فصل: تفسير الآية رقم (38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

معنى هذه الآية غامض بدءاً‏.‏ ونهايتها أشدّ غموضاً، وموقعها في هذا السياق خفي المناسبة‏.‏ فاعلَم أنّ معنى قوله‏:‏ ‏{‏وما من دابّة في الأرض إلى قوله إلاّ أمم أمثالكم‏}‏ أنّ لها خصائص لكلّ جنس ونوع منها كما لأمم البشر خصائصها، أي جعل الله لكلّ نوع ما به قوامه وألهمه اتِّباع نظامه وأنّ لها حياة مؤجّلة لا محالة‏.‏

فمعنى ‏{‏أمثالكم‏}‏ المماثلة في الحياة الحيوانية وفي اختصاصها بنظامها‏.‏

وأمّا معنى قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربّهم يحشرون‏}‏ أنّها صائرة إلى الموت‏.‏ ويعضّده ما روي عن ابن عباس‏:‏ حشر البهائم موتها، أي فالحشر مستعمل في مجاز قريب إلى حقيقته اللغوية التي في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحشر لسليمان جنوده‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 17‏]‏‏.‏ فموقع هذه الآية عند بعض المفسّرين أنّها بمنزلة الدليل على مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنّ الله قادر على أن ينزّل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏، فيجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏إنّ الله قادر على أن ينزّل آية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ على أنّها من جملة ما أمر النبي بأن يقوله لهم؛ ويجوز أن تكون معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قُل إنّ الله قادر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ على أنّها من خطاب الله لهم‏.‏ أي أنّ الذي خلق أنواع الأحياء كلِّها وجعلها كالأمم ذات خصائص جامعة لأفراد كلّ نوع منها فكان خلقها آية على عظيم قدرته لا يعجزه أن يأتي بآية حسب مقترحكم ولكنّكم لا تعلمون الحكمة في عدم إجابتكم لما سألتم‏.‏ ويكون تعقيبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبُكْم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 39‏]‏ الآية واضح المناسبة، أي لا يهتدون إلى ما في عوالم الدواب والطير من الدلائل على وحدانية الله‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ إلى ربّهم يحشرون‏}‏ فإن نظرنا إليه مستقلاً بنصّه غير ملتفتين إلى ما نيط به من آثار مروية في تفسيره؛ فأول ما يبدو للناظر أنّ ضميري ‏{‏ربّهم‏}‏ و‏{‏يحشرون‏}‏ عائدان إلى ‏{‏دابّة‏}‏ و‏{‏طائر‏}‏ باعتبار دلالتهما على جماعات الدّواب والطير لوقوعهما في حيّز حرف ‏(‏مِنْ‏)‏ المفيدة للعموم في سياق النفي، فيتساءل الناظر عن ذلك وهما ضميران موضوعان للعقلاء‏.‏ وقد تأولوا لوقوع الضميرين على غير العقلاء بوجهين‏:‏ أحدهما أنّه بناءٌ على التغليب إذ جاء بعده ‏{‏إلاّ أمم أمثالكم‏}‏‏.‏ الوجه الثاني أنّهما عائدان إلى ‏{‏أمم أمثالكم‏}‏، أي أنّ الأمم كلّها محشورة إلى الله تعالى‏.‏

وأحسن من ذلك تأويلاً أن يكون الضميران عائديْن إلى ما عادت إليه ضمائر الغيبة في هذه الآيات التي آخرها ضمير ‏{‏وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربّه‏}‏، فيكون موقع جملة ‏{‏ثم إلى ربّهم يحشرون‏}‏ موقع الإدماج والاستطراد مجابهة للمشركين بأنَّهم محشورون إلى الله لا محالة وإن أنكروا ذلك‏.‏

فإذا وقع الإلتفات إلى ما روي من الآثار المتعلّقة بالآية كان الأمر مُشكلاً‏.‏

فقد روى مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لتُؤَدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يقاد للشّاة الجلحاء ‏(‏التي لا قرن لها، وفي رواية غيره‏:‏ الجَماء‏)‏ من الشاة القرناء ‏"‏ وروى أحمد بن حنبل وأبو داوود الطيالسي في «مسنديهما» عن أبي ذرّ قال‏:‏ انتطحت شاتان أو عنزان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا، قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ لكن الله يدري وسيقضي بينهما يوم القيامة‏.‏ فهذا مقتض إثبات حشر الدوابّ ليوم الحساب، فكان معناه خفي الحكمة إذ من المحقّق انتفاء تكليف الدوابّ والطير تبعاً لانتفاء العقل عنها‏.‏ وكان موقعها جلي المناسبة بما قاله الفخر نقلاً عن عبد الجبّار بأنّه لمّا قدّم الله أنّ الكفّار يُرجعون إليه ويحشرون بيّن بعده أنّ الدوابّ والطير أمم أمثالهم في أنّهم يحشرون‏.‏ والمقصود بيان أنّ الحشر والبعث كما هو حاصل في الناس حاصل في البهائم‏.‏ وهذا ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏يحشرون‏}‏ لأنّ غالب إطلاق الحشر في القرآن على الحشر للحساب، فيناسب أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏وما من دابّة في الأرض‏}‏ الآية عطفاً على جملة‏:‏ ‏{‏والموتى يبعثهم الله‏}‏، فإنّ المشركين ينكرون البعث ويجعلون إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام به من أسباب تهمته فيما جاء به، فلمّا توعّدهم الله بالآية السابقة بأنّهم إليه يرجعون زاد أن سجّل عليهم جهلهم فأخبرهم بما هو أعجب ممّا أنكروه، وهو إعلامهم بأنّ الحشر ليس يختصّ بالبشر بل يعمّ كلّ ما فيه حياة من الدّوابّ والطير‏.‏ فالمقصود من هذا الخبر هو قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربّهم يحشرون‏}‏‏.‏ وأمّا ما قبله فهو بمنزلة المقدمة له والاستدلال عليه، أي فالدّوابّ والطير تبعث مثل البشر وتحضر أفرادها كلّها يوم الحشر، وذلك يقتضي لا محالة أن يقتصّ لها، فقد تكون حكمة حشرها تابعة لإلقاء الأرض وما فيها وإعادة أجزاء الحيوان‏.‏

وإذا كان المراد من هذين الحديثين ظاهرهما فإنّ هذا مظهر من مظاهر الحق يوم القيامة لإصلاح ما فرط في عالم الفناء من رواج الباطل وحكم القوة على العدالة، ويكون القصاص بتمكين المظلوم من الدوابّ من ردّ فعل ظالمه كيلا يستقرّ بالباطل‏.‏ فهو من قبيل ترتّب المسبّبات على أسبابها شبيه بخطاب الوضع، وليس في ذلك ثواب ولا عقاب لانتفاء التكليف ثم تصير الدواب يومئذٍ تراباً، كما ورد في رواية عن أبي هريرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏‏.‏ قال المازري في المُعَلِم‏:‏ واضطرب العلماء في بعث البهائم‏.‏ وأقوى ما تعلّق به من يقول ببعثها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا الوحوش حشرت‏}‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ هذا كلّه تمثيل للعدل‏.‏ ونسبه المازري إلى بعض شيوخه قال‏:‏ هو ضرب مَثل إعلاماً للخلق بأن لا يبقى حقّ عند أحد‏.‏

والدابّة مشتقّة من دبّ إذا مشى على الأرض، وهي اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ صفة قصد منها إفادة التعميم والشمول بذكر اسم المكان الذي يحوي جميع الدوابّ وهو الأرض، وكذلك وصف ‏{‏طائر‏}‏ بقوله ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ قصد به الشمول والإحاطة، لأنّه وصف آيل إلى معنى التوكيد، لأنّ مفاد ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ أنَّه طائر، كأنَّه قيل‏:‏ ولا طائر ولا طائر‏.‏ والتوكيد هنا يؤكّد معنى الشمول الذي دلّت عليه ‏(‏من‏)‏ الزائدة في سياق النفي؛ فحصل من هذين الوصفين تقرير معنى الشمول الحاصل من نفي اسمي الجنسين‏.‏ ونكتة التوكيد أنّ الخبر لغرابته عندهم وكونه مظنّة إنكارهم أنَّه حقيق بأن يؤكّد‏.‏

ووقع في «المفتاح» في بحث إتباع المسند إليه بالبيان أنّ هذين الوصفين في هذه الآية للدلالة على أنّ القصد من اللفظين الجنس لا بعض الأفراد وهو غير ما في «الكشاف»، وكيف يتوهَّم أنّ المقصود بعض الأفراد ووجود ‏(‏مِن‏)‏ في النفي نصّ على نفي الجنس دون الوحدة‏.‏

وبهذا تعلم أن ليس وصف ‏{‏يطير بجناحيه‏}‏ وارداً لرفع احتمال المجاز في ‏{‏طائر‏}‏ كما جنح إليه كثير من المفسِّرين وإن كان رفع احتمال المجاز من جملة نكت التوكيد اللفظي إلاّ أنّه غير مطّرد، ولأنّ اعتبار تأكيد العموم أولى، بخلاف نحو قولهم‏:‏

نظرته بعيني وسمعته بأذني‏.‏ وقول صخْر‏:‏

شر واتّخذت من شَعَر صدارها ***

إذ من المعلوم أنّ الصّدار لا يكون إلاّ من شَعَر‏.‏

و ‏{‏أمم‏}‏ جمع أمّة‏.‏ والأمّة أصلها الجماعة من الناس المتماثلة في صفات ذاتية من نسب أو لغة أو عادة أو جنس أو نوع‏.‏ قيل‏:‏ سمّيت أمة لأنّ أفرادها تؤمّ أمَماً واحداً وهو ما يجمع مقوّماتها‏.‏

وأحسب أنّ لفظ أمَّة خاصّ بالجماعة العظيمة من البشر، فلا يقال في اللغة أمّة الملائكة ولا أمّة السباع‏.‏ فأمّا إطلاق الأمم على الدّوابّ والطير في هذه الآية فهو مجاز، أي مثل الأمم لأنّ كلّ نوع منها تجتمع أفراده في صفات متّحدة بينها أمماً واحدة، وهو ما يجمعها وأحسب أنّها خاصّة بالبشر‏.‏

و ‏{‏دابّة‏}‏ و‏{‏طائر‏}‏ في سياق النفي يُراد بهما جميع أفراد النوعين كما هو شأن الاستغراق، فالإخبار عنهما بلفظ ‏{‏أمم‏}‏ وهو جمع على تأويله بجماعاتها، أي إلاّ جماعاتها أمم، أو إلاّ أفراد أمم‏.‏

وتشمل الأرض البحر لأنَّه من الأرض ولأنّ مخلوقاته يطلق عليها لفظ الدابَّة، كما ورد في حديث سرية سِيف البحر قول جابر بن عبد الله‏:‏ فألقى لنا البحر دابّة يقال لها العنبر‏.‏

والمماثلة في قوله‏:‏ ‏{‏أمثالكم‏}‏ التشابه في فصول الحقائق والخاصّات التي تميّز كلّ نوع من غيره، وهي النظم الفطرية التي فطر الله عليها أنواع المخلوقات‏.‏ فالدّواب والطير تُماثل الأناسي في أنّها خلقت على طبيعة تشترك فيها أفراد أنواعها وأنّها مخلوقة لله معطاة حياة مقدّرة مع تقدير أرزاقها وولادتها وشبابها وهرمها، ولها نظم لا تستطيع تبديلها‏.‏

