فصل: تفسير الآيات (8- 17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (8- 17):

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)}
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي متنعمة في الجنة أو يظهر عليها نضرة النعيم {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي راضية في الآخرة لأجل سعيها وهو عملها في الدنيا {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} يحتمل أن يكون من علو المكان أو من علو المقدار أو الوجهين {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} هو من لغو الكلام ومعناه الفحش وما يكره، فيحتمل أن يريد كلمة لاغية أو جماعة لاغية {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} يحتمل أن يريد جنس العيون أو واحدة شرّفها بالتعيين {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} قد ذكرنا أكواب، ومعنى موضوعة: حاضرة معدة بشرابها وفي قوله: مرفوعة وموضوعة؛ مطابقة {وَنَمَارِقُ} جمع نمرقة وهي الوسادة {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} هي بسط فاخرة وقيل: هي الطنافس واحدها زربية {مَبْثُوثَةٌ} أي متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها وقيل: مبسوطة {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} حض على النظر في خلقتها لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها وشرب ألبانها، وأبوالها وغير ذلك. وقيل: أراد بالإبل السحاب وهذا بعيد وإنما حمل قائلة عليه مناسبتها للسماء والأرض والجبال، والصحيح أن المراد الحيوان المعروف، وإنما ذكره لما فيه من العجائب، ولإعتناء العرب به إذ كانت معايشتهم في الغالب منه، وهو أكثر المواشي في بلادهم.

.تفسير الآيات (22- 25):

{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)}
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} أي قاهر متسلط وهذا من المنسوخ بالسيف {إِلاَّ مَن تولى} استثناء منقطع معناه لكن من تولى {وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ الله} وقيل هو استثناء من مفعول فذكر، والمعنى ذكر كل أحد إلا من تولى حتى يئست منه فهو على هذا متصل، وقيل: هو استثناء من قوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} أي لا تسلط إلا على من تولى وكفر، وهو على هذا متصل ولا نسخ فيه إذ لا موادعة فيه وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أي رجوعهم والآية تهديد.

.سورة الفجر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)}
{والفجر} أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح، وقيل: أراد صلاة الفجر: وقيل: أراد النهار كله، وقيل: فجر يوم الجمعة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل: أراد انفجار العيون من الحجارة وهذا بعيد والاول أظهر وأشهر {وَلَيالٍ عَشْرٍ} هي عشر ذي الحجة عند الجمهور، وقيل: العشر الأول من المحرم وفيها عاشوراء وقيل: العشر الأواخر من رمضان، وقيل: العشر الأول منه {والشفع والوتر} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنها الصلوات منها شفع ووتر وقيل: الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة الواحدة المعروفة، وقيل: الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد، وقيل: الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى، وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة، وقيل: الشفع قران الحج والوتر إفراده، وقيل: المراد الأعداد منها شفع ووتر. فهذه عشرة أقوال، وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها وهما لغتان {واليل إِذَا يَسْرِ} أي إذا يذهب فهو كقوله: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم: ليلُه قائم، والمراد على هذا ليلة جمع لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} هذا توقيف يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها. والحجر هنا هو: العقل. كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم محذوف وهو «ليأخذنّ الله الكفار» ويدل على ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون.

.تفسير الآيات (7- 14):

{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}
{إِرَمَ} هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها، كما يقال: هاشم لبني هاشم، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى، فإن عاداً الثانية لا يسمون بهذا الاسم. وقيل: إرم اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف تقديره: بعاد عاد إرم، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة من تنوين عاد وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث {ذَاتِ العماد} من قال إرم قبيلة قال: العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عموج، وقال ابن عباس: ذلك كناية عن طول أبدانهم. ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها، وقيل القصور والأبراج {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساماً يقال: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع. أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله في البلاد ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا، وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام، وكان عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة، وكانت هذه المدينة باليمن. وروي أن بعض المسلمين مر بها في خلافة معاوية، وقيل: هي دمشق وقيل: الاسكندرية، وهذا ضعيف {جَابُواْ الصخر بالواد} أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتاً والوادي ما بين الجبلين، ون لم يكن فيها ماء، وقيل: أراد وادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} ذكر في سورة داود (ص): {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوباً على الذم أو خبر ابتداء مضمر {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} استعارة السوط للعذاب؛ لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره. قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهوب من عذاب الآخرة، كما أن السوط أهون من القتل {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان، وكل زمان ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديد لكفار قريش وغيرهم، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد.

