فصل: تفسير الآيات رقم (127- 128)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 128‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏قال الملأ‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏قال فرعون آمنتم به‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 123‏]‏ أو على حملة ‏{‏قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 109‏]‏‏.‏ وإنما عطفت ولم تفصل لأنها خارجة عن المحاورة التي بين فرعون ومن آمن من قومه بموسى وآياته، لأن أولئك لم يعرجوا على ذكر ملأ فرعون، بل هي محاورة بين ملإ فرعون وبينه في وقت غير وقت المحاورة التي جرت بين فرعون والسحرة، فإنهم لمّا رأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون، ورأوا قلة اكتراث المؤمنين بوعيد فرعون، ورأوا نهوض حجتهم على فرعون وإفحامَه‏.‏ وأنه لم يَحرْ جَوَاباً‏.‏ راموا إيقاظ ذهنه، وإسعارَ حميته، فجاءوا بهذا الكلام المثير لغضب فرعون، ولعلهم رأوا منه تأثراً بمعجزة موسى وموعظة الذين آمنوا من قومه وتوقعوا عدوله عن تحقيق وعيده، فهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة‏:‏ ‏{‏قال موسى لقومه استعينوا بالله‏}‏‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أتذر موسى‏}‏ مستعمل في الإغراء بإهلاك موسى وقومه والإنكار على الإبطاء بإتلافهم، وموسى مفعول ‏{‏تذر‏}‏ أي تتركه متصرفاً ولا تأخذ على يده‏.‏

والكلام على فعل ‏{‏تذر‏}‏ تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً‏}‏ في الأنعام ‏(‏70‏)‏‏.‏

وقوم موسى هم من آمن به، وأولئك هم بنوا إسرائيل كلهم ومَن آمن من القبط‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ليفسدوا‏}‏ لام التعليل وهو مبالغة في الإنكار إذ جعلوا ترك موسى وقومه معللاً بالفساد، وهذه اللام تسمى لام العاقبة، وليست العاقبة معنى من معاني اللام حقيقة ولكنها مجاز‏:‏ شُبه الحاصل عقب الفعل لا محالة بالغرض الذي يفعل الفعل لتحصيله، واستعير لذلك المعنى حرفُ اللام عوَضاً عن فاء التعقيب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والإفساد عندهم هو إبطال أصول ديانتهم وما ينشأ عن ذلك من تفريق الجماعة وحث بني إسرائيل على الحرية، ومغادرة أرض الاستعباد‏.‏

و ‏{‏الأرض‏}‏ مملكة فرعون وهي قطر مصر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويذَرَك‏}‏ عطف على ‏{‏ليفسدوا‏}‏ فهو داخلي التعليل المجازي، لأنّ هذا حاصل في بقائهم دون شك، ومعنى تركهم فرعون، تركهم تأليهه وتعظيمه، ومعنى ترك آلهته نبذُهم عبادتَها ونهيُهم الناس عن عبادتها‏.‏

والآلهة جمع إله، ووزنه أفعلة، وكان القبط مشركين يعبدون آلهة متنوعة من الكواكب والعناصر وصوروا لها صوراً عديدة مختلفة باختلاف العصور والأقطار، أشهرها ‏(‏فتاح‏)‏ وهو أعظمها عندهم وكان يُعبد بمدينة ‏(‏مَنْفيس‏)‏، ومنها ‏(‏رع‏)‏ وهو الشمس وتتفرع عنه آلهة باعتبار أوقات شعاع الشمس، ومنها ‏(‏ازيريس‏)‏ و‏(‏إزيس‏)‏ و‏(‏هوروس‏)‏ وهذا عندهم ثالوث مجموع من أب وأم وابن، ومنها ‏(‏توت‏)‏ وهو القمر وكان عندهم رب الحكمة، ومنها ‏(‏أمُون رع‏)‏ فهذه الأصنام المشهورة عندهم وهي أصل إضلال عقولهم‏.‏

وكانت لهم أصنام فرعية صغرى عديدة مثل العجل ‏(‏إيبيس‏)‏ ومثل الجعران وهو الجُعل‏.‏

وكان أعظم هذه الأصنام هو الذي ينتسب فرعونُ إلى بُنوتهِ وخدمته، وكان فرعون معدوداً ابنَ الآلهة وقد حلت فيه الإلهية على نحو عقيدة الحلول، ففرعون هو المنفذ للدين، وكان يعد إله مصر، وكانت طاعته طاعة للآلهة كما حكى الله تعالى عنه‏:‏ ‏{‏فقال أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏ما علمْتُ لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وتوعُد فرعون موسى وقومه بالاستئصال بقتل الأبناء والمراد الرجال بقرينة مقابلته بالنساء، والضمير المضاف إليه عائد على موسى وقومه، فالإضافة على معنى ‏(‏من‏)‏ التبعيضية‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير، وأبو جعفر‏:‏ ‏{‏سنقتل‏}‏ بفتح النون وسكون القاف وضم التاء وقرأه البقية بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء للمبالغة في القتل مبالغة كثرة واستيعاب‏.‏

والاستحياء‏:‏ مبالغة في الإحياء، فالسين والتاء فيه للمبالغة، وإخباره ملأه باستحياء النساء تتميم لا أثر له في إجابة مقترح ملئه، لأنهم اقترحوا عليه أن لا يُبقي موسى وقومه فأجابهم بما عزم عليه في هذا الشأن، والغرض من استبقاء النساء أن يتخذوهن سراري وخدماً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وإنّا فوقهم قاهرون‏}‏ اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه، أي‏:‏ هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر‏:‏ الغالب بإذلال‏.‏

و ‏{‏فوقهم‏}‏ مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة ‏{‏فوقهم‏}‏ مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره، فهي تمثيلية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قال موسى لقومه‏}‏ واقعة جواباً لقول قومه ‏{‏إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 125‏]‏ إلى آخرها الذي أجابوا به عن وعيد فرعون، فكان موسى معدوداً في المحاورة، ولذلك نزل كلامه الذي خاطب به قومه منزلة جواب منه لفرعون، لأنه في قوة التصريح بقلة الاكتراث بالوعيد، وبدفع ذلك بالتوكل على الله‏.‏

والتوكل هو جُماع قوله‏:‏ ‏{‏استعينوا بالله واصبروا‏}‏ وقد عبر عن ذلك بلفظ التوكل في قوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين‏}‏ في سورة يونس ‏(‏84‏)‏، فإن حقيقة التوكل أنه طلب نصر الله وتأييده في الأمر الذي يُرغب حصوله، وذلك داخل في الاستعانة وهو يستلزم الصبر على الضر لاعتقاد أنه زائل بإذن الله‏.‏

وخاطب موسى قومه بذلك تطميناً لقلوبهم، وتعليماً لهم بنصر الله إياهم لأنه علم لأنه بوحي الله إليه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله‏}‏ تذييل وتعليل للأمر بالاستعانة بالله والصبر، أي‏:‏ افعلوا ذلك لأن حكم الظلم لا يدوم، ولأجل هذا المعنى فصلت الجملة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏}‏ كناية عن ترقب زوال استعباد فرعون إياهم، قصد منها صرف اليأس عن أنفسهم الناشئ عن مشاهدة قوة فرعون وسلطانه، بأن الله الذي خوله ذلك السلطان قادر على نزعه منه لأن ملك الأرض كلها لله فهو الذي يقدر لمن يشاء ملك شيء منها وهو الذي يقدر نزعه‏.‏

فالمراد من الأرض هنا الدنيا لأنه أليق بالتذييل وأقوى في التعليل، فهذا إيماء إلى أنهم خارجون من مصر وسيملكون أرضاً أخرى‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ تذييل، فيجوز أن تكون الواو اعتراضية، أي‏:‏ عاطفة على ما في قوله‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله‏}‏ من معنى التعليل، فيكون هذا تعليلاً ثانياً للأمر بالاستعانة والصبر، وبهذا الاعتبار أوثر العطف بالواو على فصل الجملة مع أن مقتضى التذييل أن تكون مفصولة‏.‏

والعاقبة حقيقتها نهاية أمر من الأمور وآخره، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكان عاقبتهما أنهما في النار‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 17‏]‏، وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ في أول سورة الأنعام ‏(‏11‏)‏، فإذا عُرفَت العاقبة باللام كان المراد منها انتهاء أمر الشيء بأحسن من أوله ولعل التعريف فيها من قبيل العلم بالغلبة‏.‏ وذلك لأن كل أحد يود أن يكون آخرُ أحواله خيراً من أولها؛ لكراهة مفارقة الملائم، أو للرغبة في زوال المنافر، فلذلك أطلقت العاقبة معرَفة على انتهاء الحال بما يسر ويلائم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبة للتقوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏ وفي حديث أبي سفيان قول هرقل‏:‏ «وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» فلا تطلق المعرفة على عاقبة السوء‏.‏ فالمراد بالعاقبة هنا عاقبة أمورهم في الحياة الدنيا ليناسب قوله ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏}‏ وتشمل عاقبة الخير في الآخرة لأنها أهم ما يلاحظه المؤمنون‏.‏ والمتقون‏:‏ المؤمنون العاملون‏.‏

وجيء في جملتي‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏}‏ بلفظين عامين، وهما‏:‏ من يشاء من عباده والمتقين، لتكون الجملتان تذييلاً للكلام وليحرص السامعون على أن يكونوا من المتقين‏.‏

وقد علم من قوله‏:‏ ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم، وأن تمليك الأرض لغيرهم إمّا عارض وإمّا لاستواء أهل الأرض في عدم التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا‏}‏ حكاية جواب قوم موسى إياه، فلذلك فصلت جملة القول على طريقة المحاورة، وهذا الخبر مستعمل في الشكاية واستئثارتهم موسى ليدعو ربه أن يفرج كربهم‏.‏

والإيذاء‏:‏ الإصابة بالأذى، والأذى ما يؤلم ويحزن من قول أو فعل، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضروكم إلاّ أذى‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏111‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فصَبروا على ما كُذبوا وأوذوا‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏، وهو يكون ضعيفاً وقوياً، ومرادهم هنا القوي منه، وهو ما لحقهم من الاستعباد وتكليفهم الأعمال الشاقة عليهم في خدمة فرعون وما توعدهم به فرعون بعد بعثة موسى من القطع والصلب وقتل الأبناء، وكأنهم أرادوا التعريض بنفاد صبرهم وأن الأذى الذي مسهم بعد بعثة موسى لم يكن بداية الأذى، بل جاء بعد طول مدة في الأذى، فلذلك جمعوا في كلامهم ما لحقهم قبل بعثة موسى‏.‏

وقد توهم بعض المفسرين أن هذا امتعاض منهم مما لحقهم بسبب موسى وبواسطته مستنداً إلى أن قتل الذكور منهم كان قبل مجيء موسى بسبب توقع ولادة موسى، وكان الوعيد بمثله بعد مجيئه بسبب دعوته، وليس ذلك بمتجه لأنه لو كان هو المراد لما كان للتعبير بقوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تأتينا‏}‏ موقع، والإتيان والمجيء مترادفان، فذكر المجيء بعد الإتيان ليس لاختلاف المعنى، ولكنه للتفنن وكراهية إعادة اللفظ‏.‏

