فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة ‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم‏}‏ الخ، وما بينهما جملاً تعلّقت بالجملة الأولى على طريقة الاعتراض، فلمّا ذكر الآيات في الجملة الأولى على وجه العموم ذكر هنا فرض آية تكون أوضحَ الآيات دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن ينزّل الله عليه كتاباً من السماء على صورة الكتب المتعارفة، فرأوه بأبصارهم ولمسوه بأيديهم لمَّا آمنوا ولادّعوا أنّ ذلك الكتاب سحر‏.‏

ويجوز أن تكون الواو للحال من ضمير ‏{‏كذّبوا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم‏}‏ أي أنكروا كون القرآن من عند الله، وكونه آية على صدق الرول، وزعموا أنّه لو كان من عند الله لنزل في صورة كتاب من السماء، فإنّهم قالوا‏:‏ ‏{‏لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة‏}‏ وقالوا ‏{‏حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه‏}‏ فكان قوله‏:‏ ‏{‏فقد كذّبوا بالحقّ لما جاءهم‏}‏ مشتملاً بالإجمال على أقوالهم فصحّ مجيء الحال منه‏.‏ وما بينهما اعتراض أيضاً‏.‏

وعلى الوجه الأول فالكتاب الشيء المكتوب سواء كان سفراً أم رسالة، وعلى الثاني فالمراد بكتاببٍ سفرٌ أي مثل التوراة‏.‏

والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لا محالة لأنّ كلّ ينزل من القرآن موجّه إليه لأنّه المبلّغ، فانتقال الخطاب إليه بعد الحديث عن ذوي ضمائر أخرى لا يحتاج إلى مناسبة في الأنتقال‏.‏ وليس يلزم أن يكون المراد كتاباً فيه تصديقه بل أعمّ من ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في قرطاس‏}‏ صفة لكتاب، والظرفية مجازية من ظرفية اسم الشيء في اسم جزئه‏.‏ والقرطاس بكسر القاف على الفصيح، ونقل ضمّ القاف وهو ضعيف‏.‏ وهو اسم للصحيفة التي يكتب فيها ويكون من رَقّ ومن بَرْدى ومن كاغد، ولا يختصّ بما كان من كاغد بل يسمّى قرطاساً ما كان من رقّ‏.‏ ومن النّاس من زعم أنّه لا يقال قرطاس إلاّ لما كان مكتوباً وإلاّ سمّي طَرساً، ولم يصحّ‏.‏ وسمّى العرب الأديم الذي يجعل غرضاً لمتعلّم الرمي قرطاساً فقالوا‏:‏ سَدّد القرطاس، أي سدّد رميه‏.‏ قال الجواليقي‏:‏ القرطاس تكلّموا به قديماً ويقال‏:‏ إنّ أصله غير عربي‏.‏ ولم يذكر ذلك الراغب ولا لسان العرب ولا القاموس، وأثبته الخفاجي في شفاء الغليل‏.‏ وقال‏:‏ كان معرّباً فلعلّه معرّب عن الرومية، ولذلك كان اسم الورقة في لغة بعضهم اليوم ‏(‏كارتا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمسوه‏}‏ عطف على ‏{‏نزّلنا‏}‏‏.‏ واللمس وضع اليد على الشيء لمعرفة وجوده، أو لمعرفة وصف ظاهره من لين أو خشونة، ومن برودة أو حرارة، أو نحو ذلك‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏بأيديهم‏}‏ تأكيد لمعنى اللمس لرفع احتمال أن يكون مجازاً في التأمّل، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئَت حرساً شديداً وشهباً‏}‏، وللإفصاح عن منتهى ما اعتيد من مكابرتهم ووقاحتهم في الإنكار والتكذيب، وللتمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏لقال الذين كفروا إن هذا إلاّ سحر مبين‏}‏ لأنّ المظاهر السحرية تخيّلات لا تلمس‏.‏

وجاء قوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ دون أن يقول‏:‏ لقالوا، كما قال‏:‏ ‏{‏فلمسوه‏}‏ إظهاراً في مقام الإضمار لقصد تسجيل أنّ دافعهم إلى هذا التعنّت هو الكفر، لأنّ الموصول يؤذن بالتعليل‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏إن هذا إلاّ سحر مبين‏}‏ أنّهم يغالطون أنفسهم ويغالطون قومهم لستر مكابرتهم ولدفع ما ظهر من الغلبة عليهم‏.‏ وهذا شأن المغلوب المحجوج أن يتعلّق بالمعاذير الكاذبة‏.‏

والمبين‏:‏ البيّن الواضح، مشتقّ من ‏(‏أبان‏)‏ مرادف ‏(‏بان‏)‏‏.‏ وتقدّم معنى السحر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلّمون الناس السحر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏102‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ‏(‏8‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولو نزّلنا عليك كتاباً‏}‏، لأنّ هذا خبر عن تورّكهم وعنادهم، وما قبله بيان لعدم جدوى محاولة ما يقلع عنادهم، فذلك فُرض بإنزال كتاب عليهم، من السماء فيه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حكاية لاقتراح منهم آية يصدّقونه بها‏.‏ وفي سيرة ابن إسحاق أنّ هذا القول واقع، وأنّ من جملة من قال هذا زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث بن كَلدة، وعبدة بن عبد يغوث؛ وأبَي ابن خلف، والعاصي بن وائل، والوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومن معهم، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سل ربّك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ أي لولا أنزل عليه ملك نشاهده ويخبرنا بصدقه، لأنّ ذلك هو الذي يتطلّبه المعاند‏.‏ أمّا نزول الملك الذي لا يرونه فهو أمر واقع، وفسّره قوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملك فيكونَ معه نذيراً‏}‏ في سورة الفرقان ‏(‏7‏)‏‏.‏

والضمير عائد إلى الذين كفروا‏}‏ وإن كان قاله بعضهم، لأنّ الجميع قائلون بقوله‏:‏ وموافقون عليه‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ للتحضيض بمعنى ‏(‏هلاً‏)‏‏.‏ والتحضيض مستعمل في التعجيز على حسب اعتقادهم‏.‏ وضمير ‏{‏عليه‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم ومعاد الضمير معلوم من المقام، لأنّه إذا جاء في الكلام ضمير غائب لم يتقدّم له معاد وكان بين ظهرانيهم من هو صاحب خبر أو قصة يتحدّث الناس بها تعيّن أنَّه المراد من الضمير‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين استأذنه في قتل ابن صيّاد‏:‏ «إن يكْنه فلن تسلّط عليه وإلاّ يكْنه فلا خير لك في قتلة»‏.‏ يريد من مائر الغيبة الثلاثة الأولى الدجّال لأنّ الناس كانوا يتحدّثون أنّ ابن صيّاد هو الدجّال‏.‏ ومثل الضمير اسم الإشارة إذا لم يذكر في الكلام اسم يشار إليه‏.‏ كما ورد في حديث أبي ذرّ أنّه قال لأخيه عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اذهب فاستعلم لنا علم هذا الرجل ‏"‏ وفي حديث سؤال القبر ‏"‏ فيقال له ‏(‏أي للمقبور‏)‏‏:‏ ما علمك بهذا الرجل ‏"‏ يعني أنّ هذا قولهم فيما بينهم، أو قولهم للذي أرسلوه إلى النبي أن يسأل الله أن يبعث معه ملكاً‏.‏ وقد افهوه به مرة أخرى فيما حكاه الله عنهم‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيّها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين‏}‏ فإنّ ‏(‏لَوْما‏)‏ أخت ‏(‏لولا‏)‏ في إفادة التحضيض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون‏}‏ معناه‏:‏ لو أنزلنا ملكاً على الصفة التي اقترحوها يكلّمهم لقضي الأمر، أي أمرهم؛ فاللام عوض عن المضاف إليه بقرينة السياق، أي لقضي أمر عذابهم الذي يتهدَّدهم به‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏قُضي‏}‏ تُمّم، كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم لا ينظرون‏}‏؛ ذلك أنّه لا تنزل ملائكة غير الذين سخّرهم الله للأمور المعتادة مثللِ الحفظة، وملك الموت، والملك الذي يأتي بالوحي؛ إلاّ ملائكة تنزل لتأييد الرسل بالنصر على من يكذّبهم، مثل الملائكة التي نزلت لنصر المؤمنين في بدر‏.‏ ولا تنزل الملائكة بين القوم المغضوب عليهم إلاّ لإنزال العذاب بهم، كما نزلت الملائكة في قوم لوط‏.‏ فمشركو مكة لمّا سألوا النبي أن يريهم ملكاً معه ظنّوا مقترحهم تعجيزاً، فأنبأهم الله تعالى بأنّهم اقترحوا أمراً لو أجيبوا إليه لكان سبباً في مناجزة هلاكهم الذي أمهلهم إليه فيه رحمة منه‏.‏

ولعلّ حكمة ذلك أنّ الله فطر الملائكة على الصلابة والغضب للحقّ بدون هوادة، وجعل الفطرة الملكية سريعة لتنفيذ الجزاء على وفق العمل، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى‏}‏، فلذلك حجزهم الله عن الاتّصال بغير العباد المكرّمين الذين شابهن نفوسهم الإنسانية النفوس الملكية، ولذلك حجبهم الله عن النزول إلى الأرض إلاّ في أحوال خاصّة، كما قال تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وما تتنزّل إلاّ بأمر ربّك‏}‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏ما تنزّل الملائكة إلاّ بالحقّ‏}‏ فلو أنّ الله أرسل ملائكة في الوسط البشري لما أمهلوا أهل الضلال والفساد ولنا جزوهم جزاء العذاب، ألا ترى أنّ الملائكة الذين أرسلهم الله لقوم لوط لمّا لقوا لوطاً قالوا‏:‏ ‏{‏يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل‏}‏‏.‏ ولمّا جادلهم إبراهيم في قوم لوط بعد أن بشّروه واستأنس بهم ‏{‏قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنّه قد جاء أمر ربّك‏}‏ وهو نزول الملائكة؛ فليس للملائكة تصرف في غير ما وجهّوا إليه‏.‏

فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيء المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون‏.‏ وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضاليّن، إذ ليس الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد التصدّي لرام كلّ من عُرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلى الله عليه وسلم مضيّعاً مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين، وذلك ينافي حرمة النبوة، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة‏.‏ وأنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قوماً صالحين، وما أرادوا إلاّ خيراً‏.‏ ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعاً لهم من حيث لا يشعرون، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين‏.‏ وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه قل إنّ الله قادر على أن ينزلّ آية‏}‏ زيادة بيان لهذا‏.‏

ومن المفسّرين من فسّر ‏{‏قضي الأمر‏}‏ بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورته الأصبية‏.‏ وليس هذا بلازم لأنّهم لم يسألوا ذلك‏.‏ ولا يتوقّف تحقّق ملكيّته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة، بل يكفي أن يروه نازلاً من السماء مثلاً حتى يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم إلى الإسلام، كما يدلّ عليه قوله الآتي‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر‏}‏ فهو جواب ثان عن مقترحهم، فيه ارتقاء في الجواب، وذلك أنّ مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر لأنّه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلاّ إذا قارنه ملك يكون معه نذيراً كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه، على أنّهم صرّحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة‏}‏، فجاء هذا الجواب الثاني صالحاً لردّ الاقتراحين، ولكنّه رُوعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى الثاني لكلامهم فجيء بفعل ‏{‏جعلنا‏}‏ المقتي تصيير شيء آخر أو تعويضه به‏.‏ فضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏، أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر وجعلنا الرسول إليهم ملكاً لتعيّن أن نصّور ذلك الملك بصورة رجل، لأنّه لا محيد عن تشكّله بشكل لتمكّن إحاطة أبصارهم به وتحيّزه فإذا تشكّل فإنّما يتشكّل في صورة رجل ليطيقوا رؤيته وخطابه، وحينئذٍ يلتبس عليهم أمره كما التبس عليهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم

فجملة ‏{‏ولبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ من تمام الدليل والحجّة عليهم بعدم جدوى إرسال الملك‏.‏

واللّبس‏:‏ خلط يعرض في الصفات والمعاني بحيث يعسر تمييز بعضها عن بعض‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلبسوا الحقّ بالباطل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏42‏)‏‏.‏ وقد عدّي هنا بحرف ‏(‏على‏)‏ لأنّ المراد لبس فيه غَلبة لعقولهم‏.‏

والمعنى‏:‏ وللبسنا على عقولهم، فشكّوا في كونه ملكاً فكذّبوه، إذ كان دأب عقولهم تطلّبَ خوارق العادات استدلالاً بها على الصدق، وتركَ إعمال النظر الذي يعرف به صدق الصادق‏.‏

وما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما يلبسون‏}‏ مصدرية مجرّدة عن الظرفية، والمعنى على التشبيه، أي وللبسنا عليهم لبَسهم الذي وقع لهم حين قالوا‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏، أي مثل لبَسهم السابق الذي عرض لهم في صدق محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏

وفي الكلام احتباك لأنّ كلا اللبسين هو بتقدير الله تعالى، لأنّه حرمهم التوفيق‏.‏ فالتقدير‏:‏ وللبسنا عليهم في شأن الملك فيلبسون على أنفسهم في شأنه كما لبسنا عليهم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم إذ يلبسون على أنفسهم في شأنه‏.‏ وهذا الكلام كلّه منظور فيه إلى حمل اقتراحهم على ظاهر حاله من إرادتهم الاستدلال، فلذلك أجيبوا عن كلامهم إرخاء للعنان، وإلاّ فإنّهم ما أرادوا بكلامهم إلاّ التعجيز والاستهزاء، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ لبيان تفنّنهم في المكابرة والعناد تصلّباً في شركهم وإصراراً عليه، فلا يتركون وسيلة من وسائل التنفير من قبول دعوة الإسلام إلاّ توسّلوا بها‏.‏ ومناسبة عطف هذا الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ أنّهم كانوا في قولهم ذلك قاصدين التعجيز والاستهزاء معاً، لأنّهم ما قالوه ألاّ عن يقين منهم أنّ ذلك لا يكون، فابتدئ الردّ عليهم بإبطال ظاهر كلامهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر‏}‏‏.‏ ثم ثنّى بتهديدهم على ما أرادوه من الاستهزاء، والمقصود مع ذلك تهديدهم بأنّهم سيحيق بهم العذاب وأنّ ذلك سنة الله في كلّ أمّة استهزأت برسول له‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك‏}‏ يدلّ على جملة مطوية إيجازاً، تقديرها‏:‏ واستهزأوا بك ولقد استهزأ أمم برسل من قبلك، لأنّ قوله من ‏{‏قبلك‏}‏، لأنّ قوله من ‏{‏قبلك‏}‏ يؤذن بأنّه قد استهزئ به هو أيضاً وإلاّ لم تكن فائدة في وصف الرسل بأنّهم من قبله لأنّ ذلك معلوم‏.‏ وحُذف فاعل الاستهزاء فبنى الفعل إلى المجهول لأنّ المقصود هنا هو ترتّب أثر الاستهزاء لا تعيين المستهزئين‏.‏

واللام للقسم، و‏{‏قد‏}‏ للتحقيق، وكلاهما يدلّ على تأكيد الخبر‏.‏ والمقصود تأكيده باعتبار ما تفرّع عنه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فحاق بالذين سخروا‏}‏ الخ، لأنّ حال المشركين حال من يتردّد في أنّ سبب هلاك الأمم السالفة هو الاستهزاء بالرسل، إذ لولا تردّدهم في ذلك لأخذوا الحيطة لأنفسهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي جاءهم فنظروا في دلائل صدقه وما أعرضوا، ليستبرئوا لأنفسهم من عذاب متوقّع، أو نزّلوا منزلة المتردّد إن كانوا يعلمون ذلك لعدم جريهم على موجب علمهم‏.‏ واستهزاؤهم له أفانين، منها قولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏‏.‏

ومعنى الاستهزاء تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما نحن مستهزئون في سورة البقرة‏.‏ وهو مرادف للسخرية في كلام أئمّة اللغة، فذكر استهزئ‏}‏ أولاً لأنّه أشهر، ولمّا أعيد عبّر ب ‏{‏سخروا‏}‏، ولمّا أعيد ثالث مرّة رّجع إلى فعل ‏{‏يستهزئون‏}‏، لأنّه أخفّ من ‏(‏يسخرون‏)‏‏.‏ وهذا من بديع فصاحة القرآن المعجزة‏.‏

و ‏{‏سخروا‏}‏ بمعنى هزأوا، ويتعدّى إلى المفعول ب ‏{‏من‏}‏، قيل‏:‏ لا يتعدّى بغيرها‏.‏ وقيل‏:‏ يتعدّى بالباء‏.‏ وكذا الخلاف في تعدية هزأ واستهزأ‏.‏ والأصحّ أنّ كلا الفعلين يتعدّى بحرف ‏(‏من‏)‏ والباء، وأنّ الغالب في ‏(‏هزأ‏)‏ أن يتعدّى بالباء، وفي ‏{‏سخر‏}‏ أن يتعدّى ب ‏{‏من‏}‏‏.‏ وأصل مادّة ‏{‏سخر‏}‏ مؤذن بأنّ الفاعل اتّخذ المفعول مسخّراً يتصرف فيه كيف شاء بدون حرمة لشدّة قرب مادّة ‏{‏سخر‏}‏ المخفّف من مادّة التسخير، أي التطويع فكأنّه حوّله عن حقّ الحرمة الذاتية فاتّخذ منه لنفسه سخرية‏.‏

وفعل ‏{‏حاق‏}‏ اختلف أئمَّة اللغة في معناه‏.‏ فقال الزجّاج‏:‏ هو بمعنى أحاط، وتبعه الزمخشري، وفسّره الفرّاء بمعنى عاد عليه‏.‏

وقال الراغب‏:‏ أصله حقّ، أي بمعنى وجب، فأبدل أحد حرفي التضعيف حرف علّة تخفيفاً، كما قالوا تظنّي في تظنّن، أي وكما قالوا‏:‏ تقضّى البازي، بمعنى تقضّض‏.‏ والأظهر ما قاله أبو إسحاق الزجّاج‏.‏

واختير فعل الإحاطة للدلالة على تمكّن ذلك منهم وعدم إفلاته أحداً منهم‏.‏

وإنّما جيء بالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏بالذين سخروا‏}‏ ولم يقل بالساخرين للإيماء إلى تعليل الحكم، وهو قوله ‏{‏فحاق‏}‏‏.‏