.تفسير الآيات (15- 16):

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)}
{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه، وقد كان الله عالماً بذلك قبل كونه، والإنسان هنا جنس، وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على العموم، فيمن كان على هذه الصفة. وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير، ثم ذكر بعد ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء: 35] {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير} وأنكر عليه قوله حين الخير: ربي أكرمني وقوله حين الشر: ربي أهانني ويتعلق بالآية سؤلان:
السؤال الأول: لم أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني والجواب من وجهين: أحدهما: أن الإنسان يقول: ربي أكرمني على وجه الفخر بذلك والكبر، لا على وجه الشكر ويقول: ربي أهانني على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك، فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر. والآخر: أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك؛ فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك.
السؤال الثاني: إن قيل: قد قال الله {فأكرمه} فأثبت إكرامه، فكيف أنكر عليه قوله ربي أكرمني؟ فالجواب: من ثلاثة أوجه:
الأول أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشرك، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار.
الثاني: أنه أنكر عليه قوله: {ربي أ كرمني} إذ اعتقد إن إكرام الله له باستحقاقه الإكرام، على وجه التفضيل والإنعام كقوله قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].
الثالث: أن الإنكار إنما هو قوله: {ربي أهانني} لا لقوله: {ربي أكرمني} فإن قوله ربي أكرمني اعتراف بنعمة الله، وقوله ربي أهانني شكاية من فعل الله {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي ضيقه وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل: معنى التشديد جعله على قدر معلوم.

.تفسير الآيات (17- 20):

{كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}
{كَلاَّ} زجر عما أنكر من قول الإنسان {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب بل، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا اليتيم وما ذكر بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرمَ» {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} الحض على الأمر هو الترغيب فيه، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو، كأنه ذم لترك طعام المسكين، والطعام هنا بمعنى الإطعام، وقيل: هو على حذف مضاف تقديره: لا تحضون على بذل طعام المسكين، وقرئ تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضاً {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} التراث هو ما يورث عن الميت من المال، والتاء فيه بدل من الواو، واللم: الجمع واللف، والتقدير: أكلاً ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيراً بل ينفرد به الرجال {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي شديداً كثيراً وهذا دم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه.

.تفسير الآيات (21- 25):

{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)}
{دُكَّتِ الأرض} أي سوّيت جبالها {دَكّاً دَكّاً} أي دكاً بعد دكّ كما تقول: تعلمت العلم باباً باباً {وَجَآءَ رَبُّكَ} تأويله عند المتأولين: جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل {والملك} هو اسم فإنه رُوِي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفاً حول الأرض {صَفّاً صَفّاً} أي صفاً بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتي يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ} يومئذ بدل من إذا دكت ويتذكر هو العامل وهو جواب إذا دكت، والمعنى: أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا، ويندم على تفريطه وعصيانه، والإنسان هنا جنس، وقيل: يعني عتبة بن ربيعة، وقيل: أمية بن خلف {وأنى لَهُ الذكرى} هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم حين لم تنفعه الندامة {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} فيه وجهان: أحدهما أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملاً صالحاً للآخرة، والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملاً صالحاً وقت حياتي، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} من قرأ بكسر الذال من يعذب والثاء من يوثق فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى والمعنى: أنه الله يتولى عذاب الكفار ولا يكله إلى أحد، ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي ورُوِيَ أن أبا عمرو رجع إليها وهي قراءة حسنة، وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (27- 29):

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}
{ياأيتها النفس المطمئنة} أي الموقنة يقيناً قد اطمئنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في الإيمان، وقيل: المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب {ياأيتها النفس المطمئنة} {ارجعي إلى رَبِّكِ} هذا خطاب والنداء يكون عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار، والأول أرجح، لما روي «أن أبا بكر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك عند موتك» {رَاضِيَةً} معناه راضية بما أعطاها، أو راضية عن الله، ومعنى المرضية عند الله، أو أرضاها الله بما أعطاها {فادخلي فِي عِبَادِي} أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين. وقرئ فادخلني في عبدي بالتوحيد معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس، ونزلت هذه الآية في حمزة. وقيل: في خُبَيْبِ بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة.

.سورة البلد:

.تفسير الآيات (1- 4):

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)}
{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} أراد مكة باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها ولا زائدة {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى أنت حال بهذا البلد أي ساكن، لأن السورة نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، والآخر أن معنى حِلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: لا أقسم يعني لا أقسم بهذا البلد وأنت تحلقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أحل لي ساعة من نهار يعني يوم فتح مكة، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة»، فإن قيل: إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب: أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم يعني فيما يستقبل، وقيل: إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه أراد آدم وجميع ولده، الثاني: نوح وولده، الثالث إبراهيم وولده، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة السلام وولده، الخامس جنس كل والد ومولود وإما قال: وما ولد ولم يقل ومن ولد: إشارة إلى تعظيم المولود كقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] قاله الزمخشري {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة، قال بعضهم: لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده وقيل: معنى في كبد واقفاً منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على هذين القولين جنس، وقيل: الإنسان آدم عليه السلام، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح.