فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

عطف ‏{‏وإذا لقوا‏}‏ على ما عطف عليه‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 13‏]‏‏.‏ والكلام في الظرفية والزمان سواء‏.‏

والتقييد بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ لقوا الذين آمنوا‏}‏ تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا‏}‏ فبذلك كان مفيداً فائدة زائدة على ما في قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ الآية فليس ما هنا تكراراً مع ما هناك، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون‏.‏ ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا‏}‏‏.‏

ومعنى قولهم ‏{‏آمنا‏}‏ أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم ‏{‏آمنا‏}‏ الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تلقب بها المؤمنون وعُرفوا بها على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا هدنا إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله ‏{‏آمنا‏}‏ حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره، أو أريد آمنا بما آمنتم به، والأول أظهر، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم ومجالس المؤمنين‏.‏ ومعنى ‏{‏قالوا آمنا‏}‏ أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا‏}‏ والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا‏}‏ فتمهيد له كما علمت، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرِّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون‏:‏ ‏{‏أنؤمن كما آمن السفهاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 13‏]‏ إنكاراً لذلك، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم، وإنما لم يُجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا‏}‏ على الحال، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحاً لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‏}‏ منادٍ وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا‏}‏ الدال على أن ذلك في وقت مخصوص، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظاً‏.‏ ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال‏.‏

والشياطين جمع شيطان، جمع تكسير، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس‏:‏

‏{‏كان من الجن‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏ الخ‏.‏

ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر‏.‏ ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدَّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحفظناها من كل شيطان رجيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط ا ه‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ا ه‏.‏

والوجه أن تشيطن لما كان وصفاً مشتقاً من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقاً مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحاً لأحد القولين‏.‏

وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، وقد كان العرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في أكثر اللغات القديمة‏.‏ وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سَيْطان‏.‏

و ‏(‏خلوا‏)‏ بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم‏:‏ «افعل كذا وخلاك ذم» أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك‏.‏ وقد عدي هنا بإلى اليشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة، أفاد ذلك كله قوله‏:‏ ‏{‏لقوا وخلوا‏.‏‏}‏ وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها‏.‏

واعلم أنه حكى خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏إنا معكم‏}‏ مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر‏.‏

فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر‏.‏

وأما قولهم لقومهم ‏{‏إنا معكم‏}‏ بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم‏.‏ وكذلك قولهم‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق‏.‏

وقد وجه صاحب «الكشاف» العدول عن التأكيد في قولهم‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ والتأكيد في قولهم ‏{‏إنا معكم‏}‏ بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر‏.‏ وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكداً لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصراً إضافياً للقلب أي مؤمنون مخلصون، وجملة‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ تقرير لقوله‏:‏ ‏{‏إنا معكم‏}‏ لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافاً واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلاً يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا ‏{‏إنما نحن مستهزئون،‏}‏ وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم ‏{‏إنا معكم‏}‏ ويدعي عكس ذلك، وإما أن تكون الجملة بدلاً من ‏{‏إنا معكم‏}‏ بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه وهو مقتضى ‏{‏معكم‏}‏ أي في تصلبكم فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية‏.‏

والاستهزاء السخرية يقال‏:‏ هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب، أي عاملَه فعلاً أو قولاً يحصل به احتقاره أو والتطرية به، سواءٌ أَشعره بذلك أم أخفاه عنه‏.‏ والباء فيه للسببية قيل‏:‏ لا يتعدى بغير الباء وقيل‏:‏ يتعدى بمن، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏(‏مستهزون‏)‏ بدون همزة وبضم الزاي تخفيفاً وهو لغة فصيحة في المهموز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏‏.‏

لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين ‏{‏آمنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ وقولهم لشياطينهم ‏{‏إنا معكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ الخ‏.‏ يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومَن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ غاية الفخامة والجزالة، وهو أيضاً واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف‏.‏ وذكر ‏{‏يستهزئ‏}‏ دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم‏.‏ ولأجل اعتبار الاستئناف قُدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي‏.‏ ولم يقل يستهزئ اللَّهُ بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول مَن الذي يتولى مقابلة سُوء صنيعهم فأُعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصَر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 38‏]‏ فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب «الكشاف» كما صَرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يقدر الليل والنهار‏}‏ في سورة المزمل ‏(‏20‏)‏، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزاً في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في الكشاف‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا يخاف بخساً ولا رهقاً‏}‏ في سورة الجن ‏(‏13‏)‏، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حملُ الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكتُ لا تتزاحم‏.‏

كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبيء عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ‏:‏ ‏{‏ليُخرجَن الأعزُّ منها الأَذَلَّ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له‏.‏

وفعل‏:‏ ‏{‏يستهزئ‏}‏ المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم‏}‏ ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما بشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راضضٍ عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم‏.‏ والمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يستهزئ‏}‏ لزمن الحال‏.‏

ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏يستهزئ بهم‏}‏ حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في ‏{‏يستهزئ‏}‏ للاستقبال، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم‏.‏ وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس‏.‏

وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه‏.‏

وجيء في قوله‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زماناً إلى أن يأخذهم العذاب، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏‏.‏

يتعين أنه معطوف على ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏‏.‏

و ‏(‏يمد‏)‏ فعل مشتق من المَدَد وهو الزيادة، يقال مَدَّه إذا زاده وهو الأصل في الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مَدد ثم غلب استعمال مَد في الزيادة في ذات المفعول نحو مَدَّ له في عُمره ومَدَّ الأرض أي مططها وأطالها، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش‏:‏ ‏{‏أمدكم بأنعام وبنين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 133‏]‏‏.‏ وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو‏:‏ ‏{‏أتُمِدُّونني بمالَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏أن ما نُمِدُّهم به من مال‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏، ويختص مَد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب «الحجة»، ونقله ابن عطية عن يونس بن حَبيب، إلا المعدَّى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهاللِ فيه عند الزمخشري وغيره خلافاً لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجْل ‏(‏بسكون الجيم‏)‏ عن التفرقة بالهمز رجوعاً للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعْض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جرياً وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان‏.‏

وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمالٌ في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فَرقَ وفَرق ووعَد وأوْعد ونَشَد وأنشد ونَزَّل ‏(‏المضاعف‏)‏ وأنزل، وقولهم العِثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة، والعُثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود‏.‏

وتعدية فعل ‏(‏يمد‏)‏ إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك‏.‏

والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغْي وهو الإفراط في الشر والكِبْر وتعليق فعل ‏{‏يمدهم‏}‏ هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله‏:‏ ‏{‏في طغيانهم‏}‏ ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بُعد‏.‏

والعَمَهُ انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عَمِهَ فهو عامه وأعمه‏.‏

وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏ويمدهم‏}‏ إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها‏.‏ فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلاً من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحارية نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضياً استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو‏:‏ يزيدك وجهه حسناً وسرتني رؤيتك؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر‏:‏ إنه من المجاز الذي لا حقيقة له‏.‏

وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف‏:‏ ‏(‏202‏)‏ ‏{‏وإخوانُهم يُمِدُّونهم في الغيّ‏}‏ إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم‏.‏ والظرف متعلق بيمدهم ويعمهون‏}‏ جملة حالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏‏.‏

الإشارة إلى من يقول ‏{‏آمنا بالله وباليوم الآخر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وما عطف على صلته من صفاتهم وجئ باسم إشارة الجمع لأن ما صدق «من» هو فريق من الناس، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى‏:‏ ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ فمضمونها بمنزلة التوكيد، وذلك مما يقتضي الفصل، ولتفيد تعليل مضمون جملة ‏{‏ويمدهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ فتكون استئنافاً بيانياً لسائل عن العلة، وهي أيضاً فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل‏.‏

وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ ومقابل موقع جملة ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ‏.‏ وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيراً ناشئاً عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم‏.‏ وعكس هذا قول قيس بن الخطيم‏:‏

متى يأتتِ هذا الموتُ لا يُلْففِ حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

فإن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به‏.‏

والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئاً لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضياً آخذين وباذلين كان كل منهما بائعاً ومبتاعاً باختلاف الاعتبار، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذاً لما صار بيده عَبَّر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلاً لما خرج من يده من العوض، عَبَّر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سَنَن واحد، وقد ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرَّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وشَرَوْه بثمن بخس دراهمَ معدودةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏ فتوهموا الضمير عائداً إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وجاءت سيارة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 19‏]‏ أي باعوه، وحسبك شاهداً على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا فيه من الزاهدين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 20‏]‏ أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته‏:‏ ‏{‏أكرمي مثواه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك‏.‏

وإطلاق الاشتراء ههنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حَرَصوا على الضلالة، وزَهِدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين‏.‏

ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملاً في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور‏.‏ قال بشامة بن حَزن‏:‏

إِنَّا بني نَهْشَللٍ لا نَدَّعِي لأَبٍ *** عنه ولا هُوَ بالأبناء يَشْرينا

أي يبيعنا أي يبدلنا، وقال عنترة بن الأَخرس المَعْني من شعراء «الحماسة»‏:‏

ومَنْ إِنْ بِعْتَ منزلة بأخرى *** حَلَلْتَ بأمره وبه تَسير

أي إذا استبدلتَ داراً بأخرى‏.‏ وهذا بخلاف قول أبي النجم‏:‏

أخذتُ بالجمة رأساً أزعرا *** وبالطويل العُمْر عُمْرا جَيْدار

فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالةٌ تشبه حال المهتدي تَلَبَّسوا بها فإذا خَلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضاً أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تيْنك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في «الكشاف»‏.‏

والموصول في قوله ‏{‏الذين اشتروا‏}‏ بمعنى المعرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين‏.‏

‏{‏فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

رَتَّبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقاً على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدماً فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية، ولهذا عبر ب ‏{‏ما كانوا مهتدين‏}‏ دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع‏.‏

والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائداً على رأس ماله‏.‏ والتجارة بكسر أوله على وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله‏.‏ ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفي الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان‏.‏

وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفي عنها لأن الربح لما كان مسبباً عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لولا الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير‏:‏

«ونمت وماليل المطي بنائم» *** بخلاف قولك ما ليله بطويل، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتاً فإن وجدت إثباته مجازاً عقلياً فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت‏.‏ وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتزاني في «المطول»، وعدل عنها في «حواشي الكشاف» وهي أمثل مما عدل إليه‏.‏

وقد أفاد قوله‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ ترشيحاً للاستعارة في ‏{‏اشتروا‏}‏ فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان الترشيح متميزاً به أو مستعاراً لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به ‏{‏اشتروا‏}‏‏.‏ ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في «أساس البلاغة» للزمخشري ولم يعزُه‏:‏

ولما رأيت النَّسْر عزَّ ابنَ دايَةٍ *** وعشّش في وَكْرَيْه جاشَ له صدري

فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فُتَّاك العرب في أمه ‏(‏أنشده في «الكشاف» ولم أقف على تعيين قائله‏)‏‏:‏

وما أُمُّ الرُّدَيْن وإنْ أَدَلَّتْ *** بعالمة بأخلاق الكرام

إذا الشيطانُ قَصَّع في قفاها *** تَنَفَّقْنَاهُ بالحَبْل التُّؤَامِ

فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعاً للأولى‏.‏ والآية ليست من هذا القبيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏ قد علم من قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وما كانوا مهتدين،‏}‏ فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعْلوم أنه لم يبق فيهم هدى‏.‏

ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين‏.‏ وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح، فيقع في الخسران‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏ تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الحسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتدياً أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً‏}‏‏.‏

أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة، وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل‏.‏

وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين‏.‏

وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد»‏.‏

واستدلالاً على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه‏.‏

وتقريباً لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ «ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ ا ه‏.‏

والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم‏.‏ وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل‏.‏ فجملة‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف، والحالة التي وقع تمثيلها سيجئ بيانها في آخر تفسير الآية‏.‏

وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه، ويقال أيضاً مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ويقال‏:‏ مثيل كما يقال‏:‏ شَبَه وشبْهٌ وشبيه، وبدَل وبِدْل، وبديل، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فَعَل وفِعْل وفَعِيل بمعنى واحد‏.‏

وقد اختص لفظ المَثَل ‏(‏بفتحتين‏)‏ بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا، أم لم تشبه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الجنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعاً لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعاً لذكره فيسمى مثلاً وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريباً‏.‏

فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة، وأنهم لا يكادون يضربون مثلاً ولا يرونه أهلاً للتسيير وجديراً بالتداول إلا قولاً فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة أي العزة مثل قولهم‏:‏ «الصيف ضيعتتِ اللبن» وقولهم‏:‏ «لا يطاع لقصير أمر» وستعرف وجه ذلك‏.‏