والإتيان والمجيء مدلولهما واحد، وهو بعثة موسى بالرسالة، فجعل الفعل المعبّر عنه حين عُلق به ‏(‏قبل‏)‏ بصيغة المضارع المقترن ب ‏(‏أن‏)‏ الدالة على الاستقبال والمصدرية لمناسبة لفظ ‏(‏قبل‏)‏ لأن ما يضاف إلى ‏(‏قبل‏)‏ مستقبل بالنسبة لمدلولها، وجُعل حين علق به ‏(‏بعد‏)‏ بصيغة الماضي المقترن بحرف ‏(‏مّا‏)‏ المصدرية لأن ‏(‏ما‏)‏ المصدرية لا تفيد الاستقبال ليناسب لفظ ‏(‏بعد‏)‏ لأن مضاف كلمة ‏(‏بعد‏)‏ ماض بالنسبة لمدلولها‏.‏

فأجابهم موسى بتقريب أن يكونوا هم الذين يرثون مُلك الأرض والذين تكون لهم العاقبة‏.‏

وجاء بفعل الرجاء دون الجزم تأدباً مع الله تعالى، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضى الله تعالى ونصره‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم‏}‏ ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويَسْتخلفَكم في الأرض‏}‏ ناظر إلى قوله ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏‏.‏

والمراد بالعدو، فرعون وحزبه، فوصفُ عدو يوصف به الجمع قال تعالى‏:‏ ‏{‏هم العدو‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والمراد بالاستخلاف‏:‏ الاستخلاف عن الله في مُلك الأرض‏.‏ والاستخلاف إقامة الخليفة، فالسين والتاء لتأكيد الفعل مثل استجاب له، أي جعلهم أحراراً غالبين ومؤسسين ملكاً في الأرض المقدسة‏.‏

ومعنى ‏{‏فينظر كيف تعملون‏}‏ التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله تعالى، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين، تذكيراً لهم بأنه عليم بما يعملونه‏.‏

فالنظر مستعمل في العلم بالمرئيات، والمقصود بما ‏{‏تعملون‏}‏ عملهم مع الناس في سياسة ما استخلفوا فيه، وهو كله من الأمور التي تشاهد إذ لا دخل للنيات والضمائر في السياسة وتدبير الممالك، إلاّ بمقدار ما تدفع إليه النيات الصالحة من الأعمال المناسبة لها، فإذا صدرت الأعمال صالحة كما يرضي الله، وما أوصى به، حصل المقصود، ولا يضرها ما تكنه نفس العامل‏.‏

و ‏(‏كيف‏)‏ يجوز كونها استفهاماً فهي معلّقة لفعل ‏(‏ينظرُ‏)‏ عن المفعول، فالتقدير فينظر جواب السؤال ب ‏{‏كيف تعملون‏}‏، ويجوز كونها مجردة عن معنى الاستفهام دالة على مجرد الكيفية، فهي مفعول به ل ‏{‏ينظرَ‏}‏ كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏6‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظْر كيف نبين لهم الآيات‏}‏ في سورة المائدة ‏(‏75‏)‏ وقد تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 131‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

هذا انتقال إلى ذكر المصائب التي أصاب الله بها فرعون وقومه، وجعلها آيات لموسى، ليلجئ فرعون إلى الإذن لبني إسرائيل بالخروج، وقد وقعت تلك الآيات بعد المعجزة الكبرى التي أظهرها الله لموسى في مجمع السحرة، ويظهر أن فرعون أغضى عن تحقيق وعيده إبقاء على بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقومون بالأشغال العظيمة لفرعون‏.‏

ويُؤخذ من التوراة أن موسى بقي في قومه مدة يعيد محاولة فرعون أن يطلق بني إسرائيل، وفرعون يَعد ويُخلف، ولم تضبط التوراة مدة مقام موسى كذلك، وظاهرها أن المدة لم تطُل، وليس قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالسنين‏}‏ دليلاً على أنها طالت أعواماً لأن السنين هنا جمع سنة بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر‏.‏ فالسنة في كلام العرب إذا عرفت باللام يراد بها سنة الجدب، والقحط، وهي حينئذٍ علم جنس بالغلبة، ومن ثَم اشتقوا منها‏:‏ أسْنَت القومُ، إذا أصابهم الجدب والقحط، فالسنين في الآية مراد بها القحوط وجمعها باعتبار كثرة مواقعها أي‏:‏ أصابهم القحط في جميع الأرضين والبلدان، فالمعنى‏:‏ ولقد أخذناهم بالقحوط العامة في كل أرض‏.‏

والأخْذُ‏:‏ هنا مجاز في القهر والغلبة، كقوله‏:‏ ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ويصح أن يكون هنا مجازاً في الإصابة بالشدائد، لأن حقيقة الأخذ‏:‏ تناول الشيء باليد، وتعددت إطلاقاته، فأطلق كناية عن الملك‏.‏

وأطلق استعارة للقهر والغلبة، وللإهلاك‏.‏ وقد تقدمت معانيه متفرقة في السور الماضية‏.‏

وجملة ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ في موضع التعليل لجملة ‏{‏ولقد أخذنا‏}‏ فلذلك فصلت‏.‏

ونقص الثمرات قلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم‏.‏ فتنوين ‏{‏نقص‏}‏ للتكثير ولذلك نكر ‏(‏نقص‏)‏ ولم يضف إلى ‏(‏الثمرات‏)‏ لئلا تفوت الدلالة على الكثرة‏.‏

فالسنون تنتاب المزارع والحقول، ونقص الثمرات ينتاب الجنات‏.‏

و ‏(‏لعل‏)‏ للرجاء، أي مرجوا تذكرهم، لأن المصائب والأضرار المقارنة لتذكير موسى إياهم بربهم، وتسريح عبيده، من شأنها أن يكون أصحابها مرجواً منهم أن يتذكروا بأن ذلك عقاب على إعراضهم وعلى عدم تذكرهم، لأن الله نصب العلامات للاهتداء إلى الخفيات كما قدمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا في قرية من نبيء‏}‏ في هذه السورة ‏(‏94‏)‏، فشأن أهل الألباب أن يتذكروا، فإذا لم يتذكروا، فقد خيبوا ظن من يظن بهم ذلك مثل موسى وهارون، أما الله تعالى فهو يعلم أنهم لا يتذكرون ولكنه أراد الإملاء لهم، وقطع عذرهم، وذلك لا ينافي ما يدل عليه ‏(‏لعل‏)‏ من الرجاء لأن دلالتها على الراجي والمرجو منه دلالة عرفية، وقد تقدم الكلام على وقوع ‏(‏لعل‏)‏ في كلام الله تعالى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏21‏)‏‏.‏

وفي هذه الآية تنبيه للأمة للنظر فيما يحيط بها من دلائل غضب الله فإن سلب النعمة للمنعم عليهم تنبيه لهم على استحقاقهم إعراض الله تعالى عنهم‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة‏}‏ لتفريع هذا الخبر على جملة ‏{‏أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ أي‏:‏ فكان حالهم إذا جاءتهم الحسنة الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فلم يتذكروا ولكنهم زادوا كفراً وغروراً‏.‏

والمجيء‏:‏ الحصول والإصابة، وإنما عبر في جانب الحسنة بالمجيء لأن حصولها مرغوب، فهي بحيث تُترقب كما يُترقَب الجائي، وعبر في جانب السيئة بالإصابة لأنها تحصل فجأة من غير رغبة ولا ترقب‏.‏

وجيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية لأن الغالب في ‏(‏إذا‏)‏ الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين كقولك‏:‏ إذا طلعت الشمس فعلتُ كذا، ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع ‏(‏إذا‏)‏ فعلاً ماضياً لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول من المستقبل، كما في الآية، فالحسنات أي‏:‏ النعم كثيرة الحصول تنتابهم متوالية من صحة وخصب ورخاء ورفاهية‏.‏ وجيء في جانب السيئة بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ لأن الغالب أن تدل ‏(‏إنْ‏)‏ على التردد في وقوع الشرط، أو على الشك، ولكون الشيء النادر الحصول غير مجزوم بوقوعه، ومشكوكاً فيه، جيء في شرط إصابة السيئة بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ لندرة وقوع السيئات أي‏:‏ المكروهات عليهم، بالنسبة إلى الحسنات، أي‏:‏ النعم، وفي ذلك تعريض بأن نعم الله كانت متكاثرة لديهم وأنهم كانوا معرضين عن الشكر، وتعريض بأن إصابتهم بالسيئات نادرة وهم يعدون السيئات من جراء موسى ومن آمن معه، فهم في كلتا الحالتين بين كافرين بالنعمة وظالمين لموسى ومن معه، ولهذين الاعتبارين عُرفت الحسنة تعريف الجنس المعروف في علم المعاني بالعهد الذهني، أي‏:‏ جاءتهم الحسنات، لأن هذا الجنس محبوب مألوف كثير الحصول لديهم، ونكرت ‏{‏سيئة‏}‏ لندرة وقوعها عليهم، ولأنها شيء غير مألوف حلوله بهم، أي‏:‏ وإن تصبهم آية سيئة، كذا في «الكشاف» و«المفتاح»‏.‏

واعْلم أن التفرقة بين تعريف الجنس والتنكير من لطائف الاستعمال البَلاغي، كما أشرنا إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة الفاتحة ‏(‏2‏)‏، وأما من جهة مُفاد اللفظ، فالمعرف بلام الجنس والمنكرة سواء، فلا تظن أن اللام للعهد لحسنة معهودة ووقوع المعرف بلام الجنس والنكرة في سياق الشرط، في هذه الآية يعم كل حسنة وكل سيئة‏.‏ والحسنة والسيئة هنا مراد بهما الحالة الحسنة والحالة السيئة‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لنا‏}‏ هذه لام الاستحقاق أي‏:‏ هذه الحسنة حق لنا، لأنهم بغرورهم يحسبون أنهم أحرياء بالنعم، أي‏:‏ فلا يرون تلك الحسنة فضلاً من الله ونعمة‏.‏

‏{‏ويَطَيّرُوا‏}‏ أصله يتَطيروا، وهو تَفَعّلُ، مشتق من اسم الطَيْرِ، كأنهم صاغوه على وزن التفعّل لما فيه من تكلف معرفة حظ المرء بدلالة حركات الطير، أو هو مطاوعة سمي بها ما يحصل من الانفعال من إثر طيران الطير‏.‏ وكان العرب إذا خرجوا في سفر لحاجة، نظروا إلى ما يلاقيهم أول سيرهم من طائر، فكانوا يزعمون أن في مروره علامات يُمن وعلاماتتِ شُؤم، فالذي في طيرانه علامة بُمننٍ في إصطلاحهم يسمونه السانح، وهو الذي ينهض فيطير من جهة اليمين للسائر والذي علامته الشؤم هو البَارح وهو الذي يمر على اليسار، وإذا وجد السائر طيراً جاثماً آثاره لينظر أي جهة يطير، وتسمى تلك الإثارة زجراً، فمن الطير ميمون ومنه مشؤوم والعرب يدْعُون للمسافر بقولهم «على الطائر الميمون»، ثم غلب استعمال لفظ التطير في معنى التشاؤم خاصة، يقال الطيرة أيضاً، كما في الحديث

«لا طيرة وإنما الطيرَة على من تطيّر» أي‏:‏ الشؤم يقع على من يتشاءم، جعل الله ذلك عقوبة له في الدنيا لسوء ظنه بالله، وإنما غلب لفظ الطيرة على التشاؤم لأن للأثر الحاصل من دلالة الطيران على الشؤم دلالة أشد على النفس، لأن توقع الضر أدخل في النفوس من رجاء النفع‏.‏ والمراد به في الآية أنهم يتشاءمون بموسى ومن معه فاستعمل التطير في التشاؤم بدون دلالة من الطير، لأن قوم فرعون لم يكونوا ممن يزجر الطير فيما علمنا من أحوال تاريخهم، ولكنهم زعموا أن دعوة موسى فيهم كانت سبب مصائب حلت بهم، فعبر عن ذلك بالتطير على طريقة التعبير العربي‏.‏

