِ

والاستفهام إنكار وتوبيخ وهو كناية عن علم الله تعالى بدخيلته وأن افتخاره بالكرم باطل‏.‏

و ‏{‏لبداً‏}‏ بضم اللام وفتح الموحدة في قراءة الجمهور وهو جمع لُبدة بضم اللام وهي ما تلبد من صوف أو شعر، أي تجمع والتصق بعضه ببعض وقرأه أبو جعفر ‏{‏لبَّداً‏}‏ بضم اللام وتشديد الباء على أنه جمع لاَبِدٍ بمعنى مجتمع بعضُه إلى بعض مثل‏:‏ صُيَّم وقُوَّم، أو على أنه اسم على زنة فُعَّل مثل زُمَّل للجَبان وجُبَّإ للضعيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

تعليل للإِنكار والتوبيخ في قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 5‏]‏ أو قوله‏:‏ ‏{‏أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 7‏]‏ أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خَلَق مشاعر الإِدراك التي منها العينان، وخَلَق آلات الإِبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏

والاستفهام يجوز أن يكون تقريرياً وأن يكون إنكارياً‏.‏

والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلَّل إنكار ظنه إن لم يره أحد‏.‏ وذِكْر الشفتين مع اللسان لأن الإِبانة تحصل بهما معاً فلا ينطق اللسان بدون الشّفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان‏.‏

ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون‏:‏ ينطق بلساننٍ فصيح، ويقولون‏:‏ لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة النطق‏.‏

وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإِبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكرَ إلى النظر والبحث وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏‏.‏

فاستكمل الكلامُ أصول التعلُّم والتعليم فإن الإِنسان خُلق محباً للمعرفة محباً للتعريف فبمشاعر الإِدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يَعْلَمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها‏.‏

والشفتان هما الجِلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يُمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا‏.‏

وأصل شفة شَفَو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل‏:‏ أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعُوضَ عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشِفاه‏.‏ والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفاً في حالة الوصل فقالوا‏:‏ شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا‏:‏ شفوين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله‏.‏

والهداية‏:‏ الدلالة على الطريق المبلِّغة إلى المكان المقصود السير إليه‏.‏

والنجد‏:‏ الأرض المرتفعة ارتفاعاً دون الجبل‏.‏ فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان، والطريق قد يكون مُنجداً مصعداً، وقد يكون غوراً منخفضاً‏.‏

وقد استعيرت الهداية هنا للإِلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز‏.‏

واستعير النجدان للخير والشر، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلِّب على الطريقين، أو لأن كل واحد صعب باعتبار، فطريق الخير صعوبته في سلوكه، وطريق الشر صعوبته في عواقبه، ولذلك عبر عنه بعدَ هذا ب

‏{‏العَقَبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ وتشبيه الإِقبال على تلقّي دعوة الإِسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك‏.‏

وأدمج في هذا الاستدلال امتنانٌ على الإِنسان بما وُهبه من وسائل العيش المستقيم‏.‏

ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعَرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلاً على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى‏.‏