و ‏{‏منهم‏}‏ يتعلّق ب ‏{‏سخروا‏}‏، والضمير المجرور عائد إلى الرسل، لزيادة تقرير كون العقاب لأجلهم ترفيعاً لشأنهم‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ موصولة‏.‏ والباء في ‏{‏به‏}‏ لتعدية فعل الاستهزاء‏.‏ ووجود الباء مانع من جعل ‏{‏ما‏}‏ غير موصولة‏.‏ وهو ما أطال التردّد فيه الكاتبون‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ما أنذرهم الرسل به من سوء العاقبة وحلول العذاب بهم، فحصل بذلك فائدة أخرى، وهي أنّ المستهزئين كانوا يستهزئون بالرسل وخاصّة بما ينذرونهم به من حلول العذاب إن استمّروا على عدم التصديق بما جاءوا به‏.‏ فاستهزاؤهم بما أنذروا به جعل ما أنذروا به كالشخص المهزوء به إذا جعلنا الباء للتعدية، أو استهزاؤهم بالرسل بسبب ما أنذروهم به إذا جعلت الباء للسببية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

هذه الجملة وزانها وزان البيان لمضمون الجملة التي قبلها ولذلك فصلت، فإنّ الجملة التي قبلها تخبر بأنّ الذين استهزأوا بالرسل قد حاق بهم عواقب استهزائهم، وهذه تّحدوهم إلى مشاهدة ديار أولئك المستهزئين‏.‏ وليس افتتاح هذه الجملة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم منافياً لكونها بياناً لأنّه خوطب بأن يقول ذلك البيان‏.‏ فالمقصودُ ما بعد القول‏.‏

وافتتاحها بالأمر بالقول لأنّها واردة مورد المحاورة على قولهم ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وهذه سلسلة ردود وأجوبة على مقالتهم المحكية آنفاً لتضمّنها التصميم على الشرك وتكذيب الرسالة، فكانت منحلّة إلى شبه كثيرة أريد ردّها وتفنيدها فكانت هاته الردود كلّها مفتتحة بكلمة ‏{‏قل‏}‏‏)‏ عشر مرات‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل، فإنّ النظر في عاقبة المكذّبين هو المقصد من السير، فهو ممّا يُرتقى إليه بعد الأمر بالسير، ولأنّ هذا النظر محتاج إلى تأمّل وترسّم فهو أهمّ من السير‏.‏

والنظر يحتمل أن يكون بصرياً وأن يكون قلبياً، وعلى الاحتماليين فقد علّقه الاستفهام عن نصب مفعوله أو مفعوليه‏.‏ و‏{‏كيف‏}‏ خبر لِ ‏{‏كان‏}‏ مقدّم عليها وجوباً‏.‏

والعاقبة آخر الشيء ومآله وما يعقبه من مسبّباته‏.‏ ويقال‏:‏ عاقبة وعقبى، وهي اسم كالعافية والخاتمة‏.‏

وإنّما وصفوا بِ ‏{‏المكذّبين‏}‏ دون المستهزئين للدلالة على أنّ التكذيب والاستهزاء كانا خلقين من أخُلاقهم، وأنّ الواحد من هذين الخلقين كاف في استحقاق تلك العاقبة، إذ قال في الآية السابقة ‏{‏فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏ وقال في هذه الآية ‏{‏كيف كان عاقبة المكذّبين‏}‏‏.‏

وهذا ردّ جامع لدحض ضلالاتهم الجارية على سنن ضلالات نظرائهم من الأمم السالفة المكذّبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض‏}‏ تكرير في مقام الاستدلال، فإنّ هذا الاستدلال تضمّن استفهاماً تقريرياً، والتقرير من مقتضيان التكرير، لذلك لم تعطف الجملة‏.‏ ويجوز أن يجعل تصدير هذا الكلام بالأمر بأن يقوله مقصوداً به الاهتمام بما بعد فعل الأمر بالقول على الوجه الذي سنبيّنه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ في هذه السورة ‏[‏40‏]‏‏.‏ والاستفهام مستعمل مجازاً في التقرير‏.‏ والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشركَ، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي‏.‏

ولكونه مراداً به الإلجاء إلى الإقرار كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محقّقاً لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله‏:‏ لله‏}‏ تبكيتاً لهم، لأنّ الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجّة مقدّرة فيه محاورة وليس هو محاورة حقيقية‏.‏ وهذا من أسلوب الكلام الصادر من متكلّم واحد‏.‏ فهؤلاء القوم المقدّر إلجاؤهم إلى الجواب سواء أنصفوا فأقرّوا حقّيّة الجواب أم أنكروا وكابروا فقد حصل المقصود من دمغهم بالحجّة‏.‏ وهذا أسلوب متّبع في القرآن، فتارة لا يذكر جواب منهم كما هنا، وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من ربّ السماوات والأرض قل الله‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى إلى قوله قل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏، وتارة يذكر ما سيجيبون به بعد ذكر السؤال منسوباً إليهم أنّهم يجيبون به ثم ينتقل إلى ما يترتّب عليه من توبيخ ونحوه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكّرون إلى قوله قل فأنّى تسحرون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84 89‏]‏‏.‏

وابتدئ بإبطال أعظم ضلالهم‏.‏ وهو ضلال الإشراك‏.‏ وأدمج معه ضلال إنكارهم البعث المبتدأ به السورة بعد أن انتقل من ذلك إلى الإنذار الناشئ عن تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا كان دليل الوحدانية السالف دالاً على خلق السماوات والأرض وأحوالها بالصراحة، وعلى عبودية الموجودات التي تشملها بالالتزام، ذكر في هذه الآية تلك العبودية بالصراحة فقال‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه ‏{‏ما في السماوات‏}‏‏.‏ الخ‏.‏ ويقدّر المبتدأ مؤخّراً عن الخبر على وزان السؤال لأنّ المقصود إفادة الحصر‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ للملك؛ دلّت على عبودية الناس لله دون غيره، وتستلزم أنّ العبد صائر إلى مالكه لا محالة، وفي ذلك تقرير لدليل البعث السابق المبني على إثبات العبودية بحقّ الخلق‏.‏ ولا سبب للعبوديّة أحقّ وأعظم من الخالقية، ويستتبع هذا الاستدلالُ الإنذار بغضبه على من أشرك معه‏.‏

وهذا استدلال على المشركين بأنّ غير الله ليس أهلاً للإلهيّة، لأنّ غير الله لا يملك ما في السماوات وما في الأرض إذ ملك ذلك لخالق ذلك‏.‏ وهو تمهيد لقوله بعده ‏{‏ليجمعنّكم إلى يوم القيامة‏}‏، لأنّ مالك الأشياء لا يهمل محاسبتها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ معترضة، وهي من المقول الذي أمر الرسول بأن يقوله‏.‏ وفي هذا الاعتراض معان‏:‏

أحدها‏:‏ أنّ ما بعده لمّا كان مشعراً بإنذار بوعيد قُدّم له التذكير بأنّه رحيم بعبيده عساهم يتوبون ويقلعون عن عنادهم، على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب ربّكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏، والشرك بالله أعظم سوءٍ وأشدّ تلبّساً بجهالة‏.‏

والثاني‏:‏ أنّ الإخبار بأنّ لله ما في السماوات وما في الأرض يثير سؤال سائل عن عدم تعجيل أخذهم على شركهم بمن هم مِلكه‏.‏ فالكافر يقول‏:‏ لو كان ما تقولون صدقاً لعجّل لنا العذاب، والمؤمن يستبطئ تأخير عقابهم، فكان قوله‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ جواباً لكلا الفريقين بأنّه تفضّل بالرحمة، فمنها رحمة كاملة‏:‏ وهذه رحمته بعباده الصالحين، ومنها رحمة موقّتة وهي رحمة الإمهال والإملاء للعصاة والضّالّين‏.‏

والثالث‏:‏ أنّ ما في قوله‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ من التمهيد لما في جملة ‏{‏ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ من الوعيد والوعد‏.‏

ذُكرت رحمة الله تعريضاً ببشارة المؤمنين وبتهديد المشركين‏.‏

الرابع‏:‏ أنّ فيه إيماء إلى أنّ الله قد نجّى أمّة الدعوة المحمدية من عذاب الاستئصال الذي عذّب به الأمم المكذّبةَ رسلها من قبل، وذلك ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جعله رحمة للعالمين في سائر أحواله بحكم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، وإذ أراد تكثير تابعيه فلذلك لم يقض على مكذّبيه قضاء عاجلاً بل أمهلهم وأملى لهم ليخرج منهم من يؤمن به، كما رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لمّا قالوا‏:‏ ‏{‏اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ قال الله تعالى ‏{‏وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقد حصل ما رجاه رسول الله فلم يلبث من بقي من المشركين أن آمنوا بالله ورسوله بعد فتح مكة ودخلوا في دين الله أفواجاً، وأيّد الله بهم بعد ذلك دينه ورسوله ونشروا كلمة الإسلام في آفاق الأرض‏.‏ وإذ قد قدّر الله تعالى أن يكون هذا الدين خاتمة الأديان كان من الحكمة إمهال المعاندين له والجاحدين، لأنّ الله لو استأصلهم في أول ظهور الدين لأتى على من حوتْه مكة من مشرك ومسلم، ثم يحشرون على نيّاتهم، كما ورد في الحديث لمّا قالت أمّ سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

‏"‏ أنهلك وفينا الصالحون، قال‏:‏ نعم، إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نيّاتهم ‏"‏ فلو كان ذلك في وقت ظهور الإسلام لارتفع بذلك هذا الدين فلم يحصل المقصود من جعله خاتمة الأديان‏.‏ وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل عليه ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏أعوذ بسبحات وجهك الكريم‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏كتب‏}‏ تعلّقت إرادته، بأن جعل رحمته الموصوف بها بالذات متعلّقة تعلّقاً عامّاً مطّرداً بالنسبة إلى المخلوقات وإن كان خاصّاً بالنسبة إلى الأزمان والجهات‏.‏ فلما كان ذلك مطّرداً شبّهت إرادته بالإلزام، فاستعير لها فعل ‏(‏كتب‏)‏ الذي هو حقيقة في الإيجاب، والقرينة هي مقام الإلهية، أو جعَل ذلك على نفسه لأنّ أحداً لا يُلزم نفسه بشيء إلاّ اختياراً وإلاّ فإنّ غيره يُلزمه‏.‏ والمقصود أنّ ذلك لا يتخلّف كالأمر الواجب المكتوب، فإنّهم كانوا إذا أرادوا تأكيد وعد أو عهد كتبوه، كما قال الحارث بن حلّزة‏:‏

واذكروا حلف ذي المجاز وما قدّم فيه العهود والكفلاء

حذر الجور والتطاخي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء

فالرحمة هنا مصدر، أي كتب على نفسه أن يرحم، وليس المراد الصفة، أي كتب على نفسه الاتّصاف بالرحمة، أي بكونه رحيماً، لأنّ الرحمة صفة ذاتية لله تعالى واجبة له، والواجب العقلي لا تتعلّق به الإرادة، إلاّ إذا جعلنا ‏{‏كتب‏}‏ مستعملاً في تمجّز آخر، وهو تشبيه الوجوب الذاتي بالأمر المحتّم المفروض، والقرينة هي هي إلاّ أنّ المعنى الأول أظهر في الامتنان، وفي المقصود من شمول الرحمة للعبيد المعرضين عن حقّ شكره والمشركين له في ملكه غيره‏.‏

وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش ‏"‏ إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي ‏"‏

وجملة ‏{‏ليجمعنّكم إلى يوم القيامة‏}‏ واقعة موقع النتيجة من الدليل والمسبّب من السبب، فإنّه لمّا أبطلت أهلية أصنامهم للإلهية ومحّضت وحدانية الله بالإلهية بطلت إحالتهم البعث بشبهة تفّرق أجزاء الأجساد أو انعدامها‏.‏

ولام القسم ونون التوكيد أفادا تحقيق الوعيد‏.‏ والمراد بالجمع استقصاء متفرّق جميع الناس أفراداً وأجزاءاً متفرّقة‏.‏ وتعديته ب ‏{‏إلى‏}‏ لتضمينه معنى السوق‏.‏ وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلاّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ في سورة ‏[‏النساء 87‏]‏‏.‏

وضمير الخطاب في قوله‏:‏ ليجمعنّكم‏}‏ مراد به خصوص المحجوجين من المشركين، لأنّهم المقصود من هذا القول من أوله؛ فيكون نِذارة لهم وتهديداً وجواباً عن أقلّ ما يحتمل من سؤال ينشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ كما تقدّم‏.‏

وجملة ‏{‏الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏ الأظهر عندي أنّها متفرّعة على جملة ‏{‏ليجمعنّكم إلى يوم القيامة‏}‏ وأنّ الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ للتفريع والسببية‏.‏

وأصل التركيب‏:‏ فأنتم لا تؤمنون لأنّكم خسرتم أنفسكم في يوم القيامة؛ فعدل عن الضمير إلى الموصول لإفادة الصلة أنّهم خسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم‏.‏ وجعل ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ خبرَ مبتدأ محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ أنتم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏.‏ ونظم الكلام على هذا الوجه أدعى لإسماعهم، وبهذا التقدير يستغنى عن سؤال «الكشاف» عن صحّة ترتّب عدم الإيمان على خسران أنفسهم مع أنّ الأمر بالعكس‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ مبتدأ، وجملة‏:‏ ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ خبره، وقرن بالفاء لأنّ الموصول تضمّن معنى الشرط على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وأشرب الموصول معنى الشرط ليفيد شموله كلّ من اتّصف بمضمون الصلة، ويفيد تعليق حصول مضمون جملة الخبر المنزّل منزلة جواب الشرط على حصول مضمون الصلة المنزّلة منزلة جملة الشرط، فيفيد أنّ ذلك مستمرّ الارتباط والتعليل في جميع أزمنة المستقبل التي يتحقّق فيها معنى الصلة‏.‏ فقد حصل في هذه الجملة من الخصوصيات البلاغية ما لا يوجد مثله في غير الكلام المعجز‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏خسروا أنفسهم‏}‏ أضاعوها كما يضيّع التاجر رأس ماله، فالخسران مستعار لإضاعة ما شأنه أن يكون سبب نفع‏.‏ فمعنى ‏{‏خسروا أنفسهم‏}‏ عدموا فائدة الانتفاع بما ينتفع به الناس من أنفسهم وهو العقل والتفكير، فإنّه حركة النفس في المعقولات لمعرفة حقائق الأمور‏.‏ وذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن التدبّر في صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أضاعوا عن أنفسهم أنفع سبب للفوز في العاجل والآجل، فكان ذلك سبب أن لا يؤمنوا بالله والرسول واليوم الآخر‏.‏ فعدم الإيمان مسبّب عن حرمانهم الانتفاع بأفضل نافع‏.‏ ويتسبّب عن عدم الإيمان خسران آخر، وهو خسران الفوز في الدنيا بالسلامة من العذاب، وفي الآخرة بالنجاة من النار، وذلك يقال له خسران ولا يقال له خسران الأنفس‏.‏ وقد أشار إلى الخسرانين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 21، 22‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على ‏{‏لله‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏قل لله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ الذي هو في تقدير الجملة، أي ما في السماوات والأرض لله، وله ما سكن‏.‏

والسكون استقرار الجسم في مكان، أي حيّز لا ينتقل عنه مدّة، فهو ضدّ الحركة، وهو من أسباب الاختفاء، لأنّ المختفي يسكن ولا ينتشر‏.‏ والأحسن عندي أن يكون هنا كناية عن الخفاء مع إرادة المعنى الصريح‏.‏ ووجه كونه كناية أنّ الكلام مسوق للتذكير بعلم الله تعالى وأنّه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ومحاسبكم عليها يوم يجمعكم إلى يوم القيامة، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كلّ أنثى إلى أن قال ومن هو مستخف بالليل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 8 10‏]‏‏.‏ فالذي سكن بالليل والنهار بعض ما في السماوات والأرض، فلمّا أعلمهم بأنّه يملك ما في السموات والأرض عطف عليه الإعلام بأنه يملك ما سكن من ذلك لأنّه بحيث يُغفل عن شمول ما في السماوات والأرض إيّاه، لأنّ المتعارف بين الناس إذا أخبروا عن أشياء بحكم أن يريدوا الأشياء المعروفة المتداولة‏.‏ فهذا من ذكر الخاصّ بعد العامّ لتقرير عموم الملك لله تعالى بأنّ مِلكه شمل الظاهرات والخفيّات، ففي هذا استدعاء ليوجّهوا النظر العقلي في الموجودات الخفيّة وما في إخفائها من دلالة على سعة القدرة وتصرّفات الحكمة الإلهية‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية الزمانية، وهي ظرف مستقرّ، لأنّ فعل السكون لا يتعدّى إلى الزمان تعدية الظرف اللغو كما يتعدّى إلى المكان لو كان بمعنى حلّ واستقرّ وهو ما لا يناسب حمل معنى الآية عليه‏.‏ والكلام تمهيد لسعة العلم، لأنّ شأن المالك أن يعلم مملوكاته‏.‏ وتخصيص الليل بالذكر لأنّ الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاء، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وعطف النهار عليه لقصد زيادة الشمول، لأنّ الليل لمّا كان مظنّةً الاختفاء فيه قد يظنّ أنّ العالِم يقصد الاطّلاع على الساكنات فيه بأهميّة ولا يقصد إلى الاطّلاع على الساكنات في النهار، فذكر النهار لتحقيق تمام الإحاطة بالمعلومات‏.‏

وتقديم المجرور للدلالة على الحصر، وهو حصر الساكنات في كونها له لا لغيره، أي في كون ملكها التامّ له، كماتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقد جاء قوله‏:‏ ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ كالنتيجة للمقدمة، لأنّ المقصود من الإخبار بأنّ الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه، وإلاّ فإنّ مِلك المتحرّكات المتصرّفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حَراكاً، فظهر حسن وقع قوله‏:‏ ‏{‏وهو السميع العليم‏}‏ عقب هذا‏.‏

والسميع‏:‏ العالم العظيم بالمسموعات أو بالمحسوسات‏.‏ والعليم‏:‏ الشديد العلم بكلّ معلوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

استئناف آخر ناشئ عن جملة‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وأعيد الأمر بالقول اهتماماً بهذا المقول، لأنّه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله، فإنّه لمّا تقرّر بالقول، السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأنّ مصير كلّ ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة، لأنّ ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكاً لجميع ما احتوته السماوات والأرض، فكان هذا التقرير جارياً على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرّئ من أن يعبد غير الله‏.‏ والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتّخذوهم أولياء، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر ‏(‏لا أجحد الحقّ‏)‏ لدلالة المقام على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنّه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلاّ بعد البعثة بسنين كثيرة، كما استخلصناه ممّا تقدّم في صدر السورة‏.‏ وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسّرين أنّ هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم، أي هو مثل ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيّها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏، وهو لعمري ممّا يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية‏:‏ إنّ ظاهر الآية لا يتضمّنه كيف ولا بدّ للاستئناف من نكتة‏.‏

والاستفهام للإنكار‏.‏ وقدّم المفعول الأول ل ‏{‏أتّخذ‏}‏ على الفعل وفاعله ليكون موالياً للاستفهام لأنّه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتّخاذ الوليّ‏.‏ وشأن همزة الاستفهام بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بدّ من بيان وجه العناية، وليس مفيداً للتخصيص في مثل هذا لظهور أنّ داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعيّن أن يكون لغرض غير ذلك‏.‏ فمن جعل التقديم هنا مفيداً للاختصاص، أي انحصار إنكار اتّخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شرّاح «الكشاف» فقد تكلّف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه، وكلام «الكشاف» بريء منه بل الحقّ أنّ التقديم هنا ليس إلاّ للاهتمام بشأن المقدّم ليليَ أداة الاستفهام فيعلم أن محلّ الإنكار هو اتّخاذ غير الله وليّاً، وأما مّا زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم‏.‏ ولعلّ الذي حداهم إلى ذلك أنّ المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل ‏{‏أفغير الله تأمروني أعبد‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ هو كلمة ‏{‏غير‏}‏ المضافة إلى اسم الجلالة، وهي عامّة في كلّ ما عدا الله، فكان الله ملحوظاً من لفظ المفعول فكان إنكار اتّخاذ الله وليّاً لأنّ إنكار اتّخاذ غيره وليّاً مستلزماً عدم إنكار اتّخاذ الله وليّاً، لأنّ إنكار اتّخاذ غير الله لا يبقى معه إلاّ اتّخاذ الله وليّاً؛ فكان هذا التركيب مستلزماً معنى القصر وآئلاً إليه وليس هو بدالّ على القصر مطابقة، ولا مفيداً لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنّه لو كان المفعول خلاف كلمة ‏(‏غير‏)‏ لما صحّ اعتبار القصر، كما لو قلت‏:‏ أزيداً أتتّخذ صديقاً، لم يكن مفيداً إلاّ إنكار اتّخاذ زيد صديقاً من غير التفات إلى اتّخاذ غيره، وإنّما ذلك لأنّك تراه ليس أهلاً للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك‏:‏ أتتّخذ زيداً صديقاً، إلاّ أنّك أردت توجّه الإنكار للمتّخذ لا للاتّخاذ اهتماماً به‏.‏

والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك‏.‏

ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جواباً لكلام هو المقصود منه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أفغير الله تَأمُرُونيَ أعْبُدُ أيّها الجاهلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إلى قوله قال أغير الله أبغيكم إلهاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وأشار صاحب «الكشاف» في قوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغي ربّاً‏}‏ الآتي في آخر السورة إلى أنّ تقديم ‏{‏غير الله‏}‏ على ‏{‏أبغي‏}‏ لكونه جواباً عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم‏.‏ قال الطيبي‏:‏ لأنّ كل تقديم إمّا للاهتمام أو لجواب إنكار‏.‏

والوليّ‏:‏ الناصر المدبّر، ففيه معنى العلم والقدرة‏.‏ يقال‏:‏ تولّى فلاناً، أي اتّخذه ناصراً‏.‏ وسمّي الحليف وليّاً لأنّ المقصود من الحلف النصرة‏.‏ ولمّا كان الإله هو الذي يرجع إليه عابده سمّي وليّاً لذلك‏.‏ ومن أسمائه تعالى الولي‏.‏

والفاطر‏:‏ المبدع والخالقُ‏.‏ وأصله من الفطر وهو الشقّ‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيات في بئر، فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتُها‏.‏ وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتّخذ وليّاً، فهو ناظر إلى قوله‏:‏ في أول السورة ‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وليس يغني عنه قوله قبله ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ لأنّ ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسبَاب بقائهم إلى أجل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهو يُطعم‏}‏ جملة في موضع الحال، أي يُعطي الناس ما يأكلونه ممّا أخرج لهم من الأرض‏:‏ من حبوب وثمار وكلأ وصيد‏.‏ وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلّم عندهم، لأنّهم يعترفون بأنّ الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنّما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة‏.‏ وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 63،‏]‏ 64‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏ولا يُطْعَمْ‏}‏ بضم الياء وفتح العين فتكميل دالّ على الغنى المطلق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أريد أن يطعِمونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏‏.‏ ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام‏.‏ ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدّمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أنّ الأصنام تنعم بذلك‏.‏

‏{‏قُلْ إنى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏‏.‏

استئناف مكرّر لأسلوب الاستئناف الذي قبله‏.‏ ومثار الاستئنافين واحد ولكن الغرض منهما مختلف، لأنّ ما قبله يحوم حول الاستدلال بدلالة العقل على إبطال الشرك، وهذا استدلال بدلالة الوحي الذي فيه الأمر باتّباع دين الإسلام وما بني عليه اسم الإسلام من صرف الوجه إلى الله، كما قال في الآية الأخرى ‏{‏فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏، فهذا إبطال لطعنهم في الدين الذي جاء به المسمّى بالإسلام، وشعاره كلمة التوحيد المبطلة للإشراك‏.‏

وبني فعل ‏{‏أمرت‏}‏ للمفعول، لأنّ فاعل هذا الأمر معلوم بما تكرّر من إسناد الوحي إلى الله‏.‏

ومعنى ‏{‏أوّل من أسلم‏}‏ أنّه أول من يتّصف بالإسلام الذي بعثه الله به، فهو الإسلام الخاصّ الذي جاء به القرآن، وهو زائد على ما آمن به الرسل من قبل، بما فيه من وضوح البيان والسماحة، فلا ينافي أنّ بعض الرسل وصفوا بأنّهم مسلمون، كما في قوله تعالى‏:‏ حكاية عن إبراهيم ويعقوب ‏{‏يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ وقد تقدّم بيان ذلك عند ذكر تلك الآية في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون المراد أول من أسلم ممّن دعوا إلى الإسلام‏.‏ ويجوز أن يكون الأول كناية عن الأقوى والأمكن في الإسلام، لأنّ الأول في كلّ عمل هو الأحرص عليه والأعلق به، فالأوليّة تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكى الله تعالى عن موسى قوله‏:‏ ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏ فإنّ كونه أوّلهم معلوم وإنّما أراد‏:‏ أنّي الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيماناً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

والمقصود من هذا على جميع الوجوه تأييس المشركين من عوده إلى دينهم لأنّهم ربّما كانوا إذا رأوا منه رحمة بهم وليناً في القول طمعوا في رجوعه إلى دينهم وقالوا إنّه دين آبائه‏.‏

وقوله‏:‏ ولا تكوننّ من المشركين‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏، أي قل لهم ذلك لييْأسوا‏.‏ والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام، لأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فذكر النهي عن الضدّ بعد ذلك تأكيد له، وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ تبعيضية، فمعنى ‏{‏من المشركين‏}‏ أي من جملة الذين يشركون، ويحتمل أنّ النهي عن الانتماء إلى المشركين، أي هو أمر بالبراءة منهم فتكون ‏{‏من‏}‏ اتّصالية ويكون ‏{‏المشركين‏}‏ بالمعنى اللقبي، أي الذي اشتهروا بهذا الاسم، أي لا يكن منك شيء فيه صلة بالمشركين، كقول النّابغة

‏:‏ ***‏.‏ فإنِّي لَسْتُ منك ولست منّي

والتأييس على هذا الوجه أشدّ وأقوى‏.‏

وقد يؤخذ من هذه الآية استدلال للمأثور عن الأشعري‏:‏ أنّ الإيمان بالله وحده ليس ممّا يجب بدليل العقل بل تتوقّف المؤاخذة به على بعثة الرسول، لأنّ الله أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن ينكر أن يتّخذ غير الله وليّاً لأنّه فاطر السماوات والأرض، ثم أمره أن يقول ‏{‏إنّي أمرت أن أكون أول من أسلم‏}‏ ثم أمره بما يدلّ على المؤاخذة بقوله‏:‏ ‏{‏إنّي أخاف إن عصيت ربّي إلى قوله فقد رحمه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

هذا استئناف مكرّر لما قبله، وهو تدرّج في الغرض المشترك بينها من أنّ الشرك بالله متوعّد صاحبه بالعذاب وموعود تاركه بالرحمة‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أتّخذ وليّاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ الآية رفض للشرك بالدليل العقلي، وقوله‏:‏ ‏{‏قل إنّي أمرت أن أكون أوّل من أسلم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ الآية، رفض للشرك امتثالاً لأمر الله وجلاله‏.‏

وقوله هنا‏:‏ ‏{‏قل إنّي أخاف‏}‏ الآية تجنّب للشرك خوفاً من العقاب وطمعاً في الرحمة‏.‏ وقد جاءت مترتّبة على ترتيبها في نفس الأمر‏.‏

وفهم من قوله‏:‏ ‏{‏إن عصيت ربّي‏}‏ أنّ الآمر له بأن يكون أول من أسلم والناهي عن كونه من المشركين هو الله تعالى‏.‏ وفي العدول عن اسم الجلالة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ربّي‏}‏ إيماء إلى أنّ عصيانه أمر قبيح لأنّه ربّه فكيف يعصيه‏.‏

وأضيف العذاب إلى ‏{‏يوم عظيم‏}‏ تهويلاً له لأنّ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق وانهزام فريق من المحاربين، فيكون اليوم نكالاً على المنهزمين، إذ يكثر فيهم القتل والأسر ويسام المغلوب سوء العذاب، فذكر ‏{‏يوم‏}‏ يثير من الخيال مخاوف مألوفة، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 189‏]‏ ولم يقل عذاب الظلّة أنّه كان عذاباً عظيماً‏.‏ وسيأتي بيان ذلك مفصّلاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن‏}‏ في سورة التغابن ‏(‏9‏)‏، وبهذا الاعتبار حسَن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب، لأنّ عظمة اليوم العظيم تستلزم عظم ما يقع فيه عرفاً‏.‏

