فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي ثني به العِنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالاً للمؤمنين وأضدادِهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشاداً لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفاً من سوء صنعهم حائلاً دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصاً على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحاً وحباً لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم‏.‏

وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحساناً وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظَّه منه‏.‏ فالمقصود بالنداء من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الناس‏}‏ الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيأيها الناس، وقرينة ذلك هنا قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ وافتتح الخطاب بالنداء تنويهاً به‏.‏

و ‏(‏يا‏)‏ حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالاً فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلاً كان مشتركاً لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس»‏.‏ قال الرضي في «شرح الكافية»‏:‏ إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلافُ الأصل، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في «الكشاف»‏:‏ «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل»‏.‏

و ‏(‏أيٌّ‏)‏ في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو أيُّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يأيها الرجل، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذٍ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفاً باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفنناً فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذٍ مع اللام باسم إشارة إغراقاً في تعريفه ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذٍ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق‏.‏

وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا ‏(‏هَا‏)‏ التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة، فأصل يأيها الناس يأيهؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه‏:‏

أيهذَاننِ كُلا زاديكما *** وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضاً بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فرداً من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيًّا كذلك نحو‏:‏ ‏{‏يأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و ‏(‏الناس‏)‏ تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بأل‏.‏

فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناساً سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية، ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد تواتر نقلاً ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم يا قوم، ويا فتى، وأنتَ ترى، وبهذا تعلم، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاماً لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر‏.‏ وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا‏؟‏ والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجودين دون مَن بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك مكابرة، وبحث فيه التفتزاني، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه البيضاوي‏.‏

قلت‏:‏ الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثلَه في توجه الخطاب‏.‏

والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له‏.‏

فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده، ومن الإيمان بالرسول، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ على قوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ الآية‏.‏ فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يُعنَى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة‏.‏

وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ في سورة الفاتحة ‏(‏2‏)‏‏.‏ ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذاناً بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج‏.‏

وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن حج البيت أو اعتمر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏ في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصُول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ صريحاً في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ زيادة بيان لموجب العبادة، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏ يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ‏{‏نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ فكان قوله‏:‏ ‏{‏والذين من قبلكم‏}‏ تذكيراً لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى‏.‏ ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على ‏{‏قبلكم، لأن ‏(‏من‏)‏ في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبْلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد‏.‏

والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلَق الأديمَ إذا هيأه ليقطعه ويخرزه، قال جبير في هرم بن سنان‏:‏

ولأَنْتَ تفري ما خَلَقْتَ وبَعْ *** ض القوم يَخْلقُ ثم لا يفري

وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزوج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلُق كمن لا يخلُق أفلا تذكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏هل من خالق غير الله‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 3‏]‏ وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه‏.‏

وقال الغزالي في «المقصد الأسنى»‏:‏ لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغاً ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم ‏(‏أي الخالق‏)‏ عليه مجازاً ا ه‏.‏ فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع بعض العباد مشروطاً بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازاً بعيداً فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 49‏]‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ فإن ذلك مراعىً فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى‏.‏ ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت، أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا‏.‏

«ولعل» حرف يدل على الرجاء، والرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعاً مؤكداً، فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي‏.‏ وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في معناها حتى قال الجوهري‏:‏ «لعل كلمة شك» وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 13‏]‏ مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد‏.‏

ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه‏:‏

أحدها قال سيبويه‏:‏ «لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين ا ه‏.‏ يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجواً، واختاره الرضي قائلاً لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية‏.‏

وأقول لا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجياً ومرجواً منه فحرف الرجاء على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو‏.‏

ثانيها‏:‏ أن لعل للإطماع تقول للقاصد لعلك تنال بغيتك، قال الزمخشري‏:‏ «وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن»‏.‏ والإطماع أيضاً معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين‏.‏

ثالثها‏:‏ أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو علي الفارسي وابن الأنباري؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعل الساعة قريب‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 17‏]‏ لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب ولا يرد عليهم أيضاً أنه إثبات معنى في ‏(‏لعل‏)‏ لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولاً متفرعاً على قول من جعلها للإطماع فقال‏:‏ «ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل» قال من قال‏:‏ إن لعل بمعنى كي، يعني فهو معنى مجازي ناشيء عن مجاز آخر، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب‏.‏

رابعها‏:‏ ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنها استعارة فقال‏:‏ «ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ومصداقه قوله تعالى‏:‏

‏{‏ليبلوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ وإنما يبلي ويختبر من تخفي عنه العواقب ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار فكلام «الكشاف» يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة‏.‏

وعندي وجه آخر مستقل وهو‏:‏ «أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره، فإذا قلت افتقد فلاناً لعلك تنصحه كان إخباراً باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازاً أو استعارة لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجأوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به‏.‏ وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة‏.‏

والتقوى هي الحذر مما يكره، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثراً للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضحُ الفائدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً والسمآء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ‏}‏‏.‏

يتعين أن قوله‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض فراشاً‏}‏ صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله‏:‏ ‏{‏والسماء بناء‏}‏ وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار‏.‏

والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع‏.‏

ومعنى جعل الأرض فراشاً أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار‏.‏ والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة‏.‏

وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعاً لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم‏:‏ بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتاً يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء ‏(‏32‏)‏‏:‏ ‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً‏}‏

فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية‏:‏

‏{‏والذين جاءوا من بعدهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏ في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم‏:‏ أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ فهل نخص تعلقه بفعل ‏{‏جعل‏}‏ المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف، أو بجعله متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏فراشاً‏}‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏والسماء بناء‏}‏ معطوفاً على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق‏.‏

قلت‏:‏ هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ تحكماً لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل ‏{‏لكم‏}‏ متعلقاً بفعل ‏{‏جعل‏}‏ ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال‏.‏

وحذف ‏(‏لكم‏)‏ عند ذكر السماء إيجازاً لأن ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم الأرض‏}‏ دليل عليه‏.‏

و ‏(‏جعل‏)‏ إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض ‏(‏الجيولوجيا‏)‏ تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما إلى قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30 32‏]‏

وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر‏.‏ وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله‏:‏ ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ الخ‏.‏ وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنزل من السماء ماء فأخرج به‏}‏ الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا‏.‏

واعلم أن كون الماء نازلاً من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائماً بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغاً بعد أيام إذا ترك مكشوفاً للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع، فيصير سحاباً ثم يمكث قليلاً أو كثيراً بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطراً وهو ما أشار له قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينشئ السحاب الثقال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعاً وربما كان السحاب قليلاً فساقت إليه الريح سحاباً آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطراً، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث‏:‏ «إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقة» ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعاً وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏من الثمرات‏}‏ ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسباً لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات‏.‏

‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و‏(‏لا‏)‏ ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوباً في جواب الأمر من قوله‏:‏ ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد العبادة عدم العبادة‏.‏ ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساوياً لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم‏.‏

والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئاً أي معادياً، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند، وليس بمتعين لجواز كونه اسماً جامداً وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفاً عند العرب، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة‏.‏

ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعاً، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة‏.‏ ويقال جعل له نداً، إذا سوى غيره به‏.‏

والمعنى لاتثبتوا لله أنداداً تجعلونها جعلاً وهي ليست أنداداً وسماها أنداداً تعريضاً بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلاهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية‏:‏ «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول‏.‏ وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ جملة حالية ومفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم، والمعنى وأنتم ذو علم‏.‏ والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏ وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحاً في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علماً ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخاً لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم‏.‏ وهذا منزع تهذيبي عظيم، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال‏.‏

وقد أومأ قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا‏:‏ «إلا شريكاً هو لك»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ الخ‏.‏ فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم،‏}‏ ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أنداداً جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب‏}‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضاً فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخاً على تحقق ذلك الشرط، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع‏.‏

ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر‏.‏ وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم‏.‏ ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلاً عن أن يكونوا منغمسين فيه‏.‏

ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف‏.‏ واستعارة ‏(‏في‏)‏ لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة‏.‏

وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوماً‏.‏ وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئاً فشيئاً على أن صاحب «الكشاف» قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون ‏{‏لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة‏.‏

والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض‏.‏

وجعلُ لفظ سورة اسماً جنسياً لأجزاء من القرآن اصطلاحٌ جاء به القرآن‏.‏ وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام، وتلك لا تظهر مطابقتهاجلية إلا إذا تم الكلام واستَوفَى الغرضُ حقه، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سَبكه إعجازٌ يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصَاحةِ ألفاظه‏.‏ فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها‏.‏ قال الطيبي في «حاشية الكشاف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تقتلوهم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏17‏)‏، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد‏.‏

