فصل: تفسير الآيات (67- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (67- 72):

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)}
{يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ واحد} خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمال وهيبة {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} جواب لما والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضاه الله {إِلاَّ حَاجَةً} استثناء منقطع، والحاجة هنا هي شفقته عليهم ووصيته لهم {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمه {قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ} أخبره بأنه أخوه، واستكتمه ذلك {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي لا تحزن فهو من البؤس {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الضمير لإخوة يوسف، ويعني ما فعلوا بيوسف وأخيه، ويحتمل أن يكون لفتيانه: أي لا تبالي بما تراه من تحيلي في أخذك {جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} السقاية هي الصواع، وهي إناء يشرب فيه الملك ويأكل فيه الطعام، وكان من فضة، وقيل من ذهب، وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق له.
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي نادى مناد {أَيَّتُهَا العير} أي أيتها الرفقة {إِنَّكُمْ لسارقون} خطاب لأخوة يوسف، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه، وقيل: إن حافظ السقاية نادى: إنكم لسارقون، بغير أمر يوسف وهذا بعيد لتفتيش الأوعية {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي لمن وجده ورده حِملُ بعير من طعام على وجه الجُعلْ {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي ضامن لحمل البعير لمن ردّ الصواع، وهذا من كلام المنادي.

.تفسير الآيات (73- 76):

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
{قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أي استشهدوا بعلمهم لما ظهر لهم من ديانتهم في دخولهم أرضهم؛ حتى كانوا يجعلون الأكِمّة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين} أي قال فتيان يوسف: ما جزاء آخذ الصواع إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين، فالضمير في قوله جزاؤه يعود على الأخذ المفهوم من الكلام {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} المعنى أن إخوة يوسف أفتو فيما سئلوا عنه فقالوا: جزاء السارق أن يستعبد، ويؤخذ في السرقة، وأما الإعراب فيحتمل وجهين: الأول: أن يكون جزاؤه الأول مبتدأ ومن مبتدأ ثان وهي شرطية أو موصولة، وخبرها فهو جزاؤه، والجملة خبر جزاؤه الأول، والوجه الثاني: أن يكون من خبر المبتدأ الأول على حذف مضاف، وتقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله وتم الكلام. ثم قال فهو جزاؤه أي هذا الحكم جزاؤه {وكذلك نَجْزِي الظالمين} [الأعراف: 41] من كلام إخوة يوسف أي هذا حكمنا في السارق، وقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ بقطع الأيدي {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} هذا تمكين للحيلة ورفع للتهمة {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} ليصح له بذلك إمساكه معه، وإنما أنث الصواع في هذا الموضع لأنه سقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث.
{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي صنعنا له هذا الصنع {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} أي في شرعة أو عادته، لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم، ولكن حكم في هذه القضية آل يعقوب {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} يعني الرفعة بالعلم بدليل ما بعده {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي فوق كل عالم من هو أعلم منه من البشر، أو الله عز وجل.

.تفسير الآية رقم (77):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)}
{قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} الضمير في قالوا لإخوة يوسف، وأشاروا إلى يوسف، ومعنى كلامهم إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهذا الأمر إنما صدر من ابني راحيل لأمِنّا، وقصدوا بذلك رفع المعرّة عن أنفسهم، ورموا بها يوسف وشقيقه، واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال: الأول: أن عمته ربته، فأراد والده أن يأخذه منها، وكانت تحبه ولا تصبر عنه، فجعلت عليه منطقة لها، ثم قالت إنه أخذها فاستعبدته بذلك وبقي عندها ألى أن ماتت، والثاني: أنه أخذ صمناً لجدّه والد أمه فكسره، والثالث: أنه كان يأخذ الطعام من دار أبيه ويعطيه المساكين {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} قال الزمخشري: الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله: أنتم شرّ مكاناً، والمعنى قال في قوله: أنتم شر مكاناً وقال ابن عطية: الضمير للحرارة التي وجد في نفسه من قولهم فقد سرق أخ له من قبل وأسر كراهية مقالتهم ثم جاهرهم بقوله أنتم شر مكاناً أي لسوء أفعالكم {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} إشارة إلى كذبهم فيما وصفوه به من السرقة.

