فصل: تفسير الآيات (75- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}
{وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية: إخبار أن أهل الكتب على قسمين: أمين، وخائن. وذكر القنطار مثالاً للكثير؛ فمن أدّاه: أدّى ما دونه، وذكر الدينار مثالاً للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى {قَآئِماً} يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر، وهو العزيمة عليه {ذلك بِأَنَّهُمْ} الإشارة إلى خيانتهم والباء للتعليل {لَيْسَ عَلَيْنَا} زعموا: بأنّ أموال الأمّيين وهو العرب حلال لهم {الكذب} هنا قولهم، إنّ الله أحلها عليهم في التوراة، أو كذبهم على الإطلاق {بلى} عليهم سبيل وتباعة ضمان في أموال الأمّيين {بِعَهْدِهِ} الضمير يعود على من أو على الله.

.تفسير الآيات (77- 78):

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} الآية قيل: نزلت في اليهود؛ لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا، وقيل: نزلت بسبب خصومة بين الأشعث بن قيس وآخر، فأراد خصمه أن يحلف كاذبا {وَإِنَّ مِنْهُمْ} الضمير عائد على أهل الكتاب {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} أي يحرفون اللفظ أو المعنى {لِتَحْسَبُوهُ} الضمير يعود على ما دل عليه قوله: يلوون ألسنتهم، وهو الكلام المحرف.

.تفسير الآيات (79- 80):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية: هذا النفي متسلط على {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} والمعنى: لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوّة، والإشارة إلى عيسى عليه السلام، ردٌّ على النصارى الذي قالو: إنه الله، وقيل: إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود قالوا: يا محمد تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت {ربانيين} جمع رباني، وهو العالم، وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره {بِمَا كُنتُمْ} الباء سببية وما مصدرية {تُعَلِّمُونَ} بالتخفيف تعرفون. وهي قراءة نافع وغيره وقرئ بالتشديد من التعليم {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بالرفع: استئناف، والفاعل الله أو البشر المذكور، وقرئ بالنصب عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول، والفاعل على هذا البشر.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} معنى الآية؛ أن الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ الميثاق على أمم الأنبياء، واللام في قوله: {لَمَآ آتَيْتُكُم} لام التوطئة، لأنّ أخذ الميثاق في معنى الاستخلاف، واللام في لتؤمنن جواب القسم، وما يحتمل أن تكون شرطية، ولتؤمنن سدّ مسدَّ جواب القسم والشرط. وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيناكموه {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} والضمير في به {وَلَتَنصُرُنَّهُ} عائد على الرسول {أَأَقْرَرْتُمْ} أي اعترفتم {إِصْرِي} عهدي {فاشهدوا} أي على أنفسكم وعلى أممكم بالتزام هذا العهد {وَأَنَاْ مَعَكُمْ} تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جلّ جلاله {بَعْدَ ذلك} أي من تولى عن الإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الميثاق؛ فهو فاسق مرتد متمرد في كفره.

.تفسير الآية رقم (83):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
{أَفَغَيْرَ} الهمزة للإنكار، والفاء عطفت جملة على جملة، وغير مفعول قدّم للاهتمام به أو للحصر {وَلَهُ أَسْلَمَ} أي انقاد واستسلم {طَوْعاً وَكَرْهاً} مصدر صدّر في موضع الحال، والطوع للمؤمنين والكره للكافر إذا عاين الموت، وقيل: عند أخذ الميثاق المتقدّم، وقيل: إقرار كل كافر بالصانع هو إسلامه كرهاً.

.تفسير الآيات (84- 86):

{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
{قُلْ آمَنَّا} أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وعن أمّته بالإيمان {وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} تعدى هنا بعلى مناسبة لقوله: قل، وفي البقرة بإلى لقوله: قولوا. لأنّ على حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمة {وَمَن يَبْتَغِ} الآية: إبطال لجميع الأديان غير الإسلام، وقيل: نسخت: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى} [البقرة: 62] الآية {كَيْفَ} سؤال، والمراد به هنا: استبعاد الهدى {قَوْماً كَفَرُواْ} نزلت في الحرث بن سويد وغيره؛ أسلموا ثم ارتدّوا ولحقوا بالكفار، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية إلى قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}، فرجعوا إلى الإسلام؛ وقيل: نزلت في اليهود والنصارى شهدوا ممن بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث، وشهدوا؛ عطف على إيمانهم، لأنّ معناه بعد أن آمنوا، وقل: الواو للحال، وقال ابن عطية: عطف على كفروا والواو لا ترتب.

.تفسير الآيات (87- 91):

{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
{والناس أَجْمَعِينَ} عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين، أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة {خالدين فِيهَا} الضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار وإن لم تكن ذكرت؛ لأنّ المعنى يقتضيها {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} قيل: هم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفراً بعداوتهم له وطعنهم عليه؛ وقيل هم الذين ارتدّوا {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قيل: ذلك عبارة عن موتهم على الكفر: أي ليس لهم توبة فتقبل، وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر، وقيل: لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر، فذلك عامّ {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ} جزْمٌ بالعذاب لكل من مات على الكفر. والواو في قوله: {وَلَوِ افتدى بِهِ}، قيل: زيادة وقيل: للعطف على محذوف، كأنه قال: لن يقبل من أحدهم لو تصدّق به {ولو افتدى به} وقيل: نفى أولاً القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفدية بالنفي كقولك: أنا لا أفعل كذا أصلاً ولو رغبت إليّ.

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
{لَن تَنَالُواْ البر} أي لن تكونوا من الأبرار، ولن تنالوا البر الكامل {حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة: إنّ أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة، وكان ابن عمر يتصدّق بالسكر ويقول: إني لأحبه.

.تفسير الآيات (93- 95):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
{كُلُّ الطعام} الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالاً لبني إسرائيل {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} أبوهم يعقوب {على نَفْسِهِ} وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حُرِّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبة لهم على معاصيهم، وفيها رد عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه؛ لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافاً لليهود في قولهم: إنّ النسخ محال على هذه الأشياء، وفيها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا ً لله وتقرّباً إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم {فَأْتُواْ بالتوراة} تعجيزاً لليهود، وإقامة حجة عليهم، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة {فَمَنِ افترى} أي: من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره، كان محرماً على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل {صَدَقَ الله} أي الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} إلزام لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة الإسلام هي ملة إبراهيم التي لم يحرم فيها شيء مما هو محرم عليهم.

.تفسير الآية رقم (96):

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} أي أول مسجد بني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم، أي مسجد بني أول؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى أنه أول بيت وضع مباركاً وهدى وقد كانت قبله بيوتاً {بِبَكَّةَ} قيل: هي مكة والباء بدل من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله {مُبَارَكاً} نصب على الحال والعامل فيه على قول عليّ: وضع {مُبَارَكاً} على أنه حال من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول: هو حال من الضمير المجرور. والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار.

.تفسير الآيات (97- 99):

{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}
{فِيهِ آيات بينات} آيات البيت كثيرة. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال النباء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق إلى اليوم، ومنها أن الطيور لا تعلوه، ومنها إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شرب به، إلى غير ذلك {مَّقَامُ إبراهيم} قيل: إنه بدل من الآيات أو عطف بيان، وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة؛ لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك، وقيل: الآيات؛ مقام إبراهيم وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: {وَمَن دَخَلَهُ} عطفاً، وعلى الأول استئنافاً، وقيل: التقدير؛ منهن مقام إبراهيم، فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها {كَانَ آمِناً} أي آمناً من العذاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب، ولا يعاقب، فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباس وأبو حنيفة: ذلك الحكم باق في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباس وأبو حنيفة: ذلك الحكم باق في الإسلام إلاّ أن من وجب عليه حدّ أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج، وقيل: آمناً من النار.
{حِجُّ البيت} بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه {مَنِ استطاع} بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج؛ وقيل: شرط مبتدأ؛ أي: من استطاع فعليه الحج؛ والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلاً وإما راكباً، مع الزاد المبلغ والطريق الآمن. وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة، وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك في حديث ضعيف {وَمَن كَفَرَ} قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظاً كقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر»، وقيل: أراد اليهود لأنهم لا يحجّون، وقيل: من زعم أن الحج ليس بواجب {لِمَ تَكْفُرُونَ} توبيخ اليهود {لِمَ تَصُدُّونَ} توبيخ أيضاً. وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم {سَبِيلِ الله} هنا الإسلام {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} الضمير يعود على السبيل، أي تطلبون لها الاعوجاج {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] أي تشهدون أن الإسلام حق.

.تفسير الآيات (100- 102):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}
{إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً} الآية: لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} إنكار واستبعاد {حَقَّ تُقَاتِهِ} قيل: نسخها؛ {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وقيل: لا نسخ إذ لا تعارض، فإنّ العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزاً من الإكراه وشبهه.

.تفسير الآية رقم (103):

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}
{واعتصموا بِحَبْلِ الله} أي تمسكوا، والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} نهي عن التدابر والتقاطع، إذ؛ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم، ويحتمل أن يكون نهياً عن التفرق في أصول الدين، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً} كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة، إلى أن جمعهم الله بالإسلام {شَفَا حُفْرَةٍ} أي حرف حفرة وذلك تشبيه، لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}
{وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ} الآية: دليل على ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وقوله: منكم: دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال.