فصل: تفسير الآية رقم (27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الرتبي، عطف على جملة ‏{‏ثم أنزل الله سكينته على رسوله إلى قوله وذلك جزاء الكافرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 26‏]‏‏.‏ وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنّهم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، وسألوه أن يردّ إليهم سبيهم وغنائمهم، فذلك أكبر منّة في نصر المسلمين إذْ أصبح الجندُ العدوُّ لهم مسلمين معهم، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم‏.‏

والمعنى‏:‏ ثم تاب الله عليهم، أي على الذين أسلموا منهم فقوله‏:‏ ‏{‏يتوب الله من بعد ذلك‏}‏ دليل المعطوف بثُم ولذلك أتى بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏يتوب الله‏}‏ دون الفعل الماضي‏:‏ لأنّ المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم، للإشارة إلى إفادة تجدّد التوبة على كلّ من تاب إلى الله لا يختصّ بها هوازن فتوبته على هوازن قد عَرفها المسلمون، فأعلموا بأنّ الله يعامل بمثل ذلك كلّ من ندم وتاب، فالمعنى‏:‏ ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ تذييل للكلام لإفادة أنّ المغفرة من شأنه تعالى، وأنّه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 17‏]‏ الآية، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه‏:‏ وهي أنّهم نجس، فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكُفر، فليسوا أهلاً لتعمير المسجد المبني للتوحيد، وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته‏.‏

و ‏{‏نجس‏}‏ صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية‏.‏

والنجاسة المعنوية‏:‏ هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّراً متجنَّباً من الناس فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبّساً بالصفة التي جعلته كذلك، فالمشرك نجَس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفاً مطيّباً لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذرَ الجسد ملطخاً بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر، ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم‏.‏ والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير، ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه، وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا‏.‏

وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا‏.‏

والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة، فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام، وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصَلوا في الموسم، والرجوع إلى آفاقهم متفاوت «فأريد من العام موسم الحجّ، وإلاّ فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وإضافة ‏(‏العام‏)‏ إلى ضمير ‏(‏هم‏)‏ لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب‏:‏

فإن كان أعجبكم عامكم *** فعودوا إلى مصر في القابل

وصيغة الحصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنما المشركون نجس‏}‏ لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية‏.‏

ووصف ‏(‏العام‏)‏ باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلا يقربوا المسجد‏}‏ ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام‏.‏ ومواجهةُ المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام‏.‏ جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جُعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب‏:‏ «لا أرينّك ههنا» فليس النهي للمشركين على ظاهره‏.‏

والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك، ولذلك لمّا نزلت «براءة» أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادَى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر‏.‏ فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ‏.‏ ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور‏.‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

عطف على جملة النهي‏.‏ والمقصود من هذه الجملة‏:‏ وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدُون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين‏.‏

والعَيْلة‏:‏ الاحتياج والفقر أي إنْ خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائِل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك‏.‏ وقد أغناهم الله بأن هَدى للإسلام أهل تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن، فأسلموا عقب ذلك، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والمِيرة، وأسلم أيضاً أهل جُدَّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها، فحملوا الطعام إلى مكة، وأسلم أهل صنعاء من اليمن، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن شاء‏}‏ يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله عليم حكيم‏}‏ تعليل لقوله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائِل، فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركاً منفعتكم فقَدر غناكم عنهم بوسائل أخرى عَلِمَها وأحكم تدبيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً، واستقلّ أمره بالمدينة، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها‏.‏

ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن عمر بن الخطاب أنّه قال‏:‏ «كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال‏:‏ افتح افتح‏.‏ فقلت‏:‏ أجَاء الغسّاني‏.‏ قال‏:‏ بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث‏.‏

فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها‏.‏

وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر، وتحريمُ ما حرم الله، والتديُّنُ بدين الحقّ‏.‏ ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏.‏ فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء‏.‏

وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا‏:‏

‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏ وقال كثير منهم‏:‏ ‏{‏عزيز ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء‏:‏ كقولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسسّنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر‏.‏ وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات‏.‏

والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين‏.‏

فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة ‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏‏.‏

وأمّا قوله‏:‏ ‏{‏الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ إلى قوله ‏{‏ورسوله‏}‏ فإدماج‏.‏ فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمممِ المعروففِ من العالم يومئذٍ، فقد كانت الروم نصارى، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم‏.‏

ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63 68‏]‏ فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى، والتعويل في مثل هذا على القرائن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ بيان لأقرب صلة منه وهي صلة ‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏ والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه‏.‏ وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم، وإنّما دانوا بما حرفوا منه، ومَا أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81 83‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏‏.‏ بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل، فيفيد قوله‏:‏ ‏{‏ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏ أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً‏.‏ والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏ لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك‏.‏

والمراد ‏(‏برسوله‏)‏ محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم‏.‏

وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية‏.‏

و ‏{‏حتّى‏}‏ غاية للقتال، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية‏.‏

وضمير ‏{‏يعطوا‏}‏ عائِد إلى ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏‏.‏

والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض، بنيتْ على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا، فلذلك كان الظاهر‏.‏ هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة ‏(‏كِزْيَت‏)‏ بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في «مفردات القرآن»‏.‏ ولم يذكروها في «مُعَرَّب القرآن» لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عن يد‏}‏ تأكيد لمعنى ‏{‏يعطوا‏}‏ للتنصيص على الإعطاء و‏{‏عن‏}‏ فيه للمجاوزة‏.‏ أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها، ومحلّ المجرور الحال من الجزية‏.‏ والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب «أعطى بيده» إذا انقاد‏.‏

وجملة ‏{‏وهم صاغرون‏}‏ حال من ضمير يعطوا‏.‏

والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً‏.‏ إذا ذلّ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏124‏)‏، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد‏:‏ والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام‏.‏ وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر‏:‏ لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب‏.‏ وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب، دون مشركي العرب‏:‏ لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله‏:‏ ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وقوله ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ وقوله ‏{‏ويتوب الله على من يشاء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولا يدينون دين الحق‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ والتقدير‏:‏ ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله، ويقول النصارى منهم‏:‏ المسيح ابن الله، تشنيعاً على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين‏.‏

وعزيز‏:‏ اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية ‏(‏عِزْرا‏)‏ بكسر العين المهملة بن ‏(‏سرايا‏)‏ من سبط اللاويين، كان حافظاً للتوراة‏.‏ وقد تفضّل عليه ‏(‏كورش‏)‏ ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه، وذلك في سنة 451 قبل المسيح، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله، غُلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم كثير من عامّتهم‏.‏ وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم ‏{‏اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 138‏]‏‏.‏

قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعاً لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيباً فيه‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏عزيرُ‏}‏ ممنوعاً من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب‏:‏ بالتنوين على اعتباره عربياً بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من «دلائل الإعجاز»، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري‏.‏

وأمّا قول النصارس ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور‏.‏ وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏87‏)‏‏.‏ وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اسمه المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏45‏)‏‏.‏

والإشارة بذلك‏}‏ إلى القول المستفاد من ‏{‏قالت اليهود وقالت النصارى‏}‏‏.‏ والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين‏.‏

و ‏{‏بأفواههم‏}‏ حال من القول، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذباً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وفي هذا أيضاً إلزام لهم بهذا القول، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم‏.‏

والمضاهاة‏:‏ المشابهة، وإسنادها إلى القائلين‏:‏ على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام، أي يضاهي قولُهم‏.‏

و ‏{‏الذين كفروا من قبل‏}‏ هم المشركون‏:‏ من العرب، ومن اليونان، وغيرهم، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر، وأمّا كونهم من قبللِ اليهود‏:‏ فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم‏.‏

وجملة ‏{‏قاتلهم الله‏}‏ دعاء مستعمل في التعجيب، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء‏:‏ أي قتلهم الله قتلاً شديداً‏.‏ وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب‏.‏

وجملة ‏{‏أنى يؤفكون‏}‏ مستأنفة‏.‏ والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان، ومعنى ‏{‏يؤفكون‏}‏ يُصرفون‏.‏ يقال‏:‏ أفَكَه يأفِكه إذا صرفه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يؤفك عنه من أفك‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 9‏]‏ والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق، وقد تقدّم ذلك غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

الجملة تقرير لمضمون جملة ‏{‏وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ ليُبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله‏:‏ ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً‏}‏ إلخ، فوزان هذه الجملة وزان جملة ‏{‏اتخذوه وكانوا ظالمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ بعد جملة ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏‏.‏ والضمير لليهود والنصارى‏.‏

والأحبار جمع حَبَر بفتح الحاء وهو العالِم من علماء اليهود‏.‏

الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنّما خص الحَبر بعالمِ اليهود لأنّ عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين وخصّ الراهب بعظيم دين النصرانية لأنّ دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة‏.‏

ومعنى اتّخاذهم هؤلاء أرباباً أنّ اليهود ادّعوا لبعضهم بنوةَ الله تعالى وذلك تأليه، وأنّ النصارى أشدّ منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملّتهم مثل صورة مريم، وصور الحواريين، وصورة يحيى بن زكرياء، والسجود من شعار الربوبية، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله‏.‏

وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقْوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة أنّه من الدين، فكانوا يعتقدون أنّ أحبارهم ورهبانهم يحلّلون ما حرم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عدياً بنَ حاتم لمّا وفد عليه قُبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ وقال عدي‏:‏ لسنا نعبدهم فقال‏:‏ «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه فقلت‏:‏ بلى قال‏:‏ فتلك عبادتهم» فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنّهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإنّ الأمّة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره، ومعنى اتّخاذهم أرباباً من دون الله أنّهم اتّخذوهم أرباباً دون أن يفردوا الله بالوحدانية، وتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر‏.‏

وجملة ‏{‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏اتخذوا أحبارهم‏}‏، وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنّهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأنّ وصايا كتب الملّتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية‏.‏

وجملة ‏{‏لا إله إلّا هو‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏إلهاً واحداً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏سبحانه عما يشركون‏}‏ مستأنفة لقصد التنزيه والتبرّئ ممّا افتروا على الله تعالى، ولذلك سمي ذلك إشراكاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة، والتألّب على مناواة الدين، حين تحقّقوا أنّه في انتشار وظهور، فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم، فالضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يريدون‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ والإطفاء إبطال الإسراج وإزالةُ النور بنفخ عليه، أو هبوب رياح، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر‏.‏

والنور‏:‏ الضوء وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نوراً وهدى للناس‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏91‏)‏‏.‏ والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي، وصدّ الناس عن اتّباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة‏.‏ والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من بيحاول إطفاء نور بنفخ فمِه عليه، فهذا الكلام مركّب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنّه صالح لتفكيك التشبيه بأنّ يشبّه الإسلام وحده بالنور، ويشبّه محاولو إبطاله بمريدي إطفاءِ النور ويشبّه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أنّ آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه‏.‏ والمثال المشهور للتمثيل الصالححِ لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار‏:‏

كَأنَّ مُثَار النَّقْع فوقَ رؤوسنا *** وأسْيافَنَا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه

ولكن التفريق في تمثيليةِ الآيةِ أشدّ استقلالاً، بخلاف بيت بشّار، كما يظهر بالتأمّل‏.‏

وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أنّ محاولة إطفائه عبث وأنّ أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم‏.‏

والإباء والإباية‏:‏ الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوِله محاوِل على فعللٍ وهو يمتنع منه، لأنّهم لمّا حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلاً وهو يأبى أن يفعله‏.‏

والاستثناء مفرّغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبَى مجرَى نفي الإرادة، كأنّه قال‏:‏ ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره، ذَلك أنّ فعل ‏(‏أبَى‏)‏ ونحوه فيه جانب نفي لأنّ إباية شيء جحد له، فقَويَ جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله‏:‏ يريدون أن يطفئوا نور الله‏}‏‏.‏ فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه‏.‏ وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل «كَرِهْت إلاّ أخَاك»‏.‏

وجيء بهذا التركيب هنا لشدّة مماحكة أهل الكتاب وتصلّبهم في دينهم، ولم يُجأْ به في سورة الصف ‏(‏8‏)‏ إذ قال‏:‏ ‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره‏}‏ لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خُفية وفي لين وتملّق‏.‏

وذكر صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فشربوا منه إلا قليل منهم‏}‏ في قراءة الأعمش وأبي برفع قليل في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏‏:‏ أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير فشربوا‏}‏ على اعتبار تضمين ‏{‏شربوا‏}‏ معنى، فلم يطعموه إلاّ قليل، ميلاً مع معنى الكلام‏.‏

والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل‏:‏ ويأبى الله إلاّ أن يُبْقي نوره‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ في ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏ اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأنّ ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفياً‏.‏ والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألّب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله‏.‏ وأمّا مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتّى يبالَغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

بيان لجملة ‏{‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏ بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين، فلا يريد إزالته، ولا يجعل تقديره باطلاً وعبثاً‏.‏ وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ صيغة قصر، أي هو لا غيره أرسَلَ رسوله بهذا النور، فكيف يَترُك معانديه يطفئونه‏.‏

واجتلاب اسم الموصول‏:‏ للإيماء إلى أنّ مضمون الصلة علّة للجملة التي بُنيت عليها هذه الجملةُ وهي جملة‏:‏ ‏{‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وعبّر عن الإسلام ‏{‏بالهدى ودين الحق‏}‏ تنويهاً بفضله، وتعريضاً بأنّ ما هم عليه ليس بهدى ولا حقّ‏.‏

وفعل الإظهار إذا عُدّي ب ‏{‏على‏}‏ كان مضمَّنا معنى النصر، أو التفضيل، أي لينصره على الأديان كلّها، أي ليكون أشرف الأديان وأغلَبها، ومنه المظاهرة أي المناصرة، وقد تقدّم ذكرها آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏ولم يظاهروا عليكم أحداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

فالإسلام كان أشرفَ الأديان‏:‏ لأنّ معجزة صدقه القرآن، وهو معجزة تُدرك بالعقل، ويستوي في إدراك إعجازِها جميع العصور، ولِخُلّو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى، وخلي عن وضع التكاليف الشاقّة، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم، وقد فصّلت ذلك في الكتاب الذي سمّيْته «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام»‏.‏

وظهور الإسلام على الدين كلّه حصل في العالم باتّباع أهل الملل إيّاه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكلّ حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلّقوا بها، وما صلحت بعضُ أمورهم إلاّ فيما حاكَوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ في ‏{‏ولو كره المشركون‏}‏ وصلية مثل التي في نظيرتها‏.‏ وذكر المشركون هنا لأنّ ظهور دين الإسلام أشدّ حسرة عليهم من كلّ أمّة، لأنّهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعَوا الأمم للتألّب عليه واستنصروا بهم فلَم يغنوا عنهم شيئاً، ولأنّ أتمّ مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها، وزالت منها جميع الأديَان الأخرى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا يَبقى دينان في جزيرة العرب ‏"‏ فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محلّ المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كلّه كما يظهر بالتأمّل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيراً لهم في نفوسهم، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين‏:‏ مثللِ عُزير، بين للمسلمين أنّ كثيراً من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالئ الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب‏.‏

وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته‏.‏

وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفاً‏.‏

وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلاَم ومُخَيْرِيق‏.‏

والباطل ضدّ الحقّ، أي يأكلون أموال الناس أكلاً ملابساً للباطل، أي أكلاً لا مبرّر له، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتأكلون التراث أكلا لما‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 19‏]‏ وقال ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏188‏)‏ وقد تقدّم، وكذلك الباطل تقدّم هنالك‏.‏

والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحببِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات‏.‏

وسبيل الله طريقهُ استعير لدينه الموصّل إليه، أي إلى رضاه، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس، وإغراءُ الناس بالإعراض عن ذلك‏.‏ فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضاً بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد ويعلِّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ‏.‏

والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين‏:‏ اعتباراً بأنّه مضاعف متعدّ، ولذلك لم يجئ في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏45‏)‏‏.‏

جملة معطوفة على جملة ‏{‏يأيها الذين آمنوا إن كثيراً‏}‏ والمناسبة بين الجمْلتين‏:‏ أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلاً لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئاً من العذاب‏.‏

وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة‏:‏ فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏ وقد ورد في «السيرة» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ ولا شكّ أنّهم من المنافقين‏.‏

والكَنز بفتح الكاف مصدر كنز إذا ادّخر مالاً، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يُخزن، من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بِمعنى المخلوق‏.‏

و ‏{‏سبيل الله‏}‏ هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا‏.‏

فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قوماً بأعيانهم‏.‏

ومعنى ‏{‏ولا ينفقونها في سبيل الله‏}‏ انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة‏:‏ إمّا وجوباً مستمرّاً كالزكاة، وإمّا وجوباً عارضاً كالنفقة في الحجّ الواجببِ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل‏.‏

والضمير المؤنّث في قوله‏:‏ ‏{‏ينفقونها‏}‏ عائد إلى الذهب والفضة‏.‏

والوعيد منوط بالكَنز وعدممِ الإنفاق، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل ‏{‏سبيل الله‏}‏ بالصدقات الواجبة، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية‏.‏

ووقع في «الموطأ» أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعّد عليه في آية ‏{‏والذين يكنزون الذهب والفضة‏}‏ الآيةِ ما هو‏؟‏ فقال‏:‏ هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول‏:‏ أنا مالك أنا كَنزُك ‏"‏

فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموماً‏.‏

وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ، فقال بتحريم كَنز المال، وكأنّه تأول ‏{‏ولا ينفقونها‏}‏ على معنى ما يسمّى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول‏:‏ بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية‏:‏ وهو أمير الشام، في خلافة عثمان‏:‏ إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذرّ‏:‏ نزلت فيهم وفينا، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولاً لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاويةُ إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذَر الفتنةَ في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم‏}‏ داخلة على خبر الموصول، لتنزيل الموصول منزلة الشرط، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر، فضمير الجمع عائد إلى ‏{‏الذين‏}‏ ويجوز كون الضمير عائداً إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون‏.‏ والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أنْ ذَكَر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكَر الكانزين، أمر رسوله بأن يُنذر جميعهم بالعذاب، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره‏:‏ إذا علمتَ أحوالهم هذه فبشّرهم، والتبشير مستعار للوعيد على طَريقة التهكّم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

انتصب ‏{‏يوم يحمى‏}‏ على الظرفية لِ ‏{‏عذاب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون‏.‏ وضمير ‏{‏عليها عائد إلى الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ بتأويلهما بالدنانير والدراهم، أو عائد إلى ‏{‏أمْوالَ الناس‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ و‏{‏الذهبَ والفضةَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏، إن كان الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏فبشرهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ عائداً إلى ‏{‏الأحبار والرهبان والذين يكنزون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والحَمْيُ شدّة الحرارة‏.‏ يقال‏:‏ حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه‏.‏

والضمير المجرور بعلَى عائد إلى ‏{‏الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ باعتبار أنّها دنانير أو دراهم، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل، فكأنّه قيل‏:‏ يوم يحمي الحَامون عليها، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره‏:‏ إذ هو النار التي تُحمى، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله‏:‏ ‏{‏في نار جهنم‏}‏ فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار‏.‏ وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيباً بديعاً من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز‏.‏

والكَيُّ‏:‏ أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل‏.‏

والجِباه‏:‏ جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس‏.‏

والجنُوب‏:‏ جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار‏.‏

والظُّهور‏:‏ جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم‏.‏

والمعنى‏:‏ تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناففٍ من الآلام‏.‏

وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلاً لشأنه، فلذلك لم يقل‏:‏ فتكوى بها أجسادهم‏.‏

وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في «الموطأ» و«الصحيحين» أنّه يمثّل له ماله شُجاعاً أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول‏:‏ «أنا مالك أنا كنزلك» وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد، ومن عصَر إلى عصر‏.‏

وجملة ‏{‏هذا ما كنزتم لأنفسكم‏}‏ مقول قول محذوف، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن، والإشارة إلى المحمي، وزيادة قوله‏:‏ ‏{‏لأنفسكم‏}‏ للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب، وهو لا يفعل شيئاً لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة، بما كان أضعافاً مضاعفة من ألم العذاب وجملة ‏{‏فذوقوا ما كنتم تكنزون‏}‏ توبيخ وتنديم‏.‏

والفاء في ‏{‏فذوقوا‏}‏ لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى‏.‏

والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ في سورة العقود ‏(‏95‏)‏‏.‏

وما كنتم تكنزون‏}‏ مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام‏:‏ أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون‏.‏

وعُبِّر بالموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏ما كنتم تكنزون‏}‏ للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم‏.‏

والمقصود‏:‏ ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها‏.‏

وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها‏.‏

وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ‏.‏

والمراد بالشهور‏:‏ الشهور القمرية بقرينة المقام، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخخِ الحوادث الماضية، بمجرّد المشاهدة، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية، وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي‏.‏ فألْهم الله البشر، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم، أن اتّخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأن جعلوه مستنداً إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاماً مطرداً‏.‏ وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليومُ والليلة، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالاً إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل‏.‏

وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً فسمّوا تلك المدّة عاماً، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعاً للغلط، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض‏}‏‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً‏}‏‏:‏ أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً‏.‏

و ‏{‏عند الله‏}‏ معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول ل ‏{‏عدّة‏}‏ أو حال من ‏{‏عدّة‏}‏ و‏{‏في كتاب الله‏}‏ صفة ل ‏{‏اثنا عشر شهراً‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏في كتاب الله‏}‏ في تقديره، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله‏:‏ ‏{‏كتابا مؤجلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ أي قدرا محدّداً، فكتاب هنا مصدر‏.‏

بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال‏:‏ ‏{‏وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5‏]‏ ولذلك قال هنا ‏{‏يوم خلق السماوات والأرض‏}‏ ف ‏{‏يومَ‏}‏ ظرف ل ‏{‏كتاب الله‏}‏ بمعنى التقدير الخاصّ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض‏.‏

ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء، منذُ كونِه هلالاً، إلى رُبعه الأول، إلى البدر، إلى الربُع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض‏.‏

ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتُدئ منه العد من أوقات الفصول، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية‏.‏

فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً‏.‏

وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ، ألا ترى قول لبيد‏:‏

حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً *** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها

أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏اثنا عشر‏}‏ بفتح شين ‏{‏عشر‏}‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏اثنا عْشَرَ‏}‏ بسكون عين ‏{‏عشر‏}‏ مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعاً‏.‏

والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم‏:‏ ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَباً، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها، وهي قضاعة‏.‏ وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله‏:‏ ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ «ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان»

وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحجّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏‏.‏

واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل، الواقعة فيه، أو المقارِنة له‏.‏ فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو بإطْلاع على مراده، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات، أو مضاعفةِ الحسنات، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليلة القدر خير من ألف شهر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 3‏]‏ أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم

‏"‏ صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام ‏"‏ والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدَّرها، فأشبهت الأمور الكونيه، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية‏:‏ لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس‏.‏

‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏‏.‏

الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور‏:‏ من عدّةِ الشهور الاثني عشر، وعدّة الأشهر الحرم‏.‏ أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة‏.‏

والدين‏:‏ النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به، أي يعامَلون بقوانينه‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏19‏)‏، كما وصف بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏

فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه ‏{‏في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض‏}‏‏.‏

وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏إن عدة الشهور‏}‏ وجملة ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏‏.‏

‏{‏فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ‏}‏‏.‏

تفريع على ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ فإنّها، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها‏.‏

فالضمير المجرور ب ‏{‏في‏}‏ عائد إلى الأربعة الحرم‏:‏ لأنّها أقرب مذكور، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها، وإلاّ لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هُنّ كما قال هنا ‏{‏فيهن‏}‏ إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل ‏(‏ها‏)‏ يعاملان معاملة الواحد كما قال‏:‏ ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث، وقال الكسائي‏:‏ إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي «خلون» وفيما فوقها «خَلَت»‏.‏ وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده‏:‏ فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين ‏{‏فيها‏}‏ و‏{‏فيهن‏}‏ وأنّ الاختلاف بينهما في الآيةِ تفنُّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب، فكان ظلماً للنفس قال تعالى‏:‏

‏{‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ الآية وقال‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏‏.‏

والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تظلموا‏}‏ أي لا يظلم كلّ واحد نفسه‏.‏ ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي‏:‏ أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة، فإن لم يكن أحد متلبّساً بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهياً عنها، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجراً، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره‏.‏

ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية، وكقوله‏:‏ ‏{‏إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏ والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏ وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيداً لمنطوق قوله‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض أربعة أشهر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ ولمفهوم قوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وهي مقيّدة بقوله‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏‏.‏ ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياماً من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أوّلَ مرّة، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود‏.‏

والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة‏:‏ فقال ابن المسيّب، وابن شهاب، وقتادة، وعطاء الخراساني حَرَّمت الآية القتالَ في الأشهر الحرم ثم نُسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم، حتّى يعُمّ جميع بلاد العرب حكمُ الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضَرببِ الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلاّ أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية‏.‏

‏{‏وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏‏.‏

أحسب أنّ موقع هذه الآية موقعُ الاحتراس من ظنّ أنّ النهيِ عن انتهاء الأشهر الحرم يَقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله‏:‏ ‏{‏كما يقاتلونكم كافة‏}‏ فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن هم بَادَأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين‏.‏

و ‏{‏كافّة‏}‏ كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة ‏(‏كلّ‏)‏ لا يختلف لفظها باختلاف المؤكَّد من أفراد وتثنية وجمع، ولا من تذكير وتأنيث، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد، ومحلّها نصب على الحال من المؤكَّد بها، فهي في الأول تأكيد لقوله ‏{‏المشركين‏}‏ وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات، أي كلّ فِرق المشركين، فكلّ فريق وُجد في حالة مَّا، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال، فالمسلمون مأمورون بقتاله، فمن ذلك‏:‏ كلّ فريق يكون كذلك في الأشهر الحُرُم، وكلّ فريق يكون كذلك في الحَرَم‏.‏

والكاف في ‏{‏كما يقاتلونكم‏}‏ أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل، وليست معية عِلم، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين‏.‏

وابتدئت الجملةُ ب ‏{‏اعلموا‏}‏ للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن ما غنمتم من شيء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية، بحيث يجب أن يعلموه ويَعوه‏.‏

والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين، لئلا يكون ذكر جملة ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ غريباً عن السياق، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجازٌ يفيد أنّهم حينئذٍ من المتّقين، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى، وأنّ المشركين حينئذٍ هم المعتدون على حرمة الأشهر، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عدة الشهور عند الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ الآية لأنّ ذلك كالمقدّمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه‏.‏

والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمتُه وجعلت لشهر آخر فالنسيء فَعِيل بمعنى مفعول من نَسَأ المهموز اللام، ويطلق مصدراً بوزن فعيل مثل نَذير من قوله‏:‏ ‏{‏كيف نذير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 17‏]‏، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز، أي أخّر، فالنسيء بهمزة بعد الياء في المشهور‏.‏ وبذلك قرأه جمهور العشرة‏.‏ وقرأه ورش عن نافع بياء مشدّدة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامِها في أختها، والإخبارُ عن النسيء بأنّه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

والنسيءُ عند العرب تأخير يجعلونه لشهرٍ حرام فيصيرونه حلالاً ويحرّمون شهراً آخر من الأشهر الحلال عوضاً عنه في عامه‏.‏

والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أنّ العرب سَنَتهم قمرية تبعاً للأشهر، فكانت سنتهم اثني عشر شهراً قمرية تامة، وداموا على ذلك قروناً طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء‏.‏

وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل أنّ العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نُصيب فيها شيئاً لنهلِكَنّ‏.‏ وسكت المفسّرون عمّا نشأ بعد قول العرب هذا، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أنّ أوّل من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأنّ جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغّل في القدم والذي يجب اعتماده أنّ أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم ‏(‏ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا‏)‏‏.‏ وهو الملقب بالقَلَمَّس ولا يوجد ذكر بني فقيم في «جمهرة ابن حزم» وقد ذكره صاحب «القاموس» وابن عطية‏.‏ قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير ‏(‏كذا ولعلّه سري‏)‏ بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة‏.‏ وفي ابن عطية خلاف ذلك قال‏:‏ انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبدِ فقيم فنسأ لهم الشهور‏.‏ ثم خلفه ابنه عبّاد‏.‏ ثم ابنه قُلَع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلامُ قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسُّككِ بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب‏.‏ وفي «تفسير القرطبي» عن الضحّاك عن ابن عباس أول من نسأ عَمْرو بن لُحَي ‏(‏أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيّب السائبة‏)‏‏.‏

وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة‏.‏

قال ابن حزم‏:‏ كلّ من صارت إليه هذه المرتبة ‏(‏أي مرتبة النسيء‏)‏ كان يسمّى القلمس‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه‏.‏ وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول‏:‏ اللهم إنّي ناسئ الشهور وواضعُها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب‏.‏ اللهم أنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخّر انفروا على اسم الله تعالى‏.‏ وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إنّ أبا ثمامة لا يُعاب ولا يجاب‏.‏ ولا مرد لما يقول فيقولون أنْسئنا شهراً، أي أخِّرْ عنّا حرمة المحرّم واجعلها في صفر فيُحل لهم المحرّم وينادي‏:‏ ألا إنّ آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرّمونه ذلك العام فإذا حجّوا في ذي الحجّة تركوا المحرّم وسَمّوه صفراً فإذا انسلخ ذو الحجّة خرجوا في محرّم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنّه صار صفراً فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرّم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجّون في شهر صفر عامين ولاءً ثم كذلك‏.‏

وقال السهيلي في «الروض الأنف» إنّ تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري، تحرياً منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخّرونه في كلّ عام أحد عشر يوماً أو أكثر قليلاً، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته ونسَب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أنّ ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعلّه تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي، وأحسب أنّه اشتباه‏.‏

وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم‏.‏

وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنّه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة‏.‏

وصيغة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنما النسئ زيادة في الكفر‏}‏ تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبّة الاعتداءِ والغارات فهو قصر حقيقي، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أنّ الذين وضعوه ليسوا إلاّ كافرين وما هم بمصلحين، وما الذين تابعوهم إلاّ كافرون كذلك وما هم بمتّقين‏.‏

ووجه كونه كفراً أنّهم يعلمون أنّ الله شرع لهم الحجّ ووقتَّه بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسمّاة بأسماء تميّزها عن الاختلاط، فلمّا وضعوا النسيء قد علموا أنّهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمّونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعيّن له، أعني شهر ذي الحجّة ولذلك سمّوه النسيء اسماً مشتقّاً من مادة النَّسَاء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنّه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفّون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقّت لهم عن تعمّد مثبتين الحلَّ لشهر حرام والحرمةَ لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به، فلذلك يشبه جعلَهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر، فلا دلالة في الآية على أنّ الأعمال السيّئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل‏.‏

وحرف ‏{‏في‏}‏ المفيد الظرفية متعلّق «بزيادة» لأنّ الزيادة تتعدّى بفي ‏{‏يزيد في الخلق ما يشاء‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏ فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابهِ للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنّه لمّا كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحجّ ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن لم يكن في ذاته كفراً وهذا كما يقول السلف‏:‏ إنّ الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأنّ ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏، أي صلاتكم‏.‏ على أنّ إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية ممّا طفحت به أقوال الكتاب والسنّة مع اتّفاق جمهور علماء الأمّة على أنّ الأعمال غيرَ الاعتقاد لا تقتضي إيماناً ولا كفراً‏.‏

وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف، أي زيادة في أحوال أهل الكفر، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار، فالتأويل الأول يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أنّ إطلاق الكفر فيه إيجازُ حذف بتقدير مضاف‏.‏

وجملة ‏{‏يضل به الذين كفروا‏}‏ خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمرّ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدّد‏.‏

وجملة ‏{‏يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً‏}‏ بيان لسبب كونه ضلالاً‏.‏

وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدّد والاستمرار، أي هم في ضلال متجدّد مستمرّ بتجدّد سببه، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى، ومواطأة عدّة ما حرم الله‏.‏

وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أنّ النسيء كان عمله مطّرداً بين جميع المشركين من العرب فما وقع في «تفسير الطبري» عن ابن عباس والضحّاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنّهم ابتدأوا بمتابعته‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يضل‏}‏ بفتح التحتية وقرأه حفص عن عاصم، وحمزةُ، والكسائي وخلَف، ويعقوب بضمّ التحتية على أنّهم يضلّون غيرهم‏.‏

والتنكير والوحدة في قوله‏:‏ ‏{‏عاماً‏}‏ في الموضعين للنوعية، أي يحلّونه في بعض الأعوام ويحرّمونه في بعض الأعوام، فهو كالوحدة في قول الشاعر‏:‏

يوماً بحزوى ويوماً بالعقيق ***

وليس المراد أنّ ذلك يوماً غبّ يوم، فكذلك في الآية ليس المراد أنّ النسيء يقع عاماً غبّ عام كما ظنّه بعض المفسّرين‏.‏ ونظيرُه قول أبي الطيّب‏:‏

فيوماً بخيل تطْرُد الرومَ عنهم *** ويوماً بجُود تَطرد الفقرَ والجَدْبا

‏(‏يريد تارة تدفع عنهم العدوّ وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب‏)‏ وإنّما يكون ذلك حين حلول العدوّ بهم وإصابةِ الفقر والجدب بلادَهم، ولذلك فسّره المعري في كتاب «مُعْجِز أحمد» بأنْ قال‏:‏ «فإنّ قَصَدَهم الرومُ طَرَدْتَهم بخيلك وإن نازَلَهم فقر وجدب كشفتَه عنهم بجُودك وإفضالك»‏.‏

وقد أبقي الكلام مجملاً لعدم تعلّق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء، ولعلّ لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين‏.‏

ومحلّ الذمّ هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة ويتعلّق قوله‏:‏ ‏{‏ليواطئوا عدة ما حرم الله‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً‏}‏ أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة‏.‏

والموطأة الموافقة، وهي مفاعلة عن الوَطئ شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق ‏(‏في‏)‏ وطيء الأرجل ومن هذا قولهم ‏(‏وقوع الحافر على الحافر‏)‏‏.‏

و ‏{‏عِدّة ما حرم الله‏}‏ هي عدّة الأشهر الحرم الأربعة‏.‏

وظاهر هذا أنّه تأويل عنهم وضربٌ من المعذرة، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم، ولكن ذِكْره ليُرتَّب عليه قولُه‏:‏ ‏{‏فيحلوا ما حرم الله‏}‏ فإنّه يتفرّع على محاولتهم موافقة عدّة ما حرم الله أن يحلّوا ما حرّم الله، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنّهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين، وإنّما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم، ويفرّطون في نفس الحُرمة فيحلون الشهر الحرام، ثم يزيدون باطلاً آخر فيحرّمون الشهر الحلال‏.‏ فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود‏.‏

وتوجيه عطف ‏{‏فيحلوا‏}‏ على مجرور لام التعليل في قوله‏:‏ ‏{‏ليواطئوا عدة ما حرم الله‏}‏ هو تنزيل الأمر المترتّب على العلّة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل، على طريقة التهكّم والتخطئة مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والإتيان بالموصول في قوله‏:‏ ‏{‏عدة ما حرم الله‏}‏ دون أن يعبّر بنحو عدة الأشهر الحرم، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنّهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرّمها الله تعظيماً‏.‏ ففيه تعريض بالتهكّم بهم‏.‏

والإظهار في قوله‏:‏ ‏{‏فيحلوا ما حرم الله‏}‏ دون أن يقال فيُحلوه، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالُهم حرمة بعض الأشهر الحرم، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنّهم يحرّمون بعض الأشهر الحلال حفاظاً على عدّة الأشهر التي حرّمها الله تعالى‏.‏

وجملة ‏{‏زين لهم سوء أعمالهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً‏:‏ لأنّ ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تمَّلأُوه فقيل‏:‏ لأنّهم زيّن لهم سوء أعمالهم، أي لأنّ الشيطان زيّن لهم سوء أعمالهم فحسّن لهم القبيح‏.‏

والتزيين التحسين، أي جعلُ شيء زيْناً، وهو إذا يسند إلى مَا لا تتغيّر حقيقته فلا يصير حسناً، يؤذن بأنّ التحسين تلبيس‏.‏ وتقدّم التزيينُ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏212‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك زينا لكل أمة عملهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏108‏)‏‏.‏

وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتّى يزول تعجّب السامع منها‏.‏

وجملة والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏زين لهم سوء أعمالهم‏}‏ فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة، لأنّ التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب، حتّى يقلعوا عن ضلالهم، فبعد أن أفيد السائل بأنّ سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوءَ أعمالهم، أفيد بأنّ دوامهم عليه لأنّ الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق، الذيْن بهما يتفطّن الضالّ لضلاله فيقلع عنه، جزاءاً لهم على ما أسلفوه من الكفر، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار بقوله‏:‏ ‏{‏القوم الكافرين‏}‏ لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم، أي‏:‏ هذا شأن الله مع جميع الكافرين‏.‏

واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنّما تُتلقَّى عن الوحي الإلهي لأنّ الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسُنّ له نظامَه فبذلك تستقرّ حرمة كلّ ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغييرٌ تقشّعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنّه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو ابن لحَيّ‏.‏

وقد أوْحَى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنّ العامَ الذي يَحُجّ فيه يصادف يومُ الحجّ منه يومَ تسعة من ذي الحجة، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض، وأنّ فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع «إنّ الزمان قد استدار كهيئتِه يومَ خلق اللَّهُ السماوات والأرض»، قالوا فصادفت حجّة أبي بكر سنة تسع أنّها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء، فجاءت حجّةُ النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجّة في الحساب الذي جعله الله يومَ خلق السماوات والأرض‏.‏