ولما شاع إطلاق لفظ المثل ‏(‏بالتحريك‏)‏ على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معاً أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالاً مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 14‏]‏ بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالباً نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله‏:‏ ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسياً من أصل وضعه ومستعملاً في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل‏}‏ دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في «شرح الحاجبية»، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وقوفاً مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب‏}‏ ولم يستغن عن الكاف‏.‏

ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجئ في أربعة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا‏.‏

الثاني‏:‏ ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم‏:‏ إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى‏.‏

الثالث‏:‏ تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه، وقد كنت أعد مثالاً لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبئ بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة، وموجب شهرتها سيأتي‏.‏ ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم‏:‏ «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبيء صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصداً من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيهاً بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبيء تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي‏:‏

وقُلْ لمن لامَ في التصابي *** خَلِّ قليلاً عن الطريق

فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض‏:‏ خل عن الطريق‏.‏

رابعها‏:‏ تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي‏:‏

ذكرتككِ والخطيُّ يخطُر بيننا *** وقد نَهِلت منى المُثَقّفَةُ السُّمْر

فأثبت النهل للرماح تشبيهاً لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولاً ثم أتى بنَهلتْ على وجه التبعية، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في ‏(‏على‏)‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ وقد تقدم الكلام عليه هناك‏.‏

فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده، وهو الذي وعدت بذكره آنفاً فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكِّر السامع بتلك الحالة، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذِكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزاً إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزاً للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح» إذ جعل صاحب «الكشاف» سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال‏:‏ «ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير، ولا جديراً بالتداول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير» فتردد شراحه في مراده من الغرابة، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث‏:‏ رب رمية من غير رام، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى‏:‏

‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏ إذ جعل القتل حياة‏.‏ وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر‏:‏ «أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب» أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام‏.‏ أو فيه مشاكلة نحو‏:‏ «كما تدين تدان»‏.‏ أراد كما تفعل تجازى‏.‏ وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولاً بديعاً خاصياً إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن‏.‏ وأما صاحب «المفتاح» فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال‏:‏ ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا ه‏.‏ وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد‏.‏ وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه‏.‏ ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيراً وتأنيثاً وغيرهما‏.‏ فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق‏:‏ «قول شبه مضربه بمورده» أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضرباً لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً ما‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها، سميت مورداً لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد‏.‏

و ‏{‏الذي استوقد ناراً‏}‏ مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه، بحال من استوقد ناراً‏.‏

واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قولهه تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 195‏]‏ وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في «الحماسة»‏:‏

نَسْتَوْقِد النبل بالحَضيض ونَصْ *** طَادُ نُفوسا بُنَتْ علَى الكرم

أراد وقوداً يقع عند الرمي بشدة‏.‏ وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله‏:‏

‏{‏فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ‏}‏‏.‏

مفرع على ‏{‏استوقد‏}‏‏.‏ و‏{‏لما‏}‏ حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن‏.‏

مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حُمَّ، والمسبب على السبب، ‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطاً شيء بهم وضاق بهم ذرعاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 77‏]‏، وقولُ عمرو بن معد يكرب‏:‏

لما رأيتُ نساءنا *** يفحصن بالمعزاء شدا

نازَلْتُ كبشهم ولم *** أر من نزال الكبش بدا

ومثال المقارن المهيأ قول امرئ القيس‏:‏

فلما أَجزْنا ساحة الحي وانتحى *** بنا بطن خَبت ذي حقاف عقنقل

هَصَرْتُ بفوْدَيْ رأسها فتمايلت *** عليّ هضيم الكشح ريَّا المخلخَل

ومثال المقارن الحاصل اتفاقاً ‏{‏ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 69‏]‏ فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغتراراً بقولهم وجود لوجود حملاً لِلاَّم في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططاً ولم يجد من كلام الأئمة فرطاً‏.‏

و ‏(‏أضاء‏)‏ يجئ متعدياً وهو الأصل لأن مجرده ضَاء فتكون حينئذٍ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني‏:‏

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دُجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه

ويجئ قاصراً بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق‏:‏

يُضِئ سنَاه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل

والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها، فيكون ما حوله موصولاً مفعولاً لأضاءت وهو المتبادر، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها، ويكون ما حوله على هذا ظرفاً للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها‏.‏

و ‏{‏حوله‏}‏ ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن ‏{‏ما حوله‏}‏ يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصاً إلا بعناء‏.‏

وجمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بنورهم‏}‏ مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله‏:‏ ‏{‏ما حوله‏}‏ مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى ‏(‏الذي‏)‏، قريباً من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة‏:‏

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن *** مظاهرُ سِمطَيْ لؤلؤ وزبرجد

وهذا رجوع بديع، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي‏:‏ ‏{‏والله محيط بالكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعاً واحداً في المشبه والمشبه به، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه‏.‏ وهذا يقتضي أن تكون جملة ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ جواب ‏(‏لمّا‏)‏ فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضاً عن النار المبتدأ به، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز‏.‏ وقريب منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22 24‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏أرسلتم‏}‏ حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله‏:‏ ‏{‏أوَلو جئتكم‏.‏‏}‏ وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقاً لما في الآية بعدها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم‏}‏ إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه‏.‏ وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ استئنافاً ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى ‏{‏فلما أضاءت ما حوله‏}‏ ويكون جواب ‏(‏لما‏)‏ محذوفاً دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف‏.‏

ومعنى ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏‏:‏ أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله‏:‏

‏{‏ويمدهم في طغيانهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ و‏{‏ذهب‏}‏ المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله‏:‏ ‏{‏فلما ذهبوا به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 15‏]‏ وأذهبه جعله ذاهباً بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهاباً لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيداً معنى أذهبه، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله‏:‏ ‏{‏يأتي بالشمس من المشرق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وجاء بكم من البدو‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون‏:‏ ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه‏.‏ وضمير المفرد في قوله ‏{‏وما حوله‏}‏ مراعاة للحال المشبهة‏.‏

واختيار لفظ النور في قوله‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بنورهم‏.‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏}‏ تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة‏:‏

ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينة *** تَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد

فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله ‏{‏وتركهم‏}‏ من إفادة تحقيرهم، وما في جمع ‏{‏ظلمات‏}‏ من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ وما يقتضيه جمع ‏{‏ظلمات‏}‏ من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي‏.‏

وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل‏.‏

وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع‏.‏ وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل‏.‏ قال النابغة‏:‏

فلا تتركّني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب

أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة‏:‏

جادت عليه كل عيننٍ ثرةٍ *** فترَكن كل قرارة كالدرهم

يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية‏.‏

والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيَّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولاً، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالاً، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولاً إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظاً‏.‏

وجمع ‏{‏ظلمات‏}‏ لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 63‏]‏ وقول النبيء صلى الله عليه وسلم «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا ثبوراً كثيراً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏14‏)‏، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم، للواحد، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم، وصيغة الجمع من ذلك القبيل، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفرداً، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقاً في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏1‏)‏ بخلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في ظلمات ثلاث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث‏.‏ ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع ‏(‏ظلمات‏)‏ أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق‏.‏

وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم‏.‏

وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة‏:‏ ‏{‏لا يبصرون‏}‏ لتصوير حال من انطفأَ نورُه بعد أن استضاء به‏.‏

ومفعول ‏{‏لا يبصرون‏}‏ محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم، كقول البحتري‏:‏

شَجْوُ حساده وغيظُ عداه *** أن يَرى مبصرٌ ويسمَعَ واعٍ

وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتماداً على فطنة السامع لأنه يَمْخَضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول آمنا بالله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ الخ ومما يتضمنه المثَلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم‏:‏ ‏{‏آمنا بالله‏}‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏إنما نحن مصلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ وقولهم عند لقاء المؤمنين‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ أحوالٌ ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاةِ والصدقةِ مع المسلمين ويصدر منهم طيِّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبةَ حالةٌ تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، مُثِّلَ ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد ناراً ثم ذهب عنه نورها‏.‏

ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهاتتٍ مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار، وشبه كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

أخبار لمبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏مَثَلُهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ ولا يصح أن يكون عائداً على ‏{‏الذي استوقد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخرُه لأن قوله‏:‏ ‏{‏كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لمَا تأتى منه الاستيقاد، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفاً بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِف للسامع فيقولون‏:‏ فلان أو فتىً أو رجلٌ أو نحو ذلك على تقدير هو فلان، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاءً من ربك عطاءً حساباً ربُّ السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36، 37‏]‏ التقدير هو رب السماوات عُدل عن جعل ‏(‏رب‏)‏ بدلاً من ربك، وقول الحماسي‏:‏

سأشكر عَمرا إن تراختْ منيتي *** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلَّتِ

فتىً غيرُ محجوببِ الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهر الشكوى إذا النعل زلت

وسمى السكاكي هذا الحذف «الحذفَ الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه»‏.‏ والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان‏.‏ قال صاحب «الكشاف»‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون‏)‏‏)‏ ا ه أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معاً فهو تشبيه، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد‏:‏

قامت تظللني من الشمس *** نفسٌ أعزُّ عليّ من نفسي

قامت تظللني ومن عجب *** شمسٌ تظللني من الشمس

أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعاً من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طَبَاطَبَا‏:‏

لا تعجبوا من بلى غلالته *** قد زرّ أزراره على القمر

فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه‏.‏

والصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعاً، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يرجعون‏}‏ تفريع على جملة‏:‏ ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب‏.‏ والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ‏}‏‏.‏

عطف على التمثيل السابق وهو قوله‏:‏ ‏{‏كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه‏.‏

وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته‏:‏

أصاححِ ترى برقاً أُريك وميضَه *** كلمععِ اليدين في حَبِيَ مُكَلَّل

يُضيءُ سَناه أو مصابيححِ راهب *** أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل

وقوللِ لَبيد في معلقته يصف راحلته‏:‏

فلها هِبَاب في الزمام كأنها *** صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها

أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه *** طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها

وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما‏:‏

أَفتلك أم وحْشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصِّوار قِوامها

وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث‏:‏

وثْبَ المُسَحَّججِ من عَانَاتتِ مَعْقُلَةٍ *** كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِبُ

ثم قال‏:‏

أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُه *** مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُ

ثم قال‏:‏

أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه *** أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب

وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ الآية ثم قال‏:‏ ‏{‏وضرب الله مَثَلاً رجلين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 76‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19 21‏]‏ الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى جعلناهم حصيداً خامدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 15‏]‏ وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره‏.‏

و ‏(‏أو‏)‏ عطفت لفظ ‏(‏صيب‏)‏ على ‏{‏الذي استوقد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب‏.‏ وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف‏.‏

والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ بنوع إطلاق وتقييد‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أَو كصيب‏}‏ تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏كمثل الذي استوقد‏}‏ دل على تقدير قوم قوله‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم‏}‏ وقولُه‏:‏

‏{‏يخطف أبصارهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏ الآية، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ الخ‏.‏ فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله‏:‏ ‏{‏كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ ‏"‏ الخ‏.‏ وفي القرآن‏:‏ ‏{‏كمثل غيث أعجب الكفار نباته‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني، ومنه أخذ أبو الطيب قوله‏:‏

فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى *** يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعق

والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر، والرعد لقوارع القرآن وزواجره، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل‏.‏

والصيب فيعل من صاب يصوب صوباً إذا نزل بشدة، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس‏:‏

كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَللٍ *** إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كالذي استهوته الشياطين في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 71‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏‏.‏

والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى‏:‏ ‏{‏كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏ وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث‏:‏ ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء ‏"‏ الخ، ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن‏.‏

ويمكن أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ تقييداً للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في «الكشاف» على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ قيداً للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع‏.‏

وضمير ‏(‏فيه‏)‏ عائد إلى ‏(‏صيب‏)‏ والظرفية مجازية بمعنى معه، والظلمات مضى القول فيه آنفاً‏.‏

والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطراً وبرقاً وتسمى سارية‏.‏ والرعد أصوات تنشأ في السحاب‏.‏ والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق‏.‏

وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواماً وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

الأظهر أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏يجعلون‏}‏ حالاً اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة، وأما جملة‏:‏ ‏{‏يكاد البرق‏}‏ فيجوز كونها حالاً من ضمير ‏{‏يجعلون‏}‏، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافاً لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه‏}‏ حال من ‏(‏البرق‏)‏ أو من ضمير ‏(‏أبصارهم‏)‏ لا غير، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم‏}‏ تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله محيط بالكافرين‏}‏ اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ راجعة إلى أصل الكلام، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق‏.‏ فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلاً عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع، يقال فلان يرعد ويبرق، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولاً، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله‏:‏ ‏{‏والله محيط بالكافرين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيهاً على وجه الشبه وتقريراً لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز‏.‏

وجعل في «الكشاف» الجمل الثلاث مستأنفاً بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافاً عن جملة‏:‏ ‏{‏أو كصيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ والثانية وهي‏:‏ ‏{‏يكاد البرق‏}‏ مستأنفة عن جملة‏:‏ ‏{‏يجعلون‏}‏ لأن الصواعق تستلزم البرق، والثالثة وهي‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا‏}‏ مستأنفة عن قوله‏:‏ ‏{‏يكاد البرق‏}‏ والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفاً‏.‏

والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب «الكشاف» بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله‏:‏

‏{‏فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ ومنه قولك مسحت بالمنديل، ودخلت البلد، وقيل ذلك مجاز في الأصابع، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازاً في الظرفية فتكون تبعية لكلمة ‏(‏في‏)‏‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الصواعق‏}‏ للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه، ونظير هذا قولهم سقاه من العيمة ‏(‏بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن‏)‏ لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا‏.‏

والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حذر الموت‏}‏ مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معاً‏.‏

ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبيء وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله محيط بالكافرين‏}‏ اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى ‏{‏ذهب الله بنورهم وتركهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ الخ كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض‏.‏

والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم‏.‏

والخطف الأخذ بسرعة‏.‏

و ‏(‏كلما‏)‏ كلمة تفيد عموم مدخولها، و‏(‏ما‏)‏ كافة لكل عن الإضافة أوهي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة ‏(‏كل‏)‏‏.‏ وذكر ‏(‏كلما‏)‏ في جانب الإضاءة و‏(‏إذا‏)‏ في جانب الإظلام لدلالة ‏(‏كلما‏)‏ على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون زمناً من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة‏.‏

و ‏{‏أضاء فعل يستعمل ومتعدياً باختلاف المعنى كما تقدم في قوله‏:‏

‏{‏فلما أضاءت ما حوله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ وأظلم يستعمل قاصراً كثيراً ويستعمل متعدياً قليلاً‏.‏ والظاهر أم ‏(‏أضاء‏)‏ هنا متعد فمفعول ‏(‏أضاء‏)‏ محذوف لدلالة ‏(‏مشوا‏)‏ عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك ‏(‏أظلم‏)‏ أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام‏.‏ ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ مفعول ‏(‏شاء‏)‏ محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلاً بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطاً للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6، 7‏]‏ قال الشيخ في «دلائل الإعجاز»‏:‏ إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفاً وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر ‏(‏هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة‏)‏‏.‏

ولو شئتُ أن أبكي دماً لبَكيته *** عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسع

وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع الخ كلامه وتبعه صاحب «الكشاف» وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب الخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذٍ يكون كثيراً‏.‏ وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب، قال طرفة‏:‏ وإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت، وتارة يبيّن بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 17‏]‏ ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفاً إما من الأول أو من الثاني‏.‏ وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري‏.‏

وإن شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها *** عبيدُكَ واستشهِد إلهك يَشْهَدِ

فإن زعم ذلك زعم غريب‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بسمعهم وأبصارهم‏}‏ ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يجعلون أصابعهم في آذانهم‏}‏ والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداماً تاماً من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجاً لهم وإملاء ليزدادوا إثماً أو تلوماً لهم وإعذاراً لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبيء صلى الله عليه وسلم

‏{‏فقُل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه ‏(‏لو‏)‏ من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارَهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالاً لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازاً مرسلاً في مجرد التعليق إظهاراً لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أُبي بن سُلْمى بن ربيعة من شعراء «الحماسة» يصف فرسه‏:‏

ولو طَار ذو حافر قبلَها *** لطارتْ ولكنه لم يطِرْ

أي توفر فيها سبب الطيران، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة، ويكون لقوله‏:‏ ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ موقع عجيب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله على كل شيء قدير‏}‏ تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغاً لهم وقطعاً لمعذرتهم في الدنيا والآخرة‏.‏