فصل: تفسير الآية رقم (224)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على جملة ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعاً من قربان الأزواج في حالة الحيض، وكون مضمون هذه الجملة تمهيداً لجملة ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏، وجملة ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏‏.‏

وقال التفتازاني‏:‏ الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة اه‏.‏ وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفاً على الأوامر السابقة وهي ‏{‏وقدموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ اه أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئاً من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمداً، فجئ بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز‏.‏

وقال عبد الحكيم‏:‏ معطوف على جملة ‏{‏قل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ بتقدير قل أي‏:‏ وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله‏:‏ ‏{‏وقدموا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏ إن جعل قوله‏:‏ ‏{‏وقدموا‏}‏ من جملة مقول ‏{‏قل‏}‏‏.‏

وذكر جمع من المفسرين عن ابن جريج أنها نزلت حين حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق على قريبه مِسطح بن أثاثة لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن عائشة رضي الله عنها، وقال الواحدي عن الكلبي‏:‏ نزلت في عبد الله بن رواحة حلف ألا يكلِّم خَتَنه على أخته بشير بن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته، وأياً ما كان فواو العطف لا بد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها‏.‏

وتعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم، فالتقدير‏:‏ ولا تجعلوا اسم الله، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة‏:‏

حَلفت فلم أترك لنفسك ريبةً *** وليس وراءَ اللَّهِ للمرء مذهب

أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف‏.‏

والعُرضة اسم على وزن الفُعلة وهو وزن دال على المفعول كالقُبْضة والمُسْكة والهُزْأَة، وهو مشتق من عَرَضَه إذا وضعه على العُرْض أي الجانب، ومعنى العَرض هنا جعل الشيء حاجزاً من قولهم عَرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العُرضة على الحاجز المتعرض، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي، وأطلقت على ما يكثر جَمْع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في «الكشاف»‏:‏

ولا تَجْعَلُوني عُرْضَةً للَّوَائِم *** والآية تحتمل المعنيين

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لأيمانكم‏}‏ لام التعدية تتعلق بعُرضة لما فيها من معنى الفعل‏:‏ أي تجعلوا اسم الله معرَّضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ثم تقولوا سبقتْ منا يمين، ويجوز أن تكون اللام للتعليل‏:‏ أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تَبَروا‏.‏

والأَيمان جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يميناً أخذاً من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله، وهي اشتقت من اليمن وهو البركة، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى، وسمي الحلف يميناً لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ فكانوا يقولون أعطى يمينه، إذا أكد العهد‏.‏ وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير‏:‏

حتى وضعت يمينى لا أنازعه *** في كف ذي يسرات قيله القيل

ثم اختصروا فقالوا صدرت منه يمين أو حلف يميناً، فتسمية الحلف يميناً من تسمية الشيء باسم مقارنه الملازم له، أو من تسمية الشيء باسم مكانه؛ كما سَمَّوا الماء وادياً وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي‏.‏

ولما كان غالب أَيمانهم في العهود والحلف، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضَها في بعض، شاع إطلاق اليمين على كل حَلِف، جرياً على غالب الأحوال؛ فأطلقت اليمين على قَسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف‏.‏

والقصد من الحَلِف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان اللَّهَ تعالى على صدقه في خبر أو وعد أو تعليق، ولذلك يقوله‏:‏ ‏{‏بالله‏}‏ أي أخبر متلبساً بإشهاد الله، أو أعد أو أُعلِّق متلبساً بإشهاد الله على تحقيق ذلك، فمِن أجْل ذلك تضمن اليمين معنى قوياً في الصدق، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأَ عليه واستخف به، ومما يدل على أن أصل اليمين إشْهاد اللَّهِ، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏ كما تقدم، وقول العرب يَعْلم الله في مقام الحلف المغلظ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي‏.‏

ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز نهيُ المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلاً معنوياً دون فعل ما حلفوا على تركه من البر والتقوى والإصلاححِ بين الناس فاللاَّم للتعليل، وهي متعلقة بتجعلوا، و‏{‏أن تبروا‏}‏ متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة، المطرد حذفها مع أَنْ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزاً عن فعل البر والإصلاح والتقوى، فالآية على هذا الوجه نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص‏.‏

وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب فتقسم بالله وبآلهتها وبآبائها، على الامتناع من شيء، ليسدوا باليمين بابَ المراجعة أو الندامة‏.‏

وفي «الكشاف» «كان الرجل يحلف على ترك الخير من صلة الرحم، أو إصلاح ذات البين، أو إحسان، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم‏.‏

وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر ألا ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة لأنه ممن خاضوا في الإفك‏.‏ ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في حلف عبد الله بن رواحة ألا يكلم ختنه بشير بن النعمان الأنصاري، وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما‏.‏ وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض، فالمعنى لا تجعلوا اسم الله معرضاً لأن تحلفوا به في الامتناع من البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس، فالأيمان على ظاهره، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة، و‏{‏أن تبروا‏}‏ مفعول الأيمان، بتقدير لا محذوفة بعد ‏(‏أن‏)‏ والتقدير ألا تبروا، نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحلف بالله على ترك الطاعات؛ لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سبباً في قطع ما أمر الله بفعله، وهذا النهي يسلتزم‏:‏ أنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح، أنه لا حرج في ذلك، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير‏.‏ أو معناه‏:‏ لا تجعلوا اسم الله معرضاً للحلف، كما قلنا، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏أن تبروا‏}‏ مفعولاً لأجله وهو علة للنهي؛ أي إنما نهيتكم لتكونوا أبراراً أتقياء مصلحين، وفي قريب من هذا، قال مالك «بلغني أنّه الحلف بالله في كل شيء» وعليه فتكون الآية نهياً عن الإسراع بالحلف لأن كثرة الحلف‏.‏ تعرض الحالف للحنث‏.‏ وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونُعر الحمق، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثيِّر‏:‏

قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّةُ برَّت‏.‏‏.‏‏.‏

وفي معنى هذا أن يكون العرضة مستعاراً لما يكثر الحلول حوله، أي لا تجعلوا اسم الله كالشيء المعرَّض للقاصدين‏.‏ وليس في الآية على هذه الوجوه ما يفهم الإذن في الحلف بغير الله، لما تقرر من النهي عن الحلف بغير اسم الله وصفاته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ تذييل، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات، والمقصود لازمه، وهو الوعد على الامتثال، على جميع التقادير، والعذر في الحنث على التقدير الأول، والتحذير من الحلف على التقدير الثاني‏.‏

وقد دلت الآية على معنى عظيم وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه، وهذا وإن كان مقصداً جليلاً يُشكر عليه الحالف الطالب للبر؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضَى به الله تعالى، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر‏.‏ والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط، إذ قد علم الله تعالى أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث، فبِر اليميننِ أدبٌ مع اسم الله تعالى، والإتيانُ بالأعمال الصالحة مرضاة لله؛ فأمَرَ الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه، كما قيل‏:‏ الامتثالُ مقدَّم على الأدب‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير» ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ ضغثاً من مائة عصا فيضربها به، وقد علم الله أن هذا غيرُ مقصد أيوب؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته نهاه عن ذلك، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه، فهذا وجه من التحلة، أفتى الله به نبيه‏.‏ ولعل الكفّارة لم تكن مشروعة فهي من يسر الإسلام وسماحته، فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلّة اليمين بالكفّارة؛ ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏225‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن الآية السابقة لما أفادت النهي عن التسرع بالحلف إفادة صريحة أو التزامية، كانت نفوس السامعين بحيث يهجس بها التفكر والتطلع إلى حكم اليمين التي تجري على الألسن‏.‏ ومناسبته لما قبله ظاهرة لا سيما إن جعلتَ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ نهياً عن الحلف‏.‏

والمؤاخذة مفاعلة من الأَخذ بمعنى العد والمحاسبة، يقال أخذه بكذا أي عده عليه ليعاتبه أو يعاقبه، قال كعب بن زهير‏:‏

لا تأخُذَنِّي بأَقْوال الوْشاةِ ولم *** أُذْنِبْ وإِنْ كَثُرَتْ فيَّ الأَقَاوِيل

فالمفاعلة هنا للمبالغة في الأخذ؛ إذ ليس فيه حصول الفعل من الجانبين‏.‏ والمؤاخذة باليمين هي الإلزام بالوفاء بها وعدم الحنث؛ ويترتب على ذلك أن يأثم إذا وقع الحنث، إلاّ ما أذن الله في كفّارته، كما في آية سورة العقود‏.‏

واللغو مصدر لغا إذا قال كلاماً خَطَئاً، يقال‏:‏ لغا يلغُو لغواً كسعا، ولغا يلغْى لَغْياً كسَعى‏.‏ ولغة القرآن بالواو‏.‏ وفي «اللسان»‏:‏ «أنه لا نظير له إلاّ قولهم أسوته أسواً وأَسى أصلحتُه» وفي الكواشي‏:‏ «ولغا يلغو لغواً قال باطلاً»، ويطلق اللغو أيضاً على الكلام الساقط، الذي لا يعتد به، وهو الخطأ، وهو إطلاق شائع‏.‏ وقد اقتصر عليه الزمخشري في «الأساس» ولم يجعله مجازاً؛ واقتصر على التفسير به في «الكشاف» وتبعه متابعوه‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ للظرفية المجازية المراد بها الملابسة، وهي ظرف مستقر، صفة اللغو أو حال منه، وكذلك قدره الكواشي فيكون المعنى على جعل اللغو بمعنى المصدر، وهو الأظهر‏:‏ لا يؤاخذكم الله بأن تلغوا لغواً ملابساً للأيمان، أي لا يؤاخذكم بالأيمان الصادرة صدور اللغو، أي غير المقصود من القول‏.‏ فإذا جعلتَ اللغو اسماً بمعنى الكلام الساقط الخاطئ، لم تصح ظرفيته في الأيمان، لأنه من الأيمان، فالظرفية متعلقة بيؤاخذكم، والمعنى لا يؤاخذكم الله في أيمانكم باللغو، أي لا يؤاخذكم من بين أيمانكم باليمين اللغو‏.‏

والأيمان جمع يمين، واليمين القسم والحلف، وهو ذكر اسم الله تعالى، أو بعض صفاته، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره‏.‏ فقد كانت العرب تحلف بالله، وبرب الكعبة، وبالهدي، وبمناسك الحج‏.‏ والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة‏:‏ الواو والباء والتاء، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت، وربما حلفوا بدماء البدن، وربما قالوا والدماءِ، وقد يدخلون لاماً على عَمْر الله، يقال‏:‏ لَعَمْرُ الله، ويقولون‏:‏ عمرَك الله، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام‏.‏ فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل، أو براءة من حق‏.‏ وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري، ويحلفون بآبائهم، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله‏.‏ ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجئ نفسه إلى عمله ولا يندم عنه، وهو من قبيل قسم النذر، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه، أكده بالقسم، قال بلعاء بن قيس‏:‏

وفارسسٍ في غِمار المَوْت منغَمِس *** إذَا تَأَلَّى على مَكْروهَةٍ صَدَقَا

‏(‏أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة‏)‏ فصار نطقهم باليمين مؤذناً بالغرم، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر‏:‏

قليل الألايى حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ

فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام‏.‏

وقد اختلف العلماء في المراد من لغو اليمين في هذه الآية، فذهب الجمهور إلى أن اللغو هو اليمين التي تجري على اللسان، لم يقصد المتكلم بها الحلف، ولكنها جرت مجرى التأكيد أو التنبيه، كقول العرب‏:‏ لا والله، وبلى والله‏.‏ وقول القائل‏:‏ والله لقد سمعت من فلان كلاماً عجباً، وغير هذا ليس بلغو، وهذا قول عائشة، رواه عنها في «الموطأ» و«الصِّحاح»، وإليه ذهب الشعبي، وأبو قِلابة، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وأخذ به الشافعي، والحجة له أن الله قد جعل اللغو قسيماً للتي كسبها القلب في هذه الآية، وللتي عقد عليها الحالف اليمين في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ فما عقدتم الأيمان هو ما كسبته القلوب؛ لأن ما كسبت قلوبكم مبيِّن، فيحمل عليه مجمل ‏{‏ما عقدتم‏}‏، فتعين أن تكون اللغو هي التي لا قصد فيها إلى الحلف، وهي التي تجري على اللسان دون قصد، وعليه فمعنى نفي المؤاخذة نفي المؤاخذة بالإثم وبالكفارة؛ لأن نفي الفعل يعم، فاليمين التي لا قصد فيها لا إثم ولا كفارة عليها، وغيرها تلزم فيه الكفارة للخروج من الإثم بدليل آية المائدة؛ إذ فسر المؤاخذة فيها بقوله‏:‏ ‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ فيكون في الغموس، وفي يمين التعليق، وفي اليمين على الظن، ثم يتبين خلافه، الكفارة في جميع ذلك‏.‏