وقوله‏:‏ من يصرف عنه يومئذٍ فقد رحمه‏}‏ جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة ل ‏{‏عذاب‏}‏‏.‏

و ‏{‏يصرف‏}‏ مبني للمجهول في قراءة الأكثر، على أنّه رافع لضمير العذاب أو لضمير ‏{‏من‏}‏ على النيابة عن الفاعل‏.‏ والضمير المجرور ب«عن» عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ أي يصرف العذاب عنه، أو عائد إلى العذاب، أي من يصرف هو عن العذاب، وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله‏:‏ ‏{‏يصرف‏}‏‏.‏

وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف ‏{‏يصرف‏}‏ بالبناء للفاعل على أنّه رافع لضمير ‏{‏ربّي‏}‏ على الفاعلية‏.‏

أمّا الضمير المستتر في ‏{‏رحمَهُ‏}‏ فهو عائد إلى ‏{‏ربّي‏}‏، والمنصوب عائد إلى ‏{‏مَن‏}‏ على كلتا القراءتين‏.‏

ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفّقه الله لتجنّب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدّر الله له الرحمة ويسّر له أسبابها‏.‏

والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله‏:‏ ‏{‏إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم‏}‏ كأنّه قال‏:‏ أرجو إن أطعته أن يرحمني ربّي، لأنّ من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة‏.‏ فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي‏.‏ وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول‏.‏ وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فرداً من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم‏.‏

ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وذلك الفوز المبين‏}‏‏.‏ والإشارة موجّهة إلى الصرف المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏من يصرف عنه‏}‏ أو إلى المذكور‏.‏ وإنّما كان الصرف عن العذاب فوزاً لأنّه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏‏.‏ و‏{‏المبين‏}‏ اسم فاعل من أبان بمعنى بان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

عطف على الجمل المفتتحة بفعل ‏{‏قل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 15‏]‏ فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

وهذا مؤذن بأنّ المشركين خوّفوا النبي صلى الله عليه وسلم أو عرّضوا له بعزمهم على إصابته بشرّ وأذى فخاطبه الله بما يثبّت نفسه وما يؤيس أعداءه من أن يستزلّوه‏.‏ وهذا كما حكي عن إبراهيم عليه السلام ‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنّكم أشركتم بالله ما لم ينزّل به عليكم سلطاناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 81‏]‏، ومن وراء ذلك إثبات أنّ المتصرّف المطلق في أحوال الموجودات هو الله تعالى بعد أن أثبت بالجمل السابقة أنّه محدث الموجودات كلّها في السماء والأرض، فجُعل ذلك في أسلوب تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم على عدم الخشية من بأس المشركين وتهديدهم ووعيدهم، ووعدُه بحصول الخير له من أثر رضى ربّه وحدَه عنه، وتحدّي المشركين بأنّهم لا يستطيعون إضراره ولا يجلبون نفعه‏.‏ ويحصل منه ردّ على المشركين الذين كانوا إذا ذُكّروا بأنّ الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن أقرّوا بذلك، ويزعمون أنّ آلهتهم تشفع عند الله وأنّها تجلب الخير وتدفع الشرّ، فلمَّا أبطلت الآيات السابقة استحقاق الأصنام الإلهية لأنّها لم تخلق شيئاً، وأوجبت عبادة المستحقّ الإلهية بحقّ، أبطلت هذه الآية استحقاقهم العبادة لأنّهم لا يملكون للناس ضرّاً ولا نفعاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 76‏]‏ وقال عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 73‏]‏‏.‏

وقد هيّأت الجمل السابقة موقعاً لهاته الجملة، لأنّه إذا تقرّر أنّ خالق الموجودات هو الله وحده لزم من ذلك أنّه مقدّر أحوالِهم وأعمالِهم، لأنّ كون ذلك في دائرة قدرته أولى وأحقّ بعد كون معروضات تلك العوارض مخلوقة له‏.‏ فالمعروضات العارضة للموجودات حاصلة بتقدير الله لأنّه تعالى مقدّر أسبابها، واضع نظام حصولها وتحصيلها، وخالق وسائل الدواعي النفسانية إليها أو الصوارف عنها‏.‏

والمسّ حقيقته وضع اليد على شيء‏.‏ وقد يكون مباشرة وقد يكون بآلة، ويستعمل مجازاً في إيصال شيء إلى شيء فيستعار إلى معنى الإيصال فيكثر أن يذكر معه ما هو مستعار للآلة‏.‏ ويدخل عليه حرف الآلة وهو الباء كما هنا، فتكون فيه استعارتان تبعيتان إحداهما في الفعل والأخرى في معنى الحرف، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تمسّوها بسوء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ وإن يصبك الله بضرّ، أو وإن ينلك من الله ضرّ‏.‏

والضُرّ بضم الضاد هو الحال الذي يؤلم الإنسان، وهو من الشرّ، وهو المنافر للإنسان‏.‏ ويقابله النفع، وهو من الخير، وهو الملائم‏.‏ والمعنى إن قدّر الله لك الضرّ فهلاّ يستطيع أحد كشفه عنك إلاّ هو إن شاء ذلك، لأنّ مقدّراته مربوطة ومحوطة بنواميس ونظم لا تصل إلى تحويلها إلاّ قدرة خالقها‏.‏

وقابل قوله‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله بضرّ‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك بخير‏}‏ مقابلة بالأعمّ، لأنّ الخير يشمل النفع وهو الملائم ويشمل السلامة من المنافر، للإشارة إلى أنّ المراد من الضرّ ما هو أعمّ، فكأنّه قيل‏:‏ إن يمسسك بضرّ وشرّ وإن يمسسك بنفع وخير، ففي الآية احتباك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ناب الضرّ في هذه الآية مناب الشرّ والشرّ أعمّ وهو مقابل الخير‏.‏ وهو من الفصاحة عدول عن قانون التكلّف والصنعة، فإنّ من باب التكلّف أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختصّ به ونظَّر هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 118، 119‏]‏‏.‏ اه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فهو على كلّ شيء قدير‏}‏ جعل جواباً للشرط لأنّه علّة الجواب المحذوف والجواببِ المذكور قبله، إذ التقدير‏:‏ وإن يمسسك بخير فلا مانع له لأنّه على كلّ شيء قدير في الضرّ والنفع‏.‏ وقد جعل هذا العموم تمهيداً لقوله بعده ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 18‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

هذه الجملة معطوفة على جملة ‏{‏وإن يمسسك الله بضرّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ الآية، والمناسبة بينهما أنّ مضمون كلتيهما يبطل استحقاق الأصنام العبادة‏.‏ فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرّف في أحوال المخلوقات، وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهراً على أحد أو خبيراً أو عالماً بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه، ولا جرم أنّ الإله تجب له القدرة والعلم، وهما جماع صفات الكمال، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضرّ وإحياء وإماتة، وهي تعلّقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظراً للعرف، وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنّها تعلّقات لها، وهو التحقيق‏.‏

ولذلك تتنزّل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأنّ التي قبلها ذكرت كمال تصرّفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم كما قدّمنا، وهذه الآية أوعت قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء، وذلك أصل جميع الفعل والصنع‏.‏

والقاهر الغالب المُكرِه الذي لا ينفلت من قدرته من عُدّي إليه فعل القهر‏.‏

وقد أفاد تعريف الجزأين القصر، أي لا قاهر إلاّ هو، لأنّ قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذاً، لأنّه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها‏.‏ وممّا يشاهد منها دوماً النوم وكذلك الموتُ‏.‏ سبحان من قهر العباد بالموت‏.‏

و ‏{‏فوق‏}‏ ظرف متعلَّق بِ ‏{‏القاهر‏}‏، وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنَّه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكاً‏.‏ وهو تمثيل بديع ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون ‏{‏وإنّا فوقهم قاهرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏‏.‏

ولا يفهم من ذلك جهة هي في علوّ كما قد يتوهّم، فلا تعدّ هذه الآية من المتشابهات‏.‏

والعباد‏:‏ هم المخلوقون من العقلاء، فلا يقال للدوابّ عباد الله، وهو في الأصل جمع عبد لكن الاستعمال خصّه بالمخلوقات، وخصّ العبيد بجمع عبد بمعنى المملوك‏.‏

ومعنى القهر فوق العباد أنّه خالق ما لا يدخل تحت قُدرهم بحيث يوجدُ ما لا يريدون وجوده كالموت، ويمنع ما يريدون تحصيله كالولد للعقيم والجهل بكثير من الأشياء، بحيث إنّ كلّ أحد يجد في نفسه أموراً يستطيع فعلها وأموراً لا يستطيع فعلها وأموراً يفعلها تارة ولا يستطيع فعلها تارة، كالمشي لمن خَدِرت رجله؛ فيعلم كلّ أحد أنّ الله هو خالق القُدر والاستطاعات لأنّه قد يمنعها، ولأنّه يخلق ما يخرج عن مقدور البشر، ثم يقيس العقل عوالم الغيب على عالم الشهادة‏.‏ وقد خلق الله العناصر والقوى وسلّط بعضها على بعض فلا يستطيع المدافعة إلاّ ما خوّلها الله‏.‏

والحكيم‏:‏ المحكم المتقن للمصنوعات، فعيل بمعنى مفعل، وقد تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 209‏]‏ وفي مواضع كثيرة‏.‏

والخبير‏:‏ مبالغة في اسم الفاعل من ‏(‏خَبَر‏)‏ المتعدّي، بمعنى ‏(‏علم‏)‏، يقال‏:‏ خبر الأمر، إذا علمه وجرّبه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّه مشتقّ من الخَبر لأنّ الشيء إذا علم أمكن الإخبار به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْللِ الله حكماً بينه وبين مكذّبيه، فالجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة الانتقال ظاهرة‏.‏

روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الكلبي‏:‏ أنّ رؤساء مكّة قالوا‏:‏ يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام‏.‏

و ‏(‏أي‏)‏ اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام، والمضاف إليه هنا هو ‏{‏شيء‏}‏ المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة‏.‏

و ‏{‏شَيء‏}‏ اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير، قيل‏:‏ هو الموجود، وقيل‏:‏ هو ما يعلم ويصحّ وجوده‏.‏ والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم‏.‏ ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏

وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة ‏(‏شيء‏)‏ ومواقع ضعفها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 155‏]‏‏.‏

‏(‏‏{‏وأكبَرُ‏}‏ هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل قتال فيه كبير‏}‏ وقد تقدّم في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها‏.‏

وقوله‏:‏ شهادة‏}‏ تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة‏.‏ فالمعنى‏:‏ أيّة شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بِ ‏{‏أي‏}‏ فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه‏.‏

والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شهادة بينكم‏}‏ في سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏‏.‏

ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 8‏]‏ أي أن تُشهد الله على كذب الزوج، أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإنّ لفظ ‏(‏أشهد الله‏)‏ من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم، وبذلك يظهر موقع قوله‏:‏ ‏{‏الله شهيد بيني وبينكم‏}‏، أي أشهده عليكم‏.‏

وقريب منه ما حكاه الله عن هود ‏{‏قال إنّي أشهد الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ جواب للسؤال، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب ‏{‏قل‏}‏‏.‏ وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره، على نحو ما بيّنّاه في قوله‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ ووقع قوله‏:‏ ‏{‏الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ جواباً على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير‏:‏ قل شهادة الله أكبر شهادة، فالله شهيد بيني وبينكم، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازاً كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم‏.‏

وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم ‏(‏شيء‏)‏ على الله تعالى لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏الله شهيد‏}‏ وقع جواباً عن قوله‏:‏ ‏{‏أي شيء‏}‏ فاقتضى إطلاق اسم ‏(‏شيء‏)‏ خبراً عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحاً‏.‏ وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم‏.‏ وهذا قول الأشعرية خلافاً لجهم بن صفوان وأصحابه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏شهيد بيني وبينكم‏}‏ أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى‏.‏ والمقصود‏:‏ إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة‏.‏ ووجه ذكر ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ أنّ الله شهيد له، كما هو مقتضى السياق‏.‏ فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأوحي إليّ هذا القرآن‏}‏ عطف على جملة ‏{‏الله شهيد بيني وبينكم‏}‏، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة‏.‏ وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل‏.‏ فعطف ‏{‏وأوحي إلي هذا القرآن‏}‏ من عطف الخاصّ على العامّ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هذا القرآن‏}‏ إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع‏.‏ وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيَّن المقصود بالإشارة‏.‏

واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلاّ الإنذار، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار، ولذلك قال ‏{‏لأنذركم به‏}‏ مصرَّحاً بضمير المخاطبين‏.‏ ولم يقل‏:‏ لأنذر به، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر‏.‏ على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة‏.‏

‏{‏ومن بلغ‏}‏ عطف على ضمير المخاطبين، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن، كما قال أبو علي الفارسي‏.‏

وعموم ‏{‏مَن‏}‏ وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور‏.‏

‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِى بَرِئ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم‏.‏ فهي استئناف بعد جملة ‏{‏أيّ شيء أكبر شهادة‏}‏‏.‏ خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا؛ استأنف استفهاماً على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال‏:‏ أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام‏.‏

وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب ‏(‏إنّ‏)‏ ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممَّا لا يكاد يصدَّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّديْن فيقول‏:‏ إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم، فيفيد مثلُ هذا التركيب إنكارين‏:‏ أحدهما صريح بأداة الإنكار، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم‏.‏

ومعنى ‏{‏لتشهدون‏}‏ لتدّعونا دعوى تحقَّقونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع، فإطلاق ‏{‏تشهدون‏}‏ مشاكلة لقوله ‏{‏قل الله شهيد بيني وبينكم‏}‏‏.‏

والآلهة جمع إله، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيهاً على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل لا أشهد‏}‏ جواب للاستفهام الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أإنّكم لتشهدون‏}‏ لأنّه بتقدير‏:‏ قل أإنّكم، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّئ المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول‏:‏ دعْنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك‏.‏ ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن شهدوا فلا تشهد معهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قل إنّما هو إله واحد‏}‏ بيان لجملة ‏{‏لا أشهد‏}‏ فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ‏.‏

وكلمة ‏{‏إنّما‏}‏ أفادت الحصر، أي هو المخصوص بالوحدانية‏:‏ ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرّئ من ضدّه بقوله‏:‏ ‏{‏وإنّني بريء ممَّا تشركون‏}‏‏.‏ وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ممّا تشركون‏}‏ يجوز كونها مصدرية، أي من إشراككم‏.‏ ويجوز كونها موصولة، وهو الأظهر، أي من أصنامكم التي تشركون بها، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنسجد لما تأمرنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ أي بتعظيمه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ أي بالجهر به‏.‏ وظاهر كلام «التسهيل» أنّ هذا ممنوع، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

جملة مستأنفة انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله المشركين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخبار عامّ كسائر أخبار القرآن‏.‏ أظهر الله دليلاً على صدق الرسول فيما جاء به بعد شهادة الله تعالى التي في قوله ‏{‏قل الله شهيد بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، فإنّه لمَّا جاء ذكر القرآن هنالك وقع هذا الانتقال للاستشهاد على صدق القرآن المتضمّن صدق من جاء به، لأنّه هو الآية المعجزة العامَّة الدائمة‏.‏ وقد علمت آنفاً أنّ الواحدي ذكر أنّ رؤساء المشركين قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم قد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرك ولا صفتك إلى آخره؛ فإذا كان كذلك كان التعرّض لأهل الكتاب هنا إبطالاً لما قالوه أنّه ليس عندهم ذكر النبي ولا صفته، أي فهم وأنتم سواء في جحد الحقّ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ بعض أهل الكتاب، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها‏.‏ وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس‏.‏

فالضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏يعرفونه‏}‏ عائد إلى القرآن الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وأوحي إليّ هذا القرآن‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏‏.‏ والمراد أنَّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم، ومن ذلك رسالة من جاء به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم من البشارة به‏.‏ والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏

والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما يعرفون أبناءهم‏}‏ تشبيه المعرفة بالمعرفة‏.‏ فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ ضمير ‏{‏يعرفونه‏}‏ عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏إنّما هو إله واحد‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ وهذا بعيد‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحاً ولا تأويلاً‏.‏ ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجَّة وهي القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏ استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله ‏{‏ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 87‏]‏‏.‏ فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول أهل الكتاب، كقوله ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بهم أهل الكتاب، أي الذين كتموا الشهادة، فيكون ‏{‏الذين خسروا‏}‏ بدلاً من ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 20‏]‏‏.‏ فالمراد بهم المشركون مثل قوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‏}‏ وقد تقدَّم نظيره في سورة البقرة ‏(‏114‏)‏‏.‏ والمراد بافترائهم عقيدة الشرك في الجاهلية بما فيها من تكاذيب، وبتكذيبهم الآيات تكذيبهم القرآن بعد البعثة‏.‏ وقد جعل الآتي بواحدة من هاتين الخصلتين أظلم الناس فكيف بمن جمعوا بينهما‏.‏

وجملة‏:‏ إنّه لا يفلح الظالمون‏}‏ تذييل، فلذلك فصلت، أي إذا تحقّق أنّهم لا أظلم منهم فهم غير مفلحين، لأنّه لا يفلح الظالمون فكيف بمن بلغ ظلمه النهاية، فاستغنى بذكر العلّة عن ذكر المعلول‏.‏

وموقع ‏(‏إنّ‏)‏ في هذا المقام يفيد معنى التعليل للجملة المحذوفة، كما تقرّر في كلام عبد القاهر‏.‏ وموقع ضمير الشأن معها أفاد الاهتمام بهذا الخبر اهتمام تحقيق لتقع الجملة الواقعة تفسيراً له في نفس السامع موقع الرسوخ‏.‏

والافتراء الكذب المتعمّد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذباً‏}‏ مصدر مؤكَّد له، وهو أعمّ من الافتراء‏.‏ والتأكيد يحصل بالأعم، كما قدّمناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏103‏)‏، وقد نفى فلاحهم فعمّ كلّ فلاح في الدنيا والآخرة، فإنّ الفلاح المعتدّ به في نظر الدين في الدنيا هو الإيمان والعمل، وهو سبب فلاح الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏، أو على جملة ‏{‏إنّه لا يفلح الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏، فإنّ مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة ‏{‏ومن أظلم‏}‏ ومضمون جملة ‏{‏إنّه لا يفلح الظالمون‏}‏، لأنّ مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح، ولأنّ مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك‏.‏

وانتصب ‏{‏يومَ‏}‏ على الظرفية، وعامله محذوف، والأظهر أنّه يقدّر ممَّا تدلّ عليه المعطوفات وهي‏:‏ نقول، أو قالوا، أو كذّبوا، أو ضلّ، وكلّها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف، وليست تلك الأفعال متعلّقاً بها الظرف بل هي دلالة على المتعلّق المحذوف، لأنّ المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم‏:‏ ‏{‏أين شركاؤكم‏}‏، وتصوير تلك الحالة المهولة‏.‏

