فصل: سورة النصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏إذا‏}‏ اسم زمان مبهم يتعين مقدارهُ بمضمون جملةٍ يضاف إليها هو‏.‏ ف ‏{‏إذا‏}‏ اسمُ زمان مطلق، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالباً‏.‏ ولذلك يضمَّن معنى الشرط غالباً، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالباً لإفادة التحقق، وقد يكون مضارعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو على جمعهم إذا يشاء قدير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي، ولا تضمن ‏{‏إذا‏}‏ معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإِخبار دون قصد تعليق نحو‏:‏ ‏{‏وإذَا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إليها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت‏.‏

والنصر‏:‏ الإِعانة على العدوّ‏.‏ ونصر الله يعقبه التغلب على العدو‏.‏ و‏{‏الفتح‏}‏‏:‏ امتلاك بلد العدوّ وأرضِه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأَرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد‏:‏

وأَجَنَّ عوراتتِ الثغور ظَلاَمُها

وقد فتح المسلمون خيْبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد، وهو المعهود في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك اللَّه نصراً عزيزاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1 3‏]‏‏.‏

فإضافة ‏{‏نصر‏}‏ إلى ‏{‏اللَّه‏}‏ تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها‏.‏

و ‏{‏جاء‏}‏ مستعمل في معنى‏:‏ حصَل وتحقق مجازاً‏.‏

والتعريف في «الفتح» للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 85‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة ‏{‏إذا جاء نصر الله‏}‏ على جميع الأقوال‏.‏

وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمَن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور، يعنون الحصون‏.‏ وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد به وأهل مَكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإِسلام فتحَ مكة يقولون‏:‏ إنْ ظهر محمد على قومه فهو نبيء‏.‏

وتكرر أنْ صَدَّ بعضُهم بعضاً ممن يريد اتباع الاسلام عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإِسلام أو غلب الشرك‏.‏

أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال‏:‏ «لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دَعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبيء»‏.‏

وعن الحسن‏:‏ لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا‏:‏ أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يَداننِ فكانوا يدخلون في الإِسلام أفواجاً‏.‏ فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها‏.‏

ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإِسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإِسلام سنة الوفود‏.‏

وعلى ما روي عن ابن عمر‏:‏ «أنها نزلت في حجة الوداع» يكون تعليق جملة‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ على الشرط الماضي مراداً به التذكير بأنه حصل، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإِسلام بلادَ العرب فسبح بحمد ربك، وهو مراد مَن قال من المفسرين ‏{‏إذا‏}‏ بمعنى ‏(‏قد‏)‏، فهو تفسير حاصل المعنى، وليست ‏{‏إذا‏}‏ مما يأتي بمعنى ‏(‏قد‏)‏‏.‏

والرؤية في قوله‏:‏ ‏{‏ورأيت الناس‏}‏ يجوز أن تكون علمية، أي وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمَنْ يحضر من وفودهم‏.‏ فيكون جملة ‏{‏يدخلون‏}‏ في محل المفعول الثاني ل ‏{‏رأيت‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإِسلام وذلك سنة تسع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإِسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة ‏{‏يدخلون‏}‏ في موضع الحال من الناس‏.‏

و ‏{‏دين اللَّه‏}‏ هو الإِسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند اللَّه الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت اللَّه التي فطر الناس عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والدخول في الدين‏:‏ مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن تلك الشهادة‏.‏ فشُبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول، على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف، ففيه استعارة أخرى تصريحية‏.‏

و ‏{‏الناس‏}‏‏:‏ اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا باللَّه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وإذا عُرّف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، واحتملت الجنس نحو‏:‏ ‏{‏إن الناس قد جمعوا لكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ واحتملت الاستغراق نحو‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ ونحو‏:‏ ‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ ‏[‏الناس‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي، أي جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينني ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل المشاهدة، فالمعنى‏:‏ ورأيتَ ناساً كثيرين أو ورأيت العرب‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ «قال أبو عُمر بن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب «الاستيعاب» في باب خراش الهذلي‏:‏ لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإِسلام بعد حُنين والطائِف، منهم من قدِم ومنهم من قدِم وافده» ا ه‏.‏ وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن لأن مِن عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإِسلام، وهم‏:‏ تَغلب وغسان في مشارف الشام والشاممِ، وكذلك لخم وكلب من العراق فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله رؤية بصرية‏.‏

ويجوز أن يكون اللَّهُ أعلمه بذلك إن جعلنا الرؤية علمية‏.‏

والأفواج‏:‏ جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا فوج مقتحم معكم‏}‏ في سورة ‏[‏ص‏:‏ 59‏]‏، أي يدخلون في الإِسلام قبائل، وانتصب أفواجاً‏}‏ على الحال من ضمير ‏{‏يدخلون‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط، وفعل ‏{‏فسبح‏}‏ هو العامل في ‏{‏إذا‏}‏ النصبَ على الظرفية، والفاء رابطة للجواب لأنه فعل إنشاء‏.‏

وقَرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحقٌ للحمد لأن باء المصاحبة بمعنى ‏(‏مع‏)‏ فهي مثل ‏(‏مع‏)‏ في أنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإِسلام شيئاً مفروغاً منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه لأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد فعله، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره‏.‏

ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيحَ ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى‏:‏

قد قلتُ لما جاءني فخرُه *** سبحانَ من علقمةَ الفاخِر

وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت‏:‏

إذا أثنى عليك المرء يوماً *** كفاه عن تعرضه الثناء

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإِسلام‏.‏

وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حَيِّز جواب ‏{‏إذا‏}‏، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في ‏{‏فسبح بحمد ربك‏}‏ فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال‏:‏ ‏"‏ إنه لَيُغَانَ على قلْبي فأستغفر اللَّه في اليوم والليلة مائة مرة ‏"‏ فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماءً إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم يُنْو من قبل، وهو التهيّؤ للقاء الله، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه، مثل فِداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتِبَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ الآية، أو من ضرورات الإِنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فكان هذا إيذاناً باقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية‏.‏

والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإِكثار من قول ذلك‏.‏ وقد دل ذوق الكلام بعضَ ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود، فعن مقاتل‏:‏ ‏"‏ لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عم‏؟‏ قال‏:‏ نُعيتْ إليك نفسك‏.‏ فقال‏:‏ إنه لكَما تقول ‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏ نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما، فقالا‏:‏ فيه نُعي رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدقتما نُعِيَتْ إليّ نفسي ‏"‏‏.‏

وفي «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عباس‏:‏ «كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك، فقال لهم عمر‏:‏ إنه مَن قد علمتم‏.‏ قال‏:‏ فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ فقالوا‏:‏ أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال‏:‏ ما تقول يا ابن عباس‏؟‏ قلت‏:‏ ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏، فذلك علامة موتك‏؟‏ فقال عمر‏:‏ ما أعلم منها إلا ما تقول» فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه‏.‏

وقال في «الكشاف»‏:‏ روي أنه لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ إن عبداً خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل‏.‏ فعلم أبو بكر فقال‏:‏ فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا ‏"‏ اه‏.‏

قال ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف»‏:‏ الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة ا ه‏.‏ ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية «الكشاف» والثانية عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه‏.‏

وعن ابن مسعود أن هذه السورة «تسمى سورة التوديع» أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه اللَّه أن يعفو عما يؤاخذه عليه‏.‏

ومقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ فسبح بحمده، لتقدم اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر اللَّه‏}‏ فعدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ‏{‏ربك‏}‏ لما في صفة ‏(‏رب‏)‏ وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإِيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإِسلام نعمةً أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإِبلاغ إلى الكمال‏.‏

وقد انتهى الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏واستغفره‏}‏‏.‏ وقد روي‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قراءته يقف عند ‏{‏واستغفره‏}‏ ثم يكمل السورة»‏.‏

‏{‏واستغفره إِنَّهُ كَانَ‏}‏‏.‏

تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك‏.‏

وتوّاب‏:‏ مثال مبالغة من تاب عليه‏.‏ وفعل تاب المتعدي بحرف ‏(‏على‏)‏ يطلق بمعنى‏:‏ وفّق للتوبة، أثبته في «اللسان» و«القاموس»، وهذا الإِطلاق خاص بما أسند إلى الله‏.‏

وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي‏:‏ إنّ، وكانَ، وصيغة المبالغة في التوّاب، وتنوين التعظيم فيه‏.‏

وحيث كان توكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ هنا غير مقصودٍ به ردُّ إنكار ولا إزالة تردد إذ لا يفرضان في جانب المخاطب صلى الله عليه وسلم فقد تمحض ‏(‏إنَّ‏)‏ لإفادة الاهتمام بالخبر بتأكيده‏.‏

وقد تقرر أن من شأن ‏(‏إنَّ‏)‏ إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غَناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء، وقد تقدم غير مرة، منها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏، فالمعنى‏:‏ هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها‏.‏

وإذ قد كان الكلام تذييلاً وتعليلاً للكلام السابق تعين أن حذف متعلق ‏{‏تواباً‏}‏ يُقدر بنحو‏:‏ على التائبين‏.‏ وهذا المقدر مراد به العموم، وهو عموم مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية، ولما ذكر دليل العموم عَقب أمرِه بالاستغفار أفاد أنه إذا استغفره غفر له دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار لأن الاستغفار طلب لغفر، فالطالب يترقب إجابة طلبه، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح والحمد فلا يحتاج إلى تعليل لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله‏.‏

ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعدٍ بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي، وهذا معنى كنائي لأن من عُرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سَعوْا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب، فالإِخبار بأنه توّاب اقتضى أنه لا يخاف عتاباً‏.‏

فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيداً للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفاً لا يحتاجان إلى التعليل، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ولكنهما باعتبار كونهما رمزاً إلى مداناة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون ما في قوله‏:‏ ‏{‏إنه كان تواباً‏}‏ من الوعد بحسن القبول تعليلاً لمدلولهما الكنائي، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان تواباً‏}‏ ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائيّة، أي إنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول، شأنَ من عهد من الصفح والتكرم‏.‏

وفعل ‏{‏كان‏}‏ هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي‏.‏ وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ إنه كان غفّاراً، كما في آية‏:‏ ‏{‏فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 10‏]‏ فيُجرى الوصف على ما يناسب قوله‏:‏ ‏{‏واستغفره‏}‏، فعُدل عن ذلك تلطفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ أمره بالاستغفار ليس مقتضياً إثبات ذنب له لما علمت آنفاً من أن وصف ‏(‏تواب‏)‏ جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى، فإنه لا يُسأل عما يفعل بعباده، لولا تفضله بما بيَّن لهم من مراده، ولأن وصف ‏(‏توّاب‏)‏ أشد ملاءمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة ‏{‏أفواجاً‏}‏ لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرِّخوة‏.‏

وروي في «الصحيح» عن عائشة قالت‏:‏ «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن نزلت عليه سورة‏:‏ ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏ إلا يقول‏:‏ ‏"‏ سبحانك ربّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن ‏"‏ أي يتأول الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره‏}‏ على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله صلى الله عليه وسلم

سورة المسد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمان بن الحكم من شعراء «الحماسة»‏:‏

لَحَا الله قَيْساً قَيسَ عَيلان إنها *** أضاعت ثُغور المسلمين وولَّتِ

وقول أبي تمام في طالعةِ هجاء‏:‏

النارُ والعارُ والمكروه والعطب ***

ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد‏:‏

مجشري فقد أنجز الإِقبال ما وعد ***

والتَّبُّ‏:‏ الخسران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيئه بمثل اللفظ الذي شَتَم به أبو لهب محمداً صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقاً‏.‏

وإسناد التبّ إلى اليدين لِما روي من أن أبا لهب لما قال للنبيء‏:‏ «تباً لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا» أخذ بيده حجراً ليرميه به‏.‏ وروي عن طارق المحاربي قال‏:‏ «بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول‏:‏ أيها الناس قولوا‏:‏ لا إله إلا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفَه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول‏:‏ «يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه»‏.‏ فقلت‏:‏ من هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذا محمد يزعم أنه نبيء، وهذا عمه أبو لهب، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه‏:‏ «بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث»‏.‏

وقول النابغة‏:‏

قعود الذي أبياتهم يثمدونهم *** رمى الله في تلك الأكف الكوانع

ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاماً حسناً‏:‏ لا فُضَّ فُوك، وقال أعرابي من بني أسد‏:‏

دَعَوْتُ لِمَا نابنِي مِسْوَراً *** فلبَّى فلبَّيْ يَديْ مِسْورِ

لأنه دعاه لِما نابه من العدوِّ للنَّصر، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن‏.‏

وأبو لهب‏:‏ هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو عتبة تكنية باسم ابنه، وأمّا كنيته بأبي لهب في الآية فقيل‏:‏ كان يكنّى بذلك في الجاهلية ‏(‏لحسنه وإشراققِ وجهه‏)‏ وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في «مسند أحمد»، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى، وذلك لا يُقره القرآن، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العَلَممِ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائراً إلى النار، وذلك كناية عن كونه جهنمياً، لأن اللهب ألسنةُ النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان‏.‏ والأبُ‏:‏ يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم‏:‏ «أبوها وَكيَّالها» وكما كني إبراهيم عليه السلام‏:‏ أبا الضيفان وكنَّى النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمان بن صَخْر الدَّوْسي‏:‏ أبا هريرة لأنه حمل هِرَّةً في كم قميصه، وكُني شهرُ رمضان‏:‏ أبَا البَركات، وكني الذئب‏:‏ أبا جَعدةٍ والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنمياً لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف، وهو أنه من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتزاني في مبحث العَلَمِيَّة من «شرح المفتاح» وأنشد قول الشاعر‏:‏