والتنكير للإفراد أو النوعية، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها، وأقل السور عددَ آيات سورةُ الكوثر، وقد كان المشركون بالمدينة تبعاً للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألْباً على النبيء يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء‏.‏

وقد كان التحدي أولاً بالإتيان بكتاببٍ مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء ‏(‏88‏)‏‏:‏ ‏{‏قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً‏}‏ فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس‏.‏

والمِثْل أصله المَثيل والمُشابه تمامَ المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفاً ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافئ‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ من مثله‏}‏ يجوز أن يعود إلى ‏(‏مَا نَزّلنا‏)‏ أي من مِثل القرآن، ويجوز أن يعود إلى ‏{‏عبدنا‏}‏ فإن أعيد إلى ‏(‏ما نزلنا‏)‏ أي من مثل القرآن فالأظهر أن ‏(‏من‏)‏ ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة، ويحتمل أن تكون ‏(‏من‏)‏ تبعيضية أو بيانية أو زائدة، وقد قيل بذلك كله، وهي وجوه مرجوحة، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة، أي هي بعض مثل ما نزلنا، ومِثل اسم حينئذٍ بمعنى المماثل، أو سورة مثل ما نزلنا و‏(‏مثل‏)‏ صفةٌ على احتمالي كون ‏(‏من‏)‏ بيانية أو زائدة، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المِثل سواء كان صفة أو اسماً فهو مثل مقدَّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز‏.‏

وإن أُعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ‏(‏ائتوا‏)‏ وهي ابتدائية وحينئذٍ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر‏.‏ ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية، ولفظ مثل إذن اسْم‏.‏

وقد تبين لك أن لفظ ‏(‏مثل‏)‏ في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ بناء على أن لفظ ‏(‏مِثل‏)‏ كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن، أو من محمد خلافاً لمن توهم ذلك من كلام «الكشاف» وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنَّى به عن نفس المضاففِ هُو إليه من حيث إن المِثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضاً فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتضضٍ وجود مثل للقرآن حتى يُراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني‏.‏

وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله‏:‏ ‏{‏من مثله‏}‏ كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال‏:‏ القرآن كلامُ بشر، ومنهم من قال‏:‏ هو مكتتب من أساطير الأولين، ومنهم من قال‏:‏ إنما يعلمه بشر‏.‏ وهاته الوجوه في معنى الآية تُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه‏.‏ وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها‏.‏ فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏ فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خُطببِ أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به‏.‏

فليس في جعل ‏(‏من‏)‏ ابتدائية إيهام إجْزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة‏.‏

وقولُه تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم من دون الله‏}‏ معطوف على ‏{‏فأتوا بسورة‏}‏ أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم‏.‏ والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم‏:‏

دَعَوْتُك للجفن القريح المسهد *** لديّ وللنوم الطريد المشرد

والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر، وأصله الحاضر قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يَأْبَ الشهداء إذا ما دُعُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازاً أو كناية لا بأصل وضع اللفظ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين‏.‏ ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعياً فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف‏.‏ قال الحرث بن حلّزة‏:‏

آذنتنا ببينها أسماءُ *** رب ثاوٍ يَمَلّ منه الثّواءُ

فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه‏.‏ وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزاً للعامة والخاصة، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا، على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ على هذه الوجوه حالاً من الضمير في ‏(‏ادعوا‏)‏ أو من ‏(‏شهداءكم‏)‏ أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيراً عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل، وجوز أن يكون ‏(‏دون‏)‏ بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله، واستشهد له بقول الأعشى‏:‏

تريك القَذى من دونها وهي دونهُ *** إذا ذاقَها من ذاقها يتمطِّق

كما جوز أن يكون ‏{‏من دون الله‏}‏ بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً‏.‏ وقد قال السموأل‏:‏

إنا إذا مالت دواعي الهوى *** وأنصت السامع للقائل

لا نجعل الباطل حقاً ولا *** نلظ دون الحق بالباطل

نخاف أن تسفه أحلامنا *** فنخمُل الدهر مع الخامل

وعلى هذا التفسير يجئ قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعاً عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ اعتراض في آخر الكلام وتذييل‏.‏ أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله‏.‏

والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية‏.‏ هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور‏.‏ وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذٍ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معاً وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معاً ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب، وقريب منه قول الراغب، ويشبه أن يكون الخلاف لفظياً ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة‏.‏

والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر، فحذف متعلق ‏(‏صادقين‏)‏ لدلالة ما تقدم عليه، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة‏:‏ ‏{‏وادعوا شهداءكم من دون الله‏}‏ إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ تكريراً للتحدي‏.‏

وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

تفريع على الشرط وجوابه، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم‏.‏

ومفعول ‏{‏تفعلوا‏}‏ محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏67‏)‏‏.‏

وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتَقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده ولن تفعلوا‏}‏ كأن المتحدي يتدبر في شأنهم، ويزن أمرهم فيقول أولاً ائتوا بسورة، ثم يقول‏:‏ قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصاً منها ثم يقول‏:‏ ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله، مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير‏.‏

ولذلك حسن موقع ‏(‏لن‏)‏ الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا، ولهذا قال سيبويه لا لنفي يفعل، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالباً لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازاً وهو التأكيد، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد‏.‏ وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيداً ولا تأبيداً فقد كابر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولن تفعلوا‏}‏ من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين‏:‏ الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام مَن قدرتهُ فوق طوق البشر‏.‏ 5 الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلَفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها، ودواعي المعارضة موجودة فيهم، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم‏.‏

وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة‏.‏ فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحاً وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية‏.‏

و ‏{‏تفعلوا‏}‏ الأول مجزوم بلم لا محالة لأن ‏(‏إن‏)‏ الشرطية دخلت على الفعل بعد اعتباره منفياً فيكون معنى الشرط متسلطاً على ‏(‏لم‏)‏ وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في ‏{‏تفعلوا‏}‏ لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولاً واحداً كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في «التصريح على التوضيح» على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في «المسائل الدمشقيات» ومن كتاب «التذكرة» له أنه جعل قول الراجز‏:‏

حتى تراها وكأنَّ وكأنْ *** أعناقُها مُشَرَّفَات في قَرَن

من قبيل التنازع بين كأنَّ المشددة وكأنْ المخففة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ أثر لجواب الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏، فتقدير جواب قوله ‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ أنه‏:‏ فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار، فوقع قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء‏.‏

وإنما عُبّر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ائتوني بأخ لكم من أبيكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تأتوني به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 59، 60‏]‏ الخ لأن في لفظ ‏{‏تفعلوا‏}‏ هنا من الإيجاز ما ليس مثلُه في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدَّى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيِّ به مثلَ هذا القرآن ومشهوداً عليه ومستعاناً عليه بشهدائهم فكان في لفظ ‏{‏تفعلوا‏}‏ من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف‏.‏

والوَقود بفتح الواو اسم لما يوقد به، وبالضم مصدر وقيل بالعكس، وقال ابن عطية حُكي الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر‏.‏ وقياس فَعول بفتح الفاء أنه اسم لما يُفعل به كالوَضوء والحَنوط والسَّعوط والوَجور إلاَّ سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور والوَزوع واللَّغوب والوَقود‏.‏ والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدراً أو على حذف مضاف أي ذَوُو وَقودِها الناسُ‏.‏

والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة‏.‏

والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجراً عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبويه كما ألحقوها بالبُعولة والفُحولة‏.‏ وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فِعال أو فُعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفاً إذا وقفوا عليه، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع، ومن ذلك عِظامة ونِفارة وفِحالة وحِبالة وذِكارة وفُحولة وحُمولة ‏(‏جموعاً‏)‏ وبِكارة جمع بَكرٍ ‏(‏بفتح الباء‏)‏ ومِهارة جمع مُهر‏.‏

ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكانَ الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقاً وأبطأَ انطفاءً ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وَقود النار وقرينة التعريض قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والحجارة‏}‏ لأنهم لما أمروا باتقائها أَمْرَ تحذير علموا أنهم هم الناس، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم، فلزم أن يكون الناس هم عُبَّاد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين‏.‏

وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادةُ إظهارِ خطإ عَبَدَتِها فيما عَبَدوا، وتكررٌ لحسرتهم على إهانتها، وحسرتِهم أيضاً على أنْ كان ما أعدوه سبباً لعزهم وفخرهم سبباً لعذابهم، وما أعدوه لنجاتهم سبباً لعذابهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏}‏ الآية‏.‏

وتعريف ‏(‏النار‏)‏ للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبلُ من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم ‏(‏6‏)‏‏:‏

‏{‏يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة‏}‏ وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظراً، أو لأنه قد عُلم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب‏.‏

وفي جعل الناس والحجارة وقوداً دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زَجِّ الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث الموطأ‏}‏‏:‏ «إن شدة الحر من فيح جهنم» فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرِّب ذلك للناس اليوم‏.‏ وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نَموذَجُها البراكين الملتهبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أعدت للكافرين‏}‏ استئناف لم يُعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعلة خبراً أهول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم‏.‏

وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتاً متواتراً امتاز به القرآن عن بقية المعجزات، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس، وأدركها عامة غيرهم بالنقل، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه‏.‏

أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وناوؤُه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين‏:‏ إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه، ثم لو لحق بهم لاحق، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم، فأعرضوا عن معارضته علماً بأنهم لا قبل لهم بمثله، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حداً لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقاً للعادة ودليلاً على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلاً على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري‏.‏

وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمراً خارقاً للعادة أيضاً وهو دليل المعجزة، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في «إعجاز القرآن» ولم يعين له قائلاً وقد نسبه التفتزاني في كتاب «المقاصد» إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في «المقاصد» وهو مع كونه كافياً في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف‏.‏ وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلاً في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزاً لا عجزاً‏؟‏ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به‏؟‏ قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزاً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلاً يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة‏.‏

لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصاراً لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهراً بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش‏.‏

ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتاباً منزلاً نجوماً ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضاً بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلاً بعد جيل‏.‏

وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظماً ونثراً وبما اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلاً ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم‏.‏

وأياً ما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر‏.‏

ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عناداً أو مكابرة وحرصاً على السيادة ونفوراً من الاعتراف بالخطأ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطئ وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أدياناً تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعاً نابذاً دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة‏.‏

ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله‏:‏ ‏{‏ولن تفعلوا‏}‏ فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وماصدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم‏.‏

فإن قلت‏:‏ ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم‏؟‏ قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم‏.‏

وبعد فإن من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح‏.‏

قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة «دلائل الإعجاز» فإن قال قائل إن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت ‏(‏أي من توقفه على علم البيان‏)‏ وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجاً بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به والعلم به ممكناً لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزاً قائم فيه أبداً ا ه‏.‏

وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله‏:‏ «متوسلاً بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلاً مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل» وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَشِّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار‏}‏‏.‏

في «الكشاف» من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة ا ه‏.‏

وجعل جملة‏:‏ ‏{‏وبشر‏}‏ معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم في ريب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ فعَطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع، وليس هو عطفاً لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية، ونظّره بقولك‏:‏ زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق‏.‏

وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقَبَ عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏ ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب، هذا حاصله، وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف جملة ‏(‏الظاهر والباطن‏)‏ على جملة ‏(‏الأول والآخر‏)‏‏.‏ أنهما صفتان متقابلتان ثبتتا لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان‏.‏

قال السيد ولم يذكر صاحب «المفتاح» عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا المقام وتوهموا أن مراد صاحب «الكشاف» هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة «الكشاف» صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد الدين من كلام «الكشاف» وأودعه في شرحه «المطول» على «التخليص»‏.‏

وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وبشر‏}‏ معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضاً وذلك لأن الشرط وهو ‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ سبب لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبيء فحق اتقاء النار وهو الإنذار لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا‏.‏

وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفاً له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبيء فلما أريد ترتب الإنذار لهم والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطاباً لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطاباً للنبيء ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم إلا الإرسال إليهم‏.‏

وقد استضعف هذا الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن بالنداء نحو قم يا زيدُ واكتب يا عمرو، وهذا لا نداء فيه‏.‏

وجوز صاحب «المفتاح» أن ‏{‏بشر‏}‏ معطوف على قُلْ مقدَّراً قبل ‏{‏يأيها الناس اعبدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ وقال القزويني في «الإيضاح» إنه معطوف على مقدر بعد قوله‏:‏ ‏{‏أُعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ أي فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع أن صاحب «الكشاف» لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو‏:‏ ‏{‏يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 29‏]‏ ا ه‏.‏ يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد، وأيًّا ما كان فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ بالتبشير وقوبل ‏{‏الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل ‏(‏النار‏)‏ بالجنة فحصل ثلاثة طباقات‏.‏

والتبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر‏.‏ وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر ‏(‏بالفتح‏)‏ غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر ‏(‏بالكسر‏)‏ عِلْم المخبر ‏(‏بالفتح‏)‏ فإن المخبر ‏(‏بالكسر‏)‏ لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه‏.‏

والصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفاً محذوفاً قال الحطيئة‏:‏

كيفَ الهجاءُ وما تنفَكُّ صَالحةٌ *** من آل لأْممٍ بظهر الغيببِ تأتينا

وكأنَّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية‏.‏

والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشْمَلُ من استغراق المجموع، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب «الكشاف» في هذا الموضع من تفسيره إذ قال‏:‏ «إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه ا ه‏.‏

فاعتمدها صاحب «المفتاح» وتناقلها العلماء ولم يفصِّلوا بيانها‏.‏

ولعل سائلاً يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنياً غناءها فأقول‏:‏ إن أل المُعَرِّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مراداً به الماهية وللجنس مراداً به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 2، 3‏]‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ ‏{‏والمَلَكُ على أرجائها‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏ اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحَفُّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد‏.‏ ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالباً تعين أن تعريفها للاستغراق نحو‏:‏ ‏{‏واللَّهُ يحب المحسنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 134‏]‏ لئلا يتوهم أن الحديث على مُحسن خاص نحو قولها‏:‏ ‏{‏وأن الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 52‏]‏ لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق‏.‏

وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من «مغني اللبيب» أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولاً مطلقاً لا مفعولاً به فنحو‏:‏ ‏{‏عملوا الصالحات‏}‏ مفعول مطلق ونحو‏:‏ ‏{‏خلق الله السماوات‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 44‏]‏ كذلك، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في «شرح المفصل» زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله، وقد رده ابن هشام نفسه‏.‏ والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه‏.‏

والجنات جمع جنة، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 16‏]‏‏.‏

والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي، ويطلق مجازاً على سَيْل الماء سَيْلاً متكرراً متعاقباً وأحسن الماء ما كان جارياً غير قار لأنه يكون بذلك جديداً كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل‏.‏

والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نَهَر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيراً وصغيراً‏.‏ وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً‏.‏

وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكناً من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها‏.‏

والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتوا به متشابهاً‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏من تحتها‏}‏ من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير‏:‏

شُجَّت بذِي شبَممٍ من ماء مَحنية *** صاففٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ

البيتين‏.‏

وقد أورد صاحب «الكشاف» توجيهاً لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير ‏(‏جنات‏)‏ إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بأل العهدية عهداً تقديرياً واختير الثاني تفادياً من كلفة الإضافة وتنبيهاً على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعاً للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن الجحيم هي المأوى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 39‏]‏ وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحاً في كل موضع على أني أرى مذهب الكوفيين مقبولاً وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي‏.‏

وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعاً بسورة التعريف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من تحتها‏}‏ يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه‏:‏

من حس أطلس تسعى تحته شرع *** كأن أحناكها السفلى مآشير

والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون‏:‏ ‏{‏وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزحرف‏:‏ 51‏]‏ فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات‏.‏

‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ متشابها وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏كلما رزقوا‏}‏ يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات، ويجوز أن تكون خبراً عن مبتدأ محذوف وهو ضمير ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شؤون الذين آمنوا، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة ‏{‏أن لهم جنات‏}‏ فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة‏.‏

و ‏(‏كلما‏)‏ ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقاً على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما‏.‏ والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طرياناً غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها‏.‏

وإذ كانت كلما نصاً في عموم الأزمان تعين أن قوله ‏{‏من قبل‏}‏ المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة‏.‏ وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم‏.‏ ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري‏.‏ ويحتمل أن في ذلك تعجيباً لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر‏.‏ وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق‏.‏ ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة، ومعنى ‏(‏من قبل‏)‏ في المرة الأولى من دخول الجنة‏.‏ ومن المفسرين من حمل قوله ‏{‏من قبل‏}‏ على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا، ووجهه في «الكشاف»‏:‏ «بأن الإنسان بالمألوف آنس» وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مراداً به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأتوا به متشابهاً‏}‏ ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا‏.‏ ثم مَنّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة‏.‏

والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفرداً زوجاً وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري‏:‏ «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة» يعني عائشة وقال الفرزدق‏:‏

وإنّ الذي يَسعى ليفسد زَوجتي *** كساععٍ إلى أُسد الشَّرى يستمليها

وقوله‏:‏ ‏{‏وهم فيها خالدون‏}‏ احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب‏:‏

أشدُّ الغم عندي في سرور *** تحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالا

وقوله‏:‏ ‏{‏مطهرة‏}‏ هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيراً لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد‏.‏