فصل: تفسير الآية رقم (96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآية رقم (96):

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم، والصيد هنا المصيد، والبحر هو الماء الكثير: سواء كان ملحاً أو عذباً، كالبرك ونحوها، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وقال ابن عباس: طعامه ما ملح منه وبقي {متاعا لَّكُمْ وللسيارة} الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله، وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام محرم لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافاً للشافعي.

.تفسير الآية رقم (97):

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}
{جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} أي أمراً يقوم للناس بالأمن والمنافع، وقيل: موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصة، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة {والشهر الحرام} يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال {والهدي} يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب {والقلائد} كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئاً من السمر، وإذا رجع تقلد شيئاً من أشجار الحرم، ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهدي، قال سعيد بن جبير: جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام {ذلك لتعلموا} الإشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياماً للناس، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور.

.تفسير الآيات (100- 102):

{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}
{لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة مَنْ أبي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أبوك حذافة، وقال آخر: أين أبي؛ قال: في النار، وقيل: سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال لا، ولو قلت: نعم لوجبت، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها: أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلى الله عليه وسلم: «عفا الله عن الزكاة في الخيل»، وقيل إن معنى عفا الله عنها: عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} فيه معنى الوعيد على السؤال: كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أُبديَ لكم ما يسؤوكم، والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} الضمير في سألها راجع على المسألة التي دل عليها لا تسألوا، وهو مصدر، ولذلك لم يتعدَّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به.

.تفسير الآية رقم (103):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئاً من ذلك لعباده؛ أي لم يشرعه لهم، وإنما الكفار جعلوا ذلك، فأما البحيرة: فهي فعلية بمعنى مفعولة من بَحَر إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأما الوصيلة فكانوا: إذا ولدت الناقة ذكراً وأنثى في بطن واحد قالوا: وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك الأشياء، والذين لا يعقلون هم أبتاعهم المقلدون لهم.

.تفسير الآية رقم (104):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)}
{قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} أي يكفينا دين آبائنا {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} قال الزمخشري: الواو واو الحال، دخلت عليها همزة الإنكار، كأنه قيل: أحشبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون، قال ابن عطية: ألف التوقيف الاستفهام دخلت على واو العطف، وقول الزمخشري أحسن في المعنى.

.تفسير الآية رقم (105):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها، كأنه يقول: لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحا مطاعاً وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم.

.تفسير الآيات (106- 108):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
{شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان}.
قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعراباً، ومعنى، وحكماً، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتاباً قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجودوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم ضهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون بمنزلة حين لا تحتاج جواباً، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد حين الوصية، ظرف العامل فيه حصر، ويكون بدلاً من إذا {ذَوَا عَدْلٍ} صفة للشاهدين منكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم، ومن غيركم، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور: منكم أي من المسلمين، ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلاً؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين {تَحْبِسُونَهُمَا} قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام {مِن بَعْدِ الصلاة} قال الجمهور: هي صلاة العصر، فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس، وبعدها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما؛ لأنهما لا يعظمان صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بالله} أي يحلفان؛ ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري {إِنِ ارتبتم} أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} هذا هو المقسوم عليه، والضمير في به للقسم، وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريباً لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} أي: الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيماً لها {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً} أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت {الأوليان} تثية أولى بمعنى أحق: أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة، وقرئ الأولين جمع أول، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو منصوباً بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة {فَيُقْسِمَانِ بالله لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} اي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق: أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما {إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين} أي إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ} الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى: أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا {أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أيمانهم} أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا.

.تفسير الآية رقم (109):

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}
{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره، ولو أريد الجواب، لقيل بماذا أجبتم {قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ} إنما قالوا ذلك تأدباً مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار.

.تفسير الآية رقم (110):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}
{إِذْ قَالَ الله} يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمراً، ويحتمل على هاذ أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران {فَتَنفُخُ فِيهَا} الضمير المؤنث عائد على الكاف، لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير فيتكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على الكاف أيضاً، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت: هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة، وفي التذكير شخصاً أو خلقاً وشبه ذلك، وقيل: المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير، والطين، وهو بعيد في المعنى {بِإِذْنِي} كرره مع كل معجزة ردّاً على من نسب الربوبية إلى عيسى {وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ} يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه.

.تفسير الآيات (111- 112):

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)}
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ} معطوف على ما قبله، فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام {واشهد} يحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى أو لعيسى عليه السلام {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 110] نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون: يا رسول الله يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه اعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد، يخلاف ما اعتقده النصارى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} ظاهر هذا اللفظ أنهم شكوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري، وقال ما وصفهم الله بالإيمان، ولكن حكى دعواهم في قولهم: آمناً. وقال ابن عطية وغيره: ليس كذلك لأهم شكوا في قدرة الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا، وهل يقع منه إجابة إليه، وهذا أرجح، لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه، مع أنّ في اللفظ بشعة تنكر، وقرئ تستطيع بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء، والمائدة هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان {قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} فقوله لهم: أتقوا الله؛ يحتمل أن يكون زجراً عن طلب المائدة، واقتراح الآيات، ويحتمل أن يكون زجراً عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطع ربك على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك، وقوله: إن كنتم مؤمنين: هو على ظاهره على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب ابن عطية وغيره، فهو تقرير لهم كما تقول: افعل كذا إن كنت رجلاً، ومعلوم أنه رجل، وقيل: إنّ هذه المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى.