فصل: تفسير الآيات (111- 112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (111- 112):

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة} الآية: أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلاّ من كان يهودياً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلاّ من كان نصرانياً {هُوداً} يعني اليهود، وهذه الكلمة جمع هايد أو مصدر وصف به، وقال الفرّاء: حذفت منه يا هودا عل غير قياس {أَمَانِيُّهُمْ} أكاذيبهم أو ما يتمنونه {هَاتُواْ} أمر على وجه التعجيز، والردّ عليهم، وهو من: هاتى، يهاتي، ولم ينطق به، وقيل: أصله؛ آتوا، وأبدل من الهمزة هاء {بلى} إيجاب لما نَفَوا؛ أي يدخلها من ليس يهودياً، ولا نصرانياً {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} أي دخل في الإسلام وأخلص، وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
{وَقَالَتِ اليهود} الآية: سببها اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمت كل طائفة الأخرى {وَهُمْ يَتْلُونَ} تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} المشركون من العرب لأنهم لا كتاب لهم.

.تفسير الآية رقم (114):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
{مَّنَعَ مساجد الله} لفظه الاستفهام ومعناه: لا أحد أظلم منه حيث وقع؛ قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم {خَآئِفِينَ} في حق قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحج بعد هذا العام مشرك»، وفي حق النصارى حربهم عند بيت المقدس أو الجزية {خِزْيٌ} في حق قريش غلبتهم وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية.

.تفسير الآية رقم (115):

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} في الحديث الصحيح أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت، وقيل: هي في نفل المسافر حيث ما توجهت به دابته، وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي إن منعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل؛ إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة، فهي كقوله بعد هذا: قل {وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية، والقول الأوّل هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة، فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك {وَجْهُ الله} المراد به هنا رضاه كقوله: {ابتغآء وَجْهِ الله} [البقرة: 272] أي رضاه، وقيل: معناه الجهة التي وجه إليها، وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله، وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود، وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع.

.تفسير الآية رقم (116):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
{وَقَالُواْ اتخذ} قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب: الملائكة بنات الله {سبحانه} تنزيه له عن قولهم {بَل لَّهُ} الآية ردّ عليهم لأن الكل ملكه، والعبودية تنافي النبوة {قانتون} أي طائعون منقادون.

.تفسير الآية رقم (117):

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
{بَدِيعُ السماوات} أي مخترعها وخالقها ابتداء وإذا قضى أمراً أي قدّره وأمضاه قال ابن عطية: يتحد في الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة: قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة: أمضى عند الخلق والإيجاد، قلت: لا يكون قضى هنا بمعنى قدّر، لأن القدر قديم، وإذا تقتضي الحدوث والاستقبال، وذلك يناقض القدم، وإنما قضى هنا بمعنى: أمضى أو فعل أو وُجِد كقوله: فقضاهنّ سبع سموات، وقد قيل إنه بمعنى ختم الأمر، وبمعنى حكم، والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قال الأصوليون: هذا عبارة عن نفوذ قدرة الله تعالى: وليس بقول حقيقي، لأنه إن كان قول: كن، خطاباً للشيء في حال عدمه، لم يصح؛ لأن المعدوم لم يخاطب، وإن كان خطاباً في حال وجوده لأنه قد كان، وتحصيل الحصل غير مطلوب. وحملة المفسرون على حقيقته، وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة: أحدها: أن الشيء الذي يقول له: كن فيكون هو موجود في علم الله؛ وإنما يقول له: كن ليخرجه إلى العيان لنا، والثاني: أن قوله: كن، لا يتقدّم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه. قاله الطبري، والثالث: أن ذلك خطاباً لمن كان موجوداً على حالة، فيأمر بأن يكون على حالة أخرى؛ كإحياء الموتى، ومسخ الكفار، وهذا ضعيف. لأنه تخصيص من غير مخصص. والرابع: أن معنى يقول له: يقول من أجله، فلا يلزم خطابه: والأوّل أحسن هذه الأجوبة، وقال ابن عطية: تلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، فيكون رُفِعَ على الاستثناء، قال سيبوية: معناه فهو يكون، قال غيره: يكون عطف على يقول، واختاره الطبري، وقال ابن عطية: وهو فاسد من جهة المعنى، ويقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وفي هذا نظر.

.تفسير الآية رقم (118):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
{وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} هم هنا وفي الموضع الأول كفارُ العرب على الأصح، وقيل: هم اليهود والنصارى {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} لولا هنا عَرْض، والمعنى أنهم قالوا: لن نؤمن حتى يكلمنا الله {أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} أي دلالة من العجزات كقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] وما بعده {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني اليهود والنصارى على القول: بأن الذين لا يعلمون كفار العرب، وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، فالذين من قبلهم هم أمم الأنبياء المتقدمين {تشابهت قُلُوبُهُمْ} الضمير للذين لا يعلمون، وللذين من قبلهم، وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ما لا يصح أن يطلب، وهو كقولهم: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} {قَدْ بَيَّنَّا الآيات} أخبر تعالى أنه قد بين الآيات لعنادهم.

.تفسير الآية رقم (119):

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
{إِنَّا أرسلناك بالحق} خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالحق التوحيد، وكل ما جاءت به الشريعة {بَشِيراً وَنَذِيراً} تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، وهذا معناه حيث وقع {وَلاَ تُسْأَلُ} بالجزم نهي، وسببها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله، وقرأ غير نافع بضم التاء واللام: أي لا تسأل في القيامة عن ذنوبهم.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
{مِلَّتَهُمْ} ذكرها مفردة وإن كانت ملتين؛ لأنهما متفقتان في الكفر، فكأنهما ملة واحدة {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} لا ما عليه اليهود والنصارى، والمعنى: أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي؛ لأنه هدى من عند الله بخلاف ما يدّعيه اليهود والنصارى {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} جمع هوى، ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة والأقوال المضلة؛ لأنهم اتبعوها بغير حجة؛ بل بهوى النفوس والضمير لليهود والنصارى، والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم، ولكن قال ذلك على وجه التهديد لو وقع ذلك، فهو على معنى الفرض والتقدير، ويحتمل أن يكون خطاباً له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره.

.تفسير الآية رقم (121):

{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
{الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعني المسلمين، والكتاب على هذا: القرآن، وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب على هذا التوراة، ويحتمل العموم، ويكون الكتاب اسم جنس {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يقرؤونه كما يجب من التدبر له والعمل به، وقيل: معناه يتبعونه حق اتباعه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والأوّل أظهر، فإن التلاوة وإن كانت تقال بمعنى القراءة، وبمعنى الاتباع؛ فإنه أظهر في معنى القراءة، لاسيما إذا كانت تلاوة الكتاب، ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، ويكون الخبر أولئك يؤمنون، وهذا أرجح، لأن مقصود الكلام الثناء عليهم بالإيمان، إو إقامة الحجة بإيمانهم على غيرهم ممن لم يؤمن.

.تفسير الآيات (122- 125):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية: تقدّم الكلام على نظيرتها {وَإِذِ ابتلى} أي اختبر، فالعامل في إذ فعل مضمر تقديره أذكر، وقوله: {بكلمات} قيل: مناسك الحج، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، ونتف الإبطين، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقيل هي ثلاثون خصلة: عشرة ذكرت في براءة من قوله: التائبون العابدون، وعشرة في الأحزاب من قوله: إن المسلمين والمسلمات، وعشرة في المعارج من قوله: إلاّ المصلين {فَأَتَمَّهُنَّ} أي عمل بهن {وَمِن ذُرِّيَّتِي} استفهام أو رغبة {عَهْدِي} الإمامة {البيت} الكعبة {مَثَابَةً} اسم مكان من قولك: ثاب إذا رجع، لأنّ الناس يرجعون إليه عاماً بعد عام {واتخذوا} بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم عليه السلام، وبالكسر إخبار لهذه الأمّة، وافق قول عمر رضي الله عنه: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقيل أمر لإبراهيم وشيعته، وقيل لبني إسرائيل فهو على هذا عطف على قوله: اذكروا نعمتي، وهذا بعيد {مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام {مُصَلًّى} عبارة عن الأمر والوصية {طَهِّرَا بَيْتِيَ} عبارة عن بنيانه بنية خالصة كقولهم: أسس على التقوى، وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الصنام {لِلطَّائِفِينَ} هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأول أظهر {والعاكفين} هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون، وقيل: المجاورون من الغرباء، وقيل: أهل مكة، والعكوف في اللغة: اللزوم.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
{بَلَداً} يعني مكة {آمِناً} أي مما يصيب غيره من الخسف والعذاب، وقيل: آمناً من إغارة الناس على أهله، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح لقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] ويتخطف الناس من حولهم.
فإن قيل: لم قال في البقرة {بَلَداً آمِناً} فعرّف في إبراهيم [35] ونكّر في البقرة؟ أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة الجواب الأول: قاله استاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت في قوله: القواعد من البيت، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف. الجواب الثاني: قاله السهيلي: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم، لأنها مكية فلذلك قال فيه: البلد بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حي نزولها، فلم يعرفها بلام الحضور، وفي هذا نظر؛ لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة. الجواب الثالث: قاله بعض المشارقة أنه قال: هذا بلداً آمناً قبل أن يكون بلداً، فكأنه قال اجعل هذا الموضع بلداً آمناً، وقال: هذا البلد بعد ما صار بلداً. وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حُكي لفظه فيها على وجهين {مَنْ آمَنَ} بدل بعض من كل {وَمَن كَفَرَ}: أي قال الله: وأرزق من كفر؛ لأن الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر.

.تفسير الآيات (127- 129):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} على حذف القول أي يقولان ذلك {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} علمنا موضع الحج وقيل: العبادات {فِيهِمْ} أي في ذرّيتنا {رَسُولاً مِّنْهُمْ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: أنا دعوة أبي إبراهيم والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من قحطان فاختلف هل هم من ذرية إسماعيل أم لا؟! {آيَاتِكَ} هنا القرآن {والحكمة} هنا هي السنة {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من الكفر والذنوب.

.تفسير الآيات (130- 132):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
{سَفِهَ نَفْسَهُ} منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل؛ في نفسه ثم حذف الجار فانتصب وقيل: تمييز {ووصى بِهَآ} أي بالكلمة والملة {وَيَعْقُوبُ}: بالرفع عطف على إبراهيم، فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفاً على نبيه فهو موصى.

.تفسير الآيات (133- 136):

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار، وإسماعيل كان عمه، والعم يسمى أباً {وَقَالُواْ كُونُواْ} أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى {بَلْ مِلَّةَ} منصوب بإضمار فعل {لاَ نُفَرِّقُ} أي لا نؤمن بالبعض دون البعض، وهذا برهان، لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبيّ فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض.