فصل: تفسير الآيات رقم (106- 107)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون ‏{‏يوم تبيض وجوه‏}‏ منصوباً على الظرف، متعلّقاً بما في قوله ‏{‏لهم عذاب‏}‏ من معنى كائننٍ أو مستقرّ‏:‏ أي يكون عذاب لهم يوم تبيضّ وجوه وتسْودّ وجوه، وهذا هو الجاري على أكثر الاستعمال في إضافة أسماء الزمان إلى الجُمل‏.‏ ويجوز أن يكون منصوباً على المفعول به لفعل اذْكر محذوفاً، وتكون جملة ‏{‏تبيضّ وجوه‏}‏ صفة ل ‏(‏يوم‏)‏ على تقدير‏:‏ تبيضّ فيهِ وجوه وتسودّ فيه وجوه‏.‏

وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه، تهويل لأمره، وتشويق لما يرِد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة، والوجوه المسودّة‏:‏ ترهيباً لفريق وترغيباً لفريق آخر‏.‏ والأظهر أن عِلْم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلكَ اليوم حاصل من قبل‏:‏ في الآيات النازلة قبل هذه الآية، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة ترى الَّذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 60‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترَة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 38 41‏]‏‏.‏

والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا م أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏ تفصيل للإجمال السابق، سُلك فيه طريق النشَّر المعكوس، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام، فأمّا الَّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخر‏:‏ وأمّا الَّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون‏.‏

قدّم عند وصف اليوم ذكر البياض، الَّذي هو شعار أهل النَّعيم، تشريفاً لذلك اليوم بأنَّه يوم ظهور رحمة الله ونعمته، ولأنّ رحمة الله سبقت غضبه، ولأنّ في ذكر سمة أهل النَّعيم، عقب وعيد بالعذاب، حسرةً عليهم، إذ يعلم السَّامع أنّ لهم عذاباً عظيماً في يوم فيه نعيم عظيم، ثُمّ قُدّم في التفصيل ذكر سمة أهل العذاب تعجيلاً بمساءتهم‏.‏

وقوله ‏{‏أكفرتم‏}‏ مقول قول محذوف يحذف مثله في الكلام لظهوره‏:‏ لأنّ الاستفهام لا يصدر إلاّ من مستفهم، وذلك القول هو جواب أمَّا، ولذلك لم تدحل الفاء على ‏{‏أكفرتم‏}‏ ليظهر أن ليس هو الجواب وأن الجواب حذف برمَّته‏.‏

وقائل هذا القول مجهول، إذ لم يتقدّم ما يدّل عليه، فيحتمل أنّ ذلك يقوله أهل المحشر لهم وهم الَّذين عرفوهم في الدّنيا مؤمنين، ثمّ رأوهم وعليهم سمة الكفر، كما ورد في حديث الحوض «فليَرِدنّ عليّ أقوام أعرفهم ثمّ يُخْتلجُون دوني، فأقولُ‏:‏ أصَيْحَابي، فيقال‏:‏ إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» والمستفهِم سلَفُهم من قومهم أو رسولهم، فالاستفهام على حقيقته مع كنايته عن معنى التعجّب‏.‏

ويحتمل أنَّه يقوله تعالى لهم، فالاستفهام مجاز عن الإنكار والتغليط‏.‏ ثمّ إن كان المراد بالَّذين اسودّت وجوههم أهل الكتاب، فمعنى كفرهم بعدَ إيمانهم تغييرهم شريعة أنبيائهم وكتمانهم ما كتموه فيها، أو كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بموسى وعيسى، كما تقدّم في قوله

‏{‏إنّ الَّذين كفروا بعد إيمانهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏ وهذا هو المحمل البيّن، وسياق الكلام ولفظه يقتضيه، فإنَّه مسَوق لوعيد أولئك‏.‏ ووقعت تأويلات من المسلمين وقعوا بها فيما حذّرهم منه القرآن، فتفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏:‏ الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ‏"‏ مثل أهل الردة الذين ماتوا على ذلك، فمعنى الكفر بعد الإيمان حينئذٍ ظاهر، وعلى هذا المعنى تأوّل الآية مالك بن أنس فيما روى عنه ابن القاسم وهو في ثالثة المسائل من سماعه من كتاب المرتدّين والمحاربين من العتبية قال‏:‏ «ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية» يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه» قال مالك‏:‏ إنَّما هذه لأهل القبلة‏.‏ يعني أنَّها ليست للَّذين تفرّقوا واختلفوا من الأمم قبلنا بدليل قوله ‏{‏أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏ ورواه أبو غسّان مالك الهروي عن مالك عن ابن عمرَ، ورُوي مثل هذا عن ابن عبّاس، وعلى هذا الوجه فالمراد الَّذين أحدثوا بعد إيمانهم كفرا بالردّة أو بشنيع الأقوال الَّتي تفضي إلى الكفر ونقض الشَّريعة، مثل الغرابية من الشيعة الَّذين قالوا بأنّ النبوءة لعلي، ومثل غلاة الإسماعلية أتباع حمزة بن عليّ، وأتباع الحاكم العُبيدي، بخلاف من لم تبلغ به مقالته إلى الكفر تصريحاً ولا لزوماً بيّنا مثل الخوارج والقدرية كما هو مفصّل في كتب الفقه والكلام في حكم المتأوّلين ومن يؤول قولهم إلى لوازم سيّئة‏.‏

وذوق العذاب مجاز للإحساس وهو مجاز مشهور علاقته التقييد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 109‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏

تذييلات، والإشارة في قوله ‏{‏تلك‏}‏ إلى ائفة من آيات القرآن السابقة من هذه السورة كما اقتضاه قوله ‏{‏نتلوها عليك بالحق‏}‏‏.‏

والتلاوة اسم لحكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه وهي كالقراءة إلاّ أن القراءة تختصّ بحكاية كلام مكتوب فيتّجه أن تكون الطائفة المقصودة بالإشارة هي الآيات المبدوءة بقوله تعالى ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ إلى هنا لأن ما قبله ختم بتذييل قريب من هذا التذييل، وهو قوله ‏{‏ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 58‏]‏ فيكون كل تذييل مستقلاً بطائفة الجمل الَّتي وقع هو عقبها‏.‏

وخصّت هذه الطائفة من القرآن بالإشارة لما فيها من الدلائل المثبتة صحة عقيدة الإسلام، والمبطلة لدعازي الفرق الثلاث من اليهود والنَّصارى والمشركين، مثل قوله ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ وقوله ‏{‏ومَا من إله إلاّ إله واحد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 74‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏فلِمَ تُحاجّون فيما ليس لكم به علم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 66‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ الآية‏.‏ وقوله ‏{‏فأتوا بالتَّوراة فاتلوها‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏ وقوله ‏{‏إنّ أول بين وضع للناس للذي ببكة مباركاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏، وما تخلّل ذلك من أمثال ومواعظ وشواهد‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، وهي ملابسة الإخبار للمخبَر عنه، أي لما في نفس الأمر والواقع، فهذه الآيات بيّنت عقائد أهل الكتاب وفصّلت أحوالهم في الدنيا والآخرة‏.‏

ومن الحقّ استحقاق كلا الفريقين لما عومل به عدلاً من الله، ولذا قال ‏{‏وما الله يريد ظلماً للعالمين‏}‏ أي لا يريد أن يظلم النَّاس ولو شاء ذلك لفعله، لكنَّه وعَد بأن لا يظلم أحداً فحقّ وعدُه، وليس في الآية دليل للمعتزلة على استحالة إرادة الله تعالى الظلم إذ لا خلاف بيننا وبين المعتزلة في انتفاء وقوعه، وإنَّما الخلاف في جواز ذلك واستحالته‏.‏

وجيء بالمسند فعلاً لإفادة تقوي الحكم، وهو انتفاء إرادة ظلم العالمين عن الله تعالى، وتنكير ‏(‏ظلماً‏)‏ في سياق النَّفي يدلّ على انتفاء جنس الظلم عن أن تتعلّق به إرادة الله، فكلّ ما يعدّظلماً في مجال العقول السليمة منتف أن يكون مراد الله تعالى‏.‏