قصدت أبا المحاسن كي أراه *** لشوق كان يجذبني إليه

فلما أن رأيتُ رأيت فرداً *** ولم أر من بنيه ابنا لديه

وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة‏:‏ ‏"‏ إن ابنة أبي لهب قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم إن الناس يصيحون بي ويقولون إني ابنةُ حطب النار ‏"‏ الحديث‏.‏

وقرأ الجمهور لفظ ‏{‏لهب‏}‏ بفتح الهاء، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء وهو لغة لأنهم كثيراً ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء، وقد يكون ذلك لأن ‏{‏لهب‏}‏ صار جزءَ عَلَم والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا‏:‏ شُمْس بضم الشين، لشَمْس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شراً في قوله‏:‏

إنّي لمُهْدٍ من ثَنائِي فقاصد *** به لابن عَمِّ الصدققِ شُمْس بننِ مالك

قال أبو الفتح بن جنّيّ في كتاب «إعراب الحماسة»‏:‏ «يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو مَعدِ يكرب‏.‏ وتَهْلُك ومَوْهَب وغير ذلك مما غُيِّر عن حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه اه‏.‏

وكما قالوا‏:‏ أبو سُلْمى بضم السين كُنية والدِ زهير بن أبي سُلمى لأنهم نقلوا اسم سَلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالباً‏.‏ ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذات لهب‏}‏ وقراءةُ ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقاً لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وتب‏}‏ إما معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي بالحجارة كما في خبر طارق المحاربي، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظاً له في الشتم والتقريع، وتفيدُ بذلك تأكيداً لجملة‏:‏ ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ لأنها بمعناها، وإنما اختلفتا بالكلية والجزئية، وذلك الاختلاف هو مقتضِي عطفها، وإلا لكان التوكيد غير معطوف لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون‏.‏

وإمّا أن تكون في موضع الحال، والواو واوَ الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دُعي عليه به كقول النابغة‏:‏

جَزَى ربُّه عني عديَّ بن حاتم *** جَزَاء الكلاب العاويات وقَدْ فَعَلْ

فيكون الكلام قبله مستعملاً في الذم والشماتة به أو لطلب الازدياد، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود «وقد تَب» فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون معنى طلب حصول التبات له، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مُؤتة التي استشهد فيها‏:‏

حتَّى يقولوا إذا مَرُّوا على جَدثي *** أرْشَدَك اللَّهُ من غَازٍ وقَدْ رَشِدا

يعني ويقولوا‏:‏ وقد رشدا، فيصير قوله‏:‏ أرشدك الله من غازٍ، لمجرد الثناء والغبطة بما حصّله من الشهادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإِعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات، ولا يغنيه ماله، ولا كسبه، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة‏.‏

والتعبير بالماضي في قوله‏:‏ ‏{‏ما أغنى‏}‏ لتحقيق وقوع عدم الإِغناء‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ نافية، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإِنكار‏.‏

والمال‏:‏ الممتلكات المتمولة، وغلب عند العرب إطلاقه على الإِبل، ومن كلام عمر‏:‏ «لولاَ المال الذي أحمل عليه في سبيل الله» الخ في اتقاء دعوة المظلوم، من «الموطأ»، وقال زهير‏:‏

صحيحات ماللٍ طالعات بمخرَم ***

وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ في سورة النساء ‏(‏29‏)‏ وفي مواضع‏.‏

‏{‏وما كسب‏}‏ موصول وصلته والعائد محذوف جوازاً لأنه ضمير نصب، والتقدير‏:‏ وما كسبه، أي ما جمعه‏.‏ والمراد به‏:‏ ما يملكه من غير النعَم من نقود وسلاح وربْع وعُروض وطعام، ويجوز أن يراد بماله‏:‏ جميع ماله، ويكون عطف ‏{‏وما كسب‏}‏ من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، أي ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفُه‏.‏

وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال‏:‏ «إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي» فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ما كسب‏}‏ هو ولده فإن الولد من كسب أبيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنه ماله وما كسب‏}‏ أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم‏.‏ ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب‏.‏ وقد مات بعد ذلك كافراً، فكانت هذه الآية إعلاماً بأنه لا يُسلم وكانت من دلائل النبوءة‏.‏

والسين للتحقيق مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 98‏]‏‏.‏

و«يصلى ناراً» يُشوَى بها ويحس بإحراقها‏.‏ وأصل الفعل‏:‏ صلاهُ بالنار، إذا شواه، ثم جاء منه صَلي كأفعال الإِحساس مثل فرِح ومرِض‏.‏ ونُصب ‏{‏ناراً‏}‏ على نزع الخافض‏.‏

ووصف النار ب ‏{‏ذات لهب‏}‏ لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب‏.‏

وهو ما تقدم الإِيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفاً، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف لحقيقة النار وهو مِثل التأكيد‏.‏

وبين لَفضي ‏{‏لهب‏}‏ الأول و‏{‏لهب‏}‏ الثاني الجناس التام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أعقب ذم أبي لهب ووعيدهُ بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتعينه عليه‏.‏

وامرأته‏:‏ أي زوجُه، قال تعالى في قصة إبراهيم‏:‏ ‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ وفي قصة لوط‏:‏ ‏{‏إلا امرأته كانت من الغابرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 83‏]‏ وفي قصة نسوة يوسف‏:‏ ‏{‏امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وامرأة أبي لهب هي أم جَميل، واسمها أرْوَى بنتُ حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وقيل‏:‏ اسمها العَوراء، فقيل هو وصف وأنها كانت عوراء، وقيل‏:‏ اسمها، وذكر بعضهم‏:‏ أن اسمها العَوَّاء بهمزة بعد الواو‏.‏

وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوككِ فتضعه في الليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقِر قدميه‏.‏

فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جُعل لامرأته وعيد مقتبَس لفظُه من فِعلها وهو حَمْل الحطب في الدنيا، فأُنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقَد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سبباً لعذاب أعز الناس عليها‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وامرأته‏}‏ عطف على الضمير المستتر في ‏{‏سيصلى‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏ أي وتصلى امرأته ناراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حمالةُ الحطب‏}‏ قرأه الجمهور برفع ‏{‏حمالةُ‏}‏ على أنه صفة لامرأته فيَحتمل أنها صفتها في جهنم ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدّنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التوجيه والإِيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك‏.‏

