فصل: تفسير الآية رقم (2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك الكتاب‏}‏‏.‏

مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف ‏{‏الم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏ كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر‏.‏ وقد جوز صاحب «الكشاف» علَى احتمال أن تكون حروف ‏{‏ألم‏}‏ مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى ‏{‏الم‏}‏ باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته، فيكون ‏{‏الم‏}‏ جملة مستقلة مسوقة للتعريض‏.‏

واسم الإشارة مبتدأ و‏(‏الكتابُ‏)‏ خبراً‏.‏ وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ و‏(‏الكتاب‏)‏ بدل وخبرُه ما بعده، فالإشارة إلى ‏(‏الكتاب‏)‏ النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون ‏(‏الكتاب‏)‏ على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل، ويكون قوله ‏(‏الكتاب‏)‏ على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله ‏(‏الكتاب‏)‏ حينئذٍ بدلاً أو بياناً من ‏{‏ذلك‏}‏ والخبر هو ‏{‏لا ريب فيه‏}‏‏.‏

ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضي «وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرببِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول‏:‏ «واللَّهِ وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم» ا ه، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول‏.‏

وابن مالك في «التسهيل» سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال‏:‏ وقد يتعاقبان ‏(‏أي اسم القريب والبعيد‏)‏ مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى‏:‏ ‏{‏ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 58‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إن هذا لهو القصص الحق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 62‏]‏ فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة‏.‏

وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً، ففي القرآن‏:‏ ‏{‏فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خُفاف بن نَدْبة‏:‏

أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه *** تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلك

وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في «الحماسة»‏:‏

متَى يأتتِ هذَا الموتُ لا يلففِ حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها

فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة‏.‏ وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في ‏{‏الم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏ كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ولا يرد على هذا قوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏ فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه‏.‏ ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار، فللَّه در صاحب «المفتاح» إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة‏:‏ أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا‏:‏ ‏{‏الم ذلك الكتاب‏}‏ ذهاباً إلى بعده درجةً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة ‏{‏لا ريب فيه‏}‏، ويجوز أن يكون ‏(‏الكتاب‏)‏ خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال‏.‏

و ‏(‏الكتاب‏)‏ فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة، فإن المصدر يجئ بمعنى المفعول كالخَلق، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به‏.‏ واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه، فإن النبيء صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه‏.‏ وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين‏.‏

‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً‏.‏ والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريبُ الزماننِ وريبُ المنون نوائِب ذلك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعللِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار‏:‏

أخوك الذي إن ربته قال إنما *** أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبه

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك ‏"‏ أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح‏.‏

ولم يختلف متواتر القراء في فتح ‏{‏لا ريب‏}‏ نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الحروف المجتمعة في ‏{‏الم‏}‏ على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء، فتكون جملة ‏{‏لا ريبَ‏}‏ منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏فيه، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 9‏]‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده‏:‏ ‏{‏هدى للكتقين‏}‏ ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا‏:‏

‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي ذر‏:‏ ‏"‏ إنك امْرؤ فيك جاهلية ‏"‏ ويكون خبر ‏(‏لا‏)‏ محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو‏:‏ ‏{‏قالوا لا ضير‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 50‏]‏ وقول العرب لا بأس، وقول سعد بن مالك‏:‏

من صد عن نيرانها *** فأنا ابن قيس لا بَرَاحُ

أي لا بقاء في ذلك، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ وفي «الكشاف» أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله‏:‏ ‏{‏ريب‏.‏

وإن كانت الإشارة بقوله‏:‏ ذلك‏}‏ إلى ‏{‏الكتاب‏}‏ باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله ‏{‏الكتاب‏}‏ بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، والوقف على قوله ‏{‏فيه‏}‏، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجئ خطابهم بقوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ فارتيابهم واقع مشتهر، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم‏.‏ قال صاحب «المفتاح»‏:‏ «ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام‏:‏ الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل‏.‏

ومن المفسرين من فسر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ ‏(‏لا‏)‏ فيَنظُر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏ أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة‏.‏

وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت‏:‏ هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره‏.‏

وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على ‏{‏فيه‏}‏ ولَدى من وقف ‏{‏على ريب‏}‏، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر «الكشاف» أن الظرف وهو قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ لم يقدم على المسند إليه وهو ‏{‏ريب‏}‏ ‏(‏أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا‏)‏ كما قُدم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏لا فيها غول‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏ لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا ه‏.‏ يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا‏.‏ وليس الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم‏.‏ وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا‏.‏ نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدللِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها‏.‏ والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها‏.‏ وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر، وأمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي‏.‏ وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس عليك هداهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 272‏]‏‏.‏ وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة‏.‏ وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى‏:‏

‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي‏.‏ وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية‏.‏ فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد‏.‏

والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل‏.‏ وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية‏.‏ وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط‏}‏‏.‏ ومحل ‏(‏هدى‏)‏ إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير ‏(‏الكتاب‏)‏ فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب، وإن كان الوقف على قوله ‏{‏لا ريب‏}‏ وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله ‏{‏هدى‏}‏ مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى‏.‏

والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا‏.‏

والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم‏.‏

والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى‏:‏

‏{‏الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله من قبلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏

وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة‏:‏

الأول‏:‏ أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق‏.‏ والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي إن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في ‏{‏هدى‏}‏ لأن المصدر لا يدل على زمان معين‏.‏

حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم‏.‏ وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن‏.‏

وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام‏:‏ فإن جملة ‏{‏الم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏ تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا إلى قوله‏:‏

‏{‏ورحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 156، 157‏]‏، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه‏.‏

وجملةُ‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ إن كان الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏لا ريب‏}‏ تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي إن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن ‏(‏لا ريب‏)‏ فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقال في «الكشاف»‏:‏ ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتتِ جزالة‏:‏ ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر وهو الهدى موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا ه‏.‏ فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات‏.‏ قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب‏}‏‏.‏

يتعين أن يكون كلاماً متصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيللٍ يعرف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفاً مؤمنين وصنفاً كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان‏:‏ هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين‏.‏ وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان‏:‏ فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ الخ‏.‏ فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلاً لما جاء من اليمن راغباً في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعاً في الملك هو من غير المتقين‏.‏ وفريق آخر يجيء ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏ الآيات‏.‏

وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏يؤمنون بالغيب‏}‏ أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذاناً بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن‏.‏

وجوز صاحب «الكشاف» كونه كلاماً مستأنفاً مبتدأ وكون‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ خبره‏.‏ وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيراً من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن‏.‏

والغيب مصدر بمعنى الغيبة‏:‏ ‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 52‏]‏ ‏{‏ليعلم الله من يخافه بالغيب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة‏:‏

كيف الهجاء وما تنفك صالحة *** من آل لام بظهر الغيب تأتيني

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة ‏"‏ والمراد بالغيب ما لا يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحاً بأنه واقع أو سيقع مثل وجودِ الله، وصفاتِه، ووجودِ الملائكة، والشياطين، وأشراطِ الساعة، وما استأثر الله بعلمه‏.‏ فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفاً مستقراً فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذٍ‏:‏ الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك‏.‏ وفي حديث الإيمان‏:‏ ‏"‏ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ‏"‏ وهذه كلها من عوالم الغيب‏.‏

كان الوصف تعريضاً بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا‏:‏ ‏{‏هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7‏]‏ فجَمَع هذا الوصف بالصراحة ثناءً على المؤمنين، وبالتعريض ذماً للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذماً للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيُعْقَب هذا التعريضُ بصريح وصفهم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ الآيات‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ويؤمنون معناه يصدقون، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية، فأصل آمن تعدية أَمِن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمناً ثم أطلقوا آمن على معنى صدَّق ووَثِق حكَى أبو زيد عن العرب‏:‏ «ما آمنت أَنْ أجد صحابةً» يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر، فصار آمن بمعنى صدَّق على تقدير أنه آمن مُخبِرَه من أن يُكذِّبه، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كَذِب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه، ثم صار فعلاً قاصراً إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمْن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أَقر فيقولون آمن بكذا أي أقر به كما في هذه الآية، ويضمنونه معنى اطمأَن فيقولون آمن له‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

ومجيء صلة الموصول فعلاً مضارعاً لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفاً، أي لايطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة‏.‏

وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلِّغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما مَن يعتقدُ أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسموْن بالدُّهْريين الذين قالوا‏:‏

‏{‏ما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجودَ الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك‏.‏ والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجئ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما هم بمؤمنين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏{‏وَيُقِيمُونَ الصلاة‏}‏‏.‏

الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام، عدي إليه بالهمزة الدالة على الجعل، والإقامة جعلها قائمة، مأخوذ من قامت السوق إذا نَفَقَت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر‏.‏ قال أيمن ابن خرَيم الأنطري‏:‏

أقامت غزالةُ سُوقَ الضِّرابْ *** لأَهل العراقَين حَوْلاً قميطاً

وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازاً على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسباً لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائماً، وأحسب أن تعليق هذا الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل ‏(‏20‏)‏‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ وهي ثالثة السور نزولاً‏.‏ وذكر صاحب الكشاف‏}‏ وجوهاً أُخر بعيدة عن مساق الآية‏.‏

وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله‏:‏ ‏{‏يؤمنون‏}‏ ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغداً، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غداً وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم‏.‏ وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح‏.‏

والصلاة اسم جامد بوزن فَعَلة محرَّك العين ‏(‏صَلَوة‏)‏ ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى‏:‏

تقول بنتي وقد يَمَّمتُ مُرتحلا *** يا ربِّ جنِّبْ أبي الأوصاب والوجَعا

عليككِ مثلُ الذي صليتتِ فاغْتمضِي *** جَفْنا فإن لجنببِ المرء مضطَجَعا

وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى‏:‏

يُراوِح من صلوات المَلِي *** ككِ طَوْراً سُجوداً وطَوراً جُؤَاراً

فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم‏.‏

قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة‏:‏

أو دُرةٌ صَدفيَّةٌ غَوَّاصُها *** بَهِيجٌ متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ

وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت ا ه‏.‏

قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏ربنا ليقيموا الصلاة‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 37‏]‏ وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة، وسمَّوا كنيستهم صَلاة، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دَفن النعمان بن الحارث الغساني‏:‏

فآب مُصلُّوه بعين جلية *** وغودِر بالجولان حزمٌ ونايل

على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان، إذ قد كان منتصراً ومنه البيت السابق‏.‏ وعرفوا السجود قال النابغة‏:‏

أو درة صدفية غَوَّاصها *** بَهِج متى يَرَها يُهلِّ ويسجدِ

وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عَجْب الذنب فيكتنفه فيقال‏:‏ حينئذٍ هما صَلَوان، ولما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أَنِفَ من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان، وقولها‏:‏ «زَوجي إذا دَخل فَهِدْ وإذا خَرج أَسِدْ» والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفاً لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد‏.‏

وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلّى الفرس إذا جاء معاقباً للمجلي في خيل الحلبة، لأنه يجئ مزاحماً له في السبق، واضعاً رأسه على صَلاَ سابقه واشتقوا منه المصلّي اسماً للفرس الثاني في خيل الحلبة، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذْ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك‏.‏ وما أورده الفخر في «التفسير» أنّ دعوى اشتقاقها من الصلْوَيْن يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهاراً فيما بين أهل النقل، فإذا جوزنا أنه خَفِي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بأن مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا ا ه يَرُده بالاستعمال أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولاً من معنى خفي لأنه العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي‏:‏ «واشتهارُ هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه»‏.‏

ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل‏.‏ وأما قول «الكشاف»‏:‏ وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة‏.‏

ومصدر صلَّى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم‏.‏ وزعم الجوهري أنه لا يقال صلَّى تصلية وتبعه الفيروزابادي، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في «أماليه»‏.‏

وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد‏.‏ والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية، وأن الشرع لم يستعمل لفظاً إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها‏.‏ وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات‏.‏ وقال صاحب «الكشاف»‏:‏ الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان‏.‏ والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية‏.‏

‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏

صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجاً إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به‏.‏ ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالاً لأمر الله بذلك‏.‏

والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وَينال بها مُلائَمه، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتني به ذلك من النقدين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏ أي مما تركه الميت وقال‏:‏ ‏{‏الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 26‏]‏ وقال في قصة قارون‏:‏ ‏{‏وآتيناه من الكنوز إلى قوله ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76 82‏]‏ مراداً بالرزق كنوزُ قارون وقال‏:‏ ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغوا في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ واشْهَرُ استعماله بحسب ما رأيتُ من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجد عندها رزقاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 37‏]‏‏.‏

والرزق شرعاً عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدمُ النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير مُلتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيباً وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم‏.‏ وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلْق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب‏.‏

والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يُرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس‏.‏ وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجية وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دَعَا الدينُ إلى نفعه‏.‏

وفي إسناده فعل ‏(‏رزقنا‏)‏ إلى ضمير الله تعالى وجعْل مفعوله ضميرَ ‏{‏الذين يؤمنون‏}‏ تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقاً لصاحبه هو حق خاص له خَوَّله اللَّهُ إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجُهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مريَة في أنها حقه مثلُ انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجنْي الثمار والتقاطِ ما لا مِلْك لأحدٍ عليه ولا هو كائنٌ في ملك أحد، ومثلُ خدمتِه بقوته من حَمل ثقل ومَشي لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يَملكها وله حق الانتفاع بها كالخَبْز والنسج والتَّجْر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالِكُ رزققٍ مِن هبات وهدايا ووصايا، أو أذِن بالتصرف كإحياءِ الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونِه أحقَّ الناس به كالإرث‏.‏

وتملك اللُّقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز‏.‏ فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مما رزقناهم‏}‏‏.‏

وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسْع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ «إن أبا سفيان رجل مِسِّيكٌ فهل أنفق من الذي له عيالَنا فقال لها‏:‏ «لاَ إلا بالمعروف» أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة‏.‏

وتقديم المجرور المعموللِ على عامله وهو ‏{‏ينفقون‏}‏ لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزَّة على النفس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويطعمون الطعام على حبه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 8‏]‏، مع رعي فواصل الآيات على حَرف النون، وفي الإتيان بِمنْ التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعاً هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجاً، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين‏.‏ فالواجب منه ما قَدرت الشريعة نُصُبَه ومقاديره من الزكاة وإنفاققِ الأزواج والأبناءِ والعبيدِ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلامُ وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره‏.‏ وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعارَ المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خُوَيصَّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب‏.‏ أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إِنه يَتبقَى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي مُحسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد عُلم شح النفوس قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مسه الخير منوعاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 21‏]‏ ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ وهما معاً قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذَكر فريقاً آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذٍ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعضُ النصارى مثل صهيب الرومي ودِحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وُصف به المسلمون الأوَّلون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم مِن خِيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاءً واهتداءً إذْ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دُفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذِن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأوَل هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة‏.‏ ويكون الموصُولاَننِ للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضاً ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبيء، وفي التعبير بالمضارع من قوله ‏{‏يؤمنون بما أُنزل إليك‏}‏ من إفادة التجدُّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدَثَ جديداً، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء، فأبو بكر وعمر أفضل من دحيَة وعبد الله بن سلام‏.‏

والإنزالُ جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سُفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمللٍ بالنزول لاعتبار شرففٍ ورفعةٍ معنوية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ لأن خلق الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عُليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول المَلك مبلِّغه الذي يتصل بهذا العالَم نازلاً من العالم العلوي قال تعالى‏:‏

‏{‏نزل به الروح الأمين على قلبك‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 194، 195‏]‏ فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبيء بشيء وصل من مكان عاللٍ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبيء صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله‏:‏ ‏"‏ وأحياناً يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال ‏"‏ وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالاً‏.‏

والمراد بما أنزل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا تَوقَّعُ إيمانهم بما سَينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أُنزل يستمر إيمانه بكل ما يَنزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أَمِنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب‏.‏ فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولاً للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما أنزل‏}‏ والمراد ما أنزل وما سينزل كما في «الكشاف»‏.‏

وعدي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمُنْزَل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يُعدَّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 3‏]‏ وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا عليكم المن والسلوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 57‏]‏ واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام‏.‏

ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال‏:‏ والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجئ في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأَسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبيء صلى الله عليه وسلم

وقوله‏:‏ ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاَك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دُهريون، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلاً ويسمونها البَلِية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل‏.‏

والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حُذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوماً وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علماً بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت‏.‏

واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم‏.‏ واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6، 7‏]‏ ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل‏:‏ هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوي إطلاقاً عرفياً حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفاً للإيمان والعلم‏.‏

فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديراً بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثَار ‏{‏يوقنون‏}‏ هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنباً لإعادة لفظ ‏{‏يؤمنون‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ تقديم للمجرور الذي هو معمول ‏{‏يوقنون‏}‏ على عامله، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أَيقنوا بأَهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصراً إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها، وقد تكلف صاحب «الكشاف» وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هم يوقنون‏}‏ جيء بالمسند إليه مقدماً على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نُفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيراً من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏‏.‏

اسم الإشارة متوجه إلى ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ الذين أجرى عليهم من الصفات ما تقدم، فكانوا فريقين‏.‏ وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع، فإن السامع إذا وعَى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد، فيؤتى بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات، فتكفي الإشارة إليها، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه‏.‏ ثم إنهم قد يتُبِعون اسمَ الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها، فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات، فكقوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ بمنزلة أن يقول إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم‏.‏ ونظيره قول حاتم الطائي‏:‏

ولله صُعْلُوكٌ يساوِر هَمَّه *** ويَمضى على الأحداث والدَّهرِ مُقْدِماً

فَتَى طَلَبات لا يَرى الخَمص تُرْحة *** ولا شُبْعَةً إِنْ نالها عَدَّ مغنَماً

إلى أن قال‏:‏

فذلك إن يَهْلِكْ فحُسْنى ثَناؤه *** وإن عاش لم يقْعُد ضعيفاً مذمماً

فقوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعاً لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه‏.‏ وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشئ عنها، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيهاً ضمنياً دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلاً، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه، فيقولون جعل الغَواية مركباً وامتطى الجهل وفي «المقامة»‏:‏ «لما اقتعدتُ غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال‏:‏ ركب متن عمياء، تخبط خبط عشواء‏.‏

وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي‏:‏

فإن يكُ عامر قد قال جَهْلا *** فإن مَطِيَّةَ الجَهْللِ الشبابُ

فتكون كلمة «على» هنا بعض المركب الدال على الهيأة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركّب الدال لا جميعه‏.‏ هكذا قرر كلام «الكشاف» فيها شارحوه والطيبي، والتحتاني والتفتزاني والبيضاوي‏.‏ وذهب القزويني في «الكشف» والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب، وسرى التشبيه إلى معنى الحرف وهو علَى، وجوز السيد وجهاً ثالثاً وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة بأن شُبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية‏.‏ ثم زاد الطيبي والتفتزاني فجعلا في الآية استعارة تبعية مع التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعاراً لما يماثله وهو التمكن فتكون هنالك تبعية لا محالة‏.‏

وقد انتصر سعد الدين التفتزاني لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية‏.‏ واشتد السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعاً بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة، كيف ومتعلق معنى الحرف من المعاني المفردة كالاستعلاء هنا؛ فإذا اعتبر التشبيه هنا مركباً استلزم أن لا يكون معنى على ومتعلق معناها مشبهاً به ولا مستعاراً منه لا تبعاً ولا أصالة، وأطال في ذلك في «حاشيته للكشاف» و«حاشيته على المطول» كما أطال السعد في «حاشية الكشاف» وفي «المطول»، وتراشقا سهام المناظرة الحادة‏.‏ ونحن ندخل في الحكومة بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلاً بالانتزاع والتركيب لهيئة، والسيد يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه والمشبه به، ويجوز طريقة التمثيل وطريقة المكنية‏.‏

فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتباراً وأوفى في البلاغة مقداراً‏.‏

وإلى أن الجمع بين طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضاً في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه السيد‏؟‏ تقرر في علم البيان أن أهله أشد حرصاً على اعتبار تشبيه الهيئة فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» عند ذكر بيت بشار‏:‏

كَأَنَّ مُثَار النَّقْع فوق رُؤوسنا *** وأسيافَنَا ليل تَهاوَى كواكبُه

«قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر ‏(‏أي مثار‏)‏ لئلا يقع في تشبيهه تفرق، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف»‏.‏ إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوْفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني‏.‏

ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام «الكشاف»، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد‏.‏ وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أولاهما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز‏.‏ وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية‏.‏ وأما كونه أسعد بكلام «الكشاف» فلأن ظاهر قوله‏:‏ «مَثَل» أنه أراد التمثيل، لأن كلام مثله من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى اللغوي‏.‏

فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعاً من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبَّه من جزئي المشبَّه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعاراً لبعض المشبه فينتقض التركيب‏.‏ وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة، فكلام السيد وقوف عندها‏.‏ ولكن التفتزاني لم ير مانعاً من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما يقتضيه الحال من الخصوصيات، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيهاً مستقلاً غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيأتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر أُلْغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهُدى بالمركوب فتكون «على» على هذا الوجه بعضاً من المجاز المركب دليلاً عليه باعتبار ومجازاً مفرداً باعتبار آخر‏.‏

والذي أَخْتاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال رَاكِبِين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو ‏{‏أولئك‏}‏ والهدى، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ ‏(‏على‏)‏ الدال على الركوب عرفاً كما علمتم، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة‏:‏ الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا، ومنه تبعية كما في قول الحماسي‏:‏

وفارسٍ في غمار الموت منغمسٍ *** إذا تألَّى على مكروهة صدقا

فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة‏.‏

وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عُرِّف لكان التعريف تعريفَ الجنس فرجح التنكير تمهيداً لوصفه بأنه من عند ربهم، فهو مغاير للهدى السابق في قوله‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ مغايرةً بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلاً إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏من ربهم‏}‏ تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه‏.‏

وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه بالقرينة‏.‏

‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏‏.‏

مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعاً للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهاراً بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين‏.‏

ووجه العطف بالواو دون الفَصْللِ أن بين الجملتين توسطاً بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين‏.‏

وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصوداً بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلاً إياهما منزلة المتوسطين، كذا قرر شراح «الكشاف» ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هم المفلحون‏}‏ الضمير للفصل، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسندٍ إليه معرففٍ أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة، أي تأكيداً للاختصاص‏.‏ فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالباً لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي، ومفيد شيئاً من الاهتمام بالخبر، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثَّله عبد القاهر بقولهم‏:‏ هو البطل الحامي، أي إذا سمِعْت بالبطل الحامي وأحطت به خبراً فهو فلان‏.‏ وإليه أشار في «الكشاف» هنا بقوله‏:‏ «أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم» والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في «المفتاح» ولله دره‏.‏

والفلاح‏:‏ الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة‏.‏ والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثاً قائماً بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له، قال في «الكشاف»‏:‏ انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين ‏{‏أولئك‏}‏ ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏‏.‏

هذا انتقال من الثناء على الكِتَاب ومتقلِّديه ووصففِ هديه وأَثَرِ ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمَّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقَدَّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نَبَوْا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقاً أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ وفريقاً أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة‏.‏ وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رَدِّ الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أُنُف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء ‏(‏إن‏)‏ للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير‏.‏ وقد تكون ‏(‏إن‏)‏ هنا لرد الشك تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبيء صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك‏.‏ وقد نقل عن المبرد أن ‏(‏إنَّ‏)‏ لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك‏.‏

وقد تبين أن ‏(‏الذين كفروا‏)‏ المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول إما أن يكون لتعريف العهد مراداً منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركاً في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مُسْلِمة الفتح وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ فيكون عاماً مخصوصاً بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاماً مراداً به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيَّن أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر‏.‏

ومن المفسرين من تأوّل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ على معنى الذين قُضى عليهم بالكفر والشقاء ونَظره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96‏]‏ وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره‏.‏ ومن المفسرين من حمل ‏{‏الذين كفروا‏}‏ على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به، وأيّاً ما ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقاً خاصاً من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه‏.‏

والكفر بالضم‏:‏ إخفاء النعمة، وبالفتح‏:‏ الستر مطلقاً وهو مشتق من كفر إذا ستر‏.‏ ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضرباً من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى‏.‏ وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفاراً‏.‏ وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبيء صلى الله عليه وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب‏.‏ ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتاً ونفياً بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك‏.‏ ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر‏.‏

قال القاضي أبو بكر الباقلاني‏:‏ القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله تعالى، الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم، الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى‏.‏

ونقل ابن راشد في «الفائق» عن الأشعري رحمه الله أن الكفر خصلة واحدة‏.‏ قال القرافي في الفرق 241 أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ خبر ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ و‏(‏سواء‏)‏ اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة‏.‏ وقد قيل إن ‏(‏سواء‏)‏ اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد‏.‏

وإنما عدي سواء بعلى هنا وفي غير موضععٍ ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه‏.‏

واعلم أن للعرب في سواء استعمالين‏:‏ أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه ‏(‏سواء‏)‏ ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم فيه سواء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 71‏]‏ ونحو العطف في قول بثينة‏:‏

سواء علينا يا جميل بن معمر *** إذا مت بأساء الحياة ولينها

ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب، وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة ‏{‏سواء‏}‏ ومعها ‏{‏أم‏}‏ العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى‏)‏ ‏{‏سواء علينا أجزعنا أم صبرنا‏}‏ وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلِّمُه أن ‏{‏سواء‏}‏ خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترناً بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه‏.‏

وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد ‏{‏سواء‏}‏ مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب ‏{‏أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال، ولك أن تجعل ‏{‏سواء مبتدأ رافعاً لفاعل سد مسد الخبر لأن سواء‏}‏ في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلاً ساداً مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحداً من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيراً إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد ‏(‏سواء‏)‏ مؤولاً لا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخفاءِ الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ مشيراً إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب ‏(‏سواء‏)‏ خبراً والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجرداً عن الزمان، وككون الفعل مراداً منه مجرد الحدث، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازاً بعلاقة اللزوم، وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكراراً خالياً من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب «الكشاف» أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتزاني في «شرح الكشاف»‏.‏

ويتعين إعراب ‏(‏سواء‏)‏ في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر ‏{‏الذين كفروا‏}‏‏.‏ ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على «الكشاف»، وحرف ‏(‏على‏)‏ الذي يلازم كلمة ‏{‏سواء‏}‏ غالباً هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند، ولدي، قال أبو الشغب العَبسي‏:‏

لا تَعذِلي في جُنْدُججٍ إنَّ جُنْدُجاً *** وليثَ كِفرّيننِ لَدَىَّ سواء

وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف ‏(‏193‏)‏‏:‏ ‏{‏سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون‏}‏، وقرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏أأنذرتهم‏}‏ بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة‏.‏ وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في روايَة البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بيْن الهمزتين، وكلتا القراءتين لغة حجازية‏.‏ وقرأهُ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم‏.‏ وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفاً‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وهو لحن، وهذا يضعّف رواية المصريين عن ورش، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلاينافي التواتر‏.‏

‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ الخ فلك أن تجعلها خبراً ثانياً عن ‏(‏إنّ‏)‏ واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيداً وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازاً على الأول وإما وجوباً على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوهاً أُخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في «الكشاف» جعْل جملة ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏ اعتراضاً لجملة ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذراً للنبيء صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم، وتسجيلاً بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ خبراً إلا أن المقصود من الكلام هو الأوْلى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد عُلم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيراً للخبر‏.‏

وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجاً على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زماناً غير محررة، وكانَ كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنْوِنُها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الإسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاماً وانقلب قتادها ثماماً، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلاً كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء وَلده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقةً ومطابقة في بعضها والتزاماً في البعض، ومجازاً في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء، وكانت للمخالفين كحجر المضاء، فلما قيض الله أعلاماً نفَوْا ما شاكها، وفتحوا أغلاقها، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء، لا يخالفُ في ذلك مسلم‏.‏

وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع‏.‏ وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازاً ووقوعاً، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفعُ الحرج الخارجي عن الحد المتعارففِ، تفضلاً من الله لقوله‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ ‏(‏الحج 78‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏علم أن لن تحصوه فتاب عليكم‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في «الأحكام»‏.‏

هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها، ويستأنس متنافرها‏.‏ وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وَجَّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم خص أفراداً بالدعوة إلاَّ وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله‏:‏ «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريباً من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذٍ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصَّص مَن عُلم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودَفْعُ ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدَره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف، وسِرّ الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير‏.‏