وقدّر في «الكشاف» الجواب ممَّا دلّ عليه مجموع الحكاية‏.‏ وتقديره‏:‏ كان ما كان، وأنَّ حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف‏.‏ وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمَّة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلّقات‏.‏ والأحسن عندي أنّه إنَّما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلاّ فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشدّ منه بالإبهام إذا كان كلّ جزء من التفصيل حاصلاً به تخويف‏.‏ وقدّر بعض المفسّرين‏:‏ اذكر يوم نحشرهم‏.‏ ولا نكتة فيه‏.‏ وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرّج عليها‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏نحشرهم‏}‏ يعود إلى ‏{‏من افترى على الله كذباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏ أو إلى ‏{‏الظالمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21‏]‏ إذ المقصود بذلك المشركون، فيؤذن بمشركين ومشرَك بهم‏.‏ وللتنبيه على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ ليدلَّ على قصد الشمول، فإنَّ شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردّد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول، فتعيّن أنّ ذكر ‏{‏جميعاً‏}‏ قصد منه التنبيه‏.‏ على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم، فيكون نظير قوله‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ وانتصب ‏{‏جميعاً‏}‏ هنا على الحال من الضمير‏.‏

والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلّة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به، لأنّهم لو كانوا غائبين لظنّوا أنّهم لو حصروا لشفعوا، أو أنّهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم، فإنّ الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم‏.‏ قال النابغة‏:‏

يأملْن رحلة نصر وابن سيّار ***

وعطف ‏{‏نقولُ‏}‏ بِ ‏{‏ثم‏}‏ لأنّ القول متأخّر عن زمن حشرهم بمهلة لأنّ حصّة انتظار المجرم ما سيحلّ به أشدّ عليه، ولأنّ في إهمال الاشتغال بهم تحقيراً لهم‏.‏

وتفيد ‏{‏ثم‏}‏ مع ذلك الترتيب الرتبي‏.‏

وصرّح بِ ‏{‏الذين أشركوا‏}‏ لأنّهم بعض ما شمله الضمير، أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع‏.‏

وأصل السؤال ب ‏{‏أين‏}‏ أنَّه استفهام عن المكان الذي يحلّ فيه المسند إليه، نحو‏:‏ أين بيتك، وأين تذهبون‏.‏ وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له، فيراد الاستفهام عن سبب عدمه، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة ‏{‏أين تقديم الصلاة‏}‏‏.‏ وقد يسأل ب ‏{‏أين‏}‏ عن عمل أحد كان مرجوّاً منه، فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بِ ‏{‏أين‏}‏، كأنّ السائل يبحث عن مكانه تنزيلاً له منزلة الغائب المجهول مكانه؛ فالسؤال ب ‏{‏أين‏}‏ هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلّت عليه آيات أخرى‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والاستفهام توبيخي عمّا كان المشركون يزعمونه من أنّها تشفع لهم عند الله، أو أنّها تنصرهم عند الحاجة، فلمّا رأوها لا غناء لها قيل لهم‏:‏ أين شركاؤكم، أي أين عملهم فكأنّهم غُيّب عنهم‏.‏

وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنّهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلاّ في اعتقاد المشركين، فلذلك قيل ‏{‏شركاؤكم‏}‏‏.‏ وهذا كقول أحد أبطال العرب لعَمرو بن معد يكرب لمّا حدّث عمرو في جمع أنّه قتله، وكان هو حاضراً في ذلك الجمع، فقال له‏:‏ «مَهْلاً أبا ثور قتيلك يسمع»، أي المزعوم أنّه قتيلك‏.‏

ووصفوا ب ‏{‏الذين كنتم تزعمون‏}‏ تكذيباً لهم؛ وحذف المفعول الثاني ل ‏{‏تزعمون‏}‏ ليعمّ كلّ ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة؛ أمّا المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب‏.‏

والزعم‏:‏ ظنّ يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتّهم صاحبه، فيقال‏:‏ زعم، بمعنى أنّ عهدة الخبر عليه لا على الناقل، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون‏}‏ الآية في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا‏}‏ في سورة ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ثم نقول‏}‏ و‏(‏ثم‏)‏ للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه‏.‏

والفتنة أصلها الاختبار، من قولهم‏:‏ فتنَ الذهَب إذا اختبر خلوصه من الغلْث‏.‏ وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله، لأنّ مثل ذلك يدلّ على مقدار ثبات من يناله، فقد يكون ذلك في حالة العيش؛ وقد يكون في البغض والحبّ؛ وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور‏.‏ وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

‏{‏وفتنتهم‏}‏ هنا استثني منها ‏{‏أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏، فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء، فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة‏.‏

فالتقدير‏:‏ لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلاّ قولهم ‏{‏والله ربّنا ما كنا مشركين‏}‏‏.‏

وإمّا أن يكون القول المستثنى دالاً على فتنتهم، أي على أنّهم في فتنة حين قالوه‏.‏ وأيّاً ما كان فقولهم‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ متضمّن أنّهم مفتونون حينئذٍ‏.‏

وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر، ويكون في الكلام إيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فافتتنوا في ماذا يجيبون، فكان جوابهم أن قالوا‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏ فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها‏.‏

ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه، أي تجريب حالة نفسه‏.‏

ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار‏.‏ والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسؤول من العلم، أو من الصدق وضدّه، ويتعيّن حينئذٍ تقدير مضاف، أي لم يكن جواب فتنتهم، أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلاّ أن قالوا‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لم تكن‏}‏ بتاء تأنيث حرف المضارعة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أنّ ‏{‏قالوا‏}‏ هو اسم ‏(‏كان‏)‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏فتنتهم‏}‏ بالنصب على أنّه خبر ‏(‏كان‏)‏، فتكون ‏(‏كان‏)‏ ناقصة واسمها ‏{‏إلاّ أن قالوا‏}‏ وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور‏.‏

وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم بالرفع على أنّه اسم ‏(‏كان‏)‏ و‏{‏أنْ قالوا‏}‏ خبر ‏(‏كان‏)‏، فتجعل ‏(‏كان‏)‏ تامّة‏.‏ والمعنى لم توجد فتنة لهم إلاّ قولهم‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏، أي لم تقع فتنتهم إلاّ أن نفوْا أنّهم أشركوا‏.‏

ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب ‏{‏فتنتهم‏}‏ هو أنّ فاعله مؤنَّث تقديراً، لأنّ القول المنسبك من ‏(‏أن‏)‏ وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين‏.‏ قال أبو علي الفارسي‏:‏ وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ربّنا‏}‏ بالجرّ على الصفة لاسم الجلالة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بالنصب على النداء بحذف حرفه‏.‏

وذكرُهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك، أي لا ربّ لنا غيره‏.‏ وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جرياً على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة، لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه، ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب‏.‏ ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذٍ، لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له، ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا‏.‏

وفي «صحيح البخاري»‏:‏ أنّ رجلاً قال لابن عباس‏:‏ إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، فذكر منها قوله‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله ربّنا ما كنّا مشركين‏}‏‏.‏ فقد كتموا في هذه الآية‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون تعالوا نقل‏:‏ ما كنّا مشركين، فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يُكتم حديثاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ جعل حالهم المتحدّث عنه بمنزلة المشاهد، لصدوره عمّن لا خلاف في أخباره، فلذلك أمر سامعه أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدلّ على النظر إليه كأنّه مشاهد حاضر‏.‏

والأظهر أنّ ‏{‏كيف‏}‏ لمجرّد الحال غير دالّ على الاستفهام‏.‏ والنظر إلى الحالة هو النظر إلى أصحابها حين تكيّفهم بها‏.‏ وقد تقدّمت له نظائر منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وجعل كثير من المفسّرين النظر هنا نظراً قلبياً فإنّه يجيء كما يجيء فعل الرؤية فيكون معلّقاً عن العمل بالاستفهام، أي تأمّل جواب قول القائل‏:‏ كيف يفترون على الله الكذب تجده جواباً واضحاً بيّناً‏.‏

ولأجل هذا التحقّق من خبر حشرهم عبّر عن كذبهم الذي يحصل يوم الحشر بصيغة الماضي في قوله‏:‏ كذبوا على أنفسهم‏}‏‏.‏ وكذلك قوله ‏{‏وضلّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏‏.‏

وفعل ‏(‏كذب‏)‏ يعدّى بحرف ‏(‏على‏)‏ إلى من يخبّر عنه الكاذب كذباً مثل تعديته في هذه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏من كذب عليّ معتمداً فليتبوّأ مقعده من النار‏}‏، وأمّا تعديته إلى من يخبره الكاذب خبراً كذباً فبنفسه، يقال‏:‏ كذبك، إذا أخبرك بكذب‏.‏

وضلّ بمعنى غاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضلَلْنا في الأرض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏، أي غيّبنا فيها بالدفن‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ موصولة و‏{‏يفترون‏}‏ صلتها، والعائد محذوف، أي يختلقونه وماصْدق ذلك هو شركاؤهم‏.‏ والمراد‏:‏ غيبة شفاعتهم ونصرهم لأنّ ذلك هو المأمول منهم فلمّا لم يظهر شيء من ذلك نُزّل حضورهم منزلة الغيبة، كما يقال‏:‏ أُخِذتَ وغاب نصيرك، وهو حاضر‏.‏