وقرأه عاصم بنصب ‏{‏حمالة‏}‏ على الحال من ‏{‏امرأته‏}‏‏.‏ وفيه من التوجيه والإِيماء ما في قراءة الرفع‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏في جيدها حبل من مسد‏}‏ صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة، أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلاً لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها‏.‏

والجِيد‏:‏ العُنق، وغلَب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فَقَلّ أن يذكر العُنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عُنُقاً موصوفاً بالحسن وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله‏:‏

وجيدٍ كجِيد الرِئم ليس بفاحش *** إذا هي نَصَّتْه ولا بمُعَطَّل

قال السهيلي في «الروض»‏:‏ «والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحَلي أو الحُسن فإنما حَسُن هنا ذِكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادَهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحَبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحَلي ذُكر الجيد معه، ألا ترى إلى قول الأعشى‏:‏

يومَ تبدي لنا قتيلةُ عن جي *** د أسيل تزينُه الأطواق

ولم يقل عن عنق، وقول الآخر‏:‏

وأحسن من عقد المليحة جيدُها ***

ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثاً من الكلام‏.‏ ا ه‏.‏

قلت‏:‏ وأما قول المعري‏:‏

الحَجْلُ للرِّجْل والتاجُ المُنيفُ لما *** فوقَ الحِجَاج وعقْد الدرّ للعنق

فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماماً للمجانسة التي بين الحَجْل والرجل، والتاج والحجاج، وهو مقصود الشاعر‏.‏

والحبْل‏:‏ ما يربط به الأشياء التي يراد اتصالُ بعضها ببعض وتقيدُ به الدابة والمسجون كيلا يبرح من المكان، وهو ضفير من الليف أو من سُيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتدٍ أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره على بعد يراد، وتربط به قلوع السفن وتشد به السفن في الأرض في الشواطئ، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس‏}‏ كلاها في سورة آل عمران ‏(‏103 112‏)‏، ويقال‏:‏ حبله إذا ربطه‏.‏

والمسدّ‏:‏ ليف من ليف اليمن شديد، والحِبال التي تفتل منه تكون قوية وصُلبة‏.‏

وقدم الخبر من قوله‏:‏ ‏{‏في جيدها‏}‏ للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذ قد كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء، وقد ماتت أم جميل على الشرك‏.‏

سورة الإخلاص

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإِظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏

ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين‏:‏ انْسُبْ لنا ربك، فكانت جواباً عن سؤالهم فلذلك قيل له‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ فكان للأمر بفعل ‏{‏قل‏}‏ فائدتان‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضمير الشأن لإِفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏هو‏}‏ أيضاً عائداً إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا‏:‏ انسب لنا ربك‏.‏

ومن العلماء من عَدّ ضمير ‏{‏هو‏}‏ في هذه السورة اسماً من أسماء الله تعالى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في «شرح الأسماء الحسنى» نقله ابن عرفة عنه في «تفسيره» وذكر الفخر ذلك في «مفاتيح الغيب» ولا بد من المزج بين كلاميه‏.‏

وحاصلهما قوله‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ فيه ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيهاً على ثلاثة مقامات‏.‏

الأول‏:‏ مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هِيَ هِيَ، فلا جرم ما رأوا موجوداً سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم، فقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ إشارة مطلقة‏.‏ ولما كان المشار إليه معيناً انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإِشارة إلى مميز فكانت لفظة ‏{‏هو‏}‏ كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء‏.‏

المقام الثاني‏:‏ مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهَدُوا الحق موجوداً وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة ‏{‏هو‏}‏ تامة الإِفادة في حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم ‏{‏هو اللَّه‏}‏‏.‏

والمقام الثالث‏:‏ مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الإله فقُرن لفظ ‏{‏أحد‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏هو اللَّه‏}‏ إبطالاً لمقالتهم ا ه‏.‏

فاسمه تعالى العلَم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجَّة بينهم وبين المشركين، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تَنَزَّه عنها‏.‏

أما ‏{‏أحد‏}‏ فاسم بمعنى ‏(‏وَاحِد‏)‏‏.‏ وأصل همزته الواو، فيقال‏:‏ وحَد كما يقال‏:‏ أحد، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة ‏(‏بخلاف قلب واو وُجوه‏)‏ ومعناه منفرد، قال النابغة‏:‏

كأنَّ رحلي وقد زال النهارُ بنا *** بذي الجليللِ على مستأنِسسٍ وَحَدِ

أي كأني وضعتُ الرجل على ثورِ وحْششٍ أحَسَّ بأنسيّ وهو منفردٌ عن قطيعه‏.‏

وهو صفة مشبهة مثل حَسَن، يقال‏:‏ وَحُد مثل كرُم، ووَحِدَ مثل فرِح‏.‏

وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتيٌّ له، فلذلك أوثر ‏{‏أحد‏}‏ هنا على ‏(‏واحد‏)‏ لأن ‏(‏واحد‏)‏ اسم فاعل لا يفيد التمكن‏.‏

ف ‏(‏واحد‏)‏ و‏{‏أحد‏}‏ وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد‏.‏

هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ ‏(‏أحد‏)‏، أشهرها أنه يستعمل اسماً بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد من رسله‏}‏ في البقرة ‏(‏285‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أشرك بربي أحداً‏}‏ في الكهف ‏(‏38‏)‏ وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو‏:‏ أحد عشر، وأحد وعشرين، ومؤنثه إحدى، ومن العلماء من خلط بين ‏(‏واحد‏)‏ وبين ‏{‏أحد‏}‏ فوقع في ارتباك‏.‏

فوصف الله بأنه ‏{‏أحد‏}‏ معناه‏:‏ أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلَم وهي الإلهية المعروفة، فإذا قيل‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ فالمراد أنه منفرد بالإلهية، وإذا قيل‏:‏ الله واحد، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمَن دونه ليس بإله‏.‏ ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته‏.‏

فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليماً للناس كلهم، وإبطالاً لعقيدة الشرك وُصف الله في هذه السورة ب ‏{‏أحد‏}‏ ولم يوصف ب ‏(‏واحد‏)‏ لأن الصفة المشبهة نهايةُ ما يُمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين‏.‏

وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة‏:‏ إن ‏{‏أحد‏}‏ دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلاً لا كثرةً معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول، ولا كثرة حسيّة وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلاً كما في المادة والصورة‏.‏ والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزهاً عن الجنس والفصل، والمادة والصورة، والأعراض والأبعَاض، والأعضاء، والأشكال، والألوان، وسائر ما يُثلم الوحدة الكاملة والبَساطة الحَقَّة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء‏.‏ وتبيينُه‏:‏ أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلاً أولى بالوحدانيَّة مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقساماً عقليّاً أوْلَى بالوحدانية من الذي ينقسم انقساماً بالحسّ بالقوة ثم بالفعل، ف ‏{‏أحد‏}‏ جامع للدلالة على الوحدانية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اه‏.‏