وقوله ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ عطف على التذييل‏:‏ لأنَّه إذا كان له ما في السموات وما في الأرض فهو يريد صلاح حالهم، ولا حاجة له بإضرارهم إلا للجزاء على أفعالهم‏.‏ فلا يريد ظلمهم، وإليه ترجع الأشياء كُلّها فلا يفوته ثواب محسن ولا جزاء مسيء‏.‏

وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات في الجمل الثلاث التي بعد الأولى بدون إضمار للقصد إلى أن تكون كلّ جملة مستقلّة الدلالة بنفسها، غير متوقّفة على غيرها، حتَّى تصلح لأن يتمثّل بها، وتستحضرها النُّفوس وتحفظها الأسماع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله‏}‏‏.‏

يتنزّل هذا منزلة التَّعليل لأمرهم بالدّعوة إلى الخير، وما بعده فإن قوله ‏{‏تأمرون بالمعروف‏}‏ حال من ضمير كنتم، فهو موذن بتعليل كونهم خيرَ أمَّة فيترتب عليه أنّ ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم، إن لم يكن مفروضاً من قبل، وأن يؤكد عليهم فرضه، إن كان قد فرض عليهم من قبل‏.‏

والخطاب في قوله ‏{‏كنتم‏}‏ إمَّا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن عبَّاس‏.‏ قال عمر‏:‏ هذه لأوّلنَا ولا تكون لآخِرنا‏.‏ وإضافة خير إلى أمّة من إضافة الصفة إلى الموصوف‏:‏ أي كنتم أمَّة خير أمَّة أخرجت للنَّاس، فالمراد بالأمّة الجماعة، وأهل العصر النبوي، مثل القَرن، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادّكَر بعد أمَّة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل‏.‏ ولا شكّ أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم، لأن رسولهم أفضل الرسل، ولأن الهدى الذي كانوا عليه لا يماثله هدى أصحاب الرسل الذين مضوا، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها، قال النبي صلى الله عليه وسلم «خير القرون قرني» والفضل ثابت للجموع على المجموع، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رُسلها، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به، وهو هدى رسولهم محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته‏.‏

وإمّا أن يكون الخطاب بضمير ‏{‏كنتم‏}‏ للمسلمين كلّهم في كلّ جيل ظهروا فيه، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد، إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائقها، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأنّ ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى‏.‏

وفعل ‏(‏كان‏)‏ يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى، دون دلالة على استمرار، ولا على انقطاع، قال تعالى ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96‏]‏ أي وما زال، فمعنى ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها، لأنّهم اتّصفوا بالإيمان، والدّعوة للإسلام، وإقامته على وجهه، والذبّ عنه النقصانَ والإضاعة لتحقّق أنّهم لمّا جُعل ذلك من واجبهم، وقد قام كُلّ بما استطاع، فقد تحقّق منهم القيام به، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله، كُلّما سنح سانح يقتضيه، فقد تحقّق أنهم خير أمَّة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك‏.‏

هذا إذا بنَينا على كون الأمر في قوله آنفاً ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ وما بعده من النهي في قوله ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ الآية، لم يكن حاصلاً عندهم من قبل‏.‏

ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ موصوفين بتلك الصّفات فيما مضى تفعلونها إمَّا من تلقاء أنفسكم، حرصاً على إقامة الدّين واستحساناً وتوفيقاً من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده، وإمّا بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏ وحينئذٍ فلمَّا أمرهم بذلك على سبيل الجزم، أثنى عليهم بأنَّهم لم يكونوا تاركيه من قبل، وهذا إذا بنَينا على أنّ الأمر في قوله ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ تأكيداً لما كانوا يفعلونه، وإعلام بأنَّه واجب، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدّمتها عند قوله ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏‏.‏

ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقَدَره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل كان بمعنى صار‏.‏

والمراد بأمَّة عمومُ الأمم كلّها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق‏.‏

وقوله ‏{‏أخرجت للناس‏}‏ الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالء ‏{‏فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 88‏]‏ أي أظهر بصوغه عجلاً جسداً‏.‏

والمعنى‏:‏ كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا‏.‏ وفاعل ‏{‏أخرجت‏}‏ معلوم وهو الله موجد الأمم، والسائق إليها ما به تفاضلها‏.‏ والمراد بالناس جميع البشر من أوّل الخليقة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏تأمرون بالمعروف‏}‏ حال في معنى التَّعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتّى تحكى الخيرية في حال مقارنتها لها، بل هي من الأعمال النَّفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف، ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان كونهم خير أمَّة‏.‏ والمعروف والمنكر تقدّم بيانهما قريباً‏.‏

وإنّما قدّم ‏{‏تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ على قوله ‏{‏وتؤمنون بالله‏}‏ لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأنّ إيمانهم ثابت محقّق من قبل‏.‏

وإنَّما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم، لأنّ لكلّ من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثراً في التفَّضيل على بعض الفرق، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخروم بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد ردّ الله ذلك صريحاً في قوله‏:‏

‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قصد به التفضيل على أهل الكتاب، الذين أضاعوا ذلك بينهم، وقد قال تعالى فيهم ‏{‏كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 79‏]‏‏.‏

فإن قلت إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا، لأنَّهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لتعذّر أن يترك الأمم بالمعروف لأنّ الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه‏.‏ قلت‏:‏ لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إمّا لأنه لم يكن واجباً عليهم، أو لأنَّهم كانوا يتوسعّون في حل التقية، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرآى منه ومسمع فلم يغيّر عليهم، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله ‏{‏قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 92 94‏]‏ وأما قوله تعالى ‏{‏من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113، 114‏]‏ الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمّة‏.‏

وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجيّة الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق، فإذا أجمعت الأمَّة على حكم، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكراً، وتعيّن أن يكون معروفاً، لأنّ الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر في ضمنهم، ولا يجوز سكوتها منكر يقع، ولا عن معروف يترك، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري، وإن كان استدلالاً على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأنّ المنكر لا يعتبر منكراً إلاّ بعد إثبات حكمه شرعاً، وطريق إثبات حكمه الإجماع، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكراً حتَّى ينهي عنه طائفة منهم لأنّ اجتهادهم هو غاية وسعهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏‏.‏

عطف على قوله ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ لأن ذلك التفضيل قد غمر أهل الكتاب من اليهود وغيرهم فنبّههم هذا العطف إلى إمكان تحصيلهم على هذا الفضل، مع ما فيه من التعريض بهم بأنَّهم متردّدون في اتباع الإسلام، فقد كان مخيريق متردّداً زماناً ثمّ أسلم، وكذلك وفد نجران تردّدوا في أمر الإسلام‏.‏

وأهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى، لكن المقصود الأول هنا هم اليهود، لأنَّهم كانوا مختلطين بالمسلمين في المدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، وقصد بيت مدراسهم، وٌّصهم قد أسلم منهم نفر قليل وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم ‏"‏‏.‏