وليست المماثلة براجعة إلى جميع الصفات فإنّها لا تماثل الإنسان في التفكير والحضارة المكتسبة من الفكر الذي اختصّ به الإنسان‏.‏ ولذلك لا يصحّ أن يكون لغير الإنسان نظام دولة ولا شرائع ولا رسل ترسل إليهن لانعدام عقل التكليف فيهنّ، وكذلك لا يصحّ أن توصف بمعرفة الله تعالى‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنْ من شيء إلاّ يُسبّح بحمده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ فذلك بلسان الحال في العجماوات حين نراها بَهِجَة عند حصول ما يلائمها فنراها مرحة فرحة‏.‏ وإنّما ذلك بما ساق الله إليها من النعمة وهي لا تفقه أصلها ولكنّها تحسّ بأثرها فتبتهج، ولأنّ في كل نوع منها خصائص لها دلالة على عظيم قدرة الله وعلمه تختلف عن بقية الأنواع من جنسه والمقصد من هذا صرف الأفهام إلى الاعتبار بنظام الخلق الذي أودعه الله في كلّ نوع، والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أمثالكم‏}‏ موجّه إلى المشركين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته‏.‏ فالكتاب هنا بمعنى المكتوب، وهو المكنّى عنه بالقلم المراد به ما سبق في علم الله وإرادته الجارية على، وفْقِه كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقيل الكتاب القرآن‏.‏ وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير، فقد أورد كيف يشتمل القرآن على كلّ شيء‏.‏ وقد بسط فخر الدين بيان ذلك لاختيار هذا القول وكذلك أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات»‏.‏

والتفريط‏:‏ الترك والإهمال، وتقدّم بيانه آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 31‏]‏‏.‏

والشيء هو الموجود‏.‏ والمراد به هنا أحوال المخلوقات كما يدلّ عليه السياق فشمل أحوال الدّواب والطير فإنّها معلومة لله تعالى مقدّرة عنده بما أودع فيها من حكمة خلقه تعالى‏.‏

وقوله ‏{‏ثم إلى ربِّهم يحشرون‏}‏ تقدّم تفسيره آنفاً في أوّل تفسير هذه الآية‏.‏ وفي الآية تنبيه للمسلمين على الرفق بالحيوان فإنّ الإخبار بأنّها أمم أمثالنا تنبيه على المشاركة في المخلوقية وصفات الحيوانية كلّها‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربِّهم يحشرون‏}‏ إلقاء للحذر من الاعتداء عليها بما نهى الشرع عنه من تعذيبها وإذا كان يقتصّ لبعضها من بعض وهي غير مكلّفة، فالاقتصاص من الإنسان لها أولى بالعدل‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ أنّ الله شكر للذي سقى الكلب العطشان، وأنّ الله أدخل امرأة النار في هرّة حبستها فماتت جوعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الواو للعطف، والمعطوف عليه جملة‏:‏ ‏{‏إنّما يستجيب الذين يسمعون‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ والذين كذّبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها، أي لا يستجيبون بمنزلة صمّ وبكم في ظلمات لا يهتدون‏.‏

ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية، أي عاطفة كلاماً مبتدأ ليس مرتبطاً بجملة معيّنة من الكلام السابق ولكنّه ناشيء عن جميع الكلام المتقدّم‏.‏ فإنّ الله لمّا ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرّف الناس بوحدانيته ويدلّهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أنّ المكذّبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك، وعن التأمّل والتفكير فيه، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة‏:‏ ‏{‏وما من دابة في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ الآية قد تعرّضنا إليها آنفاً‏.‏

والمراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموماً وخصوصاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صمّ وبكم في الظلمات‏}‏ تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ وبُكم في ظلام‏.‏ فالصّمم يمنعهم من تلقِّي هدى من يهديهم، والبكَم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم، والظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم‏.‏

وإنَّما قيل في ‏{‏الظلمات‏}‏ ولم يوصفوا بأنَّهم عُمّي كما في قوله‏:‏ ‏{‏عُميا وبُكما وصمّا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبَّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبَّهة، فإنّ الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «الظلم ظلمات يوم القيامة» فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل‏.‏ وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة، كقول بشّار‏:‏

كأنّ مُثَار النّقع فوقَ رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تَهادَى كواكبُه

وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفرداً‏.‏ وقد تقدّم في صدر السورة، وقيل‏:‏ للإشارة إلى ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة العناد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صمّ وبكم‏}‏ خبر ومعطوف عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في الظلمات‏}‏ خبر ثالث لأنّه يجوز في الأخبار المتعددة ما يجوز في النعوت المتعدّدة من العطف وتركه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من يشأ الله يضلله‏}‏ استئناف بياني لأنّ حالهم العجيبة تثير سؤالاً وهو أن يقول قائل ما بالهم لا يهتدون مع وضوح هذه الدلائل البيّنات، فأجيب بأنّ الله أضلّهم فلا يهتدون، وأنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فدلّ قوله‏:‏ ‏{‏من يشأ الله يضلله‏}‏ على أنّ هؤلاء المكذّبين الضالّين هم ممَّن شاء الله إضلالهم على طريقة الإيجاز بالحذف لظهور المحذوف، وهذا مرتبط بما تقدّم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏‏.‏

ومعنى إضلال الله تقديره الضلال؛ بأن يخلق الضّالّ بعقل قابل للضلال مُصرّ على ضلاله عنيد عليه فإذا أخذ في مبادئ الضلال كما يعرض لكثير من الناس فوعظه واعظ أو خطر له في نفسه خاطر أنَّه على ضلال منعه إصراره من الإقلاع عنه فلا يزال يهوي به في مهاوي الضلالة حتَّى يبلغ به إلى غاية التخلّق بالضلال فلا ينكفّ عنه‏.‏

وهذا ممّا أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4، 5‏]‏، ودلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ الرجل ليَصْدُق حتَّى يكون صدّيقاً وإنّ الرجل ليكذب حتَّى يُكتب عند الله كذّاباً» وكلّ هذا من تصرّف الله تعالى بالتكوين والخلق وهو تصرّف القدر‏.‏ وله اتِّصال بناموس التسلسل في تطوّر أحوال البشر في تصرّفات بعقولهم وعوائدهم، وهي سلسلة بعيدة المدى اقتضتها حكمة الله تعالى في تدبير نظام هذا العالم، ولا يعلم كنهها إلاّ الله تعالى، وليس هذا الإضلال بالأمر بالضلال فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء ولا بتلقينه والحثّ عليه وتسهيله فإنّ ذلك من فعل الشيطان، كما أنّ الله قد حرم من أراد إضلاله من انتشاله واللطف به لأنّ ذلك فضل مَن هو أعلم بأهله‏.‏ ومفعول ‏{‏يشأ‏}‏ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، كما هو الشائع في مفعول فعل المشيئة الواقع شرطاً‏.‏

والصراط هو الطريق البيّن‏.‏ ومعنى المستقيم أنّه لا اعوجاج فيه، لأنّ السّير في الطريق المستقيم أيسر على السائر وأقرب وصولاً إلى المقصود‏.‏

ومعنى ‏(‏على‏)‏ الاستعلاء، وهو استعلاء السائر على الطريق‏.‏ فالكلام تمثيل لحال الذي خلقه الله فمَنّ عليه بعقل يرعوي من غيّه ويُصغي إلى النصيحة فلا يقع في الفساد فاتّبع الدين الحقّ، بحال السائر في طريق واضحة لا يتحيَّر ولا يخطئ القصد، ومستقيمة لا تطوح به في طول السير‏.‏ وهذا التمثيل أيضاً صالح لتشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها، كما تقدّم في نظيره‏.‏ وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فالدين يشبه الصراط الموصّل بغير عناء، والهدي إليه شبيه الجعل على الصراط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي يتضمّن تهديداً بالوعيد طرداً للأغراض السابقة، وتخلّله تعريض بالحثّ على خلع الشرك إذ ليس لشركائهم نفع بأيديهم، فذُكِّروا بأحوال قد تعرض لهم يلجأون فيها إلى الله‏.‏ وألقي عليهم سأل أيستمرون على الإشراك بالله في تلك الحالة وهل يستمرّون من الآن على الشرك إلى أن يأتيهم العذاب أو تأتيهم القيامة حين يلجأون إلى الإيمان بوحدانيته، ولات حينَ إيمان‏.‏

وافتتح هذا التهديد بالأمر بالقول اهتماماً به وإلاّ فإنّ معظم ما في القرآن مأمور الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم‏.‏ وقد تتابع الأمر بالقول في الآيات بعد هذه إلى قوله‏:‏ ‏{‏لكلّ نبأ مستقرّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ اثنتي عشرة مرّة‏.‏ وورد نظيره في سورة يونس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتكم‏}‏ تركيب شهير الاستعمال، يفتتح بمثله الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به‏.‏ وهمزة الاستفهام فيه للاستفهام التقريري‏.‏

و ‏(‏رأى‏)‏ فيه بمعنى الظنّ‏.‏ يسند إلى تاء خطاب تلازم حالة واحدة ملازمة حركة واحدة، وهي الفتحة لا تختلف باختلاف عدد المخاطب وصنفه سواء كان مفرداً أو غيره، مذكّراً أو غيره، ويجعل المفعول الأول في هذا التركيب غالباً ضمير خطاب عائداً إلى فاعل الرؤية القلبية ومستغنى به لبيان المراد بتاء الخطاب‏.‏ والمعنى أنّ المخاطب يعلم نفسه على الحالة المذكورة بعد ضمير الخطاب، فالمخاطب فاعل ومفعول باختلاف الاعتبار، فإنّ من خصائص أفعال باب الظنّ أنّه يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها واحداً ‏(‏وألحق بأفعال العلم فعلان‏:‏ فقَد، وعَدِم في الدعاء نحو فقدتُني‏)‏، وتقع بعد الضمير المنصوب جملة في موضع مفعوله الثاني، وقد يجيء في تلك الجملة ما يعلق فعل الرؤية عن العمل‏.‏

هذا هو الوجه في تحليل هذا التركيب‏.‏ وبعض النحاة يجعل تلك الجملة سادّة مسدّ المفعولين تفصّياً من جعل ضمائر الخطاب مفاعيل إذ يجعلونها مجرّد علامات خطاب لا محلّ لها من الإعراب، وذلك حفاظاً على متعارف قواعد النحو في الاستعمال الأصلي المتعارف مع أنّ لغرائب الاستعمال أحوالاً خاصّة لا ينبغي غضّ النظر عنها إلاّ إذا قصد بيان أصل الكلام أو عدم التشويش على المتعلّمين‏.‏ ولا يخفى أنّ ما ذهبوا إليه هو أشدّ غرابة وهو الجمع بين علامتي خطاب مختلفتين في الصورة ومرجعهما متَّحد‏.‏ وعلى الوجه الذي اخترناه فالمفعول الثاني في هذا التركيب هو جملة‏:‏ ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏‏.‏

وإنّما تركت التاء على حالة واحدة لأنّه لمَّا جعلتْ ذاتُ الفاعل ذات المفعول إعراباً وراموا أن يجعلوا هذا التركيب جارياً مجرى المثل في كونه قليل الألفاظ وافر المعنى تجنّبوا ما يحدثه الجمع بين ضميري خطاب مرفوع ومنصوب من الثقل في نحو أرأيتما كُما، وأرأيتُمْكُم وأريْتُنُّكُنّ، ونحو ذلك، سلكوا هذه الطريقة الغريبة فاستغنوا بالاختلاف حالة الضمير الثاني عن اختلاف حالة الضمير الأول اختصاراً وتخفيفاً، وبذلك تأتَّى أن يكون هذا التركيب جارياً مجرى المثل لما فيه من الإيجاز تسهيلاً لشيوع استعماله استعمالاً خاصّاً لا يغيّر عنه، فلذلك لا تكسر تلك التاء في خطاب المؤنّث ولا تضمّ في خطاب المثنّى والمجموع‏.‏

وعن الأخفش‏:‏ أخرجت العرب هذا اللفظ من معناه بالكلية فألزمته الخطاب، وأخرجته عن موضوعه إلى معنى ‏(‏أمّا‏)‏ بفتح الهمزة، فجعلت الفاء بعده في بعض استعمالاته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيتَ إذْ أويْنَا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏ فما دخلت الفاء إلاّ وقد أخرجت ‏(‏أرأيت‏)‏ لمعنى ‏(‏أمّا‏)‏؛ وأخرجته أيضاً إلى معنى ‏(‏أخبرني‏)‏ فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه؛ وتلزم الجملة بعد الاستفهام، وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرففِ الزمان‏.‏ اه‏.‏

في «الكشاف»‏:‏ متعلِّق الاستخبار محذوف، تقديره‏:‏ إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، ثم بكتهم بقوله ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏، أي أتخصّون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بل إيَّاه تدعون اه‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏ هي المفعول الثاني لفعل ‏{‏أرأيتكم‏}‏‏.‏

واعلم أنّ هذا استعمال خاصّ بهذا التركيب الخاصّ الجاري مجرى المثل، فأمّا إذا أريد جريان فعل الرؤية العلمية على أصل بابه فإنَّه يجري على المتعارف في تعدية الفعل إلى فاعله ومفعوليه‏.‏ فمن قال لك‏:‏ رأيتُني عالماً بفلان‏.‏ فأردت التحقّق فيه تقول‏:‏ أرأيتَك عالماً بفلان‏.‏ وتقول للمثنّى‏:‏ أرأيتماكما عالمين بفلان، وللجمع أرأيتُموكُم وللمؤنثة أرأيتِك بكسر التاء‏.‏

وقرأه نافع في المشهور بتسهيل الهمزة ألفاً؛ وعنه رواية بجعلها بين الهمزة والألف‏.‏ وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي هي عين الكلمة، فيقول‏:‏ ‏{‏أرَيْت‏}‏ وهي لغة‏.‏ وقرأه الباقون بتحقيق الهمزة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن أتاكم عذاب الله‏}‏ الخ معترضة بني مفعولي فعل الرؤية، وهي جملة شرطية حذف جوابها لدلالة جملة المفعول الثاني عليه‏.‏

وإتيان العذاب‏:‏ حلوله وحصوله، فهو مجاز لأن حقيقة الإتيان المجيء، وهو الانتقال من موضع بعيد إلى الموضع الذي استقر فيه مفعول الإتيان، فيطلق مجازاً على حصول شيء لم يكن حاصلاً‏.‏ وكذلك القول في إتيان الساعة سواء‏.‏

ووجه إعادة فعل ‏{‏أتتكم الساعة‏}‏ مع كون حرف العطف مغنياً عن إعادة العامل بأن يقال‏:‏ إن أتاكم عذاب الله أو الساعة، هو ما يوجَّه به الإظهار في مقام الإضمار من إرادة الاهتمام بالمُظْهَر بحيث يعاد لفظه الصريح لأنّه أقوى استقراراً في ذهن السامع‏.‏

والاهتمام هنا دعا إليه التهويل وإدخال الروع في ضمير السامع بأن يصرّح بإسناد هذا الإتيان لاسم المسند إليه الدّالّ على أمر مهول ليدلّ تعلّق هذا الفعل بالمفعول على تهويله وإراعته‏.‏

وقد استشعر الاحتياجَ إلى توجيه إعادة الفعل هنا الشيخ محمد بن عَرفة في درس تفسيره، ولكنَّه وجّهه بأنَّه إذا كان العاملان متفاوتين في المعنى لكون أحدهما أشدّ يعاد العامل بعد حرف العطف إشعاراً بالتفاوت، فإنّ إتيان العذاب أشدّ من إتيان الساعة ‏(‏أي بناء على أنّ المراد بعذاب الله عذاب الآخرة‏)‏ أو كان العاملان متباعدين، فإن أريد بالساعة القيامة وبعذاب الله المحْقُ والرزايا في الدنيا فيعقبه بعد مهلة تامَّة‏.‏

وإن أريد بالساعة المدّة فالمحق الدنيوي كثير، منه متقدّم ومنه متأخِّر إلى الموت، فالتقدّم ظاهر اه‏.‏ وفي توجيهه نظر إذ لا يشهد له الاستعمال‏.‏

وإضافة العذاب إلى اسم الجلالة لتهويله لصدوره من أقدر القادرين‏.‏ والمراد عذاب يحصل في الدنيا يضرعون إلى الله لرفعه عنهم بدليل قوله ‏{‏أغير الله تدعون‏}‏، فإنّ الدعاء لا يكون بطلب رفع عذاب الجزاء‏.‏ وهذا تهديد وإنذار‏.‏

والساعة‏:‏ علَم بالغلبة على ساعة انقراض الدنيا، أي إن أدركتْكم الساعة‏.‏

وتقديم ‏{‏أغير الله‏}‏ على عامله وهو ‏{‏تدعون‏}‏ لتكون الجملة المستفهم عنها جملة قصر، أي أتعرضون عن دعاء الله فتدعون غيره دونه كما هو دأبكم الآن، فالقصر لحكاية حالهم لا لقصد الردّ على الغير‏.‏ وقد دلّ الكلام على التعجّب، أي تستمرّون على هذه الحال‏.‏ والكلام زيادة في الإنذار‏.‏

وجمل‏:‏ ة ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ مستأنفة، وجوابها محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتكم‏}‏ الذي هو بمعنى التقرير‏.‏ فتقدير الجواب‏:‏ إن كنتم صادقين فأنتم مقرّون بأنَّكم لا تدعون غير الله‏.‏ ذَكّرهم في هذه الآية وألجأهم إلى النظر ليعلموا أنّه إذا أراد الله عذابهم لا تستطيع آلهتهم دفعه عنهم، فهم إن توخّوا الصدق في الخبر عن هذا المستقبل أعادوا التأمّل فلا يسعهم إلاّ الاعتراف بأنّ الله إذا شاء شيئاً لا يدفعه غيرُه إلاّ بمشيئته، لأنّهم يعترفون بأنّ الأصنام إنَّما تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا صدقوا وقالوا‏:‏ أندعوا الله، فقد قامت الحجّة عليهم من الآن لأنّ من لا يغني في بعض الشدائد لا ينبغي الاعتماد عليه في بعض آخر‏.‏

ولذلك كان موقع ‏{‏بَل إيّاه تدعون‏}‏ عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال‏.‏ فحرف ‏(‏بل‏)‏ لإبطال دعوة غير الله‏.‏ أي فأنا أجيب عنكم بأنّكم لا تدعون إلاّ الله‏.‏ ووجه تولّي الجواب عنهم من السائل نفسِه أنّ هذا الجواب لمّا كان لا يسع المسؤول إلاّ إقرارُه صحّ أن يتولّى السائل الجوابَ عنه، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ في هذه السورة ‏[‏12‏]‏‏.‏

وتقديم المفعول على تَدْعون‏}‏ للقصر وهو قصر إفراد للردّ على المشركين في زعمهم أنّهم يدعون الله ويدعون أصنامهم، وهم وإن كانوا لم يزعموا ذلك في حاللِ ما إذا أتاهم عذاب الله أو أتتهم الساعة إلاّ أنّهم لمّا ادّعوه في غير تلك الحالة نزّلوا منزلة من يستصحب هذا الزعم في تلك الحالة أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فيكشف‏}‏ عطف على ‏{‏تدعون‏}‏، وهذا إطماع في رحمة الله لعلّهم يتذكّرون‏.‏ ولأجل التعجيل به قدّم ‏{‏وتنسوْن ما تشركون‏}‏ وكان حقّه التأخير‏.‏

فهو شبيه بتعجيل المسرّة‏.‏ ومفعول‏:‏ ‏{‏تدعون‏}‏ محذوف وهو ضمير اسم الجلالة، أي ما تدعونه‏.‏ والضمير المجرور بِ ‏(‏إلى‏)‏ عائد على ‏{‏ما‏}‏ من قوله ‏{‏ما تدعون‏}‏ أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه‏.‏ وإنّما قيّد كشف الضرّ عنهم بالمشيئة لأنَّه إطماع لا وعد‏.‏

وعديّ فعل ‏{‏تدعون‏}‏ بحرف ‏(‏إلى‏)‏ لأنّ أصل الدعاء نداء فكأنّ المدعو مطلوب بالحضور إلى مكان اليأس‏.‏

ومفعول ‏{‏شاء‏}‏ محذوف على طريقة حذف مفعول فعل المشيئة الواقع شرطاً، كما تقدّم آنفاً‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن شاء‏}‏ إشارة إلى مقابله، وهو إن لم يشأ لم يكشف، وذلك في عذاب الدنيا‏.‏ وأما إتيان الساعة فلا يُكشف إلاّ أن يراد بإتيانها ما يحصل معها من القوارع والمصائب من خسف وشبهه فيجوز كشفه عن بعض الناس‏.‏ وممَّا كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذابُ الجوع الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم إلى قوله إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10 16‏]‏ فُسّرت البطشة بيوم بدر‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏فيكشف‏}‏ الخ معترضة بين المعطوفين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتنسون ما تشركون‏}‏ عطف على ‏{‏إيّاه تدعون‏}‏، أي فإنّكم في ذلك الوقت تنسون ما تشركون مع الله، وهو الأصنام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وتنسون ما تُشركون‏}‏ يجوز أن يكون النسيان على حقيقته، أي تذهلون عن الأصنام لِمَا ترون من هول العذاب وما يقع في نفوسهم من أنّه مرسل عليهم من الله فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها‏.‏

ويجوز أن يكون مجازاً في الترك والإعراض، أي وتعرضون عن الأصنام، إذ لعلَّهم يلهمون أن يستدلّون في تلك الساعة على أنّ غير الله لا يكشف عنهم من ذلك العذاب شيئاً، وإطلاق النسيان على الترك شائع في كلام العرب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 34‏]‏، أي نهملكم كما أنكرتم لقاء الله هذا اليوم‏.‏ ومن قبيله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين هم عن صلاتهم ساهون‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فيكشف ما تدعون إليه إن شاء‏}‏ دليل على أنّ الله تعالى قد يجيب دعوة الكافر في الدنيا تبعاً لإجراء نعم الله على الكفّار‏.‏ والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي آئل إلى الاختلاف اللفظي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

لمّا أنذرهم بتوقّع العذاب أعقبه بالاستشهاد على وقوع العذاب بأمم من قبل، ليَعلَم هؤلاء أنّ تلك سنة الله في الذين ظلموا بالشرك‏.‏

وهذا الخبر مستعمل في إنذار السامعين من المشركين على طريقة التعريض، وهم المخاطبون بالقول المأمور به في الجملة التي قبلها‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏، والواو لعطف الجمل، فتكون استئنافية إذ كانت المعطوف عليها استئنافاً‏.‏ وافتتحت هذه الجملة بلام القسم و‏(‏قد‏)‏ لتوكيد مضمون الجملة، وهو المفرّع بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضرّاء‏}‏‏.‏ نزّل السامعون المعرّض بإنذارهم منزلة من ينكرون أن يكون ما أصاب الأمم الذين من قبلهم عقاباً من الله تعالى على إعراضهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأخذناهم‏}‏ عطف على ‏{‏أرسلنا‏}‏ باعتبار ما يؤذن به وصف ‏{‏مِنْ قبلك‏}‏ من معاملة أممهم إيّاهم بمثل ما عاملك به قومك، فيدلّ العطف على محذوف تقديره‏:‏ فكذّبوهم‏.‏

ولمّا كان أخذهم بالبأساء والضرّاء مقارناً لزمن وجود رسلهم بين ظهرانيهم كان الموقع لفاء العطف للإشارة إلى أنّ ذلك كان بمرأى رسلهم وقبل انقراضهم ليكون إشارة إلى أنّ الله أيّد رسله ونصرهم في حياتهم؛ لأنّ أخذ الأمم بالعقاب فيه حكمتان‏:‏ إحداهما‏:‏ زجرهم عن التكذيب، والثانية‏:‏ إكرام الرسل بالتأييد بمرأى من المكذّبين‏.‏ وفيه تكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم بإيذانه بأنّ الله ناصره على مكذّبيه‏.‏

ومعنى ‏{‏أخذناهم‏}‏ أصبناهم إصابة تمكّن‏.‏ وتقدّم تفسير الأخذ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخذتْه العزّة بالإثم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 206‏]‏‏.‏

وقد ذكر متعلّق الأخذ هنا لأنّه أخْذ بشيء خاصّ بخلاف الآتي بُعيد هذا‏.‏

والبأساء والضرّاء تقدّماً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضرّاء‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ وقد فسّر البأساء بالجوع والضرّاء بالمرض، وهو تخصيص لا وجه له، لأنّ ما أصاب الأمم من العذاب كان أصنافاً كثيرة‏.‏ ولعلّ من فسَّره بذلك اعتبر ما أصاب قريشاً بدعوة النبي‏.‏

و ‏(‏لَعلّ‏)‏ للترّجي‏.‏ جُعل علّة لابتداء أخذهم بالبأساء والضرّاء قبل الاستئصال‏.‏

ومعنى يتضرّعون‏}‏ يتذلّلون لأنّ الضراعة التذلّل والتخشّع، وهو هنا كناية عن الاعتراف بالذنب والتوبة منه، وهي الإيمان بالرسل‏.‏

والمراد‏:‏ أنّ الله قدّم لهم عذاباً هيّناً قبل العذاب الأكبر، كما قال‏:‏ ‏{‏ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 21‏]‏ وهذا من فرط رحمته الممازجة لمقتضى حكمته؛ وفيه إنذار لقريش بأنّهم سيصيبهم البأساء والضرّاء قبل الاستئصال، وهو استئصال السيف‏.‏ وإنّما اختار الله أن يكون استئصالهم بالسيف إظهاراً لكون نصر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كان بيده ويد المصدّقين به‏.‏ وذلك أوقع على العرب، ولذلك روعي حال المقصودين بالإنذار وهم حاضرون‏.‏ فنزّل جميع الأمم منزلتهم، فقال‏:‏ ‏{‏فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا‏}‏، فإنّ ‏(‏لولا‏)‏ هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة، فليست ‏(‏لولا‏)‏ حرفَ امتناع لوجود‏.‏

والتوبيخ إنّما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود‏.‏ ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهمّ من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعاً لمعذرهم‏.‏

ويجوز أن تجعل ‏(‏لولا‏)‏ هنا للتّمنّي على طريقة المجاز المرسل، ويكون التّمنّي كناية عن الإخبار بمحبّة الله الأمر المتمنّى فيكون من بناء المجاز على المجاز، فتكون هذه المحبّة هي ما عبّر عنه بالفرح في الحديث «الله أفرح بتوبة عبده» الحديث‏.‏ وتقديم الظرف المضاف مع جملته على عامله في قوله ‏{‏إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا‏}‏ للاهتمام بمضمون جملته، وأنّه زمن يحقّ أن يكون باعثاً على الإسراع بالتضرّع ممّا حصل فيه من البأس‏.‏

والبأس تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحين البأس‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ والمراد به هنا الشدّة على العدوّ وغلبته‏.‏ ومجيء البأس‏:‏ مجيء أثره، فإنّ ما أصابهم من البأساء والضرّاء أثر من آثار قوّة قدرة الله تعالى وغلبه عليهم‏.‏ والمجيء مستعار للحدوث والحصول بعد أن لم يكن تشبيهاً لحدوث الشيء بوصول القادم من مكان آخر بتنقّل الخطوات‏.‏

ولمّا دلّ التوبيخ أو التمنّي على انتفاء وقوع الشيء عطف عليه ب ‏(‏لَكِنْ‏)‏ عطفاً على معنى الكلام، لأنّ التضرّع ينشأ عن لين القلب فكان نفيه المفاد بحرف التوبيخ ناشئاً عن ضدّ اللين وهو القساوة، فعطف بلكن‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأنّ قلوبهم لا تتأثّر فشبّهت بالشيء القاسي‏.‏ والقسوة‏:‏ الصلابة‏.‏

وقد وجد الشيطان من طباعهم عوناً على نفث مراده فيهم فحسّن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم‏.‏ ومن هنا يظهر أنّ الضلال ينشأ عن استعداد الله في خلقة النفس‏.‏

والتزيين‏:‏ جعل الشيء زَيْنا‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زيّن للناس حبّ الشهوات‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ فلمّا نسوا ما ذُكِّروا به‏}‏ عطف على جملة ‏{‏قست قلوبهم وزيّن لهم الشيطان‏}‏‏.‏ والنسيان هنا بمعنى الإعراض، كما تقدّم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏وتَنسون ما تشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وظاهرٌ تفرّع الترك عن قسوة القلوب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة ماصْدَقُها البأساء والضرّاء، أي لمّا انصرفوا عن الفطنة بذلك ولم يهتدوا إلى تدارك أمرهم‏.‏ ومعنى ‏{‏ذُكِّروا به‏}‏ أنّ الله ذكّرهم عقابه العظيم بما قدّم إليهم من البأساء والضرّاء‏.‏ و‏(‏لمَّا‏)‏ حرف شرط يدلّ على اقتران وجود جوابه بوجود شرطه، وليس فيه معنى السببية مثل بقية أدوات الشرط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء‏}‏ جواب ‏{‏لمّا‏}‏ والفتح ضدّ الغلق، فالغلق‏:‏ سد الفرجة التي يمكن الاجتياز منها إلى ما وراءها بباب ونحوه، بخلاف إقامة الحائط فلا تسمّى غلقاً‏.‏

والفتح‏:‏ جعْل الشيء الحاجز غيرَ حاجز وقابلاً للحجز، كالباب حين يفتح‏.‏ ولكون معنى الفتح والغلق نسبيين بعضهما من الآخر قيل للآلة التي يمسك بها الحاجز ويفتح بها مِفتاحاً ومِغْلاقاً، وإنّما يعقل الفتح بعد تعقّل الغلق، ولذلك كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏}‏ مقتضياً أنّ الأبواب المراد ها هنا كانت مغلقة وقت أن أخذوا بالبأساء والضرّاء، فعلم أنّها أبواب الخير لأنّها التي لا تجتمع مع البأساء والضرّاء‏.‏

فالفتح هنا استعارة لإزالة ما يؤلم ويغمّ كقوله‏:‏ ‏{‏ولو أنّ أهل القُرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏‏.‏ ومنه تسمية النصر فتحنا لأنّه إزالة غمّ القهر‏.‏

وقد جُعل الإعراض عمَّا ذُكّروا به وقتاً لفتح أبواب الخير، لأنّ المعنى أنّهم لمّا أعرضوا عن الاتِّعاظ بنُذر العذاب رفعنا عنهم العذاب وفتحنا عليهم أبواب الخير، كما صُرّح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبّيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون ثمّ بدّلنا مكان السيّئة الحسنة حتّى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضرّاء والسرّاء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 94، 95‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فتحنا‏}‏ بتخفيف المثنّاة الفوقية‏.‏ وقرأه ابن عامر، وأبو جعفر ورُويس عن يعقوب بتشديدها للمبالغة في الفتح بكثرته كما أفاده قوله ‏{‏أبوابَ كلّ شيء‏}‏‏.‏

ولفظ ‏(‏كلّ‏)‏ هنا مستعمل في معنى الكثرة، كما في قول النابغة‏:‏

بها كلّ ذيَّال وخنساء ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

أو استعمل في معناه الحقيقي؛ على أنَّه عامّ مخصوص، أي أبواب كل شيء يبتغونه، وقد علم أنّ المراد بكلّ شيء جميع الأشياء من الخير خاصّة بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فرحوا‏}‏ وبقرينة مقابلة هذا بقوله‏:‏ ‏{‏أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 79‏]‏، فهنالك وصف مقدّر، أي كلّ شيء صالح، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأخذ كلّ سفينة غصبا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ أي صالحة‏.‏

و ‏{‏حتّى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حتَّى إذا فرحوا‏}‏ ابتدائية‏.‏ ومعنى الفرح هنا هو الازدهاء والبطر بالنعمة ونسيان المنعم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحبّ الفرحين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏‏.‏ قال الراغب‏:‏ ولم يرخّص في الفرح إلاّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏‏.‏ و‏(‏إذا‏)‏ ظرف زمان للماضي‏.‏

ومراد الله تعالى من هذا هو الإمهال لهم لعلّهم يتذكّرون الله ويوحّدونه فتطهر نفوسهم، فابتلاهم الله بالضرّ والخير ليستقصي لهم سببي التذكّر والخوف، لأنّ من النفوس نفوساً تقودها الشدّة ونفوساً يقودها اللين‏.‏

ومعنى الأخذ هنا الإهلاك‏.‏ ولذلك لم يذكر له متعلِّق كما ذكر في قوله آنفاً ‏{‏فأخذناهم بالبأساء والضرّاء‏}‏ للدلالة على أنَّه أخذ لا هوادة فيه‏.‏

والبغتة فعلة من البغْت وهو الفُجأة، أي حصول الشيء على غير ترقّب عند من حصل له وهي تستلزم الخفاء‏.‏ فلذلك قوبلت بالجهرة في الآية الآتية‏.‏ وهنا يصحّ أن يكون مؤوّلاً باسم الفاعل منصوباً على الحال من الضمير المرفوع، أي مباغتين لهم، أو مؤوّلاً باسم المفعول على أنَّه حال من الضمير المنصوب، أي مبغوتين، ‏{‏وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة‏}‏

‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإذا هم مبلسون‏}‏ ‏(‏إذا‏]‏ فجائية‏.‏ وهي ظرف مكان عند سيبويه، وحرف عند نحاة الكوفة‏.‏

والمبلسون اليائسون من الخير المتحيّرون، وهو من الإبلاس، وهو الوجوم والسكوت عند طلب العفو يأساً من الاستجابة‏.‏

وجملة ‏{‏فقطع دابر القوم‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏أخذناهم‏}‏، أي فأخذناهم أخذ الاستئصال‏.‏ فلم يُبق فيهم أحداً‏.‏

والدابر اسم فاعل من دَبَره من باب كَتَب، إذا مشى من ورائه‏.‏ والمصدر الدبور بضم الدال، ودابر الناس آخرهم، وذلك مشتقّ من الدُبُر، وهو الوراء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبِع أدبارهم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقطع الدابر كناية عن ذهاب الجميع لأنّ المستأصل يبدأ بما يليه ويذهب يستأصل إلى أن يبلغ آخره وهو دَابره، وهذا ممّا جرى مجرى المثل، وقد تكرّر في القرآن، كقوله‏:‏ ‏{‏أنّ دابر هؤلاء مَقطوع مصبحين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏

والمراد بالذين ظلموا المشركون، فإنّ الشرك أعظم الظلم، لأنَّه اعتداء على حقّ الله تعالى على عباده في أن يعترفوا له بالربوبية وحده، وأنّ الشرك يستتبع مظالم عدّة لأنّ أصحاب الشرك لا يؤمنون بشرع يزع الناس عن الظلم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والحمد لله ربّ العالمين‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك‏}‏ بما اتَّصل بها‏.‏ عطف غرض على غرض‏.‏ ويجوز أن تكون اعتراضاً تذييلياً فتكون الواو اعتراضية‏.‏ وأيَّاً ما كان موقعها ففي المراد منها اعتبارات ثلاثة‏:‏

أحدها‏:‏ أن تكون تلقيناً للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يحمدوا الله على نصره رسلَه وأولياءهم وإهلاك الظالمين، لأنّ ذلك النصر نعمة بإزالة فساد كان في الأرض، ولأنّ في تذكير الله الناس به إيماء إلى ترقّب الإسوة بما حصل لمن قبلهم أن يترقَّبوا نصر الله كما نصر المؤمنين من قبلهم؛ فيكون ‏{‏الحمد لله‏}‏ مصدراً بدلاً من فعله، عُدل عن نصبه وتنكيره إلى رفعه وتعريفه للدلالة على معنى الدوام والثبات، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏ثانيها‏}‏‏:‏ أن يكون ‏{‏الحمد لله‏}‏ كناية عن كون ما ذكر قبله نعمة من نعم الله تعالى لأنّ من لوازم الحمد أن يكون على نعمة، فكأنّه قيل‏:‏ فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏.‏ وتلك نعمة من نعم الله تقتضي حمده‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يكون إنشاءَ حمد لله تعالى من قِبَل جلاله مستعملاً في التعجيب من معاملة الله تعالى إيّاهم وتدريجهم في درجات الإمهال إلى أن حقّ عليهم العذاب‏.‏

ويجوز أن يكون إنشاءَ الله تعالى ثناء على نفسه، تعريضاً بالامتنان على الرسول والمسلمين‏.‏

واللام في ‏{‏الحمد‏}‏ للجنس، أي وجنس الحمد كلّه الذي منه الحمد على نعمة إهلاك الظالمين‏.‏

وفي ذلك كلّه تنبيه على أنَّه يحقّ الحمد لله عند هلاك الظلمة، لأنّ هلاكهم صلاح للناس، والصلاح أعظم النعم، وشكر النعمة واجب‏.‏ وهذا الحمد شكر لأنّه مقابل نعمة‏.‏ وإنّما كان هلاكهم صلاحاً لأنّ الظلم تغيير للحقوق وإبطال للعمل بالشريعة، فإذا تغير الحقّ والصلاح جاء الدمار والفوضى وافتتن الناس في حياتهم فإذا هلك الظالمون عاد العدل، وهو ميزان قوام العالم‏.‏

أخرج أحمد بن حنبل عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراح ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فلمّا نسُوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي عاد به إلى الجدال معهم في إشراكهم بالله تعالى بعد أن انصرف الكلام عنه بخصوصه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏ وما تفنَّن عقب ذلك من إثبات البعث وإثبات صدق الرسول وذكر القوارع والوعيد إلى قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآيات‏.‏ وتكرير الأمر بالقول للوجه الذي تقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏

والرؤية قلبية متعدّية إلى مفعولين، وليس هذا من قبيل الاستعمال المتقدّم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏

واختلاف القرّاء في ‏{‏أرأيتم‏}‏ كاختلافهم في مثله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏

والأخذ‏:‏ انتزاع الشيء وتناوله من مقرّه، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام، لأنّ السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل‏.‏ ولك أن تجعله تمثيلاً لأنّ الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه، فشبّهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئاً من مقرّه‏.‏ فالهيئة المشبّه هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبّهة بها محسوسة‏.‏ والختم على القلوب تقدّم بيانه في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ختم الله على قلوبهم‏}‏ والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات‏.‏

والسمع مصدر دالّ على الجنس فكان في قوة الجمع، فعمّ بإضافته إلى ضمير المخاطبين ولا حاجة إلى جمعه‏.‏

والأبصار جمع بصر، وهو في اللغة العين على التحقيق‏.‏ وقيل‏:‏ يطلق البصر على حاسّة الإبصار ولذلك جمع ليعمّ بالإضافة جميع أبصار المخاطبين، ولعلّ إفراد السمع وجمْع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفَّة أحد اللفظين مُفْرداً والآخر مجموعاً عند اقترانهما، فإنّ في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقُّل اللسان سِرّاً عجيباً من فصاحة كلام القرآن المعبّر عنها بالنَّظم‏.‏ وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا لهم سمعاً وإبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏.‏‏]‏

والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأنّ القلب سبب إمداد العقل بقوّة الإدراك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ إله‏}‏ معلِّق لفعل الرؤية لأنّه استفهام، أي أعلِمتم جوابَ هذا الاستفهام أم أنتم في شكّ‏.‏ وهو استفهام مستعمل في التقرير يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه فيوقنوا أنّه لا إله غير الله يأتيهم بذلك لأنّه الخالق للسمع والأبصار والعقول فإنّهم لا ينكرون أنّ الأصنام لا تخلق، ولذلك قال لهم القرآن‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تَذّكَّرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

و ‏{‏مَنْ‏}‏ في موضع رفع على الابتداء، و‏{‏إله‏}‏ خَبَر ‏{‏مَنْ‏}‏، و‏{‏غيرُ الله‏}‏ صفة ‏{‏إله‏}‏، و‏{‏يأتيكم‏}‏ جملة في محلّ الصفة أيضاً، والمستفهم عنه هو إله، أي ليس إله غير الله يأتي بذلك، فدلّ على الوحدانية‏.‏

ومعنى ‏{‏يأتيكم به‏}‏ يُرجعه، فإنّ أصل أتى به، جاء به‏.‏ ولمّا كان الشيء المسلوب إذا استنقذه منقذ يأتي به إلى مقرّه أطلق الإتيان بالشيء على إرجاعه مجازاً أو كناية‏.‏

والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها‏.‏ وهذا استعمال قليل في الضمير، ولكنَّه فصيح‏.‏ وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به‏}‏ في سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 36‏]‏، وعند قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏، وإيثاره هنا على أن يقال‏:‏ يأتيكم بها، لدفع توهّم عود الضمير إلى خصوص القلوب‏.‏

والكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلْب الإدراك من قلوبهم لأنَّهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها، كما أشار إليه قوله آنفاً ‏{‏وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏ فكان ذلك تنبيهاً لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع، وناسب هنا أن يهدّدوا بزوالها بالكليّة إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها‏.‏

وقوله ‏{‏انْظُرْ‏}‏ تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتّى أنّ النّاظر يستطيع أن يراها، فأمّا الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم‏.‏

والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تتنزّل منزلة التذييل للآيات السابقة، فإنّه لمَّا غمرهم بالأدلّة على الوحدانية وصدْق الرسول، وأبطل شبههم عقّب ذلك كلّه بالتعجيب من قوّة الأدلّة مع استمرار الإعراض والمكابرة، وقد تقدّم قريب منه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وهذا تذكير لهم بأنّ الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديراً بأن يعبدون‏.‏

وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرّة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية، فهي متَّحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامّها وخاصّها، وهي أيضاً مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي المقدّمات العقلية وغيرها، ومن جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير، بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول‏.‏

والتعريف في الآيات‏}‏ للعهد، وهي المعهودة في هذه السورة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي لأنّها عطفت جملة على جملة، فهي تؤذن بأنّ الجملة المعطوفة أدخل في الغرض المسوق له الكلام، وهو هنا التعجيب من قوة الأدلّة وأنّ استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به‏.‏

وجيء بالمسند في جملة ‏{‏هم يصدفون‏}‏ فعلاً مضارعاً للدلالة على تجدّد الإعراض منهم‏.‏ وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلِيّ لتَقَوّي الحُكم‏.‏

و ‏{‏يصدفون‏}‏ يعرضون إعراضاً شديداً‏.‏ يقال‏:‏ صَدَف صَدْفاً وصُدوفاً، إذا مال إلى جانب وأعرض عن الشيء‏.‏ وأكثر ما يستعمل أن يكون قاصراً فيتعدّى إلى مفعوله ب ‏(‏عن‏)‏‏.‏ وقد يستعمل متعدّياً كما صرّح به في «القاموس»‏.‏ وقلّ التعرّض لذلك في كتب اللغة ولكن الزمخشري في تفسير قوله تعالى في أواخر هذه السورة ‏{‏فمن أظلم ممّن كذّب بآيات الله وصدف عنها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏ قدّر‏:‏ وصدف الناسَ عنها، مع أنّه لم يتعرّض لذلك في الأساس ولا علّق على تقديره شارحوه‏.‏ ولمّا تقدّم ذكر الآيات حُذف متعلِّق ‏{‏يصدفون‏}‏ لظهوره، أي صدف عن الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

استئناف للتهديد والتوعّد وإعذار لهم بأنّ إعراضهم لا يرجع بالسوء إلاّ عليهم ولا يضرّ بغيرهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأوْن عنه وإنْ يُهْلِكُون إلاّ أنفسهم وما يشعرون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والقول في ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة‏}‏ الآية كالقول في نظيريْه المتقدّمين‏.‏

وجيء في هذا وفي نظيره المتقدّم بكاف الخطاب مع ضمير الخطاب دون قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إنْ أخذَ الله سمْعكم وأبْصارَكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ الآية لأنّ هذا ونظيره أبلغ في التوبيخ لأنّهما أظهر في الاستدلال على كون المشركين في مكنة قدرة الله، فإنّ إتيان العذاب أمكن وقوعاً من سلب الأبصار والأسماع والعقول لندرة حصول ذلك، فكان التوبيخ على إهمال الحذر من إتيان عذاب الله، أقوى من التوبيخ على الاطمئنان من أخذ أسماعهم وأبصارهم، فاجتلب كاف الخطاب المقصود منه التنبيه دون أعيان المخاطبين‏.‏ والبغتة تقدّمت آنفاً‏.‏

والجهرة‏:‏ الجَهْر، ضدّ الخفية، وضدّ السرّ‏.‏ وقد تقدّم عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 55‏]‏