قلت‏:‏ قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالاً كان إذا عذب على الإِسلام يقول‏:‏ أحَد أحد، وكان شعار المسلمين يوم بدر‏:‏ أحَد أحَد‏.‏

والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن ‏{‏أحد‏}‏ ليس ملحقاً بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ‏"‏‏.‏ وعدّها ولم يذكر فيها وصف أحد، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب «الإِرشاد» وكتاببِ «اللمع» والغزالي في «شرح الأسماء الحسنى»‏.‏

وقال الفهري في «شرحه على لُمع الأدلة» لإِمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى «الواحد»‏.‏ وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم‏.‏

ودرح ابن بَرَّجَان الإِشبيلي في «شرح الأسماء» والشيخ مُحمد بن محمد الكومي ‏(‏بالميم‏)‏ التونسي، ولُطف الله الأرضرُومي في «معارج النور»، على عدّ ‏(‏أحد‏)‏ في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الوَاحد فقالا‏:‏ الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتضضِ حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات‏.‏ وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى المَلْكانية وللثانوية عند المجوس، وللعَدَد الذي لا يُحصى عند البراهمة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ نظير قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏ وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله، أي حقيقته فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء‏.‏

ثم إن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدُّهريين‏.‏

وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفرداً بالإلهية كان مستغنياً عن المخصِّص بالإِيجاد لأنه لو افتقر إلى من يُوجده لكان من يوجده إلها أوَّلَ منه فلذلك كان وجود الله قديماً غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص بالوجُود بدَلاً عن العدم، وكان مستعيناً عن الإمداد بالوجود فكان باقياً، وكان غنياً عن غيره، وكان مخالفاً للحوادث وإلا لاحتاج مثلَها إلى المخصص فكان وصفه تعالى‏:‏ ب ‏{‏أحد‏}‏ جامعاً للصفات السلبية‏.‏ ومثلُ ذلك يُقال في مرادفه وهو وصف وَاحد‏.‏

واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه، وعلى كل التقادير فليس لكُنْه الله كثرة أصلاً لا كثرة معنوية وهي تعدد المقوّمات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي، ولا كثرةُ الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام‏.‏ فأفاد وصف ‏{‏أحد‏}‏ أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما إشار إليه ابن سينا‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ بغير ‏{‏قل هو‏}‏ اه، ولعله أخذه مما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرأ‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏ كان بِعَدْل ثلثثِ القرآن، كما ذكره بأثر قراءة أبيّ بدون ‏{‏قل‏}‏ كما تأوله الطيبي إذ قال‏:‏ وهذا استشهاد على هذه القراءة‏.‏

وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقوله، وهذا كما كان يُكثر أن يقول‏:‏ ‏"‏ سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي ‏"‏ يَتأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسبح بحمد ربك واستغفره‏}‏ ‏[‏النصر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

جملة ثانية محكية بالقول المحكية به جملة‏:‏ ‏{‏اللَّه أحد‏}‏، فهي خبر ثان عن الضمير‏.‏ والخبر المتعدد يجوز عطفه وفصله، وإنما فصلت عن التي قبلها لأن هذه الجملة مسوقة لتلقين السامعين فكانت جديرة بأن تكون كل جملة مستقلة بذاتها غيرَ ملحقة بالتي قبلها بالعطف، على طريقة إلقاء المسائل على المتعلم نحو أن يقول‏:‏ الحوزُ شرط صحة الحُبس، الحوز لا يتم إلا بالمعانية، ونحو قولك‏:‏ عنترة من فحول الشعراء، عنترة من أبطال الفرسان‏.‏

ولهذا الاعتبار وقع إظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏اللَّه الصمد‏}‏ وكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ هو الصمد‏.‏

و ‏{‏الصَمد‏}‏‏:‏ السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات، وهو سيد القوم المطاع فيهم‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ وهو فَعَل بمعنى مفعول من‏:‏ صَمَد إليه، إذا قصده، فالصمد المصمود في الحوائج‏.‏ قلت‏:‏ ونظيره السَّند الذي تُسند إليه الأمور المهمة‏.‏ والفَلَق اسم الصباح لأنه يتفلق عنه الليل‏.‏

و ‏{‏الصمد‏}‏‏:‏ من صفات الله، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم‏.‏

فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي‏.‏ ومعناه‏:‏ المفتقر إليه كلُّ ما عداه، فالمعدوم مفتقر وجودُه إليه والموجود مفتقر في شؤونه إليه‏.‏

وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولاً‏.‏ ويشمل هذا الاسمُ صفاتتِ الله المعنويةَ الإِضافية وهي كونه تعالى حيّاً، عالماً، مريداً، قادراً، متكلماً، سميعاً، بصيراً، لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصموداً إليه‏.‏

وصيغة ‏{‏اللَّه الصمد‏}‏ صيغة قصر بسبب تعريف المسند فتفيد قصر صفة الصمدية على الله تعالى، وهو قصر قلب لإِبطال ما تعوّده أهل الشرك في الجاهلية من دعائهم أصنامهم في حوائجهم والفزع إليها في نوائبهم حتى نَسُوا الله‏.‏ قال أبو سفيان ليلة فتح مكة وهو بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله‏:‏ «لقد علمتُ أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئاً ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏لم يلد‏}‏ خبر ثاننٍ عن اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏اللَّه الصمد‏}‏، أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة ‏{‏اللَّه الصمد‏}‏، لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شؤون الوالد وتدارك عجزه، ولذلك استدل على إبطال قولهم‏:‏ ‏{‏اتخذ اللَّه ولداً‏}‏ بإثبات أنه الغنيّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا اتخذ اللَّه ولداً سبحانه هو الغني له ما في السماوات الأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 68‏]‏ فبعدَ أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله، لأن المتولِّد مساوٍ لما تولَّد عنه‏.‏

والتعدُّد بالتولد مساوٍ في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا اللَّه لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ ‏(‏وهو برهان التمانع‏)‏ ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفاً وبَطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك، لأن البنوّة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لم يولد‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لم يلد‏}‏، أي ولم يلده غيره، وهي بمنزلة الاحتراس سدّاً لتجويز أن يكون له والِد، فأردف نفي الولد بنفي الوالد‏.‏ وإنما قدم نفي الولد لأنه أهم إذ قد نَسب أهل الضلالة الولَد إلى الله تعالى ولم ينسبوا إلى الله والِداً‏.‏ وفيه الإِيماء إلى أن من يكون مولوداً مثل عيسى لا يكون إلها لأنه لو كان الإله مولوداً لكان وجوده مسبوقاً بعدم لا محالة، وذلك محال لأنه لو كان مسبوقاً بعدم لكان مفتقراً إلى من يُخصصه بالوجود بعد العدم، فحصل من مجموع جملة‏:‏ ‏{‏لم يلد ولم يولد‏}‏ إبطالُ أن يكون الله والداً لِمولود، أو مولوداً من والد بالصراحة‏.‏ وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة ‏(‏زرادشت‏)‏ الثانوية القائلة بوجود إلهين‏:‏ إله الخير وهو الأصل، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير، لأن إله الخير وهو المسمى عندهم ‏(‏يزدان‏)‏ فكَّر فكرةً سوء فتولد منه إله الشر المسمى عندهم ‏(‏أهرُمنْ‏)‏، وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله‏:‏

قَال أناس باطل زعمهم *** فراقِبوا الله ولا تَزْعُمُنْ

فكَّر ‏(‏يزدان‏)‏ على غِرة *** فصيغَ من تفكيره ‏(‏أهْرُمُنْ‏)‏

وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى عليه السّلام بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الإله لا يكون إلاّ إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد فليس عيسى بابن لله، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولوداً بعد عدم‏.‏ فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها فبطل أن يكون عيسى إلها‏.‏

فلما أبْطَلَت الجملةُ الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة، وأبْطَلَتْ الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق، أبْطَلَت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية‏.‏

وإنما نفي أن يكون الله والداً وأن يكون مولوداً في الزمن الماضي، لأن عقيدة التولد ادعت وقوعَ ذلك في زمن مضى، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولداً في المستقبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

في معنى التذييل للجمل التي قبلها لأنها أعم من مضمونها لأن تلك الصفات المتقدمة صريحَها وكنايتها وضمنيَّها لا يشبهه فيها غيره، مع إفادة هذه انتفاء شبيه له فيما عداها مثل صفات الأفعال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏‏.‏

والواو في قوله‏:‏ ‏{‏ولم يكن له كفؤاً‏}‏ اعتراضية، وهي واو الحال، كالواو في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهل يجازى إلا الكفور‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏ فإنها تذييل لجملة ‏{‏ذلك جَزَيْنَاهم بما كفروا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 17‏]‏، ويجوز كون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة فيكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث وتكون استفادة معنى التذييل تبعاً للمعنى، والنكت لا تتزاحم‏.‏

والكُفُؤ‏:‏ بضم الكاف وضم الفاء وهمزة في آخره‏.‏ وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر، إلا أن الثلاثة الأولين حَققوا الهمزة وأبو جعفر سهَّلها ويقال‏:‏ «كُفْء» بضم الكاف وسكون الفاء وبالهمز، وبه قرأ حمزة ويعقوب، ويقال‏:‏ ‏{‏كفواً‏}‏ بالواو عوض الهمز، وبه قرأ حفص عن عاصم وهي لغات ثلاث فصيحة‏.‏

ومعناه‏:‏ المساوي والمماثل في الصفات‏.‏

و ‏{‏أحد‏}‏ هنا بمعنى إنسان أو موجود، وهو من الأسماء النكرات الملازمة للوقوع في حيّز النفي‏.‏

وحصل بهذا جناس تام مع قوله‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏‏.‏

وتقديم خبر ‏(‏كان‏)‏ على اسمها للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بذكر الكُفؤ عقب الفعل المنفي ليكون أسبق إلى السمع‏.‏

وتقديم المجرور بقوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ على متعلَّقه وهو ‏{‏كفؤاً‏}‏ للاهتمام باستحقاق الله نفي كفاءة أحد له، فكان هذا الاهتمام مرجحاً تقديم المجرور على متعلَّقه وإن كان الأصل تأخير المتعلَّق إذا كان ظرفاً لغواً‏.‏ وتأخيره عند سيبويه أحسن ما لم يقتض التقديمَ مقتضضٍ كما أشار إليه في «الكشاف»‏.‏

وقد وردت في فضل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون‏.‏ وثبت في الحديث الصحيح في «الموطأ» و«الصحيحين» من طرق عدة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ‏{‏قل هو اللَّه أحد‏}‏ تعدل ثلث القرآن ‏"‏‏.‏

واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار لهذا الحديث ويجمعها أربعة تأويلات‏:‏

الأول‏:‏ أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة، أي تعدل ثلث القرآن إذا قُرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله‏.‏

الثاني‏:‏ أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سورة القرآن‏.‏

الثالث‏:‏ أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني لأنّ معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإِسلامية ما لم يجمعه غيرها‏.‏

وأقول‏:‏ إن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي، أو لأنه لا توجد سورة واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص‏.‏

التأويل الرابع‏:‏ أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة‏.‏

قال ابن رشد في «البيان والتحصيل»‏:‏ أجمع العلماء على أن من قرأ‏:‏ ‏{‏قل هو اللَّه أحد‏}‏ ثلاثَ مرات لا يساوي في الأجر من أحَيَا بالقرآن كله اه‏.‏ فيكون هذا التأويل قيداً للتأويل الأول، ولكن في حكايته الإِجماع على أن ذلك هو المراد نظر، فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة‏.‏

قال ابن رشد‏:‏ واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الإِشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض‏.‏

وقال أبو عمر بن عبد البر السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها‏.‏

سورة الفلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبيء صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجابتُها مرجوة، إذ ليس هذا المقول مشتملاً على شيء يُكلف به أو يُعمل حتى يكون المراد‏:‏ قل لهم كذا كما في قوله‏:‏ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة‏.‏

وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال‏:‏ ‏"‏ قِيل لي قُل فقلتُ لكم فقولوا ‏"‏‏.‏ يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كَلِمة ‏{‏قُل‏}‏‏.‏

والخطاب بقُل‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم وإذ قد كان قرآناً كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضاً كان يعوِّذ بهما الحَسَن والحُسَيْن كما ثبت في «الصحيح»، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنَيي الخطاب من توجُّهه إلى معيّن وهو الأصل، ومن إرادة كلّ من يصح خطابُه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن، فيكون من استعمال المشترك في معنييه‏.‏

واستعمال صيغة التكلم في فعل ‏{‏أعوذ‏}‏ يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل ‏{‏قل‏}‏ فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها‏.‏

وأما تعويذُ قارئها غيرَه بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين، وما رُوي عن عائشة قالت‏:‏ «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات، فلما ثَقُل كنت أنفث عليه بهن وأمْسح بيدِ نفسه لبركتها»، فذلك على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ‏.‏