ولم يذكر متعلق ‏(‏آمن‏)‏ هنا لأنّ المراد لو اتَّصفوا بالإيمان الذي هو لقب لدين الإسلام وهو الذي منه أطلقت صلة الذين آمنوا على المسلمين فصار كالعلم بالغلبة، وهذا كقولهم أسْلَم، وَصَبَأ، وأشْرَكَ، وألْحَد، دون ذكر متعلّقات لهاته الأفعال لأن المراد أنَّه اتَّصف بهذه الصّفات التي صارت أعلاماً على أديان معروفة، فالفعل نُزّل منزلة اللازم، وأظهر منه‏:‏ تَهَوّد، وتَنَصّر، وتَزَنْدق، وتَحَنَّف، والقرينة على هذا المعنى ظاهرة وهي جعل إيمان أهل الكتاب في شرط الامتناع، مع أنّ إيمانهم بالله معروف لا ينكره أحد‏.‏ ووقع في «الكشاف» أنّ المراد‏:‏ لو آمنوا الإيمان الكامل، وه تكلّف ظاهر، وليس المقام مقامه‏.‏‏.‏ وأجمل وجه كون الإيمان خيراً لهم لتذهب نفوسهم كلّ مذهب في الرجاء والإشفاق‏.‏ ولمَّا أخبر عن أهْل الكتاب بامتناع الإيمان منهم بمقتضى جعل إيمانهم في حيز شرط ‏(‏لو‏)‏ الامتناعية، تعيّن أن المراد من بقي بوصف أهل الكتاب، وهو وصف لا يبقى وصفهم به بعد أن يتديّنوا بالإسلام، وكان قد يتوهّم أن وصف أهل الكتاب يشمل من كان قبل ذلك منهم ولو دخل في الإسلام، وجيء بالاحتراس بقوله‏:‏ ‏{‏منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏ أي منهم من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فصدق عليه لقب المؤمن، مثل عبد الله بن سلام، وكان اسمه حُصيناً وهو من بني قينقاع، وأخيه، وعمصته خالدة، وسعية أو سنعة بن غريض بن عاديا التيماوي، وهو ابن أخي السموأل بن عاديا، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية القرظي، وأسد بن عبيد القرظي، ومخيريق مِن بني النضير أو من بني قينقاع، ومثل أصْمحة النَّجاشي، فإنَّه آمن بقلبه وعوّض عن إظهاره إعمالَ الإسلام نصره للمسلمين، وحمايته لهم ببلده، حتَّى ظهر دين الله، فقبل الله منه ذلك، ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بأنَّه كان مؤمناً وصلّى عليه حين أوحي إليه بموته‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى من أهل الكتاب فريق متقّ في دينه، فهو قريب من الإيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وهؤلاء مثل من بقي متردّداً في الإيمان من دون أن يتعرّض لأذى المسلمين، مثل النَّصارى من نجران ونصارى الحبشة، ومثل مخيريق اليهودي قبل أن يسلم، على الخلاف في إسلامه، فإنَّه أوصى بماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بإيمانهم صدق الإيمان بالله وبدينهم‏.‏ وفريق منهم فاسق عن دينه، محرّف له، مناوٍ لأهل الخير، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس‏}‏ مثل الذين سَمُّوا الشاة لرسول الله يوم خيْبر، والذين حاولوا أن يرموا عليه صخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

استئناف نشأ عن قوله ‏{‏وأكثرهم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ لأن الإخبار عن أكثرهم بأنَّهم غير مؤمنين يؤذن بمعادَاتهم للمؤمنين، وذلك من شأنه أن يوقع في نفوس المسلمين خشية من بأسهم، وهذا يختصّ باليهود، فإنَّهم كانوا منتشرين حيال المدينة في خيبر، والنضير، وقينقاع، وقريظة، وكانوا أهل مكر، وقوة، ومال، عُدّة، والمسلمون يومئذٍ في قلّة فطمأن الله المسلمين بأنَّهم لا يخشون بأس أهل الكتاب، ولا يخشون ضُرّهم، لكن أذاهُم‏.‏

أمَّا النصّارى فلا ملابسة بينهم وبين المسلمين حتَّى يخشوهم‏.‏ والأذى هو الألم الخفيف وهو لا يبلغ حد الضرّ الَّذي هو الألم، وقد قيل‏:‏ هو الضرّ بالقول، فيكون كقول إسحاق بن خلف‏:‏

أخشىَ فَظاظة عمّ أو جَفاء أخٍ *** وكُنتُ أبقى عليها من أذى الكَلِم

ومعنى ‏{‏يولّوكم الأدبار‏}‏ يفرّون منهزمين‏.‏

وقوله ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ احتراس أي يولوكم الأدبار تولية منهزمين لا تولية متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة، أو متأمّلين في الأمر‏.‏ وفي العدول عن جعله معطوفاً على جملة الجواب إلى جعله معطوفاً على جملتي الشرط وجزائه معاً، إشارة إلى أنّ هذا ديدنهم وهجيراهم‏.‏ لو قاتلوكم، وكذلك في قتالهم غيركم‏.‏

وثمّ لترتيب الإخبار دالّة على تراخي الرتبة‏.‏ ومعنى تراخي الرتبة كون رتبة معطوفها أعظم من رتبة المعطوف عليه في الغرض المسوق له الكلام‏.‏ وهو غير التّراخي المجازي، لأن التّراخي المجازي أن يشبَّه ما ليس بمتأخّر عن المعطوف بالمتأخّر عنه‏.‏

وهذا كلّه وعيد لهم بأنهم سيقاتلون المسلمين، وأنّهم ينهزمون، وإغراء للمسلمين بقتالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة‏}‏‏.‏

يعود ضمير ‏(‏عليهم‏)‏ إلى ‏{‏وأكثرهم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وهو خاص باليهود لا محالة، وهو كالبيان لقوله ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏‏.‏

والجملة بيَانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا‏.‏

ومعنى ضرب الذلّة اتَّصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة، وهي أمر معقول، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشَدّ أطنابها، وقد تقدّم نظيره في البقرة‏.‏

و ‏{‏ثُقفُوا‏}‏ في الأصل أخذوا في الحرب ‏{‏فإمّا تثقفنّهم في الحرب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء، وتصرّف فيه بشدّة، ومنها سمي الأسْر ثِقافاً، والثقاف آلة كالكلُّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح‏.‏ قال النابغة‏:‏

عَضّ الثِّقَاففِ على صُمّ الأنَابِيب *** والمعنى هنا‏:‏ أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم‏.‏

وقوله ‏{‏إلا بحبل من الله وحبل من الناس‏}‏ الحبل مستعار للعهد، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏256‏)‏ وعهد الله ذمّته، وعهد النَّاس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة‏.‏ والتَّقدير‏:‏ ضربت عليهم الذلّة متلبِّسين بكُلّ حال إلاّ متلبّسين بعهد من الله وعهد من النَّاس، فالتَّقدير‏:‏ فذهبوا بذلّة إلاّ بحبل من الله‏.‏

والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله، أي ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم‏.‏ وهذا من دلائل النُّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيشربَ وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا‏.‏

وباءوا بغضب من الله‏}‏ أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنَا‏.‏

والمسكنة الفقر الشَّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش‏.‏ والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنَّضِير وقينُقاع وقُريظةَ، ثُمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر‏.‏

‏{‏مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بھايات الله وَيَقْتُلُونَ الانبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من ‏{‏ضربت عليهم الذلّة‏}‏‏.‏ ومعنى ‏{‏يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء‏}‏ تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يكفرون بآيات الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ أوائل هذه السورة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لك بما عَصوا وكانوا يعتدون‏}‏ يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سبباً ثانياً‏.‏ ‏(‏وما‏)‏ مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الأعتداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم، تأكيداً لِما أفاده قولُه ‏{‏منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ فالضمير في قوله ‏{‏ليسوا‏}‏ لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفاً، وهم اليهود، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد‏.‏

و ‏(‏سواء‏)‏ اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية‏.‏

وجملة ‏{‏من أهل الكتاب أمصة قائمة الخ‏.‏‏.‏‏.‏ مبيّنة لإبهام ليسوا سواء‏}‏ والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة، فلأمّة هنا بمعنى الفريق‏.‏

وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ لأنهم صاروا من المسلمين‏.‏

وعدل عن أن يقال‏:‏ منهم أمَّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب‏:‏ ليكون ذا الثناء شاملاً لصالحي اليهود، وصالحي النَّصارى، فلا يختصّ بصالحي اليهود، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم، مستقيمين عليه، ومنهم الَّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه، وكذلك صالحو النَّصارى قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجَّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية‏.‏

والأمَّة‏:‏ الطائفة والجماعة‏.‏

ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ، كما يقال‏:‏ سوق قائمة وشريعة قائمة‏.‏

والآناء أصله أأنْاء بهمزتين بوزن أفعال، وهو جمع إنى بكسر الهمزة وفتح النُّون مقصوراً ويقال أنى بفتح الهمزة قال تعالى‏:‏ ‏{‏غير ناظرين إنَاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏ أي منتظرين وقته‏.‏

وجملة ‏{‏وهم يسجدون‏}‏ حال، أيّ يتهجّدون في الليَّل بتلاوة كتابهم، فقيّدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم‏.‏ وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال‏:‏ يتهجّدون لأنّه يدلّ على صورة فعلهم‏.‏

ومعنى ‏{‏يسارعون في الخيرات‏}‏ يسارعون إليها أي يرغبون في الاستكثار منها‏.‏ والمسارعة مستعارة للاستكثار من الفعل، والمبادرة إليه، تشبيهاً للاستكثار والأعتنار بالسير السريع لبلوغ المطلوب‏.‏ وفي للظرفية المجازية، وهي تخييلية تؤذن بتشبيه الخيرات بطريق يسير فيه السائرون، ولهؤلاء مزيّة السرعة في قطعه‏.‏ ولَك أن تجعل مجموع المركّب من قوله ‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ تمثيلاً لحال مبادرتهم وحرصهم على فعل الخيرات بحال السائر الراغب في البلوغ إلى قصده يُسرع في سيره‏.‏ وسيأتي نظيره عند قوله تعالى ‏{‏لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 176‏]‏‏.‏

والإشارة بأولئك إلى الأمّة القائمة الموصوفة بتلك الأوصاف‏.‏ وموقع اسم الإشارة التنبيه على أنَّهم استحقوا الوصف المذكور بعد اسم الإشارة بسبب ما سبق اسمّ الإشارة من الأوصاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

تذييل للجمل المفتتحة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أهل الكتاب أمَّة قائمة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏ إلى قوله ‏{‏من الصالحين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 114‏]‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تفعلوا بالفوقية فهو وعد للحاضرين، ويعلم منه أنّ الصّالحين السَّابقين مثلهم، بقرينة مقام الامتنان، ووقوعه عقب ذكرهم، فكأنَّه قيل‏:‏ وما تفعلوا من خير ويَفعلوا‏.‏ ويجوز أن يكون إلتفاتاً لخطاب أهل الكتاب‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف بياء الغيبة عائداً إلى أمّة قائمة‏.‏

والكفر‏:‏ ضد الشكر أي هو إنكار وصول النَّعمة الواصلة‏.‏ قال عنترة‏:‏

نبئْتُ عَمْرا غيرَ شاكر نعمتي *** والكفْرُ مَخْبَثَة لِنَفْسسِ المنعم

وقال تعالى ‏{‏واشكروا لي ولا تكفرون‏}‏ وأصل الشكر والكفر أ يتعديا إلى واحد، ويكون مفعولهما النّعمة كما في البيت‏.‏ وقد يجعل مفعولهما المنعم على التوسّع في حذف حرف الجرّ، لأن الأصل شكرت له وكفرت له‏.‏ قال النابغة‏:‏

شكرتُ لك النعمي ***

وقد جمع بين الاستعمالين قوله تعالى ‏{‏واشكروا لي ولا تكفرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏ وقد عدّي ‏{‏تُكْفَروه‏}‏ هنا إلى مفعولين‏:‏ أحدهما نائب الفاعل، لأن الفعل ضمّن معنى الحرمان‏.‏ والضّمير المنصوب عائد إلى خير بتأويل خير بجزاء فعل الخير على طريقة الاستخدام وأطلق الكفر هنا على ترك جزاء فعل الخير، تشبيهاً لفعل الخير بالنَّعمة‏.‏ كأنّ فاعل الخير أنعم على الله تعالى بنعمته مثل قوله ‏{‏إن تُقرضوا الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 17‏]‏ فحذفّ المشبّه ورمز إليه بما ه من لوازم العرفية‏.‏ وهو الكفر، على أنّ في القرينة استعارة مصرّحة مثل ‏{‏ينقضون عهدَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد أمتنّ الله علينا إذ جعل طاعتنا إيّاه كنعمة عليه تعالى، وجعل ثوابها شُكراً، وتَرْك ثوابها كفراً فنفاه‏.‏ وسمّى نفسه الشكور‏.‏

وقد عدّي الكفر أن هنا إلى النعمة على أصل تعديته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال إلى ذكر وعيد المشركين بمناسبة ذكر وعد الذين آمنوا من أهل الكتاب‏.‏

وإنَّما عطف الأولاد هنا لأن الغَناء في متعارف النَّاس يكون بالمال والولد، فالمال يدفع به المرءُ عن نفسه في فداء أو نحوه، والولد يدافعون عن أبيهم بالنصر، وقد تقدّم القول في مثله في طالعة هذه السورة‏.‏

وكرّر حرف النَّفي مع المعطوف في قوله ‏{‏ولا أولادهم‏}‏ لتأكيد عدم غناء أولادهم عنهم لدفع توّهم ما هو متعارف من أن الأولاد لا يقعدون عن الذبّ عن آبائهم‏.‏

ويتعلق ‏{‏من الله‏}‏ بفعل ‏{‏لن تغني‏}‏ على معنى ‏(‏من‏)‏ الابتدائية أي غناء يصدر من جانب الله بالعفو عن كفرهم‏.‏

وانتصب ‏(‏شيئاً‏)‏ على المفعول المطلق لفعل ‏{‏لن تغني‏}‏ أي شيئاً من غٍناء‏.‏ وتنكير شيئاً للتقليل‏.‏

وجملة ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لن تغني عنه أموالهم ولا أولادهم‏}‏‏.‏ وجيء بالجملة معطوفة، على خلاف الغالب في أمثالها أن يكون بدون عطف، لقصد أن تكون الجملة منصبّاً عليها التَّأكيد بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ فيكمل لها من أدلَّة تحقيق مضمونها خمسة أدلة هي‏:‏ التَّكيد ب ‏{‏إن‏}‏، وموقع اسم الإشارة، والإخبار عنهم بأنَّهم أصحاب النَّار، وضمير الفصل، ووصف خالدون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن قوله‏:‏ ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى‏.‏

ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها، المخيِّببِ آخِرُها، حين يحبطها الكفر، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته، تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏ ولمَّا كان التَّشبيه تمثيلياً لم يُتَوخ فيه مُوالاةُ ما شبّه به إنفاقهم لأداةِ التَّمثيل، فقيل‏:‏ كمثل ريح، ولم يُقل‏:‏ كمثل حَرْث قوم‏.‏

والكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى ‏{‏إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

‏(‏والصّر‏:‏ البرْد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرْد وإنَّما الصرّ اسم البرد‏.‏ وأمّا الصرصر فهو الرسح الشديدة وقد تكون باردة‏.‏ ومعنى الآية غني عن التأويل، وجوز في الكشاف‏}‏ أن يكون الصرّ هنا اسماً للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر‏.‏ وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الاطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب‏.‏

وفي قوله ‏{‏فيها صرّ‏}‏ إفادة شدّة برد هذه الريح، حتَّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها، وهي تحمله إلى الحرث‏.‏

والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول‏:‏ أي محروثَ قوم أي أرضاً محروثة والمراد أصابت زرعَ حرث‏.‏ وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى ‏{‏والأنعام والحرث‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ في أول السورة‏.‏

وقوله ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعاً وتشويهاً وليس جُزءاً من الهيئة المشبّه بها‏.‏ وقد يذكر البلغاء مع المُشَبَّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير‏:‏

شُجَّت بذي شبم من ماء مَحْنيَة *** صاففٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمول

تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفرطهُ *** من صَوْب سَارِيَةٍ بيض يعاليل

فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه‏.‏

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة، وجيء بقوله ‏{‏مثل ما ينفقون‏}‏ غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون‏}‏ الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا‏.‏ والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب، أتمّ كشف، جاء موقع التحذير من فريق منهم، والتحذير من الاغترار بهم، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة، وهؤلاء هم المنافقون، للإخبار عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وأكثرهم من اليهود، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج‏.‏ وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والأزقناعات‏.‏ وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا‏.‏

والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثَّوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن ‏{‏بطائنها من استبرق‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 54‏]‏ وظاهر الثوب يسمّى الظِهارة بكسر الظاء‏.‏ والبطانة أيضاً الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر، ويسمّى الشِعار، وما فوقه الدثار، وفي الحديث‏:‏ «الأنصارُ شعار والنَّاس دِثار» ثمّ أطلقت الثِّياب في شدة القرب من صاحبها‏.‏

ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويودّونهم من قبل الإسلام فلمَّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود، ثُمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام، ومنهم من بَقي على دينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من دونكم‏}‏ يجوز أن تكون ‏(‏من‏)‏ فيه زائدة و‏(‏دون‏)‏ اسم مكان بمعنى حولكم، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره ‏{‏ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 16‏]‏ ويجوز أن تكون ‏(‏من‏)‏ للتبعيض و‏(‏دون‏)‏ بمعنى غير كقوله تعالى ‏{‏ومنَّا دون ذلك‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏ من غير أهل ملّتكم، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتِّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنَّهم منهم، ودخائلهم تقتضي التَّحذير من استبطانهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ صفة لبطانة على الوجه الأول، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين‏.‏ فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمَتها، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال، ويكون قوله ‏{‏ودّوا مَا عنتُّم‏}‏ وقوله ‏{‏قد بدت البغضاء‏}‏ جملتين في محلّ الوصف أيضاً على طريقة ترك عطف الصفات، ويومئ إلى ذلك قوله‏:‏ ‏{‏قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‏}‏ أي‏:‏ قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين‏}‏ وعلى الاحتمال الثاني يجعل ‏{‏من دونكم‏}‏ وصفاً، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنَّهي عن اتِّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النَّهي، ذلك لأنّ العداوة النَّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطَلَ دينهم، وأزال حظوظهم‏.‏ كما سنبينه‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ لا يقصّرون في حبالكم، والألْوُ التقصير والترك، وفعله ألاَ يَألو، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين، لأنَّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغَب فيه المفعول، فقالوا لا آلوك جُهداً، كما قالوا لا أدّخرك نصحاً، فالظاهر أنَّه شاع ذلك الاستعمال حتَّى صار التضمين منسياً، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير، فقال هنا‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالا‏}‏ أي لا يقصّرون في خبالكم، وليس المراد لا يمنعونكم، لأن الخبال لا يُرْغب فيه ولا يسأل‏.‏

ويحتمل أنَّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير‏.‏

والخبال اختلال الأمر وفساده، ومنه سمّي فساد العقل خبالاً، وفساد الأعْضَاء‏.‏

وقوله ‏{‏ودّوا ما عنتم‏}‏ الود‏:‏ المحبّة، والعنَت‏:‏ التعب الشَّديد، أي رغبوا فيما يعنتكم و‏(‏ما‏)‏ هنا مصدرية، غير زمانية، ففعل ‏{‏عنتم‏}‏ لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي‏.‏

ومعنى ‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏ فعبّر بالبغضاء عن دلائلها‏.‏

وجملة ‏{‏وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ حالية‏.‏

‏(‏والآيات‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قد بينا لكم الآيات‏}‏ بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات للمتوسمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 75‏]‏ ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر، والاستدلال، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها‏:‏ في التَّشريع، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة‏.‏ 6

ولكون هذه الآيات آياتتِ فراسةٍ وتوسّم، قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعقلون‏}‏ ولم يقل‏:‏ إن كنتم تعلمون أو تفقهون، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه‏.‏

وجملة ‏{‏قد بينا لكم الآيات‏}‏ مستأنفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يبغضونهم، وكلّ إناء بما فيه يرشح، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق‏.‏

وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل‏:‏ هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم‏}‏ فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة‏.‏

وجملة ‏{‏ولا يحبونكم‏}‏ جملة حال من الضمير المرفوع في قوله‏:‏ ‏{‏تحبونهم‏}‏ لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين‏.‏

وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط، ولكنَّه مجرد إيقاظ، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ‏.‏ وهذان النظران، منّا ومنهم، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم‏.‏

‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ‏}‏‏.‏

جملة ‏{‏وتؤمنون‏}‏ معطوفة على ‏{‏تحبونهم‏}‏ كما أن جملة ‏{‏وإذا لقوكم‏}‏ معطوفة على ‏{‏ولا يحبونكم‏}‏ وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة‏.‏

والتعريف في ‏{‏الكتاب‏}‏ للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاةً للفظه، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيتتِ القَيْنُقَاعي‏.‏

والعَضّ‏:‏ شدّ الشيء بالأسنان‏.‏ وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر‏.‏ وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب، وضَرب الرجل نفسه من الغضب، وعضّه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنّه من النَّدم، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجزع، وبعضها جبلّي كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل، وقال الحارث بن ظالم المري‏:‏

فأقبل أقوام لئام أذلّة *** يعضّون من غيظ رؤوس الأباهم

وقوله‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ على فيه للتَّعليل، والضّمير المجرور ضمير المسلمين، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة، أي على التئامكم وزوال البغضاء، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى‏:‏

‏{‏يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏، ونظير هذا التعليق قول الشاعر‏:‏

لتقرعِنّ على السنّ من ندم *** إذا تذكرتتِ يوما بعضَ أخلاقي

و‏{‏من الغيظ‏}‏ ‏(‏من‏)‏ للتعليل‏.‏ والغيظ‏:‏ غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل موتوا بغيظكم‏}‏ كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم، وهو حسن حال المسلمين، وانتظام أمرهم، وازدياد خيرهم، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم، وبتعجيل موتهم به، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور، والعرب تقول‏:‏ فلان محسَّد، أي هو في حالة نعمة وكمال‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏‏.‏

تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ وما بيْنها كالاعتراض أي أنّ الله مطلّع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا‏}‏‏.‏

زاد الله كشفا لِما في صدورهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن تمسسكم حسنة نسؤهم‏}‏ أي تصبكم حسنة والمسّ الإصابة، ولا يختصّ أحدهما بالخير والآخر بالشرّ، فالتَّعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيِّئة، تفنّن، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالذي يتخبطه الشيطان‏}‏ من المس في سورة البقرة ‏(‏275‏)‏‏.‏

والحسنة والسيِّئة هنا الحادثة أو الحالة الَّتي تحسن عند صاحبها أو تسوء وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشَّرعي‏.‏

وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏‏.‏

أرشد الله المؤمنين إلى كيفية تلقّي أذى العدوّ‏:‏ بأن يتلقّوه بالصّبر والحذر، وعبّر عن الحذر بالاتّقاء أي اتّقاء كيدهم وخداعهم، وقوله ‏{‏لا يَضِركم كيدهم شيئاً‏}‏ أي بذلك ينتفي الضرّ كلّه لأنّه أثبت في أوّل الآيات أنّهم لا يضرّون المؤمنين إلاّ أذى، فالأذى ضرّ خفيف، فلمَّا انتفى الضرّ الأعظم الَّذي يحتاج في دفعه إلى شديدِ مقاومة من القتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بَقي من الضرّ هيّناً، وذلك بالصّبر على الأذى، وقلّة الاكتراث به، مع الحذر منهم أن يتوسّلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضرّاً عظيماً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللَّهِ يدعون له نِدّاً وهو يرزقهم»‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب‏:‏ ‏{‏لا يضركم‏}‏ بكسر الضاد وسكون الراء من ضارُه يضيره بمعنى أضرّه‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بضم الضاد وضم الراء مشدّدة مِن ضرّهُ يضُرّه، والضمّة ضمّة إتباع لحركة العين عند الإدغام للتخلّص من التقاء الساكنين‏:‏ سكون الجزم وسكوننِ الإدغام، ويجوز في مثله من المضموم العين في المضارع ثلاثةُ وجوه في العربية‏:‏ الضمّ لإتباع حركة العين، والفتح لخفّته، والكسر لأنَّه الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين، ولم يُقرأ إلاّ بالضمّ في المتواتر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

وجود حرف العطف في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت‏}‏ مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل ‏{‏ودوأ ما عنتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ ومثل ‏{‏يفرحوا بها‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير‏:‏ واذكر إذ غدوت‏.‏ ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏تبوئ‏}‏ لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض، وقوله‏:‏ ‏{‏همت‏}‏ لا يصلح لتعليق ‏{‏إذ غدوت‏}‏ لأنَّه مدخول ‏(‏إذْ‏)‏ أخرى‏.‏

ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين، المنافقين، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً، ودخيلتهما سواء، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم‏.‏ فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحُد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكَّة ومن معهم من أحلافهم سَفْحَ جبل أحُد، حول المدينة، لأخذ الثَّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بنُ أبي ابن سَلُول رأسُ المنافقين، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتَّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج، ولبس لأْمته، ثُمّ عرضَ للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي لنبيء أن يلبس لأمته فيضعها حتَّى يحكم الله بينه وبين عدُوّه ‏"‏ وخرج بالمسلمين إلى جبل أحُد وكان الجبل وراءهم، وصَفَّهم للحرب، وانكشفت الحرب عن هزيمة خفيفة لحقت المسلمين بسبب مكيدة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، إذا انخزل هو وثلث الجيش، وكان عدد جيش المسلمين سبعمائة، وعددُ جيش أهل مكَّة ثلاثة آلاف، وهمّت بنو سَلِمَة وبنو حَارثة من المسلمين بالانخزال، ثُمّ عصمهم الله، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ أي ناصرهما على ذلك الهَمّ الشيطاني، الّذي لو صار عزماً لكان سبب شقائهما، فلعناية الله بهما بَرّأهما الله من فعل ما همَّتا به، وفي «البخاري» عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏ نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سَلِمة وفينا نزلتْ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ وما يسرّني أنَّها لم تنزل والله يقول‏:‏ ‏{‏والله وليهما‏}‏ ‏"‏ وانكشفت الواقعة عن مرجوحية المسلمين إذ قتل منهم سبعون، وقتل من المشركين نيف وعشرون وقال أبو سفيان يومئذ‏:‏ «اعلُ هُبَلْ يوم بيوم بدر والحربُ سِجَال» وقتل حمزة رضي الله عنه ومَثّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، زوج أبي سفيان، إذ بقرت عن بطنه وقطعت قطعة من كبده لتأكلها لإحْنَةٍ كانت في قلبها عليه إذ قتل أباها عتبة يوم بدر، ثُمّ أسلمت بعد وحسن إسلامها‏.‏

وشُجّ وجه النَّبيء صلى الله عليه وسلم يومئذ وكُسِرَت رباعيته‏.‏ والغدوّ‏:‏ الخروج في وقت الغداة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من أهلك‏}‏ ابتدائية‏.‏

والأهل‏:‏ الزوج‏.‏ والكلام بتقدير مضاف يدلّ عليه فعْل ‏{‏غدوتَ‏}‏ أي من بيت أهلِك وهو بيت عائشة رضي الله عنها‏.‏

و ‏{‏تُبَوّئ‏}‏ تجعل مَبَاء أي مكان بَوْء‏.‏

والبَوْء‏:‏ الرجوع، وهو هنا المقرّ لأنَّه يبوء إليه صاحبه‏.‏ وانتصب ‏{‏المؤمنين‏}‏ على أنَّه مفعول أوّل لِ ‏(‏تُبَوِّئ‏)‏، ومقاعد مفعول ثان إجراء لفعل تُبَوّئ مجرى تعطي‏.‏ والمقاعد جمع مقعد‏.‏ وهو مكان القعود أي الجلوس على الأرض، والقعود ضدّ الوقوف والقيام، وإضافة مقاعد لاسم ‏{‏القتال‏}‏ قرينة على أنَّه أطلق على المواضع اللاّئقة بالقتال الَّتي يثبت فيها الجيش ولا ينتقل عنها لأنَّها لائقة بحركاته، فأطلق المقاعد هنا على مواضع القرار كناية، أو مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق، وشاع ذلك في الكلام حتَّى ساوى المقرّ والمكان، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في مقعد صدق‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏‏.‏

واعلم أنّ كلمة مقاعد جرى فيها على الشريف الرضي نقد إذ قال في رثاء أبي إسحاق الصابيء‏:‏

أعْزِزْ عَلَيّ بأن أراك وقَد خَلا *** عن جَانبَيْكَ مَقَاعِدُ العُوّاد

ذكر ابن الأثير في المَثل السائر أن ابن سنان قال‏:‏ إيراده هذه اللَّفظة في هذا الموضع صحيح إلاّ أنَّه موافق لما يُكره ذِكْرُه لا سيما وقد أضافه إلى من تحتمل إضافته إليه وهم العُوّاد، ولو انفرد لكان الأمرُ سهلاً‏.‏ قال ابن الأثير‏:‏ قد جاءت هذه اللَّفظة في القرآن فجاءت مرضية وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال‏}‏ ألا ترى أنَّها في هذه الآية غير مضافة إلى من تُقبح إضافتها إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

إذ قد كانت وقعة أحُد لم تنكشف عن نصر المسلمين، عَقَّب الله ذكرها بأن ذكَّرهم الله تعالى نَصره إيّاهم النصر الَّذي قدّره لهم يوم بدر، وهو نصر عظيم إذ كان نصرَ فئة قليلةٍ على جيش كثير، ذي عُدد وافرة، وكان قتلى المشركين يومئذ سادةَ قريش، وأيمّة الشرك، وحسبك بأبي جهل بن هشام، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنتم أذلة‏}‏ أي ضعفاء‏.‏ والذلّ ضد العزّ فهو الوهن والضعف‏.‏ وهذا تعريض بأنّ انهزام يوم أحُد لا يفلّ حدّة المسلمين لأنّهم صاروا أعزّة‏.‏ والحرب سجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله لعلكم تشكرون‏}‏ اعتراض بين جملة ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ ومتعلّق فعلها أعني ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏}‏‏.‏ والفاء للتفريع والفاء تقع في الجملة المعترضة على الأصحّ، خلافاً لمن منع ذلك من النحويين‏.‏‏.‏ فإنَّه لمّا ذكّرهم بتلك المنّة العظيمة ذكّرهم بأنَّها سبب للشكر فأمرهم بالشكر بملازمة التَّقوى تأدّباً بنسبة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 70‏]‏‏.‏

ومن الشكر على ذلك النَّصر أن يثبتوا في قتال العدو، وامتثالُ أمر النَّبيء صلى الله عليه وسلم وأن لا تَفُلّ حدّتَهم هزيمة يوم أحُد‏.‏

وظرف ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏}‏ زماني وهو متعلّق «بنصركم» لأنّ الوعد بنصرة الملائكة والمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحُد‏.‏ هذا قول جمهور المفسّرين‏.‏

وخصّ هذا الوقت بالذكر لأنَّه كان وقت ظهور هذه المعجزة، وهذه النِّعمة، فكان جديراً بالتذكير والامتنان‏.‏

والمعنى‏:‏ إذ تعِد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النَّبيء صلى الله عليه وسلم لهم تلك المقالة إلاّ بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ تقريري، والتقريري يكثر أن يورد على النَّفي، كما قدّمنا بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 243‏]‏‏.‏

وإنَّما جيء في النَّفي بحرف لَن الَّذي يفيد تأكيد النَّفي للإشعَار بأنّهم كانوا يوم بدر لقلّتهم، وضعفهم، مع كثرة عدوّهم، وشوكته، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة، فأوقع الاستفهام التَّقريري على ذلك ليكون تلقيناً لِمن يخالج نفسَه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأن يصرّح بما في نفسه، والمقصود من ذلك لازمهُ، وهذا إثبات أنّ ذلك العدد كاف‏.‏

ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله‏:‏ بلى‏}‏ لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فكان ‏(‏بلى‏)‏ إبطالاً للنفي، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين‏.‏

وقد جاء في سورة الأنفال ‏[‏9‏]‏ عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين‏}‏

وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف‏.‏ ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف‏.‏ ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله‏:‏ ‏{‏مردفين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ أي مردَفيْن بعدد آخر، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين» أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا‏.‏ وبهذا الوجه فسّر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق‏.‏ وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين‏.‏

ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي‏.‏ وأنزل ونزّل بمعنى واحد‏.‏

فالضميران‏:‏ المرفوعُ والمجرور، في قوله‏:‏ ‏{‏ويأتوكم من فورهم‏}‏ عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين‏.‏

وعليه فموقع قوله‏:‏ ‏{‏ويأتوكم‏}‏ موقع وعد، فهو المعنى معطوف على ‏{‏يمددكم ربكم‏}‏ وكان حقّه أن يرِد بعده، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه، وإذا جاز ذلك التَّقديم في عطف المفردات كما في قول صَنَّان بن عَبَّاد اليَشْكُرِي‏:‏

ثمّ اشتَكَيْتُ لأَشْكانِي وسَاكنُه *** قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أوْ قبر على قَهَدِ

قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة‏:‏ قدّم المعطوف على المعطوف عليه، وحَسَّنه شدّة الاتِّصال بين الفعل ومرفوعه ‏(‏أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظَّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوففِ عليه مؤخّراً عن المعطوف‏)‏ ولو قلت‏:‏ ضربت وزيداً عمراً كان أضعف، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به، ولكن لو قلت‏:‏ مررت وزيد بعمرو، لم يجز من جهة أنَّك لم تقدم العامل، وهو الباء، على حرف العطف‏.‏ ومن تقديم المفعول به قول زيد‏:‏

جمعتَ وعيباً غِيبةً ونَمِيمَةً *** ثلاثَ خصال لستَ عنها بمُرْعوِيْ

ومنه قول آخر‏:‏

لعن الإلهُ وزوجَها مَعَها *** هِنْدَ الهنود طَوِيلَةَ الفعل

ولا يجوز وعيباً جمعت غيبة ونميمة‏.‏ وأمَّا قوله‏:‏

عليككِ ورحمةُ الله السلامُ ***

فممَّا قرب مأخذه عن سيبويه، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلاّ على اعتقاد التَّقديم فيه، ووافقه المرزوقي على ذلك، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسُن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنَّه عطف صوري‏.‏

ووقع في «مغني اللبيب» في حرف الواو أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة، وسبقه إلى ذلك ابن السِّيد في شرح أبياتتِ الجمل، والتفتزاني في شرح المفتاح، كما نقله عنه الدماميني في «تحفة الغريب»‏.‏

وجعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏ويأتوكم من فورهم‏}‏ عائديْن إلى طائفة من المشركين، بلغ المسلمين أنَّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر، وهم كرز بن جابر المحاربي، ومن معه، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم‏}‏ الآية، وعليه درج «الكشاف» ومتابعوه‏.‏ فيكون معادُ الضّميرين غير مذكور في الكلام، ولكنَّه معلوم للنَّاس الَّذين حضروا يوم بدر، وحينئذ يكون ‏{‏يأتوكم‏}‏ معطوفاً على الشرط‏:‏ أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف، قالوا فبلغت كرزاً وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة، أي بالملائكة الزائدين على الألف‏.‏ وقيل‏:‏ لم يمدّهم بملائكة أصلاً، والآثار تشهد بخلاف ذلك‏.‏

وذهب بعض المفسّرين الأوّلين‏:‏ مثل مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والزهري‏:‏ إلى أن القول المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏}‏ قول صادر يوم أحُد، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا، فلمّا لم يصبروا واستَبَقُوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملَك واحد، وعلى هذا التفسير يكون ‏{‏إذ تقول المؤمنين‏}‏ بدلاً من ‏{‏وإذ غَدَوْت‏}‏ وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة ‏{‏ويأتوكم‏}‏ مقدمة على المعطوفة هي عليها، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النَّصر، ويكون القول في إعراب ‏{‏ويأتوكم‏}‏ على ما ذكرناه آنفاً من الوجهين‏.‏

ومعنى ‏{‏من فورهم هذا‏}‏ المبادرة السَّريعة، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفَور بهم، أي شدّة اتّصافهم به حتَّى صار يعرف بأنَّه فورهم، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره‏.‏ و‏(‏من‏)‏ لابتداء الغاية‏.‏

والإشارة بقوله ‏(‏هذا‏)‏ إلى الفور تنزيلاً له منزلة المشاهد القريب، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلاً‏.‏

‏{‏ومسوّمين‏}‏ قرأه الجمهور بفتح الواو على صيغة اسم المفعول من سوّمه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بكسر الواو بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وهو مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة‏.‏ وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه، فيسدّدوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصِدققِ لقائه، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ‏.‏

وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل المسومة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ في أوّل هذه السورة‏.‏ وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة‏.‏

ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شداداً‏.‏

وأحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفاً فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمَّا خشُوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كُرْز المحاربي‏.‏ وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب‏.‏

وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف، ولمَّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة، وذلك هو الخميس، وهو أعظم تركيباً وجعل كُلّ ركن منه مساوياً لجيش العدوّ كلّه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 128‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون جملة ‏{‏وما جعله الله إلا بشرى‏}‏ في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏ والمعنى لقد نصركم الله ببدر حين تقول للمؤمنين مَا وعدك الله به في حال أنّ الله ما جعل ذلك الوعدَ إلاّ بشرى لكم وإلاّ فإنَّه وعَدَكم النصر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنَّها لكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 70‏]‏ الآية‏.‏

ويجوز أن يكون الواو للعطف عطفَ الإخبار على التذكير والامتنان‏.‏ وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين‏.‏

وضمير النصب في قوله‏:‏ ‏{‏جعله‏}‏ عائد إلى الإمداد المستفاد مِن ‏{‏يمددكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏ أو إلى الوعد المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏إن تصبروا وتتقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏ الآية‏.‏

والاستثناء مفرّغ‏.‏ و‏{‏بشرى‏}‏ مفعول ثان ل ‏(‏جعله‏)‏ أي ما جعل الله الإمداد والوعد به إلاّ أنَّه بشرى، أي جعله بشرى، ولم يجعله غير ذلك‏.‏

و ‏(‏لكم‏)‏ متعلّق ب ‏(‏بشرى‏)‏‏.‏ وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكرمة الله تعالى إيّاهم بأنْ بَشَّرهم بشرى لأجلهم كما في التصريح بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏

والبشرى اسم لمصدر بَشَّر كالرُّجعى، والبشرى خبر بحصول ما فيه نفع ومسرّة للمخبر به، فإنّ الله لمَّا وعدهم بالنَّصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طَمْأنة لنفوسهم لأنّ النفوس تركن إلى الصّور المألوفة‏.‏

والطمْأنة والطُّمأنِينة‏:‏ السكون وعدم الاضطراب، واستعيرت هنا ليقين النَّفس بحصول الأمر تشبيهاً للعلم الثابت بثبات النفس أي عدم اضطرابها، وتقدّمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن ليطمئنّ قلبي‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 260‏]‏‏.‏

‏(‏‏{‏وعُطف ولتطمئنّ‏}‏ على ‏{‏بُشرى‏}‏ فكانَ داخلاً في حيّز الاستثناء فيكون استثناء مِن علللٍ، أي ما جعله الله لأجل شيء إلاّ لأجل أن تطمئن قلوبكم به‏.‏

وجملة ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ تذييل أي كلّ نصر هو من الله لا من الملائكة‏.‏ وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا لأنَّهما أولى بالذكر في هذا المقام، لأنّ العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً‏}‏ متعلّق ب ‏(‏النَّصر‏)‏ باعتبار أنَّه علَّة لبعض أحوال النصر، أي ليقطع يوم بدر طرفاً من المشركين‏.‏

والطَّرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى النَّاحية، ويخصّ بالنَّاحية الَّتي هي منتهى المكان، قال أبو تمّام‏:‏

كانت هي الوسَطَ المحميّ فاتّصلتْ *** بها الحَوادث حتَّى أصبحت طَرفا

فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏ ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون مستعاراً هنا لأشراففِ المشركين، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه، أي ليستأصل صناديد الَّذين كفروا‏.‏

وتنكير ‏(‏طرفاً‏)‏ للتفخيم، ويقال‏:‏ هو من أطراف العرب، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها‏.‏

ومَعنى ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ يصيبهم بغمّ وكمد، وأصل كبت كَبَد بالدال إذا أصابه في كَبده‏.‏ كقولهم‏:‏ صُدرَ إذا أصيب في صدره، وكُلِيَ إذا أصيب في كُلْيَتِه، ومُتِنَ إذا أصيب في مَتْنه، ورُئي إذا أصيب في رِئته، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالاً كقولهم‏:‏ سَبَد رأسَه وسبَته أي حلقه‏.‏ والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس‏.‏ قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حِين سفره عن أنطاكية‏:‏

لأَكْبِتَ حَاسداً وأرِي عَدُواً *** كأنَّهُمَا ودَاعُكَ والرّحيلُ

وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقاً قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين، وفريقاً كبتُوا وانقلبوا خائبين، وفريقاً مَنَّ الله عليهم بالإسلام، فأسلموا، وفريقاً عُذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ، والصغار، والأسر، والمَنّ عليهم يوم الفتح، بعد أخذ بلدهم و«أو» بين هذه الأفعال للتقسيم‏.‏

وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين، فالتَّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير‏.‏

وجملة ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ معترضة بين المتعاطفات، والخطاب للنَّبيء صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تُحْمَل على صريح لفظها، فيكون المعنى نفي أن يكون للنَّبيء، أي لقتاله الكفارَ بجيشه من المسلمين، تأثير في حصول النَّصر يوم بدر، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كُلّ جانب من جوانب القتال، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين، وهذا من معنى قوله‏:‏ ‏{‏فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ولفظ ‏(‏الأمر‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ معناه الشأن، و‏(‏أل‏)‏ فيه للعهد، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النَّصر‏.‏

ويجوز أن تحمل الجملة على أنَّها كناية عن صرف النَّبيء عليْه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالَّذين كفروا، من قطع طَرفهم، وكبْتِهم أو توبة عليهم، أو تعذيب لهم‏:‏ أي فذلك موكول إلينا نحقّقُه متى أردنا، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المُسلمين يوم أحُد‏.‏

فلفظ ‏(‏الأمر‏)‏ بمعنى شأن المشركين‏.‏ والتعريفُ فيه عوض عن المضاف إليه، أي ليس لك من أمرهم اهتمام‏.‏ وهذا تذكير بما كان للنَّبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه، وإلحاحه في الدّعاء بالنَّصر‏.‏ ولعلّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم كان يوَدّ استيصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لإهلاكهم، فذكّره الله بذلك أنَّه لم يقدّر استيصالهم جميعاً بل جعل الانتقام منهم ألواناً فانتقم من طائفة بقطع طرَف منهم، ومن بقيّتهم بالكَبْتتِ، وهو الحزن على قتلاهم، وذهاب رؤسائهم، واختلال أمورهم، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك، وهم من آمن من أهل مكَّة قبل الفتح، ويوم الفتح‏:‏ مثل أبي سفيان، والحارث بن هشام أخي أبي جهل، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر، أو بالقتل‏:‏ مثل ابن خَطل، والنضْر بن الحارث، فلذلك قيل له‏:‏ «ليس لك من الأمر شيء»‏.‏

ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجَعل هذه الجملة قبل قوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ استئناس للنَّبيء صلى الله عليه وسلم إذ قُدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله، ثُمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم، ثُمّ أردف بما يدلّ على عقابهم، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له‏.‏ ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعذبهم‏}‏‏.‏

ولكون التَّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحُد، كأنّ في هذا التَّقسيم إيماء إلى ما يصلح بياناً لِحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحُد، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين، لم يصبهم القتلُ يومئذ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد، بَعْد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر، وإن حسِبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحُد، وإن لم ينتصروا‏.‏ ولا يستقيم أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ متعلّقاً بأحوال يوم أحُد‏:‏ لأنّ سياق الكلام ينبو عنه، وحال المشركين يوم أحُد لا يناسبه قولُه‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً من الذين كفروا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خائبين‏}‏‏.‏

ووقع في «صَحِيح مسلم»، عن أنس بن مالك‏:‏ أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم شُجّ وجهه، وكُسرت رباعيته يوم أحُد، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم، فقال النَّبيء عليْه السَّلام‏:‏ ‏"‏ كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم ‏"‏ أي في حال أنَّه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم، فنزلت الآية، ومعناه‏:‏ لا تستبْعِد فلاحهم‏.‏ ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية مُتأوّل على إرادة‏:‏‏:‏ فذُكِّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سبباً لأنّ النَّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده، ولم يدّع لنفسه شيئاً، أو عملاً، حتَّى يقال‏:‏ «ليس لك من الأمر شيء»‏.‏ وروى الترمذي‏:‏ أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين، وسمّى أناساً، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك، ثُمّ أسلموا‏.‏

وقيل‏:‏ إنَّه همّ بالدعاء، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال، فنهى‏.‏ ويردّ هذه الوجوه ما في «صحيح مسلم»، عن ابن مسعود، قال‏:‏ كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيئاً من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول‏:‏ ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون‏.‏ وورد أنَّه لمَّا شجّ وجهه يوم أحُد قال له أصحابه‏:‏ لو دعوت عليهم، فقال‏:‏ إنِّي لم أبعث لَعَّاناً، ولكِنِّي بعثت داعياً ورحمة، اللَّهُمّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون‏.‏ وما ثبت من خُلقه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان لا ينتقم لنفسه‏.‏

وأغرَبَ جماعة فقالوا نزل قوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ نسخاً لما كان يدعو به النَّبيء صلى الله عليه وسلم في قنوته على رِعْل، وذكْوان، وعُصية، ولِحْيان، الَّذين قتلوا أصحاب بئر معونة، وسندهم في ذلك ما وقع في «البخاري» أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم، حتَّى أنزل الله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ‏.‏ وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النَّصر الواقع يوم بدر‏.‏ وتفسيرُ ما وقع في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة‏:‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذاً بكامل الأدب، لأنّ الله لمَّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلَمُ بما فيه نفع الإسلام، ونقمة الكفر، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا‏.‏ وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعاً تقررّ بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية، من قبيل النسخ بالقياس، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل‏.‏

ومنهم من أبعد المرمى، وزعم أن قوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ منصوب بأن مضمرة وجوباً، وأنّ ‏(‏أو‏)‏ بمعنى حتَّى‏:‏ أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتَّى يتوب الله عليهم، أي لا يؤمنون إلاّ إذا تاب عليهم، وهل يجهل هذا أحد حتَّى يحتاج إلى بيانه، على أن الجملة وقعت بين علل النصر، فكيف يشتّت الكلام، وتنتثر المتعاطفات‏.‏

ومنهم من جعل ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ عطفاً على قوله ‏{‏الأمر‏}‏ أو على قوله ‏{‏شيء‏}‏، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أنْ على سبيل الجواز، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ هلاّ جمع العقوبات متوالية‏:‏ فقال ليقطع طرفاً من الَّذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، أو يتوبَ عليهم، أو يعذّبهم، قلت‏:‏ روعي قضاء حقّ جمع النظير أولاً، وجمع الضدّين ثانياً، بجمع القَطْع والكبْتتِ، ثم جمع التوبة والعذاب، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة‏:‏

وقفتَ وما في الموت شَكّ لواقف *** كأنَّك في جفن الردى وهو نائم

تَمُرّ بك الأبطال كَلْمى حزينة *** ووَجْهُك وَضّاح وثَغرك باسم

إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت، وأخَّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة، في قصة مذكورة في كتب الأدب‏.‏

واللام الجارّة لام الملك، وكاف الخطاب لمعيّن، وهو الرسول عليه الصّلاة والسّلام‏.‏

وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيباً وجيزاً محذوفاً منه بعض الكلمات، ولم أظفر، فيما حفظت من غير القرآن، بأنَّها كانت مستعملة عند العرب، فلعلّها من مبتكرات القرآن، وقريب منها قوله‏:‏ ‏{‏وما أملك لك من اللَّه من شيء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ وسيجيء قريب منها في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ و‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ فإن كانت حكاية قولهم بلفظه، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب، وإن كان حكاية بالمعنى فلا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإنهم ظالمون‏}‏ إشارة إلى أنَّهم بالعقوبة أجدر، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى‏.‏