وقد أوقع الجهرة هنا في مقابلة البغتة وكان الظاهر أن تقابل البغتة بالنّظرة أو أن تقابل الجهرة بالخفية، إلاّ أنّ البغتة لمّا كانت وقوع الشيء من غير شعور به كان حصولها خفيّاً فحسن مقابلته بالجهرة، فالعذاب الذي يجيء بغتة هو الذي لا تسبقه علامة ولا إعلام به‏.‏ والذي يجيء جهرة هو الذي تسبقه علامة مثل الكِسْف المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض مُمطرنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ أو يسبقه إعلام به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعَقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏‏.‏ فإطلاق الجهرة على سبق ما يشعر بحصول الشيء إطلاق مجازي‏.‏ وليس المراد من البغتة الحاصل ليلاً ومن الجهرة الحاصل نهاراً‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏هل يُهلَك‏}‏ مستعمل في الإنكار فلذلك جاء بعده الاستثناء‏.‏ والمعنى لا يهلك بذلك العذاب إلاّ الكافرون‏.‏

والمراد بالقوم الظالمين المخاطبون أنفُسهم فأظهر في مقام الإضمار ليتأتّى وصفهم أنّهم ظالمون، أي مشركون، لأنَّهم ظالمون أنفسهم وظالمون الرسول والمؤمنين‏.‏

وهذا يتضمَّن وعْداً من الله تعالى بأنه منجي المؤمنين، ولذلك أذنَ رسوله بالهجرة من مكة مع المؤمنين لئلاّ يحلّ عليهم العذاب تكرمة لهم كما أكرم لُوطاً وأهله، وكما أكرم نوحاً ومن آمن معه، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏وما لهم أن لا يعذّبهم الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والمناسبة أنّ صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعلّلون له بأنَّهم يَرُومون آيات على وفق مقترحهم وأنَّهم لا يقنعون بآيات الوحدانية، ألا ترى إلى قولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتّى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية، فأنبأهم الله بأنّ إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتّلهّي بهم باقتراح الآيات‏.‏

وعُبِّر ب ‏{‏نُرسل‏}‏ دون ‏{‏أرسلنا‏}‏ للدلالة على تجدّد الإرسال مقارناً لهذين الحالين، أي ما أرسلنا وما نرسل، فقوله‏:‏ ‏{‏مُبشّرين ومنذرين‏}‏ حالان مقدّرتان باعتبار المستقبل ومحقّقتان باعتبار الماضي‏.‏

والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما أرسلناهم إلاّ في حالة كونهم مبشّرين ومنذرين‏.‏

والقصرُ إضافي للردّ على من زعموا أنّه إنْ لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله، فهو قصر قلب، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات‏.‏ وكنّى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأنّ التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمن آمن‏}‏ للتفريع، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف الخ‏.‏ و‏{‏مَنْ‏}‏ الأظهر أنَّها موصولة كما يرجّحه عطف ‏{‏والذين كذّبوا‏}‏ عليه‏.‏ ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله‏:‏ ‏{‏مبشِّرين ومنذرين‏}‏‏.‏ فإن كانت شرطية فاقتران ‏{‏فلا خوف‏}‏ بالفاء بيِّن، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط، والاستعمالات متقاربان‏.‏

ومعنى ‏{‏أصْلح‏}‏ فَعَلَ الصلاح، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى، لأنّ الله ما أراد بشرعه إلاّ إصلاح الناس كما حكَى عن شعيب ‏{‏إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

والمسُّ حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجسّ، ويستعار لإصابة جسم جسماً آخر كما في هذه الآية‏.‏

وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليَمَسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ في سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ ويستعار أيضاً للتَّكيّف بالأحوال كما يقال‏:‏ به مسّ من الجنون‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين اتَّقوا ءا مسَّهم طائف من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مبصرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏‏.‏

وجمع الضمائر العائدة إلى ‏(‏مَنْ‏)‏ مراعاة لمعناها، وأمَّا إفراد فعل ‏{‏آمن‏}‏ و‏{‏أصلح‏}‏ فلرعي لفظها‏.‏

والباء للسببية، و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بسبب فسقهم‏.‏ والفسق حقيقته الخروج عن حدّ الخير‏.‏ وشاع استعماله في القرآن في معنى الكفر وتجاوز حدود الله تعالى‏.‏ وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضلّ به إلاّ الفاسقين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وجيء بخبر ‏(‏كان‏)‏ جملة مضارعية للإشارة إلى أنّ فسقهم كان متجدّداً متكرّراً، على أنّ الإتيان ب ‏(‏كان‏)‏ أيضاً للدلالة على الاستمرار لأنّ ‏(‏كان‏)‏ إذا لم يقصد بها انقضاء خبرها فيما مضى دلَّت على استمرار الخبر بالقرينة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

لمّا تقضّت المجادلة مع المشركين في إبطال شركهم ودحْض تعاليل إنكارهم نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم بأنَّهم لا يؤمنون بنبوءته إلاّ إذا جاء بآية على وفق هواهم، وأبطلت شبهتهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 48‏]‏ وكان محمد صلى الله عليه وسلم ممَّن شمله لفظ المرسلين، نقل الكلام إلى إبطال معاذيرهم فأعلمهم الله حقيقة الرسالة واقترانها بالآيات فبيّن لهم أنّ الرسول هو الذي يتحدّى الأمّة لأنّه خليفة عن الله في تبليغ مراده من خلقه، وليست الأمّة هي التي تتحدّى الرسول، فآية صدق الرسول تجيء على وفق دعواه الرسالة، فلو أدّعى أنّه مَلك أو أنّه بُعث لإنقاذ الناس من أرزاء الدنيا ولإدناء خيراتها إليهم لكان من عذرهم أن يسألوه آيات تؤيِّد ذلك، فأمّا والرسول مبعوث للهدى فآيته أن يكون ما جاء به هو الهدى وأن تكون معجزته هو ما قارن دعوته ممّا يعجز البشر عن الإتيان بمثله في زمنهم‏.‏

فقوله ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من غرض إلى غرض‏.‏ وافتتاح الكلام بالأمر بالقول للاهتمام بإبلاغه، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقد تكرّر الأمر بالقول من هنا إلى قوله ‏{‏لكلّ نبأ مستقرّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 67‏]‏ اثنتي عشرة مرة‏.‏

والاقتصار على نفي ادّعاء هذه الثلاثة المذكورة في الآية ناظر إلى ما تقدّم ذكره من الآيات التي سألوها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنز ل عليه ملَك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولو نَزّلنا عليك كتاباً في قرطاس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن استطعتَ أن تَبْتَغِي نَفَقاً في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ الآية‏.‏

وافتتح الكلام بنفي القول ليدلّ على أنّ هذا القول لم يقترن بدعوى الرسالة فلا وجه لاقتراح تلك الأمور المنفي قولها على الرسول لأنّ المعجزة من شأنها أن تجيء على وفق دعوى الرسالة‏.‏

واللام في ‏{‏لكم‏}‏ لام التبليغ، وهي مفيدة تقوية فعل القول عندما لا تكون حاجة لذكر المواجَه بالقول كما هنا لظهور أنّ المواجَه بالقول هم المكذّبون، ولذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أقول إنِّي ملَك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 31‏]‏ مجرّداً عن لام التبليغ‏.‏ فإذا كان الغرض ذكر المواجَه بالقول فاللام حينئذٍ تسمَّى لام تعدَّية فعل القول فالذي اقتضى اجتلابَ هذه اللام هنا هو هذا القول بحيث لو قاله قائل لكان جديراً بلام التبليغ‏.‏

والخزائن جمع خِزانة بكسر الخاء وهي البيت أو الصندوق الذي يحتوي ما تتوق إليه النفوس وما ينفع عند الشدّة والحاجة‏.‏ والمعنى أنّى ليس لي تصرّف مع الله ولا أدّعي أني خازن معلومات الله وأرزاقه‏.‏

و ‏{‏خزائن الله‏}‏ مستعارة لتعلّق قدرة الله بالإنعام وإعطاء الخيرات النافعة للناس في الدنيا‏.‏

شبّهت تلك التعلّقات الصّلُوحية والتنجيزية في حَجْبها عن عيون الناس وتناولهم مع نفعها إيّاهم، بخزائن أهل اليسار والثروة التي تجمع الأموال والأحبية والخلع والطعام، كما أطلق عليها ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله خزائن السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 7‏]‏، أي ما هو مودع في العوالم العليا والسفلى ممّا ينفع الناس، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وإنْ من شيء إلاّ عندنا خَزائنه‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وتقديم المسند وهو قوله ‏{‏عندي‏}‏ للاهتمام به لما فيه من الغرابة والبشارة للمخبرين به لو كان يقوله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ عطف على ‏{‏عندي خزائن الله‏}‏ فهو في حيَّز القول المنفي‏.‏ وأعيد حرف النفي على طريقة عطف المنفيات بعضها على بعض فإنّ الغالب أن يعاد معها حرف النفي للتنصيص على أنّ تلك المتعاطفات جميعها مقصودة بالنفي بآحادها لئلاّ يتوهّم أنّ المنفي مجموع الأمرين‏.‏ والمعنى لا أقول أعلم الغيب، أي علماً مستمراً ملازماً لصفة الرسالة‏.‏ فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاصّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 26، 27‏]‏ وهو داخل تحت قوله ‏{‏إنْ أتّبع إلاّ ما يوحي إلي‏}‏‏.‏

وعطف‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم إنِّي ملك‏}‏ على ‏{‏لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ بإظهار فعل القول فيه، خلافاً لقوله‏:‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأنّ إدّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً‏.‏ والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد‏.‏ وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏‏.‏ فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر‏.‏ وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً‏:‏ إنِّي لست من حديد‏.‏

ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية‏.‏ وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها‏.‏

وجملة ‏{‏إنْ أتَّبع إلاّ ما يُوحي إليّ‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّه لمَّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقامُ مثيراً سؤال سائل يقول‏:‏ فماذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهَّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله‏:‏ ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن‏}‏ الخ، فيجاب بقوله‏:‏ ‏{‏إن أتَّبع إلاّ ما يوحي إليّ‏}‏، أي ليست الرسالة إلاّ التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي‏.‏

فمعنى ‏{‏أتَّبع‏}‏ مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره‏.‏ لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتِّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبَع بفتح الموحّدة، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أوْ إخبار بالغيب، فالتَّلقِّي والتبليغ هو معنى الاتِّباع، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى‏.‏ فالقصر المستفاد هنا إضافي، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة‏.‏ والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولاً حتَّى يأتيهم بالعجائب المسؤولة‏.‏ وقد حصل بذلك بيان حقيقة الرسالة تلك الحقيقة التي ضلّ عن إدراكها المعاندون‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرسل المرسلين إلاّ مبشِّرين ومنذرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وإذ قد كان القصر إضافياً كان لا محالة ناظراً إلى قلب اعتقادهم بالنسبة لمطالبهم باتِّباع مقترحاتهم، أي لا أتَّبع في التبليغ إليكم إلاّ ما يوحى إليّ‏.‏ فليس في هذا الكلام ما يقتضي قصر تصرّف الرسول عليه الصلاة والسلام على العمل بالوحي حتَّى يحتجّ بها من ينفي من علمائنا جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في أمور الدين لأنّ تلك مسألة مستقلّة لها أدلَّة للجانبين، ولا مساس لها بهذا القصر‏.‏ ومن توهّمه فقد أساء التأويل‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

هذا ختام للمجادلة معهم وتذييل للكلام المفتتح بقوله ‏{‏قل لا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏، أي قل لهم هذا التذييل عقب ذلك الاستدلال‏.‏

وشبّهت حالة من لا يفقه الأدلّة ولا يفكِّك بين المعاني المتشابهة بحالة الأعمى الذي لا يعرف أين يقصد ولا أين يضع قدمه‏.‏ وشبِّهت حالة من يُميِّز الحقائق ولا يلتبس عليه بعضها ببعض بحالة القويّ البصر حيث لا تختلط عليه الأشباح‏.‏ وهذا تمثيل لحال المشركين في فساد الوضع لأدلَّتهم وعُقم أقيستهم، ولحال المؤمنين الذين اهتدوا ووضعوا الأشياء مواضعها، أو تمثيل لحال المشركين التي هم متلبّسون بها والحال المطلوبة منهم التي نفروا منها ليعلموا أيّ الحالين أولى بالتخلّق‏.‏

وقوله ‏{‏أفلا تتفكّرون‏}‏ استفهام إنكار‏.‏ وهو معطوف بالفاء على الاستفهام الأول، لأنّه مترتِّب عليه لأنّ عدم استواء الأعمى والبصير بديهي لا يسعهم إلاّ الاعتراف بعدم استوائهما فلا جرم أن يتفرّع عليه إنكار عدم تفكّرهم في أنَّهم بأيّهما أشبه‏.‏ والكلام على الأمر بالقول مثل ما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والتفكّر‏:‏ جولان العقل في طريق استفادة علم صحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

الأظهر أنَّه عطف على قوله‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الأعمى والبصير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ لأنّ ذلك مقدّمة لذكر مَن مثّلت حالهم بحال البصير وهم المؤمنون‏.‏

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ وهو القرآن وما يُوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غير مراد به الإعجاز‏.‏

و ‏{‏والذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم‏}‏ هم المؤمنون الممثّلون بحال البصير‏.‏ وعُرّفوا بالموصول لما تدلّ عليه الصلة من المدح، ومن التعليل بتوجيه إنذاره إليهم دون غيرهم، لأنّ الإنذار للذين يخافون أن يحشروا إنذار نافع، خلافاً لحال الذين ينكرون الحشر، فلا يخافونه فضلاً عن الاحتياج إلى شفعاء‏.‏

و ‏{‏أن يحشروا‏}‏ مفعول ‏{‏يخافون‏}‏، أي يخافون الحشر إلى ربِّهم فهم يقدّمون الأعمال الصالحة وينتهون عمَّا نهاهم خيفة أن يَلقَوا الله وهو غير راض عنهم‏.‏ وخوفُ الحشر يقتضي الإيمان بوقوعه‏.‏ ففي الكلام تعريض بأنّ المشركين لا ينجع فيهم الإنذار لأنَّهم لا يؤمنون بالحشر فكيف يخافونه‏.‏‏.‏ ولذلك قال فيهم ‏{‏إنّ الذين كفروا سواء عليهم ءَأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أن يحشروا‏}‏، أي يحشروا في هذه الحالة، فهذه الحال داخلة في حيّز الخوف‏.‏ فمضمون الحال معتقد لهم، أي ليسوا ممَّن يزعمون أنّ لهم شفعاء عند الله لا تردّ شفاعتهم، فهم بخلاف المشركين الذين زعموا أصنامهم شفعاء لهم عند الله‏.‏

وقوله ‏{‏من دونه‏}‏ حال من ‏{‏ولي‏}‏ و‏{‏شفيع‏}‏، والعامل في الحال فعل ‏{‏يخافون‏}‏، أي ليس لهم ولي دون الله ولا شفيع دون الله ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا‏.‏ وهو تعريض بالمشركين الذين اتَّخذوا شفعاء وأولياء غير الله‏.‏

وفي الآية دليل على ثبوت الشفاعة بإذن الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ولصاحب «الكشاف» هنا تكلّفات في معنى ‏{‏يخافون أن يحشروا‏}‏ وفي جعل الحال من ضمير ‏{‏يحشروا‏}‏ حالاً لازمة، ولعلّه يرمي بذلك إلى أصل مذهبه في إنكار الشفاعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلّلهم يتَّقون‏}‏ رجاء مسوق مساق التعليل للأمر بإنذار المؤمنين لأنَّهم يرجى تقواهم، بخلاف من لا يؤمنون بالبعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏ لأنّه في معنى أنذرهم ولازمهم وإن كره ذلك متكبّرو المشركين‏.‏ فقد أجريت عليهم هنا صلة أخرى هي أنسب بهذا الحكم من الصلة التي قبلها، كما أنّ تلك أنسبُ بالحكم الذي اقترنت معه منها بهذا، فلذلك لم يُسلك طريق الإضمار، فيقال‏:‏ ولا تَطْردْهُم، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جاء داعياً إلى الله فأولى الناس بملازمته الذين هجيّراهم دعاء الله تعالى بإخلاص فكيف يطردهم فإنّهم أولى بذلك المجلس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتَّبعوه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏‏.‏

روى مسلم عن سعد بن أبي وقَّاص قال‏:‏ كنَّا مع النَّبيء ستة نفر، فقال المشركون للنبيء‏:‏ أطرد هؤلاء لا يَجْتَرئُون علينا‏.‏ قال‏:‏ وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هُذيل، وبلال، ورجلان، لست أسمِّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ اه‏.‏ وسمّى الواحدي بقيّة الستَّة‏:‏ وهم صهيب، وعمّار بن ياسر، والمقدادُ بن الأسود، وخبّاب بن الأرتّ‏.‏ وفي قول ابن مسعود «فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله» إجمال بيِّنه ما رواه البيهقي أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول الله‏:‏ لو طردت هؤلاء الأعْبُدَ وأرواحَ جِبَابِهم ‏(‏جمع جُبّة‏)‏ جَلَسْنا إليك وحادثناك‏.‏ فقال‏:‏ ما أنا بطارد المؤمنين‏.‏ فقالوا‏:‏ فأقمهم عنّا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال‏:‏ نعم، طَعماً في إيمانهم‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ ووقع في «سنن» ابن ماجة عن خبَّاب أنّ قائل ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم الأقْرعُ بن حابس وعُبَيْنَةُ بن حِصْن، وأنّ ذلك سبب نزول الآية، وقال ابن عطية‏:‏ هو بعيد لأنّ الآية مكية‏.‏ وعيينة والأقرع إنَّما وفَدا مع وفد بني تميم بالمدينة سنة الوفود‏.‏ اه‏.‏ قلت‏:‏ ولعلّ ذلك وقع منهما فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية التي نزلت في نظير اقتراحهما‏.‏

وفي سنده أسباط بن نصر أو نضر، ولم يكن بالقوي، وفيه السديّ ضعيف‏.‏ وروي مثله في بعض التفاسير عن سلمان الفارسي، ولا يعرف سنده‏.‏ وسمّى ابنُ إسحاق أنَّهم المستضعفون من المؤمنين وهم‏:‏ خبَّاب، وعمَّار، وأبُو فُكيهة، يسار مَولى صفوان بن أمية بن مُحرّث، وصهيب وأشباههم، وأنّ قريشاً قالوا‏:‏ ‏{‏أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ وذكر الواحدي في «أسباب النزول»‏:‏ أنّ هذه الآية نزلت في حياة أبي طالب‏.‏ فعن عكرمة قال‏:‏ جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومُطعِم بن عدي، والحارثُ بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا‏:‏ لو أنّ ابن أخيك محمداً يَطرد عنه موالينا وعبيدنا وعتقاءنا كان أعظم من صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتِّبَاعِنا إيَّاه وتصديقنا له‏.‏

فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي كلَّموه، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ لو فعلت ذلك حتَّى ننظر ما الذي يريدون وإلامَ يصيرون من قولهم، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ فلمّا نزلت أقبل عمر يعتذر‏.‏

والمعنى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان عظماء قريش ليكونوا قدوة لقومهم ولعلمه بأنّ أصحابه يحرصون حرصه ولا يوحشهم أن يقاموا من المجلس إذا حضره عظماء قريش لأنّهم آمنوا يريدون وجه الله لا للرياء والسمعة ولكن الله نهاه عن ذلك‏.‏ وسمَّاه طرداً تأكيداً لمعنى النهي، وذلك لحكمة‏:‏ وهي كانت أرجح من الطمع في إيمان أولئك، لأنّ الله اطّلع على سرائرهم فعلم أنّهم لا يؤمنون، وأراد الله أن يظهر استغناء دينه ورسوله عن الاعتزاز بأولئك الطغاة القساة، وليظهر لهم أنّ أولئك الضعفاء خير منهم، وأنّ الحرص على قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الحرص على قرب المشركين، وأنّ الدين يرغب الناس فيه وليس هو يرغب في الناس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يمنّون عليك أنْ أسلموا قُل لا تَمنُوا عليّ إسلامكم بلْ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يدعون ربّهم‏}‏ يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلاناً بالقول، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله، إذ لم يكن يومئذٍ نفاق وإنَّما ظهر المنافقون بالمدينة‏.‏

والغداة‏:‏ أوّل النهار‏.‏ والعشيّ من الزوال إلى الصباح‏.‏ والباء للظرفية‏.‏ والتعريف فيهما تعريف الجنس‏.‏ والمعنى أنّهم يدعون الله اليوم كلّه‏.‏ فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة‏.‏ وكما يقال‏:‏ الحمد لله بكرة وأصيلاً، وقيل‏:‏ أريد بالدعاء الصلاة‏.‏ وبالغداة والعشي عموم أوقات الصلوات الخمس‏.‏ فالمعنى ولا تطرد المصلّين، أي المؤمنين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بالغَداة‏}‏ بفتح الغين وبألف بعد الدال‏.‏ وقرأه ابن عامر بضمّ الغين وسكون الدال وبواو ساكنة بعد الدال وهي لغة في الغَدَاة‏.‏

وجملة ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ حال من الضمير المرفوع في ‏{‏يدعون‏}‏، أي يدعون مخلصين يريدون وجه الله، أي لا يريدون حظاً دنيوياً‏.‏

والوجه حقيقة الجزء من الرأس الذي فيه العينان والأنف والفم‏.‏ ويطلق الوجه على الذات كلّها مجازاً مرسلاً‏.‏

والوجه هنا مستعار للذات على اعتبار مضاف، أي يريدون رضى الله، أي لا يريدون إرضاء غيره‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فأينما تولّوا فثمّ وجهُ الله‏}‏، وتقدّم في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ فمعنى ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ أنَّهم آمنوا ودعوا الله لا يريدون بذلك عرضاً من الدنيا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ قريشاً طعنوا في إيمان الضعفاء ونسبوهم إلى النفاق، إلاّ أنّ هذا لم يرد به أثر صحيح، فالأظهر أنّ قوله ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ ثناء عليهم بكمال إيمانهم، وشهادة لهم بأنَّهم مجرّدون عن الغايات الدنيوية كلّها، وليس المقصود به الرّدّ على المشركين‏.‏

وجملة ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء‏}‏ تعليل للنهي عن طردهم، أو إبطال لعلّة الهَمّ بطردهم، أو لعلَّة طلب طردهم‏.‏ فإنّ إبطال علَّة فعل المنهي عنه يؤول إلى كونه تعليلاً للنهي، ولذا فصلت هذه الجملة‏.‏