والعَوْذ‏:‏ اللجأ إلى شيء يقِي من يلجأُ إليه ما يخافه، يُقال‏:‏ عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال‏:‏ استعاذ، إذا سأل غيره أن يُعيذه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعِذ باللَّه إنه سميع عليم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏‏.‏ وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏

و ‏{‏الفلق‏}‏‏:‏ الصبح، وهو فَعَل بمعنى مفعول مثل الصَّمَد لأن الليل شبه بشَيء مغلق ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفَلْق‏:‏ الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل، وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأغطش ليلها وأخرج ضحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 29‏]‏، واستعارة السلخ له في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وربُّ الفلق‏:‏ هو الله، لأنه الذي خلق أسبابَ ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شراً كثيراً يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعُسر النجدة، وبُعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر‏.‏

والمعنى‏:‏ أعوذ بفالق الصبح مَنجاةً من شرور الليل، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح، فوُصفَ الله بالصفة التي فيها تمهيدٌ للإِجابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

عطف أشياء خاصة هي ممَّا شمِله عموم ‏{‏من شر ما خلق‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور‏:‏

أحدها‏:‏ وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل‏.‏

والثاني‏:‏ صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير‏.‏

والثالث‏:‏ صنف من الناس ذُو خُلُق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به‏.‏

وأعيدت كلمة ‏{‏من شر‏}‏ بعد حرف العطف في هذه الجملة‏.‏ وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغننٍ عن إعادة العامل قصداً لتأكيد الدعاء، تعرضاً للإِجابة، وهذا من الابتهال فيناسبه الإِطناب‏.‏

والغاسق‏:‏ وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال‏:‏ غَسَق الليل يغسق، إذا أظلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى غسق الليل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏، فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته الجوار في البحر‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏ وتنكير ‏{‏غاسق‏}‏ للجنس لأن المراد جنس الليل‏.‏

وتنكير ‏{‏غاسق‏}‏ في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم‏.‏ ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة‏:‏ «يا أهل ذا المعنى وقيتُم ضُراً» أي وقيتم كل ضر‏.‏

وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى ‏(‏في‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ الليل والنهارِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والليل‏:‏ تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفاً‏.‏

وتقييد ذلك بظرف ‏{‏إذا وقب‏}‏ أي إذا اشتدت ظلمته لأن ذلك وقت يتحيّنه الشطَّار وأصحاب الدعارة والعَيث، لتحقّق غلبَة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال‏:‏ أغْدَر الليلُ، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدْر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدَر، أي صار ذا غَدر على طريق المجاز العقلي‏.‏

ومعنى ‏{‏وقب‏}‏ دخل وتغلغل في الشيء، ومنه الوَقْبة‏:‏ اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقبت الشمس غابت، وخُص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعاً لحصول المكروه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله‏:‏ ‏{‏من شر ما خلق‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وعُطف ‏{‏شر النفاثات في العقد‏}‏ على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحَرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد‏.‏

والنفث‏:‏ نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل، يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعَقدوا عليه عُقَداً ثم نفثوا عليها‏.‏

فالمراد ب ‏{‏النفاثات في العقد‏}‏‏:‏ النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحرَ النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتَّكهن ونحو ذلك، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن، وكان العرب يزعمون أن الغُول ساحرةٌ من الجِن‏.‏ وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتُّهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعَا له السوَاحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائماً على وجهه ولحق بالوحوش‏.‏

و ‏{‏العُقد‏}‏‏:‏ جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وَتَر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة، ولذلك يخافون من حَلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يُهتدى إليه‏.‏ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الظالمون إنْ تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وجملة القول هنا‏:‏ أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها‏.‏

وأمّا السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلِّمون الناس السحر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏

وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفْث، فلم يقل‏:‏ إذا نفثن في العقد، للإِشارة إلى أن نفثهن في العُقد ليس بشيء يجلب ضراً بذاته وإنما يجلب الضر النافثاتُ وهن متعاطيات السحر، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئاً مما يحقق له ما يعمله لأجله إلاّ احتال على إيصاله إليه، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد، أو قاذورات يُفسد اختلاطُها بالجسد بعضَ عناصر انتظام الجسم يختلّ بها نشاط أعصابه أو إرادته، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليُرِي لمن يسألونه السحر أن سحره لا يتخلف ولا يخطئ‏.‏

وتعريف ‏{‏النفاثات‏}‏ تعريف الجنس وهو في معنى النكرة، فلا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله‏:‏ ‏{‏ومن شر غاسق‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن شر حاسد‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وإنما أوثر لفظ ‏{‏النفاثات‏}‏ بالتعريف لأن التعريف في مثله للإِشارة إلى أن حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم‏:‏ «أرسلها العراك» كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد للَّه‏}‏ في سورة الفاتحة ‏(‏2‏)‏‏.‏

وتعريف ‏{‏النفاثات‏}‏ باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرةً وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاهُ لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل، لأن الليل وقت الخلوة وخطورِ الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود‏.‏

والحسد‏:‏ إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها‏.‏ وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازاً‏.‏

والغبطة‏:‏ تمنّي المرء أن يكون له من الخير مثلُ ما لمن يروق حاله في نظره، وهو محمل الحديث الصحيح‏:‏ «لا حَسَدَ إلا في اثنتين» أي لا غبطة، أي لا تحق الغبطة إلا في تينك الخصلتين، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين‏.‏

فقد يغلب الحسدُ صبرَ الحاسد وأناتَه فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأساً‏.‏ وقد كان الحسد أولَ أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قُبِل قربانه ولم يقبل قُربان الآخر، كما قصّه الله تعالى في سورة العقود‏.‏

وتقييد الاستعاذة من شره بوقت‏:‏ ‏{‏إذا حسد‏}‏ لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسُود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإِلحاق الضرّ به‏.‏ والمراد من الحسد في قوله‏:‏ ‏{‏إذا حسد‏}‏ حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته، فلا إشكال في تقييد الحسد ب ‏{‏حسد‏}‏ وذلك كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏

وبَدَت لميسُ كأنَّها *** بَدْرُ السماءِ إذا تَبَدَّى

أي تجلى واضحاً منيراً‏.‏

ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود، وبعكسه الكناية عن سيّئ الحال بالحاسد، وعليه قول أبي الأسود‏:‏

حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداءٌ له وخصوم

كضرائرِ الحسناء قُلْنَ لوجهها *** حَسَداً وبُغضاً إنّه لَمشُوم

وقول بشار بن بُرد‏:‏

إن يحْسدوني فإني غيرُ لائمهم *** قَبْلي من الناس أهلُ الفَضْل قد حُسِدوا

فدَام لي ولَهُم مَا بي وما بِهِمُ *** وماتَ أكْثَرُنَا غَيْظاً بِمَا يَجِد

سورة الناس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوُّذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوّذ من شرور مخلوقات خفيّة وهي الشياطين‏.‏

والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره من سورة الفلق سواء‏.‏

وعُرِّف ‏{‏رب‏}‏ بإضافته إلى ‏{‏الناس‏}‏ دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُلْقون الشر ومن يُلْقَى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمَولى العبد‏:‏ يا مولَى فلان كُف عني عبدك‏.‏

وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيباً مدرَّجاً فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بياناً بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضاً وحاكمية بعضهم في بعض‏.‏

وفي هذا الترتيب إشعار أيضاً بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادئ ذي بدء بأن له رباً يسبب ما يشعُر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيَشعر بأن ربه هو المَلِكُ الحقُّ الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم‏.‏

و ‏{‏ملك الناس‏}‏ عطف بيان من ‏{‏رب الناس‏}‏ وكذلك ‏{‏إله الناس‏}‏ فتكرير لفظ ‏{‏الناس‏}‏ دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإِظهار ليكون الاسم المبيِّن ‏(‏بكسر الياء‏)‏ مستقلاً بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علَم للاسم المبيَّن ‏(‏بالفتح‏)‏‏.‏

و ‏{‏الناس‏}‏‏:‏ اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق‏.‏

و ‏{‏الوسواس‏}‏‏:‏ المتكلم بالوسوسة، وهي الكلام الخفيّ، قال رُؤبة يصف صائداً في قُتْرتِه‏:‏

وَسْوَسَ يَدْعُو مُخلصاً ربَّ الفَلَقْ ***

فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازاً على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عُروة بن أذينة‏:‏

وإذا وجَدْت لها وسَاوِسَ سَلوَةٍ *** شفَع الفؤادُ إلى الضمير فسَلَّها

والتعريف في ‏{‏الوسواس‏}‏ تعريف الجنس وإطلاق ‏{‏الوسواس‏}‏ على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفُس الناس الخواطر الشريرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏، ويشمل الوسواسُ كل من يتكلم كلاماً خفياً من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراءٍ بالضلال والإِعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سِراً لئلا يطلع عليها من يريدون الإِيقاعَ به، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذِيَّتِهِ‏.‏

و ‏{‏الخناس‏}‏‏:‏ الشديد الخنْس والكثيرُه‏.‏ والمراد أنه صار عادة له‏.‏ والخنس والخنوس‏:‏ الاختفاء‏.‏ والشيطان يلقب ب ‏{‏الخناس‏}‏ لأنه يتصل بعقل الإِنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنَّه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خنّاسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الخناس‏}‏ على وزاننِ تعريف موصوفه، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللّوامة، أو يزَعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها، فكأنَّ الشيطان يبدو له ثم يختفي، ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور‏.‏

ووُصِفَ ‏{‏الوسواس الخناس‏}‏ ب ‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس‏}‏ لتقريب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها، وذلك بأن بُيِّنَ أنَّ مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبّر بها عن الإِحساس النفسي كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الإثم ما حاك في الصدر وتردَّد في القلب ‏"‏ فغاية الوسواس من وسوسته بثّها في نفس المغرور والمشبوككِ في فخّه، فوسوسة الشياطين اتصالاتُ جاذبيه النفوس نحو دَاعية الشياطين‏.‏ وقد قرَّبها النبي صلى الله عليه وسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها‏:‏ «أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإِنسان» وشبهها مرة بالنفث، ومرة بالإِبْسَاس‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما ‏"‏‏.‏

وإطلاق فعل ‏{‏يوسوس‏}‏ على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإِنسان‏.‏ وأما إطلاقه على تسويل الإِنسان لغيره عملَ السوء فهو حقيقة‏.‏ وتعلّق المجرور من قوله‏:‏ ‏{‏في صدور الناس‏}‏ بفعل ‏{‏يوسوس‏}‏ بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كلِّ من فعل ‏{‏يوسوس‏}‏ ومتعلِّقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الجنة والناس‏}‏ بيانية بينَتْ ‏{‏الذي يوسوس في صدور الناس‏}‏ بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته، ومجازه إلى صنفين‏:‏ صنف من الجنّة وهو أصله، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول، وجمَع الله هذين الصنفين في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاءُ ما ينجرّ من وسوسة نوع الإِنسان، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطراً وهم بالتعوذ منهم أجدر، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر‏.‏

ولا يستقيم أن يكون ‏{‏من‏}‏ بياناً للناس إذ لا يطلق اسم ‏{‏الناس‏}‏ على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبْعَدَ‏.‏

وقُدم ‏{‏الجنة‏}‏ على ‏{‏الناس‏}‏ هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ لأن خُبثاء الناس أشد مُخالطة للأنبياء من الشياطين، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏ فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذْ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماركين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله‏.‏

والجنة‏:‏ اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال‏:‏ إنسيّ للواحد من الإِنس‏.‏

وتكرير كلمة ‏{‏الناس‏}‏ في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهارٌ في مقام الإِضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى ومِلكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وأما تكريره المرة الثالثة بقوله‏:‏ ‏{‏في صدور الناس‏}‏ فهو إظهار لأجل بُعد المعاد‏.‏

وأما تكريره المرة الرابعة بقوله‏:‏ ‏{‏من الجنة والناس‏}‏ فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس، وذلك غير ما صَدْق كلمة ‏{‏الناس‏}‏ في المرّات السابقة‏.‏

والله يكفينا شر الفريقين، وينفعنا بصالح الثقلين‏.‏

تم تفسير «سورة الناس» وبه تم تفسير القرآن العظيم‏.‏

يقول محمد الطاهر ابن عاشور‏:‏ قد وفيتُ بما نويت، وحقق الله ما ارتجيتُ فجئتُ بما سمح به الجُهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته، مما اقتَبس الذهنُ من أقوال الأيمة، واقتدح من زَنْد لإِنارة الفكر وإلهاب الهمّة، وقد جئتُ بما أرجو أن أكون وُفِّقْتُ فيه للإِبانة عن حقائقَ مغفوللٍ عنها، ودقائق ربما جَلَتْ وجوهاً ولم تَجْلُ كُنْهاً، فإن هذا مَنَال لا يبلغ العقلُ البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاءُ دون مَرامِهْ‏.‏

وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يُخدم سَعياً على الرأس، وما أدَّى هذا الحقَّ إلاّ قلَم المفسر يسعَى على القرطاس، وإن قلمي طالما استَنَّ بشوط فسيح، وكم زُجر عند الكَلاَللِ والإِعْيَاءِ زَجْر المَنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حَقَّ له أن يستريح‏.‏