فصل: تفسير الآية رقم (69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله‏.‏ وفي هذا التفريع وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الذي جرى عليه كلام المفسّرين أنّه تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏ إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ أي لولا ما سبق من حلّ الغنائم لكم لمسّكم عذاب عظيم، وإذ قد سبق الحلّ فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء‏.‏ وقد روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ الآية، أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبا‏}‏ وعلى هذا الوجه قد سمّي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي؛ لأنّ الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكّه المسلمون من مال العدوّ بالإيجاف عليهم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ يظهر لي أنّ التفريع ناشئ على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل، وأنّ المعنى‏:‏ فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض‏.‏ وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي‏.‏

ولمّا تضمّن قوله‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏ امتناناً عليهم بأنّه صرف عنهم بأس العدوّ، فرّع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم، ويتوسّعوا به في نفقاتهم، دون نكد ولا غصّة، فإنّهم استغنوا به مع الأمن من ضرّ العدوّ بفضل الله‏.‏ فتلك نعمة لم يشُبها أذى‏.‏

وعبّر عن الانتفاع الهنيء بالأكل‏:‏ لأنّ الأكل أقوى كيفيّات الانتفاع بالشيء، فإنّ الآكِل ينعم بلذاذة المأكول وبدَفْع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكلُ قوة وصحّة والصحة مع القوّة لذاذة أيضاً‏.‏

والأمر في ‏{‏كلوا‏}‏ مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا‏:‏ لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر، وليكون قوله‏:‏ ‏{‏حلالاً‏}‏ حالاً مؤسسّة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة‏.‏

و ‏{‏غنمتم‏}‏ بمعنى فاديتم لأنّ الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم‏.‏

والطيب‏:‏ النفيس في نوعه، أي حلالاً من خير الحلال‏.‏

وذُيّل ذلك بالأمر بالتقوى‏:‏ لأنّ التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ تعليل للأمر بالتقوى، وتنبيه على أنّ التقوى شكر على النعمة، فحرف التأكيد للاهتمام، وهو مغن غَناء فاء التفريع، كقول بشار‏:‏

إنّ ذاك النجاح في التبكير ***

وقد تقدّم ذكره غير مرة‏.‏

وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيّداً لرأي عمر بن الخطاب‏.‏ فقد روى مسلمٌ عن عمر، قال‏:‏ «وافقتُ ربّي في ثلاث‏:‏ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، وهو إقبال على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يتعلّق بحال سرائر بعض الأسرى، بعد أن كان الخطاب متعلقا بالتحريض على القتال وما يتبعه، وقد كان العباس في جملة الأسرى وكان ظهر منه ميل إلى الإسلام‏.‏ قبل خروجه إلى بدر، وكذلك كان عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وقد فدى العباسُ نفسه وفدى ابنَي أخَوَيْه‏:‏ عُقيلاً ونوْفلاً‏.‏ وقال للنبيء صلى الله عليه وسلم تَركتني أتكفّف قريشاً‏.‏ فنزلت هذه الآية في ذلك، وهي ترغيب لهم في الإسلام في المستقبل، ولذلك قيل لهم هذا القول قبل أن يفارقوهم‏.‏

فمعنى ‏{‏من في أيديكم‏}‏ من في مَلكتكم ووثاقكم، فالأيدي مستعارة للمِلك‏.‏ وجمعها باعتبار عدد المالكين‏.‏ وكان الأسرَى مشركين، فإنّهم ما فَادوا أنفسهم إلاّ لقصد الرجوع إلى أهل الشرك‏.‏

والمراد بالخير محبّة الإيمان والعزم عليه، أي‏:‏ فإذا آمنتم بعد هذا الفِداء يؤتكم الله خيراً ممّا أخذ منكم‏.‏ وليس إيتاء الخير على مجرّد محبة الإيمان والميل إليه، كما أخبر العبّاس عن نفسه، بل المراد به ما يترتّب على تلك المحبّة من الإسلام بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏‏.‏ وكذلك ليس الخير الذي في قلوبهم هو الجزم بالإيمان‏:‏ لأنّ ذلك لم يدَّعوه ولا عرِفوا به، قال ابن وهب عن مالك‏:‏ كان أسرى بدر مشركين ففادوا ورجعوا ولو كانوا مسلمين لأقاموا‏.‏

و«ما أخذ» هو مال الفداء، والخيرُ منه هو الأوفر من المال بأن ييسِّر لهم أسباب الثروة بالعطاء من أمْوال الغنائم وغيرها‏.‏ فقد أعطَى رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ بعد إسلامه مِن فَيْءِ البَحرين‏.‏ وإنّما حملنا الخير على الأفضل من المال؛ لأنّ ذلك هو الأصل في التفضيل بين شيئين أن يكون تفضيلاً في خصائص النوع، ولأنّه عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ وذلك هو خير الآخرة المترتّب على الإيمان، لأنّ المغفرة لا تحصل إلاّ للمؤمن‏.‏

والتذييلُ بقوله‏:‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ للإيماء إلى عظم مغفرته التي يغفر لهم، لأنّها مغفرة شديدِ الغفران رحيممٍ بعبَاده، فمثال المبالغة وهو غفور المقتضي قوةَ المغفرة وكثرتها، مستعمل فيهما باعتبار كثرة المخاطبين وعِظم المغفرة لكلّ واحد منهم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من الأسرى‏}‏ بفتح الهمزة وراء بعد السين مثل أسرى الأولى، وقرأها أبو عَمرو، وأبو جعفر ‏{‏من الأسَارى بضمّ الهمزة وألف بعد السين وراءه فورود هما في هذه الآية تفنُّن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

الضمير في ‏{‏يريدوا‏}‏ عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى‏.‏ وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لنفسه، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله‏.‏ وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 69‏]‏، فكل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى، كما أمكنهم منهم في هذه المرة، أي‏:‏ أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ، فلا يضرّكم ذلك، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة‏.‏ والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة‏.‏

فالعَهد، الذي أعطَوْه، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين‏.‏ وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه‏.‏

وخيانتهم الله، التي ذُكرت في الآية، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم‏.‏

وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله‏:‏ ‏{‏دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 189، 190‏]‏‏.‏

ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا‏.‏

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم‏}‏‏.‏ وتقديره‏:‏ فلا تضرّك خيانتهم، أو لا تهتمّ بها، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فأمكن منهم‏}‏ سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب، وبيان اشتقاقه، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً؛ بأن فسروا ‏(‏أمكنَ‏)‏ بأقدَرَ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر‏.‏ ووقع في «الأساس» «أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه» وفي «المصباح» «مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة»‏.‏

والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه‏.‏

و«من» التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم‏:‏ لستُ منك ولستَ منّي‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمكن منهم‏}‏ حذف مفعوله لدلالة السياق عليه، أي أمكنك منهم يوم بدر، أي لم ينفلتوا منك‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم‏.‏

‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

هذه الآيات استئناف ابتدائي للإعلام بأحكام موالاة المسلمين للمسلمين الذين هاجروا والذين لم يهاجروا، وعدم موالاتهم للذين كفروا، نشأ عن قول العباس بن عبد المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ «مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار، والمهاجرين بعد الحديبية وذِكْرُ نِسَب بعضهم عن بعض»‏.‏

وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدَت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين‏.‏ فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن‏.‏ والأنصار امتازوا بإيوائهم، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهلِه، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا، وكان فضل المهاجرين أقوى؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم، وبادر إليه أكثرهم، فكانوا قدوة ومثالاً صالحاً للناس‏.‏

والمهاجرة هجر البلاد، أي الخروج منها وتركها، قال عَبدة بن الطبيب‏:‏

إنّ التي ضَربتْ بيتاً مُهَاجَرةً *** بكوفةِ الجندِ غَالتْ وُدَّها غُول

وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم‏.‏

وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين، فقد هاجر إبراهيم عليه السلام ‏{‏وقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏‏.‏ وهاجر لوط عليه السلام‏:‏ ‏{‏وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 26‏]‏، وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل‏:‏ ‏"‏ لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ‏"‏ وقال للأعرابي‏:‏ ‏"‏ ويحك إنّ شأنها شديد وقال لا هجرة بعد الفتح ‏"‏

والإيواء تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآواكم وأيدكم بنصره‏}‏ في هذه السورة ‏[‏26‏]‏‏.‏

والنصر تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 123‏]‏‏.‏

والمراد بالنصر في قوله‏:‏ ونصروا‏}‏ النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار‏.‏

واسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏ لإفادة الاهتمام بتمييزهم للإخبار عنهم، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم، ولذلك لم يؤت بمثله في الإخبار عن أحوال الفرق الأخرى‏.‏

ولمّا أطلَق الله الولاية بينهم احتمل حملَها على أقصى معانيها، وإن كان موردُها في خصوص ولاية النصر، فإنّ ذلك كورُود العامّ على سبب خاص قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏ يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، حتّى أنزل الله قوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ أي في الميراث فنسختها، وسيأتي الكلام على ذلك‏.‏ فحملها ابن عبّاس على ما يشمل الميراث، فقال‏:‏ كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر، فنسخ الله ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏‏.‏ وهذا قول مجاهد وعِكرمة وقتادة والحسن‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقال كثير من المفسّرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتداداً بأنّها خاصّة بهذا الغرض، وهو قول مالك بن أنس والشافعي‏.‏

وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة، ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه ‏(‏وهو مؤمن‏)‏ ولا يرث الأعرابي المهاجر أي ولو كان عاصباً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء‏}‏ جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده، ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران، وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله، آية واحدة نهايتها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏‏.‏

فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك، وأنّ وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك، فلمّا بيّن أول الآية ما لأصحاب الوصفين‏:‏ الإيمان والهجرة، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث، فبيّنت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرّئى من ولايتهم حتّى يهاجروا، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلاّ إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم‏.‏

وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا، دليل على أنّهم معتبرون مسلمين، ولكنّ الله أمر بمقاطعتهم حتّى يهاجروا؛ ليكون ذلك باعثاً لهم على الهجرة‏.‏

و«الولاية» بفتح الواو في المشهور وكذلك قرأها جمهور القرّاء، وهي اسم لمصدر تولاه، وقرأها حمزة وحده بكسر الواو‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الفتح أجود هنا، لأنّ الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة‏.‏

وقال الزّجاج‏:‏ قد يجوز فيها الكسر، لأنّ في تولّى بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقِصارة والخِياطة، وتبعه في «الكشّاف» وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أنّ الفتح هنا أجود‏.‏ وما قاله أبو علي الفارسي باطل، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها‏.‏

والظرفية التي دلت عليها ‏(‏في‏)‏ من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن استنصروكم في الدين‏}‏ ظرفية مجازية، تؤول إلى معنى التعليل، أي‏:‏ طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم؛ لأنّ نصرهم للدّين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصرِه، وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفّر داعي القتال، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد‏.‏

و ‏{‏عليكم النصر‏}‏ من صيغ الوجوب، أي‏:‏ فواجب عليكم نصرهم، وقدم الخبر وهو ‏{‏عليكم‏}‏ للاهتمام به‏.‏

و ‏{‏أل في النصر‏}‏ للعهد الذكري لأنّ ‏{‏استنصروكم‏}‏ يدلّ على طلب نصر والمعنى‏:‏ فعليكم نصرهم‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ استثناء من متعلِّق النصر وهو المنصور عليهم، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلاّ إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلاّ بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم، ولا يدخلون فيما جرُّوه لأنفسهم من عداوات وإحَن، لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين، وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعدّ نكثاً من الكفار لعهد المسلمين، لأن من عذرهم أن يقولوا‏:‏ لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم، لأنّ الإيمان لا يُطلع عليه إلاّ بمعاشرة، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ تحذير للمسلمين لئلاّ يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قوماً بينهم وبينهم ميثاق‏.‏

وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد، وأنّه لا ينفضه إلاّ أمر صريح في مخالفته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ وما عطف عليه‏.‏ والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي‏:‏ وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضاً ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏ أي‏:‏ إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ بتأويل‏:‏ المذكور، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضاً، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم‏.‏

والفتنة اختلال أحوال الناس، وقد مضى القول فيها عند قوله‏:‏ ‏{‏حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ وقوله ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏، وقد تقدّم القول فيها آنفاً في هذه السورة‏.‏

والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة، وقد كان إسلام من أسلم مثيراً لحنق المشركين عليه، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر‏.‏ فكان إيجاب مقاطعتهم؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات، وإنسائهم تلك الأحوال، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي، فلذا كان هذا حسماً لوسائل الفتنة‏.‏

والتعريف في الأرض‏}‏ للعهد والمراد أرض المسلمين‏.‏

و«الفساد» ضدّ الصلاح، وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والكبير حقيقته العظيم الجسم‏.‏ وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والمراد بالفساد هنا‏:‏ ضد صلاح اجتماع الكلمة، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر أو النفاق، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم، وهذا فساد كبير، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً، وتجنّب ما يضادها، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة‏.‏ وذلك فساد كبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

الأظهر أنّ هذه جملة معترضة بين جملة ‏{‏والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏، وجملة ‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ الآية، والواو اعتراضية للتنويه بالمهاجرين والأنصار، وبيان جزائهم وثوابهم، بعد بيان أحكام ولاية بعضهم لبعض بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ فليست هذه تكريراً للأولى، وإن تشابهت ألفاظها‏:‏ فالأولى لبيان ولاية بعضهم لبعض، وهذه واردة للثناء عليهم والشهادة لهم بصدق الإيمان مع وعدهم بالجزاء‏.‏

وجيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك هم المؤمنون‏}‏ لمثل الغرض الذي جيء به لأجله في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك بعضهم أولياء بعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ كما تقدّم‏.‏

وهذه الصيغة صيغة قصر، أي قصر الإيمان عليهم دون غيرهم ممّن لم يهاجروا، والقصر هنا مقيّد بالحال في قوله‏:‏ ‏{‏حَقّاً‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏حقّا‏}‏ حال من ‏{‏المؤمنون‏}‏ وهو مصدر جعل من صفتهم، فالمعنى‏:‏ أنّهم حاقّون، أي محقّقون لإيمانهم بأن عضّدوه بالهجرة من دار الكفر، وليس الحقّ هنا بمعنى المقابل للباطل، حتّى يكون إيمان غيرهم ممّن لم يهاجروا باطلاً، لأنّ قرينة قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏ مانعة من ذلك، إذ قد أثبت لهم الإيمان، ونفى عنهم استحقاق ولاية المؤمنين‏.‏

والرزق الكريم هو الذي لا يخالط النفع به ضرّ ولا نكد، فهو نفع محض لا كدر فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ‏}‏‏.‏

بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهجروا بالصراحة، ابتداءً ونفى عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان، وكان ذلك مثيراً في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم بِرأببِ هذه الثَّلمة عنهم، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏‏.‏

فكانت هذه الآية بياناً، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليباً لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات‏.‏

ودخول الفاء على الخبر وهو ‏{‏فأولئك منكم‏}‏ لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنّه جاء كالجواب عن سؤال السائِل، فكأنّه قيل‏:‏ وأمّا الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ، أي‏:‏ مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا، ف ‏{‏الذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏ وبذلك صار فعل ‏{‏آمنوا‏}‏ تمهيداً لما بعده من ‏{‏هاجروا وجاهدوا‏}‏ لأن قوله‏:‏ ‏{‏من بعد‏}‏ قرينة على أنّ المراد‏:‏ إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلاً في وقت نزول الآيات السابقة، ليكون أصحاب هذه الصلة قسماً مغايراً للأقسام السابقة‏.‏ فليس المعنى أنّهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية، لأنّ الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم، فإنّ من المعلوم أنّ الإسلام يجُبُّ ما قبَله، وإنّما المقصود‏:‏ بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قُبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوفَ الذي يشير إليه بناء ‏{‏بعدُ‏}‏ على الضمّ أن تقديره‏:‏ من بعد ما قلناه في الآيات السابقة، وإلاّ صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدّم، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردّد فيها بعض المفسّرين في تقدير ما أضيف إليه ‏(‏بعد‏)‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏معكم‏}‏ إيذان بأنّهم دُون المخاطبين الذين لم يستقرّوا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون، وأنّهم فرطوا في الجهاد مدة‏.‏

والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعدُ وهاجروا، دون الضمير، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم‏.‏

و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ تبعيضية، ويعتبر الضمير المجرور بمن، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أنّ ولايتهم للمسلمين‏.‏

‏{‏وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قال جمهور المفسّرين قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك منكم‏}‏ أي مثلكم في النصر والموالاة، قال مالك‏:‏ إنّ الآية ليست في المواريث، وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك منكم‏}‏ «يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال، أي اختلاف القائلين في أنّ المهاجر يرث الأنصاري والعكس، وهو قول فرقة‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّها نسخت بآية المواريث‏.‏

عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتّحاداً بين المعطوفة والمعطوف عليها، ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأنّ لها حظّاً في إتمام التقسيم، وقد جعلت في المصاحف مع التي قبلها آية واحدة‏.‏

فيظهر أنّ التقاسيم السابقة لمّا أثبتت ولاية بين المؤمنين، ونفت ولايةً من بينهم وبين الكافرين، ومِن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتّى يهاجروا، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دَار الكفر مدّة، فبيّنت أنّهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين، وكان ذلك قد يشغل السامعين عن وَلاية ذوي أرحامهم من المسلمين، جاءت هذه الآية تذكّر بأنّ ولاية الأرحام قائمة وأنّها مرجّحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط، وشأن الصفات والغايات بعد الجُمل المتعاطفة أنّها تعود إلى جميع تلك الجمل، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيّدةً الإطلاقَ الذي فيها‏.‏

وظاهر لفظ ‏{‏الأرحام‏}‏ جَمْعُ رَحِم وهو مقّر الولد في بطن أمّه، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة، فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة، وهو ما درج عليه جمهور المفسّرين، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم‏.‏ قاله القرطبي، واستدلّ له بأنّ لفظ الرحم يراد به العصابة، كقول العرب في الدعاء «وصلتْك رحم»، وكقول قُتَيّلة بنتتِ النضر بن الحارث‏:‏

ظَلّتْ سيوف بني أبيه تَنوشه *** للَّه أرحام هناك تمزّق

حيث عَبرت عن نَوش بني أبيه بتمزيق أرحام‏.‏

وعُلم من قوله‏:‏ ‏{‏أولى‏}‏ هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أوْلى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولايةَ النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضاً، بحيث لا تُزاحم إحدى الولايتين الأخرى، والاعتناءُ بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة، فلذلك عَلقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه‏.‏

وكتابُ الله قضاؤه وشرعه، وهو مصدر، إمّا باق على معنى المصدرية، أو هو بمعنى المفعول، أي مكتوبة كقول الراعي‏:‏

كانَ كتابُها مفعولاً ***

وجَعْلُ تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كنايةٌ عن عدم تعبيره، ا لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه‏.‏ قال الحارث بن حِلَّزة‏:‏

حَذر الجَوْر والتَّطَاخِي وهل ينْ *** قُض ما في المهارق الأهواء

فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم، كما ورد في الحديث‏:‏

«إن الله لما خلق الرحِمَ أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت‏:‏ هذا مقام العائذِ بك من القَطيعة» الحديثَ‏.‏ فلمّا كانت ولاية الأرحام أمراً مقرراً في الفطرة، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تُبطل ولاية الرحم إلاّ إذا تعارضتا، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضاً، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية، حيث تكون الولاية، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين‏.‏

واختلف العلماء في أنّ ولاية الأرحام هنا هل تشمل ولاية الميراث‏:‏ فقال مالك بن أنس هذه الآية ليست في المواريث أي فهي ولاية النصر وحسن الصحبة، أي فنقصر على موردها ولم يرها مساوية للعام الوارد على سبب خاصّ إذ ليست صيغتها صيغة عموم، لأن مناط الحكم قوله‏:‏ ‏{‏أولى ببعض‏}‏‏.‏

وقال جماعة تشمل ولاية الميراث، ثم اختلفوا فمنهم من قال‏:‏ نُسِخت هذه الولاية بآية المواريث، فبطل توريث ذوي الأرحام بقول النبي صلى الله عليه وسلم «ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأِوْلى رجللٍ ذَكَرٍ» فيكون تخصيصاً للعموم عندهم‏.‏

وقال جماعة يرث ذوو الأرحام وهم مقدمون على أبناء الأعمام، وهذا قول أبي حنيفة وفقهاء الكوفة، فتكون هذه الآية مقيِّدة لإطلاق آية المواريث، وقد علمت ممَّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضاً جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال‏.‏ وأيَّامّاً كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ تذييل هو مؤذن بالتعليل؛ لتقرير أوْلويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقّاً في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة‏.‏

سورة التوبة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتحت السورة كما تفتتح العهودُ وصكوك العقود بأدَلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم‏:‏ هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثّقين‏:‏ باع أو وكّل أو تزوّج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائِل والمواثيق ونحوها‏.‏

وتنكير ‏{‏براءة‏}‏ تنكير التنويع، وموقع ‏{‏براءة‏}‏ مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أنّ هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

والمجروران في قوله‏:‏ ‏{‏من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم‏}‏ في موضع الخبر، لأنّه المقصود من الفائِدة أي‏:‏ البراءة صدرت من الله ورسوله‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ ابتدائية، و‏{‏إلى‏}‏ للانتهاء لما أفاده حرف ‏{‏من‏}‏ من معنى الابتداء‏.‏ والمعنى أنّ هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغاً إلى الذين عاهدتم من المشركين‏.‏

والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفعُ التبِعة‏.‏ ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويُعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المخلف، كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبِعات التي كانت بحيثُ تنشأ عن إخلاف العهد، فلذلك كان لفظ ‏{‏براءة‏}‏ هنا مفيداً معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهَدون حِذرهم‏.‏ وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما، كما فعل ابن الدُّغُنَّه في ردّ جوار أبي بكر عن قريش، وما فعل عثمان بن مظعون في ردّ جوار الوليد بن المغيرة إيّاه قائلاً‏:‏ «رضيتُ بجوار ربّي ولا أريد أن أستجير غيره»‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ أي‏:‏ ولا تخنهم لظنّك أنّهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم‏.‏

ولمّا كان الجانب، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله، جعلت هذه البراءة صادرة من الله، لأنّه الآذن بها، ومن رسوله، لأنّه المباشر لها‏.‏ وجُعل ذلك منهَّى إلى المعاهدين من المشركين، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصالُه ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدراً‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏عاهدتم‏}‏ للمؤمنين‏.‏ فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها‏.‏

واعلم أنّ العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة، فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عَهد الحديبية‏:‏ أن لا يُصَدّ أحد عن البيت إذا جاء، وأن لا يُخاف أحد في الشهر الحرام، وقد كان معظم قبائل العرب داخلاً في عقد قريش الواقع في الحديبية؛ لأنّ قريشاً كانوا يومئذٍ زعماء جميع العرب، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ‏:‏ أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمَن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية‏.‏

وهذا العهد، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين، فقد كان عَديلُهُ لازماً لفائِدة المشركين على المسلمين، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحْلافهم‏.‏

وكان بين المسلمين وبعض قبائِل المشركين عهود؛ كما أشارت إليه سورة النساء ‏(‏90‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ الآية، وكما أشارت إليه هذه السورة ‏(‏4‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ الآية‏.‏

وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن، وبعضها كان لأجل قد انقضى، وبعضها لم ينقض أجله‏.‏ فقد كان صلح الحديبية مؤجّلاً إلى عَشر سنين في بعض الأقوال وقيل‏:‏ إلى أربع سنين، وقيل‏:‏ إلى سنتين‏.‏ وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال، ولم تنقض على بعضها، حين نزول هذه الآية‏.‏ وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار، وكان بعض تلك العهود مؤجلاً إلى أجل لم يتمّ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين، فقد ذُكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غُلبوا فنقض كثير من المشركين العهد، وممّن نقض العهد بعضُ خزاعة، وبنُو مُدلِج، وبنو خزيمة أو جَذِيمة، كما دلّ عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حِذرهم، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعدُ‏:‏ ‏{‏فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وإنّما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين‏:‏ للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين، في وقت عدم استجماع قوتهم، وأزمانَ كانت بقية قوةٍ للمشركين، وإلاّ فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهداً لأنّ مصلحة الدين تكون أقْوَمُ إذا شّدد المسلمون على أعدائه، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن اللَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد، فلا تبعة على المسلمين في نبذه، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين، على أنّ في الكلام احتباكاً، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر من الله ورسوله، فصار الكلام في قوَّة براءة من الله ورسوله ومنكم، إلى الذين عاهد الله ورسولُه وعاهدتم‏.‏

فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏‏.‏ فالتعريف بالموصولية هنا، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد، ثم بيّن بعضها بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏فَسِيحُواْ فِى الارض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ‏}‏‏.‏

الفاء للتفريع على معنى البراءة، لأنّها لمّا أمر الله بالإذان بها كانت إعلاماً للمشركين، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات‏.‏ فالتقدير‏:‏ فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة‏.‏

ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم، أي فقل لهم‏:‏ سيحوا في الأرض أربعة أشهر‏.‏

والسياحة حقيقتها السير في الأرض‏.‏ ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعاً على البراءة من العهد، ومقرّراً لحرمة الأشهر الحرام، علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض، وليس هو سيرهم في أرض قومهم، دلّ على ذلك إطلاق السياحة وإطلاق الأرض، فكان المعنى‏:‏ فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض‏.‏

وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة، ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية، وهي‏:‏ ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم‏.‏ وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق‏:‏ وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم‏:‏ هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ‏(‏أي من ذلك العام‏)‏ تنهيةً لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم، وذلك نهاية المحرّم‏.‏

وقيل‏:‏ الأشهر الأربعةُ هي المعروفة عندهم في جميع قبائِل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورَجب، أي فلم يبق للمشركين أمْنٌ إلاّ في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم، ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى‏:‏ البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم‏.‏ وحكى السهيلي في «الروض الأنف» أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام، وأنّه جعل ذلك أجلاً لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام‏.‏

وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم، وبأنّ ما دون تلك الأشهر حَرب بين المسلمين والمشركين، وسيقع التصريح بذلك‏.‏

‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين‏}‏‏.‏

عطف على ‏{‏فسيحوا‏}‏ داخل في حكم التفريع، لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احْتراساً من تطرّق الغرور، وتهديداً بأنّ لا يطمئنوا من أنْ يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم، وإن قبعوا في ديارهم‏.‏

وافتتاح الكلام ب ‏{‏واعلموا‏}‏ للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه، والتدبر فيه، كقوله‏:‏

‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏24‏)‏، وقد تقدّم التنبيه عليه‏.‏

والمُعجز اسم فاعل، من أعجز فلاناً إذا جعَله عاجزاً عن عمل مَّا، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائِت، الخارج عن قدرة أحد، فالمعنى‏:‏ أنّكم غير خارجين عن قدرة الله، ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس‏.‏

وعُطف قوله‏:‏ وأن الله مخزي الكافرين‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏أنكم غير معجزي الله‏}‏ فهو داخل في عمل ‏{‏واعلموا‏}‏ فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفاً‏.‏

وكان ذكر ‏{‏الكافرين‏}‏ إخراجاً على خلاف مقتضى الظاهر‏:‏ لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول‏:‏ وإنّ الله مخزيكم، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سبيبة الكفر في الخزي‏.‏

والإخزاء‏:‏ الإذلال‏.‏ والخزي بكسر الخاء الذلّ والهوان، أي مقدّر للكافرين الإذلال‏:‏ بالقتل، والأسر، وعذاب الآخرة، ما داموا متلبّسين بوصف الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر أَنَّ الله برئ مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ وموقع لفظ ‏{‏أذان‏}‏ كموقع لفظ ‏{‏براءة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ في التقدير، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأنّ عهدهم انتقض‏.‏

والأذانُ اسم مصدر آذنه، إذا أعلمه بإعلان، مثل العطاء بمعنى الإعطاء، والأمان بمعنى الإيمان، فهو بمعنى الإيذان‏.‏

وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دُون المسلمين، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة، فلا يكون إلاّ من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة، لئلا يكونوا غادرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏‏.‏ والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يَهُمّ الناس كلّهم‏.‏

ويوم الحجّ الأكبر‏:‏ قيل هو يوم عرفة، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد، وهذا يروى عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين‏.‏ وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وفي الحديث‏:‏ «الحج عرفة»

وقيل‏:‏ هو يوم النحر، لأنّ الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذْ كانت الحُمْس يقفون بالمزدلفة، ويقف بقية الناس بعرفة، وكانوا جميعاً يحضرون منى يوم النحرِ، فكان ذلك الاجتماع الأكبرَ، ونسَب ابنُ عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد، وهذا قول علي، وابن عمر، وابن مسعود، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس أيضاً، وابن أبي أوفى، والزهري، ورواه ابن وهب عن مالك، قال مالك‏:‏ لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنّه اليوم الذي تُرمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرَك الحج‏.‏

وأقول‏:‏ إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة‏.‏ فأما يوم منى فيوم عيدهم‏.‏

و ‏{‏الأكبر‏}‏ بالجرّ نعت للحجّ، باعتبار تجزئته إلى أعمال، فوُصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفاً قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه‏.‏

وهذا الكلام إنشاءٌ لهذا الأذان، موقّتاً بيوم الحجّ الأكبر، فيؤوّل إلى معنى الأمر، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين‏.‏

والمراد ب ‏{‏الناس‏}‏ جميع الناس الذين ضمّهم الموسم، ومن يبلغه ذلك منهم‏:‏ مؤمنهم ومشركهم، لأنّ هذا الأذان ممَّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك، إذ كان حكمه يلزم الفريقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين‏}‏ يتعلّق ب ‏{‏أذان‏}‏ بحذف حرف الجرّ وهو باء التعدية أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله‏:‏

‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهَدين وغيرهم، تقريراً لعدم غدر المسلمين، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين‏.‏

وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال‏:‏ وأذان إلى الناس بذلك، أو بها، أو بالبراءة، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه، ففيهم الذكّي والغبي، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم‏.‏

وعُطف ‏{‏ورسوله‏}‏ بالرفع، عند القرّاء كلّهم‏:‏ لأنّه من عطف الجملة، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره‏:‏ ورسولُه بريءٌ من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله‏:‏

ومن يكُ أمسَى بالمدينةِ رحله *** فإنّي وقيّارٌ بها لغريب

برفع ‏(‏قيار‏)‏ لأنّه أراد أن يجعل غربة جمله المسمّى «قياراً» غربة أخرى غير تابعة لغربته‏.‏

وممّا يجب التنبيه له‏:‏ ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة ‏{‏ورسوله‏}‏ بالجرّ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن، وكيف يتصور جرّ ‏{‏ورسوله‏}‏ ولا عامل بمقتضي جرّه، ولكنّها ذات قصة طريفة‏:‏ أنّ أعرابياً سمع رجلاً قرأ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ بجرّ ورسولِه فقال الأعرابي‏:‏ إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء‏.‏ وإنّما أراد التورّكَ على القارئ، فلبَّبَه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءتَه فعندها أمر عمر بتعلّم العربية، وروي أيضاً أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي‏.‏ فكان ذلك سبب وضع النحو، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو‏.‏

وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر، موافياً الموسم ليؤذِّن ببراءة، فأذن بها علي يوم النحر بمنى، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية منها، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض‏.‏ ولعلّ قوله‏:‏ «أو أربعين آية» شكّ من الراوي، فما ورد في رواية النسائي، أي عن جابر‏:‏ أنّ علياً قرأ على الناس بَراءة حتّى ختمها، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئِذ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة‏.‏

وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق، لأنه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن يَنقض أحد عهدَه مع مَن عاهده إلاّ بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذراً في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم‏.‏

وروي‏:‏ أنّ علياً بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته‏.‏ وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي «سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلاّ الطعن والضرب»‏.‏

التفريع على جملة‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين‏}‏، فيتفرّع على ذلك حالتان‏:‏ حالة التوبة، وحالة التولي‏.‏

والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة، والمعنى‏:‏ فإنْ آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير‏.‏ والمراد بالتولي‏:‏ الإعراض عن الإيمان‏.‏ وأريد بفعل ‏{‏تولّيتم‏}‏ معنى الاستمرار، أي‏:‏ إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله، وأوشكتم على العذاب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وأذن من الله ورسوله‏}‏ لما تتضمنّه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنّه قيل‏:‏ فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال‏:‏ وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم‏.‏

و ‏(‏البشارة‏)‏ أصلها الإخبار بما فيه مسرّة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكّم، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏21‏)‏‏.‏

والعذاب الأليم‏:‏ هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفَيء الأموال، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 26‏]‏ فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال، أي‏:‏ أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

استثناء من المشركين في قوله‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏، ومن ‏{‏الذين كفروا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ لأنّ شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعُها ممّا يصلح لِذلك الاستثناء، فهو استثناء لهؤلاء‏:‏ من حكم نقض العهد، ومن حُكم الإنذار بالقتال، المترتّببِ على النقض، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم‏.‏

والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة، وقد بين مدلول الاستثناء قوله‏:‏ ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏‏.‏

وحرف ‏(‏ثم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ للتراخي الرتبي، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول‏.‏

والنقصُ لِشيء إزالة بعضه، والمراد‏:‏ أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه‏.‏ وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة، أي بُعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه، بُعد كمال وارتفاع شأن‏.‏ فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به‏.‏

وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين، ووفّوا به على أتمّ وجه، فلم يكيدوا المسلمين بكيد، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سِرًّا، فهؤلاء أمِر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها‏.‏ ومن هؤلاء‏:‏ بنو ضَمره، وحَيَّان من بني كنانة‏:‏ هم بنو جذيمة، وبنو الدِّيل‏.‏ ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية‏.‏

وقد علم من هذا‏:‏ أنّ الذين أمَر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك، وهم قوم نقصُوا ممّا عاهدوا عليه، أي كَادوا، وغدروا سرّاً، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة‏.‏

ومن هؤلاء‏:‏ قريظة أمَدُّوا المشركين غير مرّة، وبنو بَكر، عَدَوْا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعُبِّر عن فعلهم ذلك بالنقصصِ لأنّهم لم ينقضوا العهد علناً، ولاَ أبطلوه، ولكنهم أخلُّوا به، ممّا استطاعوا أن يَكيدوا ويمكروا، ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه‏.‏

وذكر كلمة ‏{‏شيئاً‏}‏ للمبالغة في نفي الانتقاص، لأنّ كلمة «شيء» نكرة عامّة، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود ليست النصارى على شيء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏113‏)‏‏.‏

والمظاهرة‏:‏ المعاونة، يجوز أن يكون فعلها مشتقّاً من الاسم الجامد وهو الظهر، أي صُلب الإنسان أو البعيرِ، لأنّ الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلّب، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل، يقال‏:‏ بعير ظهير، أي قوي على الرحلة، مُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه، فكأنّه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره، فمن ثَمّ جاءت صيغة المفاعلة، ومثله المعاضدة مشتقّة من العَضد، والمساعدة من الساعد، والتأييد من اليد، والمكاتفة مشتقّة من الكتف، وكلّها أعضاء العمل‏.‏

ويجوز أن يكون فعله مشتقّاً من الظهور، وهو مصدر ضدّ الخفاء، لأنّ المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس، فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء، ولذلك يعدى بحرف ‏(‏على‏)‏ للاستعلاء المجازي، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تظاهرا عليه‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ وقال ‏{‏كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّاً ولا ذمة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 8‏]‏ وقال ‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏ وقال ‏{‏والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ أي معين‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأتموا‏}‏ تفريع على ما أفاده استثناء قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ إلخ، وهو أنّهم لا تشملهم البراءة من العهد‏.‏

والمدّة‏:‏ الأجل، مشتقّة من المَدّ لأنّ الأجل مَدّ في زمن العمل، أي تطويل، ولذلك يقولون‏:‏ مَاد القُوم غيرَهم، إذا أجَّلوا الحربَ إلى أمد، وإضافة المدّة إلى ضمير المعاهَدين لأنّها منعقدة معهم، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين، ولكن رجّح هنا جانبهم، لأنّ انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به، إذ صار المسلمون أقوى منهم، وأقدر على حربهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المتقين‏}‏ تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأنّ ذلك من التقوَى، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به، لأنّ الإخبار بمحبة الله المتّقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى‏.‏

ثم إنّ قبائل العرب كلّها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدّة فانتهت حُرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ‏}‏‏.‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ فإن كان المراد في الآية المعطوففِ عليها بالأربعة الأشهر أربعةً تبتدئ من وقت نزول براءة كان قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ تفريعاً مراداً منه زيادة قيد على قيد الظرف من قول‏:‏ ‏{‏أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين إلخ لانتهاء الإذن الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏، وإن كانت الأربعة الأشهر مراداً بها الأشهر الحرم كان قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ تصريحاً بمفهوم الإذن بالأمن أربعةَ أشهر، المقتضي أنّه لا أمْن بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فهو على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، بعد قوله ‏{‏غير محلي الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ فيكون تأجيلاً لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر، ثم تحذيراً من خرق حرمة شهر رجب، وكذلك يستمرّ الحال في كلّ عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منها أربعة حرم‏.‏‏.‏‏.‏ فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ‏.‏ وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان، أي إزالته‏.‏ ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة‏.‏

والحرم جمع حرام وهو سماعي لأنّ فُعُلا بضم الفاء والعيْن إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد‏.‏ وحرام صفة‏.‏ وقال الرضي في باب الجمع من «شرح الشافية» إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏194‏)‏‏.‏ وهي ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب‏.‏

وانسلاخها انقضاء المدّة المتتابعة منها، وقد بَقيت حرمتها ما بَقي من المشركين قبيلة، لمصلحة الفريقين، فلما آمن جميع العرب بَطل حكم حُرمة الأشهر الحرم، لأنّ حُرمةَ المحارم الإسلامية أغنت عنها‏.‏

والأمر في فاقتلوا المشركين‏}‏ للإذن والإباحة باعتبار كلّ واحد من المأمورات على حدة، أي فقد أُذن لكل في قتلهم، وفي أخذهم، وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏ والمقصود هنا‏:‏ أن حرمة العهد قد زالت‏.‏

وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنّهم لا يقبل منهم غير الإسلام‏.‏ وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة‏.‏ وقد عمّت الآية جميع المشركين وعمّت البقاع إلا ما خصصته الأدلّة من الكتاب والسنة‏.‏

والأخذ‏:‏ الأسر‏.‏

والحصر‏:‏ المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين‏.‏

والقعود مجاز في الثبات في المكان، والملازمةِ له، لأن القعود ثبوت شديد وطويل‏.‏

فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظانّ تطرقّ العدوّ المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدوّ وعُدته‏.‏

والمرصد مكان الرَصْد‏.‏ والرصْد‏:‏ المراقبة وتتبع النظر‏.‏

و ‏{‏كلّ‏}‏ مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيراً للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدوّ منها، أو من التفريط في بعض ممارّ العدوّ فينطلق الأعداء آمنين فيستخفّوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أنّ المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيؤول معنى ‏{‏كل‏}‏ هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة‏:‏

بها كُل ذيَّال وخنساءَ ترعوي *** إلى كلّ رجّاف من الرمل فارد

وانتصب ‏{‏كل مرصد‏}‏ إمَّا على المفعول به بتضمين ‏{‏اقعدوا‏}‏ معنى ‏(‏الزموا‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏، وإمّا على التشبيه بالظرف لأنّه من حقّ فعل القعود أن يَتعدّى إليه ب ‏(‏في‏)‏ الظرفية فشبّه بالظرف وحذفت ‏(‏في‏)‏ للتّوسّع‏.‏

وتقدم ذكر ‏(‏كلّ‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏‏.‏

تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم‏}‏‏.‏

والتوبة عن الشرك هي الإيمان، أي فإن آمنوا إيماناً صادقاً، بأن أقاموا الصلاة الدالّةَ إقامتُها على أنّ صاحبها لم يكن كاذباً في إيمانه، وبأن آتوا الزكاة الدالَّ إيتاؤُها على أنّهم مؤمنون حقّاً، لأنّ بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بُذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كفّ القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالة على أنّ الصلاة والزكاة جزء من الإيمان‏.‏

وحقيقة ‏{‏خلوا سبيلهم‏}‏ اتركوا طريقهم الذي يمرّون به، أي اتركوا لهم كلّ طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قَادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنّهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلاً في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم، يقال‏:‏ خَلّ سبيلي، أي دعني وشأني، كما قال جرير‏:‏

خَلّ السبيلَ لمن يبنِي المنارَ به *** وأبرز ببَرْزَةَ حيث اضطرّك القدَر

وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏واقعدوا لهم كل مرصد‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ تذييل أريد به حثّ المسلمين على عدم التعرّض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدممِ مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم، لأنّ الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فَرَطَ منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عمّا مضى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏فإن تابوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ لتخصيص عمومه، أي إلاّ مشركاً استجارك لمصلحة للسِفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام‏.‏ وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أنّ الشأن أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين‏.‏

وجيء بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أنّ هذا شرط فَرْضيّ؛ لكيلا يزعم المشركون أنّهم لم يتمكّنوا من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيتّخذوه عذراً للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون‏.‏

ووقع في «تفسير الفخر» أنّه نقل عن ابن عبّاس قال‏:‏ إنّ رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب‏:‏ أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نُقتل‏.‏ فقال علي‏:‏ لاَ إنّ الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره‏}‏‏.‏ أي فأمنه حتّى يسمع كلام الله، وهذا لا يعارض ما رأيناه من أنّ الشرط في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك‏}‏ الخ، شرط فرضي فإنّه يقتضي أنّ مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أنّ هذا المروي لم أقف عليه‏.‏

وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس، لأنّ النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي إذا لم تُبنَ على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد، فكان ذكر ‏{‏أحد‏}‏ في سياق الشرط تنصيصاً على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا‏.‏

و ‏{‏أحد‏}‏ أصله «واحد» لأنّ همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنّه واحد، كما استعمل له «فَرد» في اصطلاح العلوم، فمعنى ‏{‏أحد من المشركين‏}‏ مشرك‏.‏

وتقديم ‏{‏أحد‏}‏ على ‏{‏استجارك‏}‏ للاهتمام بالمسند إليه، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن‏.‏

وساغ الابتداء بالنكرة لأنّ المراد النوع، أو لأنّ الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ، لأن وقوع الخبر فعلاً مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية، فيعلم أنّ الفاعل مقدّم من تأخير لغرض مّا‏.‏ ولذلك شاع عند النحاة أنّه فاعل بفعل مقدر، وإنّما هو تقدير اعتبارٍ‏.‏ ولعلّ المقصود من التنصيص على إفادة العموم، ومن تقديم ‏{‏أحد من المشركين‏}‏ على الفعل، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى الله عليه وسلم ودخولِه بلاد الإسلام مصلحة، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد، لئلاّ تحمِل خيانتُهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا‏}‏

‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولا تَخُن من خانك ‏"‏

والاستجارة‏:‏ طلب الجوار، وهو الكون بالقرب، وقد استعمل مجازاً شائعاً في الأمن، لأنّ المرء لا يستقر بمكان إلاّ إذا كان آمناً، فمن ثم سمّوا المؤمِّن جاراً، والحليفَ جاراً، وصار فعل أجَار بمعنى أمَّن، ولا يطلق بمعنى جعَلَ شخصاً جاراً له‏.‏ والمعنى‏:‏ إنْ أحد من المشركين استأمنك فأمنه‏.‏

ولم يبيّن سبب الاستجارة، لأنّ ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنّه لا يستجير أحد إلاّ لغرض صحيح‏.‏

ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعِه القرآن، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر، لما هو معروف من شأن النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على هدي الناس، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى الله عليه وسلم فدلّت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازاً، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهمّ، أو طلب الدخول في الإسلام، أو عرض الإسلام عليه، فإذا سمع كلام الله فقد تمّت أغراض إقامته لأنَّ بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتّى يعيد إرشاده، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى‏.‏

وكلام الله‏:‏ القرآن، أضيف إلى اسم الجلالة لأنّه كلام أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي‏.‏

ولذلك أعقبه بحرف المهلة ‏{‏ثم أبلغه مأمنه‏}‏ للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدّة طويلة فحرف ‏(‏ثم‏)‏ هنا للتراخي الرتبي اهتماماً بإبلاغه مأمنه‏.‏

ومعنى ‏{‏أبلغه مأمنه‏}‏ أمهله ولا تُهجه حتّى يبلغ مأمنه، فلمّا كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سبباً في بلوغه مأمنه، جعل التأمين إبلاغاً فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمّن أمر المسلمين بأن لا يتعرّضوا له بسوء حتّى يبلغ بلاده التي يأمن فيها‏.‏ وليس المراد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتكلّف ترحيله ويبعث من يبلغه، فالمعنى‏:‏ اتركه يبلغ مأمنه، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه‏:‏ «أبلعْني ريقي»، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلعُ ريقي ثم أكلّمك، قال الزمخشري‏:‏ قلت لبعض أشياخي‏:‏ «أبلعْني ريقي فقال قد أبلعْتك الرافدين» يعني دجلة والفرات‏.‏

و ‏(‏المأمن‏)‏ مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمْنَه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء‏.‏

وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنّه مكان الأمن الخاصّ به، فيعلم أنّه مقرّه الأصلي، بخلاف دار الجوار فإنّها مأمن عارض لا يُضاف إلى المُجار‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعلمون‏}‏ في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، أي‏:‏ أمَرْنا بذلك بسبب أنّهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة‏:‏ ‏{‏فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه‏}‏ أي لا تؤاخذهم في مدّة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنّهم قوم لا يعلمون وهذه مذمّة لهم بأنّ مثلهم لا يقام له وزن وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنّهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى، فكان اسم الإشارة أصلحَ طُرق التعريف في هذا المقام، جمعاً للمعاني المقصودة، وأوجزَه‏.‏

وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك، وأنّ سبب ذلك الغضّ الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جُعلوا قوماً لا يعلمون دون أن يقال بأنّهم لا يعلمون‏:‏ للإشارة إلى أنّ نفي العلم مطّرد فيهم، فيشير إلى أنّ سبب اطّراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك‏.‏

والعلم، في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأنّ عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجراً صَنعه وهو يعلم أنّه لا يُغني عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

استئناف بياني، نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏ ثم عن قوله‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ وعن قوله ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ التي كانت تدرجاً في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة، لأنّ ذلك يثير سؤالاً في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجّب من هذه البراءة، ويسأل عن سببها، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك، وأنّه أمران‏:‏ بُعد ما بين العقائد، وسبق الغدر‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏كيف‏}‏‏:‏ إنكاري إنكاراً لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل ‏{‏يكون‏}‏ مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏ كما دلّ عليه قوله بعده ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏‏.‏ وليس ذلك إنكاراً على وقوع العهد، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله، وسمّاه الله فتحاً في قوله‏:‏ ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ وسمّي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّ الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك، فكيف يمكن اتّفاق أهليهما، أي فما كان العهد المنعقد مَعهم إلاّ أمراً موقّتاً بمصلحة‏.‏ ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علّة الإنكار على دوام العهد معهم‏.‏

وهذا يؤيّد ما فسّرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله، وإسنادِ العهد إلى ضمير المسلمين، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏عند‏}‏ الاستقرار المجازي، بمعنى الدوام أي إنّما هو عهد موقّت، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية، إذْ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة‏.‏

واستثناء ‏{‏إلا الذين عاهدتم‏}‏، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام ب ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد‏}‏، أي لا يكون عهد المشركين إلا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام‏.‏

والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام‏:‏ هم بنو ضمرة، وبنو جذيمة بن الدّيل، من كنانة؛ وبنو بكر من كنانة‏.‏

فالموصول هنا للعهد، وهم أخصّ من الذين مضى فيهم قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

والمقصود من تخصيصهم بالذكر‏:‏ التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعّين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم، زيادة على دخولهم في الصلح الأعمّ، ولم ينقضوا عهدهم، ولا ظاهروا عدوّا على المسلمين، إلى وقت نزول براءة‏.‏

على أنّ معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنّة النكث لأنّ المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرّد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّهم لا أيمان لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وليس المراد كُلَّ من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهّمه المتوهّم، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مأذوناً بأن يعاهد فريقاً آخر منهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ تفريع على الاستثناء‏.‏ فالتقدير‏:‏ إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، أي ما داموا مستقيمين لكم‏.‏ والظاهر أنّ استثناء هؤلاء؛ لأنّ لعهدهم حرمة زائِدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ ظرفية مضمّنة معنى الشرط، والفاء الداخلة على فاء التفريع‏.‏ والفاء الواقعة في قوله‏:‏ ‏{‏فاستقيموا لهم‏}‏ فاء جواب الشرط، وأصل ذلك أنّ الظرف والمجرور إذا قدّم على متعلّقه قد يُشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 26‏]‏ لوجوب جعل الفاء غير تفريعية، لأنّه قد سبقها العطف بالواو، وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كمَا تكونوا يولّ عليكم ‏"‏ بجزم الفعلين، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول «ألك أبوان» قال‏:‏ نعم قال‏:‏ «ففيهما فجاهد» في روايته بفاءَيْن‏.‏

والاستقامة‏:‏ حقيقتها عدم الاعوجاج، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحبّ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال، لأنّ سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج، فكذلك يطلق على ضدّه الاستقامة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المتقين‏}‏ تعليل للأمر بالاستقامة‏.‏ وموقع ‏{‏إنّ‏}‏ أولها، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن ‏{‏إنّ‏}‏ في مثل هذا تغني غناء فاء، وقد أنبأ ذلك، التعليل، أنّ الاستقامة لهم من التقوى وإلاّ لم تكن مناسبة للإخبار بأنّ الله يحبّ المتّقين‏.‏ عقب الأمر بالاستقامة لهم، وهذا من الإيجاز‏.‏ ولأنّ في الاستقامة لهم حفظاً للعهد الذي هو من قبيل اليمين‏.‏