والحسابُ‏:‏ عَدّ أفراد الشيء ذي الأفراد ويطلق على إعمال النظر في تمييز بعض الأحوال عن بعض إذا اشتبهت على طريقة الاستعارة بتشبيه تتبّع الأحوال بعَدّ الأفراد‏.‏ ومنه جاء معنى الحِسْبةَ بكسر الحاء، وهي النظر في تمييز أحوال أهل السوق من استقامة وضدّها‏.‏ ويقال‏:‏ حاسبَ فلاناً على أعماله إذا استقراها وتتبّعها‏.‏ قال النابغة‏:‏

يُحاسِبُ نفسه بِكَمْ اشتراها ***

فالحساب هنا مصدر حاسب‏.‏ والمراد به تتبّع الأعمال والأحوال والنظر فيما تقابل به من جزاء‏.‏

وضمير الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏من حسابهم‏}‏ وقوله ‏{‏وما من حسابك عليهم‏}‏ يجوز أن يكونا عائدين إلى ‏{‏الذين يَدْعون ربّهم‏}‏ وهو مَعَاد مَذْكور، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع قوله ‏{‏فتطردهم‏}‏‏.‏ فالمعنى أنَّهم أهل الحقّ في مجلسك لأنَّهم مؤمنون فلا يطردون عنه وما عليك أن تحسب ما عدا ذلك من الأمور العارضة لهم بزعم المشركين، وأنّ حضور أولئك في مجلسك يصدّ كبراء المشركين عن الإيمان، أي أنّ ذلك مدحوض تجاه حقّ المؤمنين في مجلس رسولهم وسماع هديه‏.‏

وقيل معنى‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم‏}‏ أنّ المشركين طعنوا في إخلاص هؤلاء النفر، قالوا‏:‏ يا محمد إنّ هؤلاء إنّما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنَّهم يجدون مأكولاً وملبوساً عندك، فقال الله تعالى‏:‏ ما يلزمك إلاّ اعتبار ظاهرهم وإن كان لهم باطن يخالفه فحسابهم على الله، أي إحصاء أحوالهم ومناقشتهم عليها على نحو قول نوح ‏{‏إنْ حسابُهم إلاّ على ربِّي لو تَشعرون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ فمعنى حسابهم على هذا الوجه تمحيص نياتهم وبواطنهم‏.‏ والقصد من هذا تبكيتُ المشركين على طريقة إرخاء العنان، وليس المراد استضعاف يقين المؤمنين‏.‏ و‏{‏حسابهم‏}‏ على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله‏.‏

ويجوز أن يكون الضميران عائدين إلى غير مذكور في الكلام ولكنّه معلوم من السياق الذي أشار إليه سبب النزول، فيعود الضميران إلى المشركين الذين سألوا طَرد ضعفاء المؤمنين من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ضمير ‏{‏فتطردهم‏}‏ عائداً إلى المؤمنين‏.‏ ويختلف معاد الضميرين اعتماداً على ما يعيِّنه سياق الكلام، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعَمَرُوها أكثر ممَّا عمروها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 9‏]‏، وقول عباس بن مرداس في وقعة حنين‏:‏

عُدْنَا ولولا نَحْنُ أحْدَقَ جَمعُهم *** بالمسلمين وأَحرَزُوا ما جَمَّعُوا

أي أحرز المشركون ما جمعه المسلمون من الغنائم‏.‏

والمعنى‏:‏ ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بِك أو على عدم الإيمان شيء، فإنّ ذلك موكول إليّ فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقّاً لأجل تحصيل إيمان المشركين، فيكون من باب قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أوْلَى بهما فلا تتَّبعوا الهوى أن تعدلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وعلى هذا الوجه يجوز كون إضافة ‏{‏حسابهم‏}‏ من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي محاسبتك إيّاهم‏.‏ ويجوز كونها من إضافته إلى فاعله، أي من حساب المشركين على هؤلاء المؤمنين فقرَهم وضعفهم‏.‏

و ‏{‏عليك‏}‏ خبر مقدّم‏.‏ و‏(‏على‏)‏ فيه دالّة على معنى اللزوم والوجوب لأنّ الرسول عليه الصلاة والسلام همّ أو كان بحيث يهمّ بإجابة صناديد قريش لما سألوه، فيكون تنبيهاً على أنّ تلك المصلحة مدحوضة‏.‏

و ‏(‏منْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ زائدة لتوكيد النفي للتنصيص على الشمول في سياق النفي، وهو الحرف الذي بتقديره بُني اسم ‏(‏لا‏)‏ على الفتح للدلالة على إرادة نفي الجنس‏.‏

وتقديم المسنَدَين على المسند إليهما في قوله ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ تقديم غير واجب لأنّ للابتداء بالنكرتين هنا مسوّغاً، وهو وقوعهما في سياق النفي، فكان تقديم المجرورين هنا اختيارياً فلا بدّ له من غرض‏.‏ والغرض يحتمل مجرّدَ الاهتمام ويحتمل الاختصاص‏.‏ وحيث تأتّى معنى الاختصاص هنا فاعتباره أليق بأبلغ كلام، ولذلك جرى عليه كلام «الكشاف»‏.‏ وعليه فمعنى الكلام قصر نفي حسابهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليفيد أنّ حسابهم على غيره وهو الله تعالى‏.‏ وذلك هو مفاد القصر الحاصل بالتقديم إذا وقع في سياق النفي، وهو مفاد خِفي على كثير لقلّة وقوع القصر بواسطة التقديم في سياق النفي‏.‏ ومثالُه المشهور قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا فيها غوْل‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 47‏]‏ فإنَّهم فسّروه بأنّ عدم الغول مقصور على الاتِّصاف بفِي خمور الجنَّة، فالقصر قصر قلب‏.‏

وقد اجتمع في هذا الكلام خمسة مؤكِّدات‏.‏ وهي ‏(‏مِنْ‏)‏ البيانية، و‏(‏مِنْ‏)‏ الزّائدة، وتقديم المعمول، وصيغة الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء‏}‏، والتأكيدُ بالتَّتميم بنفي المقابل في قوله‏:‏ ‏{‏وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏، فإنَّه شبيه بالتوكيد اللفظي‏.‏ وكلّ ذلك للتنصيص على منتهى التبرئة من محاولة إجابتهم لاقتراحهم‏.‏

ويُفيد هذا الكلام التعريضَ برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام حين ما يحضرون وأوهموا أنّ ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به والكون من أصحابه، فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقضي أصحابَه عن مجلسه ليعلم السائلون أنّهم سألوه ما لا يقع ويعلموا أنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على كذبهم، وأنّهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خُوَيْصتِهم، فيكون الخطاب على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أشركتَ ليحبطنّ عَمَلُك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وقد صرّح بذلك في قوله بعدُ

‏{‏ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وإذ كان القصر ينحلّ على نسبتي إثبات ونفي فالنسبة المقدّرة مع القصر وهي نسبة الإثبات ظاهرة من الجمع بين ضمير المخاطب وضمير الغائبين، أي عدم حسابهم مقصور عليك، فحسابهم على أنفسهم إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة‏.‏

وقد دلّ على هذا أيضاً قوله بعده ‏{‏ومَا من حسابك عليهم من شيء‏}‏ فإنّه ذُكر لاستكمال التعليل، ولذلك عطف على العلّة، لأنّ مجموع مدلول الجملتين هو العلّة، أي حسابهم ليس عليك كما أنّ حسابك ليس عليهم بل على نفسك، إذ كلّ نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزْر أخرى‏.‏ فكما أنّك لا تنظُر إلاّ إلى أنَّهم مؤمنون، فهم كذلك لا يطلب منهم التفريط في حق من حقوق المؤمنين لتسديد رغبة منك في شيء لا يتعلّق بهم أو لتحصيل رغبة غيرهم في إيمانه‏.‏ وتقديم المسند على المسند إليه هنا كتقديمه في نظيره السابق‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ تعريض بالمشركين بأنَّهم أظهروا أنّهم أرادوا بطرد ضعفاء المؤمنين عن مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم النصح له ليكتسب إقبال المشركين عليه والإطماع بأنَّهم يؤمنون به فيكثر متَّبعوه‏.‏

ثم بهذا يظهر أن ليس المعنى‏:‏ بل حسابهم على الله وحسابك على الله، لأنّ هذا غير مناسب لسياق الآية، ولأنَّه يصير به قوله‏:‏ ‏{‏وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ مستدركاً في هذا المقام، ولذلك لم يتكرّر نظير هذه الجملة الثانية مع نظير الجملة الأولى فيما حكى الله عن نوح ‏{‏إن حسابهم إلاّ على ربِّي‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏ لأنّ ذلك حكي به ما صدر من نوح وما هنا حكي به كلام الله تعالى لرسوله، فتنبّهْ‏.‏

ويجوز أن يكون تقديم المسند في الموضعين من الآية لمجرّد الاهتمام بنفي اللزوم والوجوب الذي دلّ عليه حرف ‏(‏على‏)‏ في الموضعين لا سيما واعتبار معنى القصر في قوله وَمَا مِن حسابك عليهم من شيء‏}‏ غيرُ واضح، لأنَّنا إذا سلَّمنا أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام شِبْه اعتقاد لزوممِ تتَّبع أحوالهم فقُلب ذلك الاعتقاد بالقصر، لا نجد ذلك بالنسبة إلى ‏{‏الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي‏}‏ إذ لا اعتقاد لهم في هذا الشأن‏.‏

وقدّم البيان على المبيَّن في قوله‏:‏ ‏{‏وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ لأنّ الأهمّ في المقامين هو ما يختصّ بالمخاطب المعرِّضُ فيه بالذين سألوه الطرد لأنَّه المقصود بالذات، وإنَّما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدّم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتطردهم‏}‏ منصوب في جواب النهي الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرُد الذين يدعون ربَّهم‏}‏‏.‏ وإعادة فعل الطرد دون الاقتصار على قوله‏:‏ ‏{‏فتكونَ من الظالمين‏}‏، لإفادة تأكيد ذلك النهي وليبنى عليه قوله ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ لوقوع طول الفصل بين التفريع والفرّع عليه‏.‏ فحصل بإعادة فعل ‏{‏فتطردهم‏}‏ غرضان لفظي ومعنوي‏.‏

على أنَّه يجوز أن يجعل ‏{‏فتطردهم‏}‏ منصوباً في جواب النفي من قوله‏:‏ ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏، أي لا تطردهم إجابة لرغبة أعدائهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ عطف على ‏{‏فتطردهم‏}‏ متفرّع عليه، أي فتكون من الظالمين بطردهم، أي فكونه من الظالمين منتف تبعاً لانتفاء سببه وهو الطرد‏.‏

وإنَّما جُعل طردهم ظلماً لأنَّه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلماً لهم‏.‏ وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنَّهم ظالمون مفطرون على الظلم؛ ويجوز أن يجعل قوله‏:‏ ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ منصوباً في جواب النهي، ويجعل قوله ‏{‏فتطردهم‏}‏ جيء به على هذا الأسلوب لتجديد ربط الكلام لطول الفصل بين النهي وجوابه بالظرف والحال والتعليل؛ فكان قوله ‏{‏فتطردهم‏}‏ كالمقدّمة لقوله ‏{‏فتكون من الظالمين‏}‏ وليس مقصودٌ بالذات للجوابية؛ فالتقدير‏:‏ فتكون من الظالمين بطردهم‏.‏