وقال مالك‏:‏ «لغو اليمين أن يحلف على شيء يظنه كذلك ثم يتبيّن خلاف ظنه» قال في «الموطأ»‏:‏ «وهذا أحسن ما سمعت إلى في ذلك» وهو مروي في غير «الموطأ»، عن أبي هريرة ومن قال به الحسن وإبراهيم وقتادة والسدي ومكحول وابن أبي نجيح‏.‏ ووجهه من الآية‏:‏ أن الله تعالى جعل المؤاخذة على كسب القلب في اليمين، ولا تكون المؤاخذة إلاّ على الحنث لا أصل القسم؛ إذ لا مؤاخذة لأجل مجرد الحلف لا سيما مع البر، فتعين أن يكون المراد من كسب القلب كسبه الحنث أي تعمده الحنث، فهو الذي فيه المؤاخذة، والمؤاخذة أجملت في هاته الآية، وبينت في آية المائدة بالكفارة، فالحالف على ظن يظهر بعد خلافه لا تعمد عنده للحنث، فهو اللغو، فلا مؤاخذة فيه، أي لا كفارة وأما قول الرجل‏:‏ لا والله وبلى والله، وهو كاذب، فهو عند مالك قسم ليس بلغو، لأن اللغوية تتعلق بالحنث بعد اعتقاد الصدق، والقائل‏:‏ «لا والله» كاذباً، لم يتبين حنثه له بعد اليمين، بل هو غافل عن كونه حالفاً، فإذا انتبه للحلف وجبت عليه الكفارة، لأنه حلفها حين حلفها وهو حانث‏.‏

وإنما جعلنا تفسير ‏(‏ما كسبت قلوبكم‏)‏ كسب القلب للحنث، لأن مساق الآية في الحنث لأن قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏، إما إذن في الحنث، أو نهي عن الحلف خشية الحنث، على الوجهين الماضيين، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله بيان وتعليل لذلك، وحكم البيان حكم المبين، لأنه عينه‏.‏

وقال جماعة‏:‏ اللغو ما لم يقصد به الكذب، فتشمل القسمين، سواء كان بلا قصد كالتي تجري على الألسن في لا والله وبلى والله كان بقصد مع اعتقاد الصدق فتبين خلافه‏.‏ وممن قال بهذا ابن عباس والشعبي وقال به أبو حنيفة، فقال‏:‏ اللغو لا كفارة فيها ولا إثم‏.‏ واحتج لذلك بأن الله تعالى جعل اللغو هنا، مقابلاً لما كسبته القلوب، ونفى المؤاخذة عن اللغو وأثبتها لما كسبه القلب، والمؤاخذة لا محالة على الحنث لا على أصل الحلف، فاللغو هي التي لا حنث فيها؛ ولم ير بين آية البقرة وآية المائدة تعارضاً حتى يحمل إحداهما على الأخرى بل قال‏:‏ إن آية البقرة جعلت اللغو مقابلاً لما كسبه القلب، وأثبت المؤاخذة لما كسبه القلب أي عزمت عليه النفس، والمؤاخذة مطلقة تنصرف إلى أكمل أفرادها، وهي العقوبة الأخروية فيتعين أنه ما كسبته القلوب، أريد به الغموس؛ وجعل في آية المائدة اللغو مقابلاً للأيمان المعقودة‏.‏

والعقد في الأصل‏:‏ الربط، وهو معناه لغة، وقد أضافه إلى الأيمان، فدل على أنها اليمين التي فيها تعليق، وقد فسر المؤاخذة فيها بقوله‏:‏ ‏{‏فكفارته إطعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ الخ، فظهر من الآيتين أن اللغو ما قابل الغموس، والمنعقدة، وهو نوعان لا محالة، وظهر حكم الغموس، وهي الحلف بتعمد الكذب، فهو الإثم، وحكم المنعقدة أنه الكفارة، فوافق مالكاً في الغموس وخالفه في أحد نوعي اللغو، وهذا تحقيق مذهبه‏.‏ وفي اللغو غير هذه المذاهب مذاهب أنهاها ابن عطية إلى عشرة، لا نطيل بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله غفور حليم‏}‏ تذييل لحكم نفي المؤاخذة، ومناسبة اقتران وصف الغفور بالحليم هنا دون الرحيم، لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه، ولا يغضب للغفلة، ويقبل المعذرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏226- 227‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية، والإسلام‏.‏ كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم، فإنها تجمع الثلاثة؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين، وقد أمر الله به في قوله‏:‏ ‏{‏وعاشروهن بالمعروف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏ فامتثاله من التقوى، ولأن دوامه من دوام الإصلاح، ويحدث بفقده الشقاق، وهو مناف للتقوى‏.‏ وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة، ولا كلام للمرأة في ذلك‏.‏

وعن سعيد بن المسيب‏:‏ «كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة، ولا يحب أن يطلقها، لئلا يتزوجها غيره، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة» أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم‏.‏ قال‏:‏ «ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك، فأزال الله ذلك، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى» فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان، التي مهد لها بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏‏.‏

والإيلاء‏:‏ الحلف، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء، وتألى يتألى تألياً، وائتلى يأتلي ائتلاء، والاسم الألوَّة والألية، كلاهما بالتشديد، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ «الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ وصار في الشرع الحلف المخصوص» فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو، وتشهد به موارد الاستعمال، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً، ويذكرونه كثيراً، قال المتلمس‏:‏

آلَيْتُ حبَّ العِرَاققِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه *** وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏ أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ فَعدَّاه بمِنْ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين‏.‏ وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص‏.‏

ومجيء اللام في ‏{‏للذين يؤلون‏}‏ لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه، أي ليس التربص بواجب، فللمولى أَن يفئ في أقل من الأشهر الأربعة‏.‏ وعدى فعل الإيلاء بمِن، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد، كأنه قال‏:‏ للذين يؤلون متباعدين من نسائهم، فمِنْ للابتداء المجازي‏.‏

والنساء‏:‏ الزوجات كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان، مثل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما حرم عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏

والتربص‏:‏ انتظار حصول شيء لغير المنتظِر، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى «في» كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل مكر الليل‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وتقديم ‏{‏للذين يؤلون‏}‏ على المبتدأ المسند إليه، وهو تربص، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج، وتشويق لذِكْر المسند إليه‏.‏ و‏{‏فاءوا‏}‏ رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء، وحذف متعلق ‏{‏فاءوا‏}‏ بالظهور المقصود‏.‏ والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ دليل الجواب، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم؛ لأن الله غفور رحيم‏.‏ وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن، قصدُ الإضرار بالمرأة‏.‏ وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب، أو لقصد آخر معتبر شرعاً، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً‏.‏ وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً، قيل‏:‏ لمرض كان برجله، وقيل‏:‏ لأجل تأديبهن؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات، أو على استحسان ذلك‏.‏ والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور‏.‏

وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ، إن لم يقيدوها بالحلف‏.‏

وعَزم الطلاق‏:‏ التصميم عليه، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُوللٍ من تلقاء نفسه، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة، فقوله‏:‏ ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ دليل على شرط محذوف، دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن فاءو‏}‏ فالتقدير‏:‏ وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم‏.‏

وقوله ‏{‏فإن الله سميع عليم‏}‏ دليل الجواب، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلاً محدوداً، لا يتجاوزونه، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم، وإما أن يطلقوا، ولا نمدوحة لهم غير هذين‏.‏

وقد جعل الله للمولي أجلاً وغاية، أما الأجل فاتفق عليه علماء الإسلام، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء، وبعض العلماء‏:‏ كإسحاق بن راهويه وحماد يقول‏:‏ هو إيلاء، ولا ثمرة لهذا الخلاف فيما يظهر، إلاّ ما يترتب على الحلف بقصد الضرِّ من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومِن أمرِه إياه بالفَيْئَة‏.‏

وأما الغاية فاختلفوا أيضاً في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي‏:‏ إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفئ أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وروي ذلك عن اثنى عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة‏:‏ إن مضت المدة ولم يفيءْ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر‏.‏

واحتج المالكية بأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فإن الله سميع عليم‏}‏ فدل على أن هنالك مسموعاً؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلاّ لفظ المولي، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية‏.‏ وقوله ‏{‏عليم‏}‏ يرجع للنية والقصد‏.‏ وقال الحنفية ‏{‏سميع‏}‏ لإيلائه، الذي صار طلاقاً بمضي أجله، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد ‏{‏عليم‏}‏ بنية العازم على ترك الفَيئة‏.‏ وقول المالكية أصح؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله سميع عليم‏}‏ جُعل مفرعاً عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام‏.‏

وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر، وهو أجل حدده الله تعالى، ولم نطلع على حكمته، وتلك المدة ثلث العام، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمناً طويلاً، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم، مثل ثلث المال في الوصية، وأشار به النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص في صوم الدهر‏.‏ وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عمر بن الخطاب، وعزا ابن كثير في «تفسيره» روايتها لمالك في «الموطأ» عن عبد الله بن دينار‏.‏ ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا‏:‏ وهي رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا رواية ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ومحمد بن الحسن الشيباني، ولا رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي التي يرويها المهدي بن تومرت، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها‏.‏ وقد ذكر هذه القصة أبو الوليد الباجي في شرحه على الموطأ المسمى «بالمنتقى»، ولم يعزها إلى شيء من روايات «الموطأ»‏:‏ أن عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد‏:‏

أَلاَ طَالَ هذا الليلُ واسَود جانبه *** وأَرَّقني أَن لا خليلَ أُلاَعِبُه

فلولا حذار الله لا شيء غيره *** لَزعزعَ من هذا السرير جوانبه

فاستدعاها من الغد فأخبرته أن زوجها أرسل في بعث العراق، فاستدعى عمر نساء فسألهن عن المدة التي تستطيع المرأة فيها الصبر على زوجها قلن شهران ويقل صبرها في ثلاثة أشهر، وينفد في أربعة أشهر وقيل إنه سأل ابنته حفصة فأمر عمر قواد الأجناد ألا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت استردَّ الغازين ووجه قوماً آخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏228‏]‏

‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

عطف على الجملة قبلها لشدة المناسبة وللاتحاد في الحكم وهو التربص، إذ كلاهما انتظار لأجل المراجعة، ولذلك لم يقدم قوله‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الاخر وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أرادوا إصلاحا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ على قوله‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن‏}‏ لأن هذه الآي جاءت متناسقة منتظمة على حسب مناسبات الانتقال على عادة القرآن في إبداع الأحكام وإلقائها بأسلوب سَهل لا تسْأَم له النفس، ولا يجيء على صورة التعليم والدرس‏.‏

وسيأتي كلامنا على الطلاق عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏والمطلقات يتربصن‏}‏ خبرية مراد بها الأمر، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازاً مرسلاً مركباً، باستعمال الخبر في لازم معناه، وهو التقرر والحصول، وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏ بأن يكون الخبر مستعملاً في المعنى المركب الإنشائي، بعلاقة اللزوم بين الأمر مثلاً كما هنا وبين الامتثال، حتى يقدر المأمور فاعلاً فيخبر عنه ويجوز جعله مجازاً تمثيلياً كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال‏:‏ «فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء‏:‏ رحمه الله ثقة بالاستجابة» قال التفتازاني‏:‏ فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس‏:‏ رحمه الله، أو في المستقبل، أو الحال، كما في هذه الآية‏.‏ قلت‏:‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ وأنه أُطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة‏.‏

والتعريف في ‏(‏المطلقات‏)‏ تعريف الجنس، وهو مفيد للاستغراق، إذ لا يصلح لغيره هنا‏.‏ وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وليس هذا بعام مخصوص في هذه، بمتصل ولا بمنفصل، ولا مراد به الخصوص، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة المقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء بما ثبت في السنة أن عدة الأمة حيضتان، رواه أبو داود والترمذي، فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض، والآيسات من المحيض، والحوامل، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق، إلاّ أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 49‏]‏ فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل‏.‏

وقال المالكية والشافعية‏:‏ إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة بمخصصات منفصلة، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء، وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف‏.‏ وإنما لجأُوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخاً، وشرط النسخ تقرر المنسوخ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالأقراء لكل المطلقات‏.‏

والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخاً، أصلٌ غيرُ جدير بالتأصيل؛ لأن تخصيص العام هو وروده مُخْرَجاً منه بعض الأفراد بدليللٍ، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص لظهور بطلانه ولا بنسخ الخاص للعام لظهور سبقه، والناسخ لا يسبق وبعد، فمهما لم يقع عمل بالعموم فالتخصيص ليس بنسخ‏.‏

و ‏{‏يتربصن بأنفسهن‏}‏ أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء، وزيد ‏{‏بأنفسهن‏}‏ تعريضاً بهن، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات، الراميات بأنفسهن إلى التزوج، فلذلك أُمِرْن أن يتربصن بأنفسهن، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى الرجال‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن» وقد زعم بعض النحاة أن ‏{‏بأنفسهن‏}‏ تأكيد لضمير ‏(‏المطلقات‏)‏، وأن الباء زائدة، ومن هنالك قال بزيادة الباء في التوكيد المعنوي، ذكره صاحب «المغني» ورده من جهة اللفظ بأن حق توكيد الضمير المتصل أن يكون بعد ذكر الضمير المنفصل أو بفاصل آخر، إلاّ أن يقال‏:‏ اكتفى بحرف الجر؛ ومن جهة المعنى بأن التوكيد لا داعي إليه إذ لا يذهب عقل السامع إلى أن المأمور غير المطلقات الذي هو المبتدأ، الذي تضمن الضمير خبره‏.‏

وانتصب ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏، على النيابة عن المفعول فيه؛ لأن الكلام على تقدير مضاف؛ أي مدة ثلاثة قروء، فلما حذف المضاف خلفه المضاف إليه في الإعراب‏.‏

والقروء جمع قرء بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقاً على أحد طرفيه، وتبعه الراغب، ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين‏.‏ وأحسب أن أشهر معاني القرء عند العرب هو الطهر، ولذلك ورد في حديث عمر أن ابنه عبد الله لما طلق امرأته في الحيض سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وما سؤاله إلاّ من أجل أنهم كانوا لا يطلقون إلاّ في حال الطهر ليكون الطهر الذي وقع فيه الطلاق مبدأ الاعتداد، وكون الطهر الذي طلقت فيه هو مبدأ الاعتداد هو قول جميع الفقهاء ما عدا ابن شهاب فإنه قال‏:‏ يلغَى الطهر الذي وقع فيه الطلاق‏.‏

واختلف العلماء في المراد من القروء في هذه الآية، والذي عليه فقهاء المدينة وجمهور أهل الأثر أن القرء هو الطهر وهذا قول عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر وجماعة من الصحابة من فقهاء المدينة ومالك والشافعي في أوضح كلاميه، وابن حنبل‏.‏ والمراد به الطهر الواقع بين دَمَيْن‏.‏ وقال علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة إنه الحيض‏.‏ وعن الشافعي في أحد قوليه أنه الطهر المُنتقَل منه إلى الحيض، وهو وفاق لما فسر به أبو عبيدة، وليس هو بمخالف لقول الجمهور‏:‏ إن القرء الطهر، فلا وجه لعده قولاً ثالثاً‏.‏

ومرجِع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة من حمل المطلق، وانتطارُ الزوج لعله أن يرجع‏.‏ فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظاراً للرجعة‏.‏ فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم، في استبراء الأمة في انتقال الملك، وفي السبايا، وفي أحوال أخرى، مختلفاً في بعضها بين الفقهاء، فتعين أن ما زاد على حيض واحد ليس لتحقق عدم الحمل، بل لأن في تلك المدة رفقاً بالمطلق، ومشقة على المطلقة، فتعارض المقصدان، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمداً بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها، وحصول الطهر بعدها، فالذين جعلوا القروء أطهاراً راعوا التخفيف عن المرأة، مع حصول الإمهال للزوج، واعتضدوا بالأثر‏.‏ والذين جعلوا القروء حيضات زادوا للمطلق إمهالاً؛ لأن الطلاق لا يكون إلاّ في طهر عند الجميع، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء‏.‏

وقروء صيغة جمع الكثرة، استعمل في الثلاثة، وهي قلة توسعاً، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس بوجود صريح العدد‏.‏ وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة، وتبِين المطلقة الرجعية من مفارقها، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة، قال الجمهور‏:‏ إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة، بعد تحقق أنه دم الحيض‏.‏

ومن أغرب الاستدلال لكون القرء الطهر الاستدلال بتأنيث اسم العدد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏‏.‏ قالوا‏:‏ والطهر مذكر فلذلك ذكر معه لفظ ‏(‏ثلاثة‏)‏، ولو كان القرء الحيضة والحيض مؤنث لقال ثلاث قروء، حكاه ابن العربي في «الأحكام»، عن علمائنا، يعني المالكية ولم يتعقبه وهو استدلال غير ناهض؛ فإن المنظور إليه في التذكير والتأنيث إما المسمّى إذا كان التذكير والتأنيث حقيقياً، وإلاّ فهو حال الاسم من الاقتران بعلامة التأنيث اللفظي، أو إجراء الاسم على اعتبار تأنيث مقدر مثل اسم البئر، وأما هذا الاستدلال فقد لبَّس حكم اللفظ بحكم أحد مرادفيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن‏}‏ إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم، فهو خبر عن التشريع، فهو إعلام لهن بذلك، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته، كقول النابغة‏:‏ «كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً» أي كتمتك حال ليل‏.‏

و ‏{‏ما خلق الله في أرحامهن‏}‏ موصول، فيجوز حمله على العهد، أي ما خلاق من الحيض بقرينة السياق‏.‏ ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل، وهو الظاهر وهو من العام الوارد على سبب خاص؛ لأن اللفظ العام الوارد في القرآن عقب ذكر بعض أفراده، قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذُكر قَبله، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس، لأن الحكم نيط بكتمان ما خلق الله في أرحامهن‏.‏ وهذا محمل اختلاف المفسرين، فقال عكرمة والزهري والنخعي‏:‏ ‏(‏ما خلق الله في أرحامهن‏)‏ الحيض، وقال ابن عباس وعمر‏:‏ الحمل، وقال مجاهد‏:‏ الحمل والحَيض، وهو أظهر، وقال قتادة‏:‏ كانت عادة نساء الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحق الولد بالزوج الجديد ‏(‏أي لئلا يبْقى بين المطلَّقة ومطلِّقها صلة ولا تنازع في الأولاد‏)‏ وفي ذلك نزلت، وهذا يقتضي أن العدة لم تكن موجودة فيهم، وأما مع مشروعية العدة فلا يتصور كتمان الحمل؛ لأن الحمل لا يكون إلاّ مع انقطاع الحيض، وإذ مضت مدة الأقراء تبين أن الحمل من الزوج الجديد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ شرط أريد به التهديد دون التقييد، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد، على طريقة المجاز المرسل التمثِيلي، كما يستعمل الخبر في التحسر والتهديد، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي، وإنما المعنى أنهن إن كتمن فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان‏.‏

وجيء في هذا الشرط بإنْ، لأنها أصل أدوات الشرط، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا، فإذا كان الشرط مفروضاً، فرضاً لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه جيء بإن‏.‏ وليس لأنْ هنا، شيء من معنى الشك في حصول الشرط، ولا تنزيل إيمانهن المحقق منزلة المشكوك، لأنه لا يستقيم، خلافاً لما قرره عبد الحكيم‏.‏

والمراد بالإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان الكامل، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام، فليس إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر بمراد هنا؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب‏.‏

وليس في الآية دليل على تصديق النساء في دعوى الحمل والحيض كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء، فلا بد من مراعاة أن يكون قولهن مشبهاً، ومَتَى ارتيب في صدقهن وجب المصير إلى ما هو المحقق، وإلى قول الأطباء والعارفين‏.‏

ولذلك قال مالك‏:‏ «لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها في مدة شهر من يوم الطلاق لم تصدق، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوماً مع يمينها» وقال عبد الملك‏:‏ خمسون يوماً، وقال ابن العربي‏:‏ لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء، وجرى به عمل تونس كما نقله ابن ناجي، وعمل فاس كما نقله السَّجْلَمَاسِي‏.‏

وفي الآية دلالة على أن المطلقة الكتابية لا تصدق في قولها إنها انقضت عدتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبعولتهنَّ‏}‏‏.‏ البعولة جمع بعل، والبعل اسم زوج المرأة‏.‏ وأصل البعل في كلامهم، السيد‏.‏ وهو كلمة ساميَّة قديمة، فقد سمَّى الكنعانيون ‏(‏الفينقيون‏)‏ معبودهم بَعْلاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 125‏]‏ وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه، ولأن الزوج كان يعتبر مالكاً للمرأة وسيداً لها، فكان حقيقاً بهذا الاسم، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام فما بعده من الشرائع، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف، فأطلق العرب لفظ الزوج على كلَ من الرجل والمرأة، اللذين بينهما عصمة نكاح، وهو إطلاق عادل؛ لأن الزوج هو الذي يثنى الفرد، فصارا سواء في الاسم، وقد عبر القرآن بهذا الاسم في أغلب المواضع، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله‏:‏ ‏{‏وهذا بعلي شيخا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏ وهاته الآية كذلك، لأنه لما جعل حق الرجعة للرَّجل جبراً على المرأة، ذكَّر المرأة بأنه بعلُها قديماً‏.‏

وقيل‏:‏ البعل‏:‏ الذكر، وتسمية المعبود بَعْلاً لأنه رمز إلى قوة الذكورة، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بَعْلاً، وجاء جمعه على وزن فعولة، وأصله فُعول المطردُ في جمع فَعْل، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه، ونظيره قولهم‏:‏ فُحُولة وذُكُورة وكُعُوبة وسُهُولة، جمع السَّهل ضد الجبل، وزيادة الهاء على مثله سماعي؛ لأنها لا تؤذن بمعنى، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة‏.‏

وضمير ‏{‏بعولتهن‏}‏، عائد إلى ‏(‏المطلقات‏)‏ قبله، وهن المطلقات الرجعيات كما تقدم، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشأُوا طلاقهن، وأَطلق اسم البعولة على المطلقين، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات، إلاّ أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏

‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، أي أمر المراجعة، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء، فللمطلقين بحسب هذه الحالة حالة وسَطٌ بين حالة الأزواج وحالة الأجانب، وعلى اعتبار هذه الحالة الوسط أُوقع عليهم اسم البعولة هنا، وهو مجاز قرينته واضحة، وعلاقته اعتبار ما كان، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقد حمله الجمهور على المجاز؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقاً رجعياً امرأة أجنبية عن المطلق بحسب الطلاق، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة، ما دامت المرأة في العدة، ولو بدون رضاها، وجب إعمال مقتضى الحالتين، وهذا قول مالك والشافعي‏.‏ قال مالك‏:‏ «لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية، ولا أن يدخل عليها بدون إذن، ولو وطئها بدون قصدِ مراجعةٍ أَثم، ولكن لا حد عليه للشبهة، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى، ما دامت تلك في العدة»‏.‏

وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته، ويشكل على قولهم إن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلِّقها وهي في العدة؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف، بموافقة عليَ، رواه في «الموطأ»، فيُدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث، فما لم تنقض العدة فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء، فصار ذلك شكاً في مانع الإرث، والشك في المانع يبطل إعماله‏.‏

وحمل أبو حنيفة والليث بن سعد البعولة على الحقيقة، فقالا «الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلَّقته؛ لأن الله سماهم بعُولة» وسوغا دخول الطلاق عليها، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة‏.‏ وقال به الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى، ونسب إلى سعيد بن المسيب والحسن والزهري وابن سيرين وعطاء وبعض أصحاب مالك‏.‏ وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية‏.‏

و ‏(‏أحق‏)‏ قيل‏:‏ هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة، أتى به لإفادة قوة حقهم، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولذكر الله أكبر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من، وقيل‏:‏ هو تفضيل على بابه، والمفضل عليه محذوف، أشار إليه في «الكشاف»، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه‏:‏ أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق‏:‏ هما حق الزوج في الرجعة إن رغب فيها، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها، فصار المعنى‏:‏ وبعولتهن أحق برد المطلقات، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في ذلك‏}‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى التربص بمعنى مدته، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة، أي لا بعد ذلك كما هو مفهوم القيد‏.‏ هذا تقرير معنى الآية، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة بل الآية جامعة لأمرين‏:‏ حكم المراجعة، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات، وذلك أن المتفارقين لا بد أن يكون لأحدهما أو لكليهما، رغبة في الرجوع، فالله يعلم الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال، والمرأة أهل الغضب والإباء‏.‏

والرد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يرددكم عن دينكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة وهو المراجعة، وتسمية المراجعة رداً يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعاً لعصمة النكاح، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأوَّلوا التعبير بالرد بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة، فسميت المراجعة رداً عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن أرادوا إصلاحاً‏}‏ شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح، وليس هو للتقييد‏.‏

لا يجوز أن يكون ضمير ‏{‏لهن‏}‏ عائداً إلى أقرب مذكور وهو ‏(‏المطلقات‏)‏، على نسق الضمائر قبله؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة حتى يكون لهن حقوق وعليهن حقوق، فتعين أن يكون ضمير ‏{‏لهن‏}‏ ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله ‏{‏بردهن‏}‏ بقرينة مقابلته بقوله ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏‏.‏ فالمراد بالرجال في قوله‏:‏ ‏{‏وللرجال‏}‏ الأزواج، كأنه قيل‏:‏ ولرجالهن عليهن درجة‏.‏ والرجل إذا أضيف إلى المرأة، فقيل‏:‏ رجل فلانة، كان بمعنى الزوج، كما يقال للزوجة‏:‏ امرأة فلان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ ‏{‏إلا امرأتك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله تعالى ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 226‏]‏ بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن، إذا لم يكن له سبب، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة، حين ذكر طلاقهن بقوله ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 227‏]‏، إلى ذكر المطلقات بتلك المناسبة، ولما اختتم حكم الطلاق بقوله‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك‏}‏ صار أولئك النساء المطلقات زوجات، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر، فعادت إلى أحكام الزوجات بأسلوب عجيب والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولاً عليهن، وتظاهراً بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة، فناسب أن يذكَّروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال‏.‏

وفي الآية احتباك، فالتقدير‏:‏ ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن، فحذف من الأول لدلالة الآخر، وبالعكس‏.‏ وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال، وتشبيهه بما للرجال على النساء؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة، مسلمة من أقدم عصور البشر، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها، حتى جاء الإسلام فأقامها‏.‏

وأعظم ما أُسِّست به هو ما جمعته هذه الآية‏.‏

وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون، فقدم ليصغى السامعون إلى المسند إليه، بخلاف ما لو أُخر فقيل‏:‏ ومثل الذي عليهن لهن بالمعروف، وفي هذا إعلان لحقوق النساء، وإصداع بها وإشادة بذكرها، ومثل ذلك من شأنه أن يُتلقى بالاستغراب، فلذلك كان محل الاهتمام‏.‏ ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية، كانت زوجة أم غيرها، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة وتنافس عند الرغبة، ومظهر استخفاف وقلة إنصاف، عند الغضب، فأما الأول فناشئ عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة وصدق المحبة، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل، ومحل تنافسه، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مُرَّةُ بن مَحْكانَ السْعدي‏:‏

يا ربَّةَ البيتتِ قومي غيرَ صاغرةٍ *** ضُمِّي إليككِ رحالَ القَوْم والقِرَبا

فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمَرَها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة‏.‏

وأما الثاني فالرجل مع ذلك يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته، ربما أشتد معها في خشونة المعاملة، وإذا تخالف رأياهما أرغمها على متابعته، بحق أو بدونه، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتاً بحسب تفاوتهم في الحضارة والبداوة، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافه، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه‏.‏

روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏"‏ كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم فطفِق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار فصخبتُ علَى امرأتي فراجعتْني فأنكرتُ أن تراجعني قالت‏:‏ ولِمَ تنكرُ أَن أراجعك فوالله إن أزواج النبيى ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت‏:‏ قد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت عليَّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها‏:‏ أَيْ حفصةُ أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل‏؟‏ قالت‏:‏ نعم فقلت‏:‏ قد خبتتِ وخسرتِ ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس عنه «كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام، وذكَرَهُن الله رأَينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا» ويتعين أن يكون هذا الكلام صدراً لما في الرواية الأخرى وهو قوله‏:‏ «كنا معشر قريش نغلب النساء» إلى آخره، فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء‏.‏ وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة، فكانت فيهم رقة زائدة‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمانُ يَمَاننٍ والحكمةُ يَمَانية ‏"‏

وقد سمى عمر بن الخطاب ذلك أدباً فقال‏:‏ فطفِق نساؤنا يأخذْن من أدب الأنصار‏.‏

وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له، وإن شاءوا، زوجوها بمن شاؤا وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم، فهم أحق بذلك فنزلت آية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعَرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له «انظر أي زوجتيَّ شئتَ أنْزِلْ لك عنها» فقال عبد الرحمن «بارك الله لك في أهلك ومالك» الحديث‏.‏ فلما جاء الإسلام بالإصلاح، كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة، ضبط حقوق الزوجين بوجه لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياءُ التي قد يخفى أمرها قد جُعل لهَا التحكيم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريداً إصلاحاً يوفق الله بينهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏ وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله‏.‏

وأول إعلام هذا العدل بين الزوجين في الحقوق، كان بهاته الآية العظيمة، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام‏.‏

والمثل أصله النظير والمشابه، كالشبه والمثل، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏، وقد يكون الشيء مثلاً لشيء في جميع صفاته وقد يكون مثلاً له في بعض صفاته‏.‏ وهي وجه الشبه‏.‏ فقد يكون وجه المماثلة ظاهراً فلا يحتاج إلى بيانه، وقد يكون خفياً فيحتاج إلى بيانه، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق‏:‏ أجناساً أو أنواعاً أو أشخاصاً؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة‏.‏ فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها، وأن تجهز طعامه، أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها، وعلى هذا القياس فإذا تأتَّت المماثلة الكاملة فتُشْرَعَ، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها، بدليل ما رتب على حكم النشوز، قال تعالى‏:‏

‏{‏والتي تخافون نشوزهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعاشروهن بالمعروف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏ وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏ الآية ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5 6‏]‏ إلاّ إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر، يدخل تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة والمماثلة في بعث الحكمين، والمماثلة في الرعاية، ففي الحديث‏:‏ الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها، والمماثلة في التشاور في الرضاع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ‏{‏وأتمروا بينكم بمعروف‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وتفاصيل هاته المماثلة، بالعين أو بالغاية، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة، ومرجعها إلى نفي الإضرار، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة، وقد أومأ إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي لهن حق متلبساً بالمعروف، غير المنكر، من مقتضى الفطرة، والآداب، والمصالح، ونفي الإضرار، ومتابعة الشرع‏.‏ وكلها مجال أنظار المجتهدين‏.‏ ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويباً لأبواب تجمع حقوق الزوجين‏.‏ وفي «سنن أبي داود»، و«سنن ابن ماجه»، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة، والآخر لحقوق الزوج على الرجل، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولى للمرأة فهي ولية كما يقولون، وكانوا لا يدخرونها تربية، وإقامة وشفقة، وإحساناً، واختيار مصير، عند إرادة تزويجها، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء، بيد أنهم كانوا مع ذلك لا يرون لها حقاً في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها، ولا بطلب ما لها منهم، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله‏:‏ ‏{‏وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏ فحدد الله لمعاملات النساء حدوداً، وشرع لهن أحكاماً، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة، ثم فصلتها الشريعة تفصيلاً، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام أو الفضائل، وعطف النساء على الرجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ الباء للملابسة، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة، المجردة من الانحياز إلى الأهواء، أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصاً أو قياساً، أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة، التي ليس في الشرع ما يعارضها‏.‏ والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابساً ذلك دائماً للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين‏.‏

في مختلف العصور والأقطار‏.‏ فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح، قد سلبها حق المماثلة للابن، فدخل ذلك تحت الدرجة، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلاّ برضاها قد أثبت لها حق المماثلة للذكر، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلاثها ألا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها جق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق‏.‏ وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر‏.‏ وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة، أو من تفرقة، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ قطعاً أو ظناً فكونوا من ذلك بمحل التيقظ، وخُذوا بالمعنى دون التلفظ‏.‏

ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني، والمربية الأولى، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها، والتي تصادف عقولاً لم تمسها وسائل الشر، وقلوباً لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان‏.‏ فإذا كانت تلك التربية خيراً، وصدقاً، وصواباً، وحقاً، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة، فهيأت لأمثالها، من خواطر الخير، منزلاً رحباً، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حباً‏.‏ ودين الإسلام دين تشريع ونظام، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام، إلى الارتقاء وسيادة العالم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ مطردة، ولزيادة بيان المراد من قوله ‏{‏بالمعروف‏}‏، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للرجال‏}‏ خبر عن ‏(‏درجة‏)‏، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهماً من قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص، لإبطال إيثارهم المطلق، الذي كان متبعاً في الجاهلية‏.‏

والرجال جمع رجل، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة، وأما قولهم‏:‏ امرأة رجلة الرَّأي، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل‏.‏

والدرجة ما يرتقى عليه في سلم أو نحوه، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء ومهل، يقال‏:‏ درج الصبي، إذا ابتدأ في المشي، وهي هنا استعارة للرفعة المكنَّى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل‏:‏ دركة، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه‏.‏

والعبرة بالمقصد الأول، فإن كان المقصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة، ولا عبرة بنزول الصاعد وصعود النازل‏.‏

وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى، وأقوى جسماً وعزماً، وعن إرادته يكون الصدر، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف، وتفوق بعض أفراد الآخر نادراً، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية، لأن واضع الأمرين واحد‏.‏

وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم‏:‏ من الإذن بتعدد الزوجة للرجل، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر، ومِن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة، والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شؤون المنزل، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعاً عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة، ولأنه مظنة الصواب غالباً، ولذلك إذا لم يمكن التراجع، واشتد بين الزوجين النزاع، لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏‏.‏

ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج بلحن الخطاب، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما أسست الآية حكم المساواة والتفضيل، بين الرجال والنساء الأزواج إبطالاً لعمل الجاهلية، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء، كالجهاد وذلك مما اقتضته القوة الجسدية، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة، والتفضيل في باب العدالة، وولاية النكاح والرعاية، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه، وإنما عدت هذه درجة، مع أن للنساء أحكاماً لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى‏:‏

‏{‏للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏ لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل‏.‏

فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعياً لأحوال طبقات الناس، مع احتمال أن يكون المراد من قوله‏:‏ ‏{‏والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏ أن ذلك يجريه ولاة الأمور، ولنا فيه نظر عند ما نصل إليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ العزيز‏:‏ القوى، لأن العزة في كلام العرب القوة ‏{‏لَيُخْرِجَنَّ الأعز منها الأذل‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ وقال شاعرهم‏:‏

وإنما العزة للكاثر *** والحكيم‏:‏ المتقن الأمور في وضعها، من الحكمة كما تقدم‏.‏

والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظاً، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرهاً، إن أبَوْا، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلماً لعزتهم، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد، ولا يتقي أحداً، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع، والأمر الواجب امتثاله، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا‏.‏