والتشاؤم‏:‏ هو عد الشيء مشؤوماً، أي‏:‏ يكون وجوده‏.‏ سبباً في وجود ما يُحزن ويضر، فمعنى ‏{‏يَطَّيّرُوا بموسى‏}‏ يحسبون حلول ذلك بهم مسبباً عن وجود موسى ومن آمن به وذلك أن آل فرعون كانوا متعلقين بضلال دينهم، وكانوا يحسبون أنهم إذا حافظوا على إتباعه كانوا في سعادة عيش، فحسبوا وجود من يخالف دينهم بينهم سبباً في حلول المصائب والإضرار بهم فتشاءموا بهم، ولم يعلموا أن سبب المصائب هو كفرهم وإعراضهم، لأن حلول المصائب بهم يلزم أن يكون مسبباً عن أسباب فيهم لا في غيرهم‏.‏ وهذا من العَماية في الضلالة فيبقون منصرفين عن معرفة الأسباب الحقيقية، ولذلك كان التطير من شعار أهل الشرك لأنه مبني على نسبة المسببات لغير أسبابها، وذلك من مخترعات الذين وضعوا لهم ديانة الشرك وأوهامها‏.‏

في الحديث «الطيرة شرك» وتأويله أنها‏:‏ من بقايا دين الشرك، ويقع بعد فعل التطير باء، وهي باء السببية تدخل على موجب التطير، وقد يقال أيضاً‏:‏ تطير من كذا‏.‏

وعطفُ ‏{‏ومن معه‏}‏، أي‏:‏ من آمنوا به، لأن قوم فرعون يعدون موجب شُؤم موسى هو ما جاء به من الدين لأنه لا يُرضي آلهتهم ودينهم، ولولا دينُه لم يكن مشؤوماً كما قال ثمود ‏{‏قد كنت فينا سرجوا قبل هذا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 62‏]‏‏.‏

و ‏{‏ألا‏}‏ حرف استفتاح يفيد الاهتمام بالخبر الوارد بعده‏.‏ تعليماً للأمة، وتعريضاً بمشركي العرب‏.‏

والطائر‏:‏ اسم للطير الذي يُثار ليتيمن به أو يتشاءَم، واستعير هنا للسبب الحق لحلول المصائب بهم بعلاقة المشاكلة لقوله‏:‏ ‏{‏يطيروا‏}‏ فشبه السبب الحق، وهو ما استحقوا به العذاب من غضب الله بالطائر‏.‏

و ‏{‏عند‏}‏ مستعملة في التصرف مجازاً لأن الشيء المتصرف فيه كالمستقر في مكان، أي‏:‏ سبب شؤمهم مقدر من الله، وهذا كما وقع في الحديث‏:‏ ‏"‏ ولا طيْرَ إلا طَيْرُك ‏"‏ فعبر عما قدره الله للناس «بطير» مشاكلة لقوله‏:‏ «ولا طَيْر» ومن فسر الطائر بالحظ فقد أبعد عن السياق‏.‏

والقصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ إضافي أي‏:‏ سوء حالهم عقابٌ من الله، لا من عند موسى ومن معه، فلا ينافي أن المؤمنين يعلمون أن سبب حلول المصائب بأهل الشرك المعاندين للرسل، هو شركهم وتكذيبهم الرسل‏:‏ يعلمون ذلك بأخبار الرسل، أو بصدق الفراسة وحسن الاستدلال، كما قال أبو سفيان ليلة الفتح لما هداه الله «لقد علمتُ أن لو كان معه إله آخر لَقد أغنَى عني شيئاً»‏.‏ فأما المشركون وأضرابهم من أهل العقائد الضالة، فيسندون صدور الضرر والنفع إلى أشياء تقارن حصول ضر ونفع، فيتوهمون تلك المقارنة تسبباً، ولذلك تراهم يتطلبون معرفة حصول الخير والشر من غير أسبابها، ومن ذلك الاستقسام بالأزلام كما تقدم في سورة العقود‏.‏

وجملة ‏{‏ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ معترضة ولذلك فصلت، والاستدراك المستفاد من ‏{‏لكّن‏}‏ عما يوهمه الاهتمام بالخبر الذي قبله لقرنه بأداة الاستفتاح، واشتماله على صيغة القصر‏:‏ من كون شأنه أن لا يجهله العقلاء، فاستدرك بأن أكثر أولئك لا يعلمون‏.‏

فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أكثرهم‏}‏ عائد إلى الذين ‏{‏قالوا لنا هذه‏}‏ وإنما نفي العلم عن أكثرهم تنبيهاً على أن قليلاً منهم يعلمون خلاف ذلك ولكنهم يشايعون مقالة الأكثرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 133‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ الآية، فهم قابلوا المصائب التي أصابهم الله بها ليذكّروا، بازدياد الغرور فأيسوا من التذكر بها، وعاندوا موسى حين تحداهم بها فقالوا‏:‏ مَهْما تأتنا به من أعمال سحرك العجيبة فما نحن لك بمؤمنين، أي‏:‏ فلا تتعب نفسك في السحر‏.‏

و ‏{‏مهما‏}‏ اسم مضمن معنى الشرط، لأن أصله ‏(‏ما‏)‏ الموصولة أو النكرة الدالة على العموم، فركبّت معها ‏(‏ما‏)‏ لتصييرها شرطية كما ركبت ‏(‏ما‏)‏ مع ‏(‏أي‏)‏ و‏(‏متى‏)‏ و‏(‏أيْنَ‏)‏ فصارت أسماء شرط، وجعلت الألف الأولى هاء اسْتثقالاً لتكرير المتجانسين، ولقرب الهاء من الألف فصارت مهما، ومعناها‏:‏ شيء ما، وهي مبهمة فيؤتى بعدها بمن التبْيينية، أي‏:‏ إن تأتنا بشيء من الآيات فما نحن لك بمؤمنين‏.‏

و ‏{‏مهما‏}‏ في محل رفع بالابتداء، والتقدير‏:‏ أيّما شيء تأتينا به، وخبره الشرط وجوابه، ويجوز كونها في محل نصب لفعل محذوف يدل عليه ‏{‏تأتنا به‏}‏ المذكور‏.‏ والتقدير‏:‏ أي شيء تُحضرنا تأتينا به‏.‏

وذُكّر ضمير ‏{‏به‏}‏ رعياً للفظ ‏{‏مهما‏}‏ الذي هو في معنى أي شيء، وأنّث ضمير ‏{‏بها‏}‏ رعياً لوقوعه بعد بيان ‏{‏مهما‏}‏ باسم مؤنث هو ‏{‏آية‏}‏‏.‏

و ‏{‏من آية‏}‏ بيان لإبهام ‏{‏مهما‏}‏‏.‏

والآية‏:‏ العلامة الدالة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتا أولئك أصحاب النار‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏39‏)‏، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏37‏)‏‏.‏

وسموا ما جاء به موسى آية باعتبار الغرض الذي تحداهم به موسى حين الإتيان بها، لأن موسى يأتيهم بها استدلالاً على صدق رسالته، وهم لا يعدونها آية ولكنهم جارَوْا موسى في التسمية بقرينة قولهم لتسحرنا بها‏}‏، وفي ذلك استهزاء كما حكى الله عن مشركي أهل مكة وقالوا‏:‏ ‏{‏يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ بقرينة قولهم‏:‏ إنك لمجنون‏.‏

وجملة ‏{‏فما نحن لك بمؤمنين‏}‏ مفيدة المبالغة في القطع بانتفاء إيمانهم بموسى لأنهم جاءوا في كلامهم بما حوته الجملة الاسمية التي حَكَتْهُ من الدلالة على ثبوت هذا الانتفاء ودوامه‏.‏ وبما تفيده الباء من توكيد النفي، وما يفيده تقديم متعلق مؤمنين من اهتمامهم بموسى في تعليق الإيمان به المنفي باسمه‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا‏}‏ لتفريع إصابتهم بهذه المصائب على عتوهم وعنادهم‏.‏

والإرسال‏:‏ حقيقته توجيه رسول أو رسالة فيعدى إلى المفعول الثاني ‏(‏بإلى‏)‏ ويضمّن معنى الإرسال من فوق، فيعدى إلى المفعول الثاني ‏(‏بعَلى‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسل عليهم طيراً أبابيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 3‏]‏، ‏{‏وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ فحرف ‏(‏على‏)‏ دل على أن جملة أرسلنا مفرعة تفريع العقاب لا تفريغ زيادة الآيات‏.‏

والطوفان‏:‏ السَيْح الغالب من الماء الذي يغمر جهات كثيرة ويطغى على المنازل والمزارع، قيل هو مشتق من الطواف لأن الماء يطوف بالمنازل، أي‏:‏ تتكرر جريته حولها، ولم يدخل الطوفان الأرض التي كان بها بنو إسرائيل وهي أرض ‏(‏جاسان‏)‏‏.‏

والجراد‏:‏ الحشرة الطائرة من فصيلة الصرصر والخنافس له أجنحة ستة ذات ألوان صفر وحمر تنتشر عند طيرانه، يكون جنوداً كثيرة يسمى الجند منها رِجْلا‏.‏ وهو مهلك للزرع والشجر، يأكل الورق والسنبل ووَرَق الشجر وقشره، فهو من أسباب القحط‏.‏ أصاب أرض قوم فرعون ولم يصب أرض بني إسرائيل‏.‏

والقُمّلُ‏:‏ بضم القاف وتشديد الميم المفتوحة في القراءات المشهورة اسم نوع من القراد عظيم يسمى الحُمْنان بضم الحاء المهملة وميم ساكنة ونونين واحدته حمنانة وهو يمتص دم الإنسان ‏(‏وهو غير القَمْل بفتح القاف وسكون الميم الذي هو من الحشرات الدقيقة التي تكون في شعر الرأس وفي جلد الجسد يتكون من تعفن الجلد لوسخه ودسومته ومن تعفن جلد الرأس كثيراً‏)‏، أصاب القبط جند كثير من الحمنان عسر الاحتراز عنه ولعله أصاب مواشيَهم‏.‏

والضفادع‏:‏ جمع ضَفْدَع وهو حيوان يمشي على أرجل أربع ويسحب بطنه على الأرض ويسبح في المياه، ويكون في الغدران ومناقع المياه، صوته مثل القراقر يسمى نقيقاً، أصابهم جند كثير منه يقع في طعامهم يرتمي إلى القدور، ويقع في العيون والأسقية وفي البيوت فيفسد ما يقع فيه وتطؤه أرْجُل الناس فتتقذر به البيوت، وقد سلمت منه بلاد ‏(‏جاسان‏)‏ منزل بني إسرائيل‏.‏

والدم معروف، قيل‏:‏ أصابهم رعاف متفش فيهم، وقيل‏:‏ صارت مياه القبط كالدم في اللون، كما في التوراة، ولعل ذلك من حدوث دود أحمر في الماء فشبه الماء بالدم، وسلمت مياه ‏(‏جاسان‏)‏ قرية بني إسرائيل‏.‏

وسمى الله هاته ‏{‏آيات‏}‏ لأنها دلائل على صدق موسى لاقترانها بالتحدي، ولأنها دلائل على غضب الله عليهم لتظافرها عليهم حين صمموا الكفر والعناد‏.‏

وانتصب ‏{‏آيات‏}‏ على الحال من الطوفان وما عطف عليه، و‏{‏مفصّلات‏}‏ اسم مفعول من فصّل المضاعف الدال على قوة الفصل‏.‏ والفصل حقيقته التفرقة بين الشيئين بحيث لا يختلط أحدهما بالآخر، ويستعار الفصل لإزالة اللبس والاختلاط في المعاني ف ‏{‏مفصلات‏}‏ وصف ل ‏{‏آيات‏}‏، فيكون مراداً منه معنى الفصل المجازي وهو إزالة اللبس، لأن ذلك هو الأنسب بالآيات والدلائل، أي‏:‏ هي آيات لا شبهة في كونها كذلك لمن نَظر نَظر اعتبار‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أنها مفصول بعضها عن بعض في الزمان، أي لم تحدث كلها في وقت واحد، بل حدث بعضها بعد بعض، وعلى هذا فصيغة التفعيل للدلالة على تراخي المدة بين الواحدة والأخرى، ويجيء على هذا أن العذاب كان أشد وأطول زمناً كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نريهم من آية إلاّ هي أكبر من أختها‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 48‏]‏، قيل‏:‏ كان بين الآية منها والأخرى مدة شهر أو مدة ثمانية أيام، وكانت تدوم الواحدة منها مدة ثمانية أيام وأكثر، وعلى هذا الوجه فالأنسب أن يجعل ‏{‏مفصلات‏}‏ حالاً ثانية من الطوفان والجراد، وأن لا يجعل صفة ‏{‏آيات‏}‏‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاستكبروا‏}‏ للتفريع والترتب، أي‏:‏ فتفرع على إرسال الطوفان وما بعده استكبارهم، كما تفرع على أخذهم بالسنين غرورُهم بأن ذلك من شؤم موسى ومن معه، فعُلم أن من طبع تفكيرهم فسادَ الوضع، وهو انتزاع المدلولات من أضداد أدلتها، وذلك دليل على انغماسهم في الضلالة والخذلان، وبعدهم عن السعادة والتوفيق، فلا يزالون مورطين في وحل الشقاوة‏.‏

فالاستكبار‏:‏ شدة التكبر كما دلت عليه السين والتاء، أي‏:‏ عدَ أنفسهم كبراء، أي تعاظمهم عن التصديق بموسى وإبطال دينهم إذ أعرضوا عن التصديق بتلك الآيات المفصلات‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكانوا قوماً مجرمين‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فاستكبروا‏}‏، فالمعنى‏:‏ فاستكبروا عن الاعتراف بدلالة تلك الآيات وأجرموا، وإنما صيغ الخبر عن إجرامهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على ثبات وصف الإجرام فيهم، وتمكنه منهم، ورسوخه فيهم من قبل حدوث الاستكبار، وفي ذلك تنبيه على أن وصف الإجرام الراسخ فيهم هو علة للاستكبار الصادر منهم، ف ‏(‏كان‏)‏ دالةٌ على استمرار الخبر وهو وصف الإجرام‏.‏ والإجرام‏:‏ فعل الجرم وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏ في هذه السورة ‏(‏40‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 135‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

الرجز العذاب فالتعريف باللام هنا للعهد أي العذاب المذكور وهو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان‏}‏ إلى قوله ‏{‏آيات مفصّلات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏ والرجز من أسماء الطاعون، وقد تقدم عند قولهم تعالى‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏59‏)‏، فيجوز أن يراد بالرجز الطاعون أي أصابهم طاعون ألجأهم إلى التضرع بموسى عليه السلام، فطُوي ذكره للإيجاز، فالتقدير‏:‏ وأرسلنا عليهم الرجز ولما وقع عليهم الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وإنما لم يذكر الرجز في عداد الآيات التي في قوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏ الآية تخصيصاً له بالذكر لأن له نبأ عجيباً فإنه كان ملجئَهم إلى الاعتراف بآيات موسى ووجود ربه تعالى‏.‏

وهذا الطاعون هو المَوَتانُ الذي حكي في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج «هكذا يقول الرب إني أخرج نحوَ نصف الليل في وسط مصر فيموت كل بكر في أرض مصر من بكر فرعونَ الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلْف الرحى وكل بكر بهيمة ثم قالت في الإصحاح الثاني عشر فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر فقام فرعون ليلاً هو وعبيدُه وجميع المصريين فدعَا موسى وهارونَ ليْلاً وقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم واذهبوا وباركوني» الخ‏.‏‏.‏‏.‏ قيل مات سبعون ألف رجل في ذلك اليوم من القبط خاصة، ولم يصب بني إسرائيل منه شيء‏.‏

وليس قولهم‏:‏ ‏{‏ادع لنا ربك‏}‏ بإيمان بالله ورسالة موسى، ولكنهم كانوا مشركين وكانوا يجوزون تعدد الآلهة واختصاص بعض الأمم وبعض الأقطار بآلهة لهم، فهم قد خامرهم من كثرة ما رأوا من آيات موسى أن يكون لموسى رب له تصرف وقدرة‏.‏ وأنه أصابهم بالمصائب لأنهم أضروا عبيده، فسألوا موسى أن يكف عنهم ربه ويكون جزاؤه الإذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ليعبدوا ربهم، كما حكت التوراة في الإصحاح الثاني عشر عن فرعون، «فقال قوموا اخرجوا أنتم وبنو إسرائيل جميعاً واذهبوا اعبدوا ربكم» وقد كان عبدة الأرباب الكثيرين يجوز أن تغلب بعض الأرباب على بعض مثل ما يحدث بين الملوك كما تدل عليه أساطير ‏(‏الميثولوجيا‏)‏ اليونانية، وقصة الياذة ‏(‏هُومَيْروس‏)‏، فبدَا لفرعون أن وَجْه الفصْل مع بني إسرائيل أن يعبدوا ربهم في أرض غير أرض مصر التي لها أرباب أخر ولذلك قال ‏{‏ربك‏}‏ ولم يقل ربنا‏.‏

وحذف متعلق فعل الدعاء لظهور المراد، أي ادع لنا ربك بأن يكف عنا، كما دل عليه قوله بعدُ ‏{‏لئن كشفت عنا الرجز‏}‏ ووقع في التوراة في الإصحاح الثاني عشر قول فرعون لموسى وهارون ‏(‏واذهبوا وباركوني أيضاً‏)‏‏.‏

وقد انبرم حال موسى على فرعون فلم يدر أهو رسول من إله غير آلهة القبط فلذلك قال له ‏{‏بما عهد عندك‏}‏، أي‏:‏ بما عرفك وأودع عندك من الأسرار، وهذه عبارة متحير في الأمر ملتبسة عليه الأدلة‏.‏

والباء في ‏{‏بما عهد عندك‏}‏ لتعدية فعل الدعاء‏.‏ و‏(‏ما‏)‏ موصولة مبهمة، أي ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عند ربك، وهذا يقتضي أنهم جوزوا أن يكون موسى مبعوثاً من رب له بناء على تجويزهم تعدد الآلهة‏.‏

وجملة ‏{‏لَئن كشفتَ عنا الرجز‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن طلبهم من موسى الدعاء بكشف الرجز عنهم مع سابقيّة كفرهم به يثير سؤال موسى أن يقول‏:‏ فما الجزاء على ذلك‏.‏

واللام موطئة للقسم، وجملة‏:‏ ‏{‏لنؤمنّن‏}‏ جواب القسم‏.‏

ووعدُهم بالإيمان لموسى وعد بالإيمان بأنه صادق في أنه مرسل من رب بني إسرائيل ليخرجهم من أرض مصر، وليس وعداً باتباع الدين الذي جاء به موسى عليه السلام، لأنهم مكذبون به في ذلك وزاعمون أنه ساحر يريد إخراج الناس من أرضهم ولذلك جاء فعل الإيمان متعلقاً بموسى لا باسم الله، وقد جاء هذا الوعد على حسب ظنهم أن الرب الذي يدعو إليه موسى هو رب خاص به وبقومه، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ادع لنا ربك بما عهد عندك‏}‏ وقد وضحوا مرادهم بقولهم‏:‏ ‏{‏ولنرسلن معك بني إسرائيل‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏فلما كشفنا عنهم الرجز‏}‏ دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة، وحُذف هنا للإيجاز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلى أجل هم بالغوه‏}‏ متعلق ب ‏{‏كشفنا‏}‏ باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله، وهو الرجْز‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إذا هم ينكثون‏}‏ جواب ‏(‏لما‏)‏، و‏(‏إذا‏)‏ رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية، فلما كان ‏(‏إذا‏)‏ حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث، أي‏:‏ بادروا به ولم يؤخروه‏.‏ وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين‏.‏

والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غَزْل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 92‏]‏ واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏ينكثون‏}‏ استعارة تبعية‏.‏

وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض ‏(‏جاسان‏)‏ ليلاً قال لفرعون بعضُ خاصته‏:‏ مَاذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشاً للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

هذا محل العبرة من القصة، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة، فإنه بعد أن وصف عناد فرعون وَمَلَئهِ وتكذيبَهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعباناً، وتغيير لون يده، ورميَهم موسى بالسحر، وسوء المقصد، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائِب جعلها آيات على صدق موسى، وكيف كابروا وعاندوا، حتى ألْجِئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين، وتحريرُ المؤمنين الذين كانوا مستضعفين‏.‏

وذلك محل العبرة، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب، وقد اتبع في هذا الختام الأسلوبُ التي اختتمت به القصص التي قبل هذا‏.‏

والانتقام افتعال، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنّقْم‏.‏ وهو غضب الحنق على ذنْببِ اعتداء على المنتقممِ ينكر ويَكْرَه فاعلَه‏.‏

وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فَعَل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد، ولم يسمع أن قالوا نَقَمَه فانتقم‏.‏ أي أحفظه وأغضبه فعاقب، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجردُ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفاً‏:‏ ‏{‏وما تَنَقم منا إلاّ أن آمنا بآيات ربنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏‏.‏

وكان إغراقهم انتقاماً من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلاهية، أو جحدوا إلاهيته أصلاً، وانتقاماً أيضاً لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلاً‏.‏

والإغراقُ‏:‏ الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر المُلْقَى فلا يترك له تنفساً، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله، فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأغرقناهم‏}‏ للترتيب الذكري، وهو عطف مفصّل على مجمل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وحَمَل صاحب «الكشاف» الفعل المعطوف عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى‏:‏ فأرْدنا الانتقام منهم فأغرقناهم، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏54‏)‏‏.‏

واليمّ‏:‏ البحر والنهر العظيم، قيل هو كلمة عربية‏.‏ وهو صنيع الكشاف‏}‏ إذ جعله مشتقاً من التيمم لأنه يُقصد للمنتفعين به، وقال بعضْ اللغويين‏:‏ هو معرب عن السريانية وأصله فيها ‏(‏يَمّا‏)‏ وقال شَيْدَلَةُ‏:‏ هو من القبطية، وقال ابن الجوزي‏:‏ هو من العبرية، ولعله موجود في هذه اللغات‏.‏ ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى ساميّة من العربية والمراد به هنا بحر القُلْزُم، المسمى في التوراة بحر سُوف، وهو البحر الأحمر‏.‏ وقد أطلق ‏(‏اليم‏)‏ على نهر النيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن اقذفيه في التابوت فاقْذفيه في اليَمّ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ وقوله‏:‏

‏{‏فإذا خفتتِ عليه فألقيه في اليمّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏، فالتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏اليَمّ‏}‏ هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع‏.‏

وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا أدركه الغرق‏}‏ في سورة يونس ‏(‏90‏)‏‏.‏

والباء في بأنهم‏}‏ للسببية، أي‏:‏ أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات‏.‏

والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء، وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏156‏)‏، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالة معجزة القرآن، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم‏}‏ تنبيهاً للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة‏.‏

وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم، وراسخ فيهم، وأنه هو علة التكذيب المصوغغِ خبرُه بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏‏.‏

عطف على ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 136‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فأخذناهم بالعقاب الذي استحقوه وجازيّنا بني إسرائيل بنعمة عظيمة‏.‏

وتقدم ءانفاً الكلام على معنى ‏{‏أوْرثنا‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوَ لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 100‏]‏ والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدسة بعد أهلها من الأمم التي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم‏.‏ وقد قيل إن فرعون كان له سلطان على بلاد الشام، ولا حاجة إلى هذا إذ ليس في الآية تعيين الموروث عنه‏.‏

والقومُ الذين كانوا يُستْضعفون هم بنو إسرائيل كما وقع في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏كذلك وأورثناها بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 59‏]‏، وعدل عن تعريفهم بطريق الإضافة إلى تعريفهم بطريق الموصولية لنكتتين‏:‏ أولاهما‏:‏ الإيماء إلى علة الخبر، أي أن الله ملَّكهم الأرض وجعلهم أمة حاكمة جزاء لهم على ما صبروا على الاستعباد، غيرة من الله على عبيده‏.‏

الثانية‏:‏ التعريض ببشارة المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ستكون لهم عاقبة السلطان كما كانت لبني إسرائيل، جزاء على صبرهم على الأذى في الله، ونذارةُ المشركين بزوال سلطان دينهم‏.‏

ومعنى يُستضعفون‏:‏ يستعْبَدون ويهانون، فالسين والتاء للحسبان مثل استنجب، أو للمبالغة كما في استجاب‏.‏

والمشارق والمغارب جُمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعد بتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة‏.‏

و ‏{‏الأرض‏}‏ أرض الشام وهي الأرض المقدسة وهي تبتدئ من السواحل الشرقية الشمالية للبحر الأحمر وتنتهي إلى سواحل بحر الروم وهو البحر المتوسط وإلى حدود العراق وحدود بلاد العرب وحدود بلاد الترك‏.‏

و ‏{‏التي باركنا فيها‏}‏ صفة للأرض أو لمشارقها ومَغاربها؛ لأن ما صدقيْهما متحدان، أي قدرنا لها البركة، وقد مضى الكلام على البركة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَفَتَحْنا عليهم بركات في هذه السورة ‏(‏96‏)‏‏.‏ أي أعضناهم عن أرض مصر التي أخرجوا منها أرضاً هي خير من أرض مصر‏.‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ والمقصود من هذا الخبر هو قوله‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏ تنويهاً بفضيلة الصبر وحسن عاقبته، وبذلك الاعتبار عطفت هذه الجملة على التي قبلها، وإلاّ فإن كلمة الله الحسنى على بني إسرائيل تشمل إيراثهم الأرض التي بارك الله فيها، فتتنزل من جملة‏:‏ ‏{‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون‏}‏ إلى آخرها منزلة التذييل الذي لا يعطف، فكان مقتضى العطف هو قوله ‏{‏بما صبروا‏}‏‏.‏

وكلمة‏:‏ هي القول، وهو هنا يُحتمل أن يكون المراد به اللفظ الذي وعد الله بني إسرائيل على لسان موسى في قوله‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ أو على لسان إبراهيم وهي وعد تمليكهم الأرض المقدسة، فتمام الكلمة تحقق وعدها، شُبّه تحققها بالشيء إذا استوفى أجزاءه، ويحتمل أنها كلمة الله في علمه وقدَره وهي أرادة الله إطلاقهم من استعباد القبط وإرادته تمليكهم الأرض المقدسة كقوله‏:‏

‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏‏.‏

وتمام الكلمة بهذا المعنى ظهور تعلقها التنجيزي في الخارج على نحو قول موسى ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏115‏)‏‏.‏

و ‏{‏الحسنى‏}‏‏:‏ صفة ل ‏{‏كلمة‏}‏ وهي صفة تشريف كما يقال‏:‏ الأسماء الحسنى، أي كلمة ربك المنزهة عن الخُلف، ويحتمل أن يكون المراد حسنَها لبني إسرائيل، وإن كانت سيئة على فرعون وقومه، لأن العدل حسَن وإن كان فيه إضرار بالمحكوم عليه‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم أدمح في ذكر القصة إشارة إلى أن الذي حقق نصر موسى وأمته على عدوهم هو ربك فسينصرك وأمتك على عدوكم؛ لأنه ذلك الرب الذي نصر المؤمنين السابقين، وتلك سنتُه وصنعه، وليس في الخطاب التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف المراد من الضمائر‏.‏

وعدي فعل التمام ‏(‏بعلى‏)‏ للإشارة إلى تضمين ‏{‏تمت‏}‏ معنى الإنعام، أو معنى حقت‏.‏

وباء ‏{‏بما صبروا‏}‏ للسببية، و‏(‏ما‏)‏ مصدرية أي بصبرهم على الأذى في ذات الإله وفي ذلك تنبيه على فائدة الصبر وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل‏.‏

والتدمير‏:‏ التخريب الشديد وهو مصدر دمّر الشيء إذا جعله دامراً للتعدية متصرف من الدمار بفتح الدال وهو مصدر قاصر، يقال دَمَر القومُ بفتح الميم يدمُرون بضم الميم دَمارا، إذا هلكوا جميعاً، فهم دامرون‏.‏ والظاهر أن إطلاق التدمير على إهلاك المصنوع مجازي علاقته الإطلاق لأن الظاهر أن التدمير حقيقته إهلاك الإنسان‏.‏

و ‏{‏ما كان يصنع فرعون‏}‏‏:‏ ما شاده من المصانع، وإسناد الصنع إليه مجاز عقلي لأنه الآمر بالصنع، وأما إسناده إلى قوم فرعون فهو على الحقيقة العقلية بالنسبة إلى القوم لا بالنسبة إلى كل فرد على وجه التغليب‏.‏

و ‏{‏يَعْرشون‏}‏ ينشئون من الجنات ذات العرايش‏.‏ والعريش‏:‏ ما يُرفع من دوالي الكروم، ويطلق أيضاً على النخلات العديدة تربّى في أصل واحد، ولعل جنات القبط كانت كذلك كما تشهد به بعض الصور المرسومة على هياكلهم نقشاً ودهناً، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏141‏)‏ وفعله عَرَش من بابي ضرَب ونصَرَ وبالأول قرأ الجمهور، وقرأ بالثاني ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وذلك أن الله خرب ديار فرعون وقومه المذكورين، ودمر جناتهم بما ظلموا بالإهمال، أو بالزلزال، أو على أيديهم جيوش أعدائهم الذين ملكوا مصر بعدهم، ويجوز أن يكون يعرشون‏}‏ بمعنى يرفعون أي يشيدون من البناء مثل مباني الأهرام والهياكل وهو المناسب لفعل ‏{‏دمرنا‏}‏، شبه البناء المرفوع بالعرش‏.‏ ويجوز أن يكون يعرشون استعارة لقوة الملك والدولة ويكون دمرنا ترشيحاً للاستعارة‏.‏

وفعل ‏{‏كان‏}‏ في الصلتين دال على أن ذلك دأبُه وهجيرَاه، أي ما عني به من الصنائع والجنات‏.‏ وصيغة المضارع في الخبرين عن ‏(‏كان‏)‏ للدلالة على التجدد والتكرر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 140‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

لما تمت العبرة بقصة بعث موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه، وكيف نصره الله على عدوه، ونصر قومه بني إسرائيل، وأهلك عدوهم كشأن سنة الله في نصر الحق على الباطل، استرسل الكلام إلى وصف تكوين أمة بني إسرائيل وما يحق أن يعتبرَ به من الأحوال العارضة لهم في خلال ذلك مما فيه طمأنينةُ نفوس المؤمنين الصالحين في صالح أعمالهم، وتحذيرهم مما يرمي بهم إلى غضب الله فيما يحقرون من المخالفات، لما في ذلك كله من التشابه في تدبير الله تعالى أمور عبيده، وسنته في تأييد رسله وأتباعهم، وإيقاظ نفوس الأمة إلى مراقبة خواطرهم ومحاسبة نفوسهم في شكر النعمة ودحض الكفران‏.‏

والمجاوزة‏:‏ البعد عن المكان عقب المرور فيه، يقال‏:‏ جَاوز بمعنى جاز، كما يقال‏:‏ عَالى بمعنى علا، وفعله متعد إلى واحد بنفسه وإلى المفعول الثاني بالباء فإذا قلت‏:‏ جُزتُ به، فأصل معناه أنك جزته مصاحباً في الجواز به للمجرور بالباء، ثم استعيرت الباء للتعدية يقال‏:‏ جُزت به الطريق إذا سهلت له ذلك وإن لم تسر معه، فهو بمعنى أجزته، كما قالوا‏:‏ ذَهبت به بمعنى أذهبته، فمعنى قوله هنا‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ قدرنا لهم جَوازه ويسرّناه لهم‏.‏

والبحر هو بحر القُلْزُم المعروف اليوم بالبحر الأحمر وهو المراد باليمّ في الآية السابقة، فالتعريف للعهد الحضوري، أي البحر المذكور كما هو شأن المعرفة إذا أعيدت معرفة، واختلاف اللفظ تفنن، وتجنباً للإعادة، والمعنى‏:‏ أنهم قطعوا البحر وخرجوا على شاطئه الشرقي‏.‏

و ‏{‏أتوا على قوم‏}‏ معناه أتَوْا قوماً، ولما ضمن ‏{‏أتَوْا‏}‏ معنى مروا عدي بعلى، لأنهم لم يقصدوا الإقامة في القوم، ولكنهم ألْفَوهم في طريقهم‏.‏

والقوم هم الكنعانيون ويقال لهم عند العرب العمالقةُ ويعرفون عند متأخري المؤرخين بالفنيقيين‏.‏

والأصنام كانت صُورَ البقر، وقد كان البقر يعبد عند الكنعانيين، أي الفنيقيين باسم ‏(‏بَعل‏)‏، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل من بعده‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏51‏)‏‏.‏

والعُكوف‏:‏ الملازمة بنية العبادة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏187‏)‏، وتعدية العكوف بحرف ‏(‏على‏)‏ لما فيه من معنى النزول وتمكنه كقوله‏:‏ ‏{‏قالوا لن نبرح عليه عاكفين‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وقريء ‏{‏يعكفون‏}‏ بضم الكاف للجمهور، وبكسرها لحمزة والكسائي، وخَلف، وهما لغتان في مضارع عَكف‏.‏

واختير طريق التنكير في أصنام ووصفُه بأنها لهم، أي القوم دون طريق الإضافة ليتوسل بالتنكير إلى إرادة تحقير الأصنام وأنها مجهولة، لأن التنكير يستلزم خفاء المعرفة‏.‏

وإنما وصفت الأصنام بأنها لهم ولم يُقتصر على قوله‏:‏ ‏{‏أصنام‏}‏ قال ابن عرفة التونسي‏:‏ «عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع بهم وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في أنهم يعبدون ما هو ملك لهم فيجعلون مملوكهم إلاههم»‏.‏

وفُصلت جملة ‏{‏قالوا‏}‏، فلم تعطف بالفاء‏:‏ لأنها لما كانت افتتاح محاور، وكان شأن المحاورة أن تكون جملها مفصولة شاع فصلها، ولو عطفت بالفاء لجاز أيضاً‏.‏

ونداؤهم موسى وهو معهم مستعمل في طلب الإصغاء لما يقولونه، إظهاراً لرغبتهم فيما سيطلبون، وسموا الصنم إلاهاً لجهلهم فهم يحْسبون أن اتخاذ الصنم يُجدي صاحبه، كما لو كان إلاهُه معَه، وهذا يدل على أن بني إسرائيل قد انخلعوا في مدة إقامتهم بمصر عن عقيدة التوحيد وحنيفية إبراهيم ويعقوب التي وصى بها في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ لأنهم لما كانوا في حال ذل واستعباد ذهب علمهم وتاريخ مجدهم واندمجوا في ديانة الغالبين لهم فلم تبق لهم ميزة تميزهم إلاّ أنهم خدمة وعبيد‏.‏

والتشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏كما لَهم آلهة‏}‏ أرادوا به حَض موسى على إجابة سؤالهم، وابتهاجاً بما رأوا من حال القوم الذين حَلّوا بين ظهرانيهم وكفَى بالأمة خسّةَ عقول أن تعُد القبيح حسناً، وأن تتخذ المظاهر المزيّنة قدوة لها، وأن تنخلع عن كمالها في اتباع نقائص غيرها‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ يجوز أن تكون صلة وتوكيداً كافة عمل حرف التشبيه، ولذلك صار كاف التشبيه داخلاً على جملة لا على مفرد، وهي جملة من خبر ومبتدأ، ويجوز أن تكون ‏(‏ما‏)‏ مصدرية غير زمانية، والجملة بعدها في تأويل مصدر، والتقدير كوجود آلهة لهم، وإن كان الغالب أن ‏(‏ما‏)‏ المصدرية لا تدخل إلاّ على الفعل نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودوا ما عنَتّم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ فيتعين تقدير فعل يتعلق به المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أو يكتفَى بالاستقرار الذي يقتضيه وقوع الخبر جازا ومجروراً، كقول نهْشَل بن جرير التميمي‏:‏

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

وفصلت جملة ‏{‏قال إنكم قوم تجهلون‏}‏ لوقوعها في جواب المحاورة، أي‏:‏ أجاب موسى كلامهم، وكان جوابه بعنف وغلظة بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم قوم تجهلون‏}‏ لأن ذلك هو المناسب لحالهم‏.‏

والجهل‏:‏ انتفاء العلم أو تصور الشيء على خلاف حقيقته، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يعملون السوء بجهالة‏}‏ في سورة النساء ‏(‏17‏)‏، والمراد جهلهم بمفاسد عبادة الأصنام، وكانَ وصف موسى إياهم بالجهالة مؤكداً لما دلت عليه الجملة الاسمية من كون الجهالة صفة ثابتة فيهم وراسخة من نفوسهم، ولولا ذلك لكان لهم في باديء النظر زاجر عن مثل هذا السؤال، فالخبر مستعمل في معنييه‏:‏ الصريح والكناية، مكنى به عن التعجب من فداحة جهلهم‏.‏

وفي الإتيان بلفظ قوم‏}‏ وجعل ما هو مقصود بالإخبار وصفاً لقوم، تنبيه على أن وصفهم بالجهالة كالمتحقق المعلوم الداخل في تقويم قوميتهم، وفي الحكم بالجهالة على القوم كلهم تأكيد للتعجب من حال جهالتهم وعمومها فيهم بحيث لا يوجد فيهم من يشذ عن هذا الوصف مع كثرتهم، ولأجل هذه الغرابة أكد الحكم ‏(‏بإن‏)‏ لأن شأنه أن يتردد في ثبوته السامعُ‏.‏

وجملة ‏{‏إن هؤلاء متّبرٌ ما همُ فيه‏}‏ بمعنى التعليل لمضمون جملة ‏{‏إنكم قوم تجهلون‏}‏ فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها، وقد عُرّف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرِد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متّبرا أمرهم وباطلاً عملهم، وقُدم المسند وهو ‏{‏متَبّر‏}‏ على المسند إليه وهو ‏{‏ما هم فيه‏}‏ ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي‏:‏ هم المعرضون للتّبار وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ولا يصح أن يجعل ‏{‏متَبر‏}‏ مسنداً إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه‏.‏

والمتَبّر‏:‏ المدمّر، والتّبَار بفتح التاء الهلاك ‏{‏ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏‏.‏ يقال نَبَر الشيء كضرب وتعب وقتل وتَبّره تضعيف للتعدية، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال‏.‏

ويجوز أن يكون التتبير مستعاراً لسوء العاقبة، شبه حالهم المزخرفُ ظاهرهُ بحال الشيء البهيج الآيل إلى الدمار والكَسْر فيكون اسم المفعول مجازاً في الاستقبال، أي صائِر إلى السوء‏.‏

و ‏{‏ما هم فيه‏}‏ هو حالهم، وهو عبادة الأصنام وما تقتضيه من الضلالات والسيئات ولذلك اختير في تعريفها طريق الموصولية لأن الصلة تحيط بأحوالهم التي لا يحيط بها المتكلم ولا المخاطبون‏.‏

والظرفية مجازية مستعارة للملابسة، تشبيهاً للتلبس باحتواء الظرف على المظروف‏.‏

والباطل اسم لضد الحق فالإخبار به كالإخبار بالمصدر يفيد مبالغة في بطلانه لأن المقام مقام التوبيخ والمبالغة في الإنكار، وقد تقدم آنفاً معنى الباطل عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوقع الحَقُّ وبَطَل ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 118‏]‏‏.‏

وفي تقديم المسند، وهو ‏{‏باطل‏}‏ على المسند إليه وهو ‏{‏ما كانوا يعملون‏}‏ ما في نظيره من قوله‏:‏ ‏{‏متبر ما هم فيه‏}‏‏.‏

وإعادة لفظ ‏{‏قال‏}‏ مستأنفاً في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أغير الله أبغيكم‏}‏ تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو‏}‏ إلى قوله ‏{‏قال فيها تحيون‏}‏ من هذه السورة ‏(‏24، 25‏)‏‏.‏

والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدَلي، أي‏:‏ لو لم تكن تلك الآلهة باطلاً لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يُشاركهم في حماقتهم‏.‏

والاستفهام بقوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغيكم إلاهاً‏}‏ للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهاً غير الله، وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهاً، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص، للمبالغة في الإنكار أي‏:‏ اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهاً‏.‏

وهمزة ‏{‏أبغيكم‏}‏ همزة المتكلم للفعل المضارع، وهو مضارع بغَى بمعنى طلب، ومصدره البَغاء بضم الباء‏.‏

وفعله يتعدى إلى مفعول واحد، ومفعوله هو ‏{‏غيرَ الله‏}‏ لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه‏.‏

وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصل الكلام‏:‏ أبغي لكم و‏{‏إلاهاً‏}‏ تمييز ل ‏{‏غير‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهو فضلكم على العالمين‏}‏ في موضع الحال، وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله، كانت الحال أيضاً داخلة في حيز الإنكار، ومقررة لجهته‏.‏

وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوماً عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق‏.‏

ومجيء المسند فعلياً‏:‏ ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي‏:‏ وهو فضلكم، لم تفضلكم الأصنام، فكان الإنكار عليهم تحميقاً لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا يُنعم‏.‏

والمرادُ بالعالمين‏:‏ أممُ عصرهم، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ، وبأن منهم رسلاً وأنبياء، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه، وبأنه جعلهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته، وبعث فيهم رسولاً ليقيم لهم الشريعة‏.‏ وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافاً بأنه أرجح رأياً وأحسن حالاً، في تلك الناحية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق، ويعضده قراءة ابن عامر‏:‏ ‏{‏واذ أنجاكم‏}‏ والمعنى‏:‏ أأبتغي لكم إلاهاً غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي، فابتغاء إلاه غيره كفران لنعمته، فضمير المتكلم المشارَك يعود إلى الله وموسى، ومعاده يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغيكم إلاهاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 140‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون هذا امْتناناً من الله اعترضه بين القصة وعدَةِ موسى عليه السلام انتقالاً من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة، فيكون الضمير ضَمير تعظيم، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أنجيناكم‏}‏ بنون المتكلم المشارك، وقرأه ابن عامر‏:‏ ‏{‏وإذ أنجاكم‏}‏ على إعادة الضمير إلى الله في قوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغيكم إلاهاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 140‏]‏، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصُل المعنيان‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان، وهو مفعول به لفعل محذوف تقديره‏:‏ واذكروا‏.‏

واختار الطبري وجماعة أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أنجيناكم‏}‏ خطاباً لليهود الموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ابتداء خطاب افتتح بكلمة ‏(‏إذ‏)‏، والتعريض بتذكير المشركين من العرب قد انتهى عند قوله‏:‏ ‏{‏وهو فضلكم على العالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 140‏]‏ وسورة الأعراف مكية ولم يكن في المكي من القرآن هو مجادلة مع اليهود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يسومونكم سوء العذاب‏}‏ إلى آخر الآية تقدم تفسير مشابهتها في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ ميقات رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏‏.‏

عَوْد إلى بقية حوادث بني إسرائيل، بعد مجاوزتهم البَحر، فالجملة عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏‏.‏

وقد تقدم الكلام على معنى المواعدة في نظير هذه الآية في سورة البقرة، وقرأ أبو عمرو‏:‏ وَوَعَدْنَا‏.‏ وحذف الموعود به اعتماداً على القرينة في قوله‏:‏ ‏{‏ثلاثين ليلة‏}‏ الخ، و‏{‏ثلاثين‏}‏ منصوب على النيابة عن الظرف، لأن تمييزه ظرف للمواعد به وهو الحضور لتلقي الشريعة، ودل عليه ‏{‏واعدنا‏}‏ لأن المواعدة للقاء فالعامل ‏{‏واعدنا‏}‏ باعتبار المقدر، أي حضوراً مدة ثلاثين ليلة‏.‏

وقد جعل الله مدة المناجاة ثلاثين ليلة تيسيراً عليه، فلما قضاها وزادت نفسه الزكية تعلقاً ورغبة في مناجاة الله وعبادته، زاده الله من هذا الفضل عشر ليال، فصارت مدة المناجاة أربعين ليلة، وقد ذكر بعض المفسرين قصة في سبب زيادة عشر ليال، لم تصح، ولم يزده على أربعين ليلة‏:‏ إما لأنه قد بلغ أقصى ما تحتمله قوته البشرية فباعَدهُ الله من أن تعرض له السّآمة في عبادة ربه، وذلك يُجنّب عنه المتقون بَله الأنبياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ‏"‏ وإما لأن زيادة مغيبه عن قومه تفضي إلى أضرار، كما قيل‏:‏ إنهم عبدوا العجل في العشر الليالي الأخيرة من الأربعين ليلة، وسميت زيادةُ الليالي العشر إتماماً إشارة إلى أن الله تعالى أراد أن تكون مناجاة موسى أربعين ليلة، ولكنه لما أمره بها أمره بها مفرقة، إما لحكمة الاستيناس، وإما لتكون تلك العشر عبادة أخرى فيتكرر الثواب، والمراد الليالي بأيامها فاقتصر على الليالي؛ لأن المواعدة كانت لأجل الانقطاع للعبادة وتلقي المناجاة‏.‏

والنفس في الليل أكثر تجرداً للكمالات النفسانية، والأحوال المَلَكية، منها في النهار، إذ قد اعتادت النفوس بحسب أصل التكوين الاستيناسُ بنور الشمس والنشاط به للشغل، فلا يفارقها في النهار الاشتغال بالدنيا ولو بالتفكر وبمشاهدة الموجودات، وذلك ينحّط في الليل والظلمة، وتنعكس تفكرات النفس إلى دَاخلها، ولذلك لم تزل الشريعة تحرض على قيام الليل وعلى الابتهال فيه إلى الله تعالى، قال‏:‏ ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأستجيب له ‏"‏ ولم يزل الشغل في السهر من شعار الحكماء والمرتاضين لأن السهر يلطف سلطان القوة الحيوانية كما يلطفها الصوم قال في «هياكل النور» «النّفوسُ الناطقة من عالم الملكوت، وإنما شغَلها عن عالَمها القوى البدنية ومشاغَلتُها فإذا قويتْ النفس بالفضائل الرُوحانية وضعُف سلطان القُوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القُدس وتتصل بربها وتتلقى منه المعارف»‏.‏

على أن الغالب في الكلام العربي التوقيتُ بالليالي، ويُريدون أنها بأيامها، لأن الأشهر العربية تُبتدأ بالليالي إذ هي منوطة بظهور الأهلة‏.‏

وقوله ‏{‏فَتَم ميقاتُ ربه أربعينَ ليلة‏}‏ فذلكةُ الحساب كما في قوله‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلكَ عشرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، فالفاء للتفريع‏.‏

والتمام الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فتم ميقات ربه‏}‏ مستعمل في معنى النماء والتفوق فكان ميقاتاً أكمل وأفضل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تماماً على الذي أحسنَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأتممت عليكم نعمتي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ إشارة إلى أن زيادة العشر كانت لحكمة عظيمة تكون مدة الثلاثين بدونها غير بالغة أقصى الكمال، وأن الله قدر المناجاة أربعين ليلة، ولكنه أبرز الأمر لموسى مفرقاً وتيسيراً عليه، ليكون إقبالُه على إتمام الأربعين باشتياق وقوة‏.‏

وانتصب ‏{‏أربعين‏}‏ على الحال بتأويل‏:‏ بالغاً أربعين‏.‏

والميقات قيل‏:‏ مرادف للوقت، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل مّا، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏189‏)‏‏.‏

وإضافته إلى ‏{‏ربه‏}‏ للتشريف، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين، فزعموا أن موسى هلَك في الجبَل كما رواه ابن جُريج، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج‏.‏

أي‏:‏ قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحدَه ومعه غلامُهْ يُوشعُ بنُ نَون‏.‏

ومعنى ‏{‏اخلْفني‏}‏ كُنْ خلَفاً عني وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلَف، فالخلافة وكالة، وفعْلُ خَلَف مشتق من الخَلْف بسكون اللام وهو ضد الإمام، لأن الخليفة يقوم بعمل مَن خَلَفَه عند مغيبه، والغائِب يَجعل مكانَه وراءَه‏.‏

وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله‏:‏ ‏{‏وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحاً، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحاً، ولا تلبث أن تؤول فساداً على مَن لاحت عنده صلاحاً، ثم إذا تردد فعلٌ بين كونه خيراً من جهة وشراً من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتُبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفرُ صلاحاً، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكَنَ إلغاؤُه وإلاّ تخيّر، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نَهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبينَ تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين‏.‏

والإتباع أصله المشي على حلف ماش، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسِد من كان الفساد صفتَه، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيراً من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد، لأن المفسدين قد يعملون عملاً لا فساد فيه، فنُهي عن المشاركة في عمل من عُرف بالفساد، لأن صدوره عن المعروف بالفساد، كاففٍ في توقع إفضائه إلى فساد‏.‏ ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد، وسَد ذرائع الفساد من أصول الإسلام، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه‏.‏

فلا جرم أن كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ جامعاً للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده، وتجنبُ الاقتراب من المفسد ومخالطته‏.‏

وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى، أو أعلمه، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه، كما حكى الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إن القوم استضعفوني وكادوا يقتُلونني‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 94‏]‏‏.‏

فليست جملة‏:‏ ‏{‏ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ مجرد تأكيد لمضمون جملة ‏{‏وأصلح‏}‏ تأكيداً للشيء بنفي ضده مثل قوله‏:‏ ‏{‏أموات غير أحياء‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 21‏]‏ لأنها لو كان ذلك هو المقصَد منها لجُرّدت من حرف العطف، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل‏:‏ وأصلح لا تفسد، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏وأصلح‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏143- 144‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

جُعل مجيءُ موسى في الوقت المعين أمراً حاصلاً غير محتاج للإخبار عنه، للعلم بأن موسى لا يتأخر ولا يترك ذلك، وجُعل تكليمُ الله إياه في خلال ذلك الميقات أيضاً حاصلاً غير محتاج للإخبار عن حلوله، لظهور أن المواعدة المتضمنة للملاقاة تتضمن الكلام، لأن ملاقاة الله بالمعنى الحقيقي غير مُمكنة، فليس يحصل من شؤون المواعدة إلاّ الكلام الصادر عن إرادة الله وقدرته، فلذلك كله جُعل مجيء موسى للميقات وتكليم الله إياه شرطاً لحرف ‏(‏لمّا‏)‏ لأنه كالمعلوم، وجعل الإخبار متعلقاً بما بعد ذلك، وهو اعتبار بعظمة الله وجلاله، فكان الكلام ضرباً من الإيجاز بحذف الخبر عن جملتين اسغناء عنهما بأنهما جعلتا شرطاً للمّا‏.‏

ويجوز أن تجعل الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَكلّمه ربه‏}‏ زائدة في جواب ‏{‏لمّا‏}‏ كما قاله الأكثر في قول امرئ القيس‏:‏

فلمّا أجَزْنَا ساحةَ الحي وانتحى *** بنا بطْنُ خبت ذي حقاف عقنقل

أن جواب ‏{‏لَما‏}‏ هو قوله وانتحى، وجوزوه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلمّا أسلما وتَلْه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 103، 104‏]‏ الآية، أن يكون ‏{‏وناديناه‏}‏ هو جواب ‏(‏لَما‏)‏ فيصير التقدير‏:‏ لما جاء موسى لميقاتنا كَلّمه ربه، فيكون إيجازاً بحذف جملة واحدة، ولا يستفاد من معنى إنشاء التكليم الطمع في الرؤية إلاّ من لازم المواعدة‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لميقاتنا‏}‏ صنفٌ من لام الاختصاص، كما سماها في «الكشاف» ومثلها بقولهم‏:‏ أتيته لعشر خلَون من الشهر، يعني أنه اختصاص مّا، وجعلها ابن هشام بمعنى عند، وجعل ذلك من معاني اللام وهو أظهر، والمعنى‏:‏ فلما جاء موسى مجيئاً خاصاً بالميقات أي‏:‏ حاصلاً عنده لا تأخير فيه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم الصلاة لدلوك الشمس‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 78‏]‏ وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل فقال‏:‏ ‏"‏ الصلاة لوقتها ‏"‏ أي عند وقتها ومنه ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ويجوز جعل اللام للأجل والعلة، أي جاء لأجل ميقاتنا، وذلك لما قدمناه من تضمن الميقات معنى الملاقاة والمناجاة، أي جاء لأجل مناجاتنا‏.‏

والمجيء‏:‏ انتقاله من بين قومه إلى جبل سينا المعيّن فيه مكانُ المناجاة‏.‏

والتكليم حقيقته النطق بالألفاظ المفيدة معانيَ بحسب وضع مصطلح عليه، وهذه الحقيقة مستحيلة على الله تعالى لأنها من أعراض الحوادث، فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازاً مستعملاً في الدلالة على مُراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطَب به بكيفية يوقن المخاطَب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وَفْق الإرادة ووَفْققِ العلم، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى كما رُوي أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها، وذلك أولُ كلام كلّمه الله موسى في أرض مَدين في جبل ‏(‏حوريب‏)‏، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خِلال السحاب وذلك الكلام الواقع في طُور سينا، وهو المراد هنا، وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج‏.‏

والكلام بهذه الكيفية كان يسمعه موسى حين يكون بعيداً عن الناس في المناجاة أو نحوها، وهو أحد الأحوال الثلاثة التي يكلم الله بها أنبياءه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لِبَشَرٍ أن يكلمه الله إلاّ وحيا‏}‏ الآية في سورة الشورى ‏(‏51‏)‏، وهو حادث لا محالة ونسبته إلى الله أنه صادر بكيفية غير معتادة لا تكون إلاّ بإرادة الله أن يخالف به المعتاد تشريفاً له، وهو المعبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏أوْ منْ وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏، وقد كلم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وأحسب الأحاديث القدسية كلها أو معظمها مما كلم الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما إرسال الله جبريل بكلام إلى أحد أنبيائه، فهي كيفية أخرى، وذلك بإلقاء الكلام في نفس المَلَك الذي يبلغه إلى النبي، والقرآنُ كله من هذا النوع، وقد كان الوحي إلى موسى بواسطة الملَك في أحوال كثيرة وهو الذي يعبر عنه في التوراة بقولها‏:‏ قال الله لموسى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قال رب أرني‏}‏ هو جواب ‏{‏لَمّا‏}‏ على الأظهر، فإنْ قدرنا الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وكلمهُ‏}‏ زائدة في جواب لما كان قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ واقعاً في طريق المحاورة فلذلك فُصل‏.‏

وسؤالُ موسى رؤية الله تعالى تطلّع إلى زيادة المعرفة بالجلال الإلهي، لأنه لما كانت المواعدة تتضمن الملاقاة‏.‏ وكانت الملاقاة تعتمد رؤية الذات وسماع الحديث، وحصل لموسى أحد ركني الملاقاة وهو التكليم، أطمعه ذلك في الركن الثاني وهو المشاهدة، وممّا يؤذن بأن التكليم هو الذي أطمع موسى في حصول الرؤية جعْلُ جملة ‏{‏وكلمه ربه‏}‏ شرطاً لحرف ‏(‏لمّا‏)‏ لأن ‏(‏لمّا‏)‏ تدل على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، فلذلك يكثر أن يكون علة في حصول جوابها كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما‏}‏ في هذه السورة ‏(‏22‏)‏، هذا على جعل ‏{‏وكَلمه‏}‏ عطفاً على شرط لمّا، وليسَ جوابَ لما، ولا نشك في أنه سأل رؤية تليق بذات الله تعالى، وهي مثل الرؤية الموعود بها في الآخرة، فكان موسى يحسب أن مثلِها ممكن في الدنيا حتى أعلمه الله بأن ذلك غير واقع في الدنيا، ولا يمتنع على نبي عدمُ العلم بتفاصيل الشؤون الإلهية قبل أن يُعلمها الله إياه، وقد قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وقُل رب زدني علماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏، ولذلك كان أيمة أهل السنة محقين في الاستدلال بسؤال موسى رؤية الله على إمكانها بكيفية تليق بصفات الإلاهية لا نعلم كنهها وهو معنى قولهم‏:‏ «بلا كيف»‏.‏

وكانَ المعتزلةُ غير محقين في استدلالهم بذلك على استحالتها بكل صفة‏.‏

وقد يؤول الخلاف بين الفريقين إلى اللفظ، فإن الفريقين متفقان على استحالة إحاطة الإدراك بذات الله واستحالة التحَيز، وأهل السنة قاطعون بأنها رؤية لا تنافي صفات الله تعالى، وأما ما تبجح به الزمخشري في «الكشاف» فذلك من عُدوان تعصبه على مخالفيه على عادته، وما كان ينبغي لعلماء طريقتنا التنازلُ لمهاجاته بمثل ما هاجاهم به، ولكنه قال فأوْجَب‏.‏

وأعلم أن سؤال موسى رؤية الله تعالى طلبٌ على حقيقته كما يؤذن به سياق الآية وليس هو السؤالَ الذي سأله بنوا اسرائيل المحكي في سورة البقرة ‏(‏55‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏}‏ وما تمحل به في «الكشاف» من أنه هو ذلك السؤال تكلفٌ لا داعي له‏.‏

ومفعول ‏{‏أرني‏}‏ محذوف لدلالة الضمير المجرور عليه في قوله‏:‏ ‏{‏إليك‏}‏‏.‏

وفصل قوله‏:‏ ‏{‏قالَ لنْ تراني‏}‏ لأنه واقع في طريق المحاورة‏.‏

و ‏{‏لَن‏}‏ يستعمل لتأبيد النفي ولتأكيد النفي في المستقبل، وهما متقاربان، وإنما يتعلق ذلك كله بهذه الحياة المعبر عنها بالأبد، فنفت ‏(‏لن‏)‏ رؤية موسى ربّه نفياً لا طمع بعده للسائِل في الإلحاح والمراجعة بحيث يَعلم أن طلبته متعذرة الحصول، فلا دلالة في هذا النفي على استمراره في الدار الآخرة‏.‏

والاستدراك المستفاد من ‏{‏لكن‏}‏ لرفع توهم المخاطَب الاقتصارَ على نفي الرؤية بدون تعليل ولا إقناع، أو أن يتوهم أن هذا المنع لغضب على السائِل ومنقصة فيه، فلذلك يعلم من حرف الاستدراك أن بعض ما يتوهمه سيُرفع، وذلك أنه أمره بالنظر إلى الجبل الذي هو فيه هل يثبت في مكانه، وهذا يعلم منه أن الجبل سيتوجه إليه شيءٌ من شأن الجلال الإلهي، وأن قوة الجبل لا تستقر عند ذلك التوجه العظيم، فيعلم موسى أنه أحرى بتضاؤل قواه الفانية لو تجلى له شيء من سُبُحات الله تعالى‏.‏

وعلق الشرط بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ لأن الغالب استعمالها في مقام ندرة وقوع الشرط أو التعريض بتعَذره، ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوماً لله انتفاؤه، صح تعليق الأمر المرادِ تعذُر وقوعُه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجَة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى جائزة عليه تعالى، خلافاً لما اعتاد كثيرٌ من علمائنا من الاحتجاج بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تراني‏}‏ ليس بوعد بالرؤية على الفرض لأن سُبق قوله‏:‏ ‏{‏لن تراني‏}‏ أزال طماعية السائل الرؤية، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظرِه إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجزَ القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى، من عدم ثبات قوة الجبل، فصارت قوة الكلام‏:‏ أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه فلست أنت بالذي تراني، لأنك لا تستطيع ذلك، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الامتناعي الحاصل بحرف ‏(‏لو‏)‏ بدلالة قرينة السابِق‏.‏

والتجلي حقيقة الظهور وإزالة الحجاب، وهو هنا مجاز، ولعله أريد به إزالة الحوائِل المعتادة التي جعلها الله حجاباً بين الموجودات الأرضية وبين قوى الجبروت التي استأثر الله تعالى بتصريفها على مقاديرَ مضبوطة ومتدرجة في عوالم مترتبة ترتيباً يعلمه الله‏.‏

وتقريبُه للإفهام شبيه بما اصطلح عليه الحكماء في ترتيب العقول العشرة، وتلك القوى تنسب إلى الله تعالى لكونها آثاراً لقدرته بدون واسطة، فإذا أزال الله الحجاب المعتاد بين شيء من الأجسام الأرضية وبين شيء من تلك القوى المؤثرة تأثيراً خارقاً للعادة اتصلت القوة بالجسم اتصالاً تظهرُ له آثار مناسبة لنوع تلك القوة، فتلك الإزالة هي التي استعير لها التجلي المسندُ إلى الله تعالى تقريباً للإفهام، فلما اتصلت قوة ربانية بالجبل تُماثل اتصال الرؤية اندّك الجبل، ومما يقرب هذا المعنى، ما رواه الترمذي وغيره، من طرق عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما تجلى ربه‏}‏ فوضع إبهامه قريباً من طرف خنصره يُقلل مقدار التجلي‏.‏

وصَعِق موسى من اندكاك الجبل فعلم موسى أنه لو توجه ذلك التجلي إليه لانتثر جسمه فُضاضاً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏دكّاً‏}‏ بالتنوين والدك مصدر وهو والدق مترادفان، وهو الهدّ وتفرق الأجزاء كقوله ‏{‏وتَخِر الجبال هدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏، وقد أخبر عن الجبل بأنه جعل دَكاً للمبالغة، والمراد أنه مدكوك أي‏:‏ مدقوق مهدوم‏.‏ وقرأ الكسائي، وحمزة، وخلف ‏{‏دَكّاء‏}‏ بمد بعد الكاف وتشديد الكاف والدكاء الناقة التي لا سنام لها، فهو تشبيه بليغ أي كالدكاء أي ذهبت قُنته، والظاهر أن ذلك الذي اندك منه لم يرجع ولعل آثار ذلك الدك ظاهرة فيه إلى الآن‏.‏

والخرور السقوط على الأرض‏.‏

والصعق‏:‏ وصف بمعنى المصعوق، ومعناه المغشي عليه من صيحة ونحوها، مشتق من اسم الصاعقة وهي القطعة النارية التي تبلغ إلى الأرض من كهرباء البرق، فإذا أصابت جسماً أحرقته، وإذا أصابت الحيوان من قريب أماتته، أو من بعيد غُشي عليه من رائحتها، وسُمي خويلدُ بن نُفيْل الصِعقَ عَلماً عليه بالغلبة، وإنما رجحنا أن الوصف والمصدر مشتقان من اسم الصاعقة دون أن نجعل الصاعقة مشتقاً من الصعق؛ لأن أيمة اللغة قالوا‏:‏ إن الصعْق الغشيُ من صيحة ونحوها، ولكن توسعوا في إطلاق هذا الوصف على من غشي عليه بسبب هدة أو رجَة، وإن لم يكن ذلك من الصاعقة‏.‏

والإفاقة‏:‏ رجوع الإدراك بعد زواله بغشْي، أو نوم، أو سُكر، أو تخبط جنون‏.‏

و ‏{‏سبحانك‏}‏ مصدر جاء عوضاً عن فعله أي أسبحك، وهو هنا إنشاء ثناء على الله وتنزيه عما لا يليق به، لمناسبة سؤاله منه مَا تبين له أنه لا يليق به سؤالهُ دون استيذانه وتحقققِ إمكانه كما قال تعالى لنوح‏:‏ ‏{‏فلا تسألني ما ليس لك به علم‏}‏ في سورة هود ‏(‏46‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ تبت إليك‏}‏ إنشاء لتوبة من العود إلى مثل ذلك دون إذن من الله، وهذا كقول نوح عليه السلام‏:‏

‏{‏رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 47‏]‏ وصيغة الماضي من قوله‏:‏ ‏{‏تُبت‏}‏ مستعملة في الإنشاء فهي مستعملة في زمن الحال مثل صيغ العقود في قولهم بعْتُ وزَوّجْتُ‏.‏ مبالغة في تحقق العقد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ أطلق ‏{‏الأول‏}‏ على المُبادر إلى الإيمان، وإطلاق الأول على المبادر مجاز شائع مساو للحقيقة، والمرادُ به هنا وفي نظائره الكناية عن قوة إيمانه، حتى أنه يبادر إليه حين تردد غيره فيه، فهو للمبالغة، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا أولَ كافر به‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏41‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنا أول المسلمين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏163‏)‏‏.‏

والمراد بالمؤمنين من كان الإيمان وصفهم ولقبَهم، أي الإيمان بالله وصفاته كما يليق به فالإيمان مستعمل في معناه اللقبي، ولذلك شُبه الوصف بأفعال السجايا فلم يذكر له متعلّق، ومن ذهب من المفسرين يقدر له متعلّقاً فقد خرج عن نهج المعنى‏.‏

وفُصلت جملة‏:‏ ‏{‏قال يا موسى‏}‏ لوقوع القول في طريق المحاورة والمجاوبة، والنداءُ للتأنيس وإزالة الرّوع‏.‏

وتأكيد الخبر في قوله‏:‏ ‏{‏إني اصطفيك‏}‏ للاهتمام به إذ ليس محلاً للإنكار‏.‏

والاصطفاء افتعال مبالغة في الاصفاء وهو مشتق من الصّفْو، وهو الخلوص مما يكدر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله اصطفى آدم ونوحاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏33‏)‏ وضمن اصطفيتك معنى الإيثار والتفضيل فعُدي بعَلَى‏.‏

والمراد بالناس‏:‏ جميع الناس، أي الموجودين في زمنه، فالاستغراق في ‏{‏الناس‏}‏ عرفي أي هو مفضل على الناس يومئذٍ لأنه رسول، ولتفضيله بمزية الكلام، وقد يقال إن موسى أفضل جميع الناس الذين مضَوا يومئذٍ، وعلى الاحتمالين‏:‏ فهو أفضل من أخيه هارون، لأن موسى أرسل بشريعة عظيمة، وكلمه الله، وهارون أرسله الله معاوناً لموسى ولم يكلمه الله، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏برسالتي وبكلامي‏}‏ وما ورد في الحديث من النهي عن التفضيل بين الأنبياء محمول على التفضيل الذي لا يستند لدليل صريح، أو على جعل التفضيل بين الأنبياء شُغلاً للناس في نواديهم بدون مقتض معتبر للخوض في ذلك‏.‏ وهذا امتنان من الله وتعريف‏.‏

ثم فرع على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين‏}‏ والأول تفريع على الإرسال وَالتكليم‏.‏ والثاني تفريع على الامتنان، وما صْدقُ ‏{‏ما آتيتك‏}‏ قيل هو الشريعة والرسالة، فالإيتاء مجاز أطلق على التعليم والإرشاد، والأخذ مجاز في التلقي والحفظ، والأظهر أن يكون ‏{‏ما آتيتك‏}‏ إعطاءَ الألواح بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وكتبنا له في الألواح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وقد فُسر بذلك، فالإيتاء حقيقة، والأخذ كذلك، وهذا أليق بنظم الكلام مع قوله‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 145‏]‏ وَيحصل به أخذ الرسالة والكلام وزيادة‏.‏

والإخبار عن ‏{‏كُن‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏من الشاكرين‏}‏ أبلغُ من أن يقالُ كن شاكراً كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏56‏)‏‏.‏

وقرأ نافع‏:‏ وابن كثير، وأبو جعفر، وروْح عن يعقوب‏:‏ برسالتي‏}‏، بصيغة الإفراد وقرأ البقية ‏{‏برسالاتي‏}‏ بصيغة الجمع، وهو على تأويله بتعدد التكاليف والإرشاد التي أرسل بها‏.‏