.تفسير الآيات (78- 83):

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)}
{إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} استعطافاً وكانوا قد أعلموه بشدّة محبة أبيه فيه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} على وجه الضمان والاسترهان، والانقياد، وهذا هو الأظهر لقوله: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده {مِنَ المحسنين} أي أحسنت إلينا فيما فعلت معنا من قبل أو على الإطلاق {استيأسوا} أي يئسوا {خَلَصُواْ نَجِيّاً} أي انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضاً، والنجي يكون بمعنى المناجي أو مصدراً {قَالَ كَبِيرُهُمْ} قيل: كبيرهم في السن وهو روبيل، وقيل كبيرهم في الرأي هو: شمعون، وقيل: يهوذا {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} تحتمل {ما} وجوها: الأول: أن تكون زائدة، والثاني: أن تكون مصدرية ومحلها الرفع بالابتداء تقديره وقع من قبل تفريطكم في يوسف، والثالث: أن تكون موصولة ومحلها أيضاً الرفع كذلك، والأول أظهر {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} يريد الموضع الذي وقعت فيه القصة {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ} من قول كبيرهم، وقيل: من قول يوسف وهو بعيد {إِنَّ ابنك سَرَقَ} قرأ الجمهور بفتح الراء والسين، وروي عن الكسائي سرق بضم السين وكسر وتشديد الراء أي نسبت له السرقة {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} أي قولنا لك إن ابنك: إنما هو شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي لا نعلم الغيب هل ذلك حق في نفس الأمر، أم لا، إذ يمكن أن يدس الصواع في رحله من غير علمه.
وقال الزمخشري: المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقناه، لأن الصواع استخرج من وعائه، وما كنا للغيب حافظين أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق، وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري، والقراءة بالضم تعضد القول الأول {وَسْئَلِ القرية} واسأل أهل القرية، وكذلك أهل العير: يعنون الرفقة، هذا هو قول الجمهور وقيل: المراد سؤال القرية بنفسها والعير بنفسها ولا يبعد أن تخبره الجمادات لأنه نبيّ والأول أظهر وأشهر على أنه مجاز، والقرية هنا هي مصر {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} قبله محذوف تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له هذا الكلام فقال بل سولت الآية {بِهِمْ جَمِيعاً} وأخاه بنيامين، وأخاهم الكبير الذي قال لن أبرح الأرض.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)}
{وتولى عَنْهُمْ} لما لم يصدقهم أعرض عنهم ورجع إلى التأسف {وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} تأسف على يوسف دون أخيه الثاني والثالث، الذاهبين، لأن حزنه عليه كان أشدّ لإفراط محبته ولأن مصيبته كانت السابقة {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} أي من البكاء الذي هو ثمرة الحزن، فقيل إنه عميَ، وقيل إنه كان يدرك إدراكاً ضعيفاً، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله قط {فَهُوَ كَظِيمٌ} قيل إنه فعيل بمعنى فاعل أي كاظم لحزنه لا يظهره لأحد، ولا يشكو إلا لله وقيل: بمعنى مفعول كقوله: {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] أي مملوء القلب بالحزن، أو بالغيظ على أولاده، وقيل الكظيم: الشديد الحزن {تَالله تَفْتَؤُاْ} أي لا تفتؤ، والمعنى لا تزال، وحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات: لأنه لو كان إثباتاً لكان مؤكداً باللام والنون {حَرَضاً} أي مشرفاً على الهلاك {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} ردّ عليهم في تفنيدهم له: أي إنما أشكو إلى الله لا إليكم ولا إلى غيركم، والبث: أشدّ الحزن {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من لطفه ورأفته ورحمته ما يوجب حسن ظنّي به وقوة رجائي فيه.

.تفسير الآيات (87- 88):

{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}
{يابني اذهبوا} يعني إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي تعرّفوا خبرهما، والتحسّس طلب الشيء بالحواس؛ السمع والبصر، وإنما لم يذكر الولد الثالث، لأنه بقي هناك اختياراً منه، ولأن يوسف وأخاه كانا أحب إليه {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} أي من رحمة الله {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} إنما جعل اليأس من صفة الكافر، لأن سببه تكذيب الربوبية أو جهلاً بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف وقيل: هذا محذوف تقديره فرجعوا إلى مصر {الضر} يريدون به المجاعة أو الهم على إخوتهم {بِبِضَاعَةٍ مزجاة} يعنون الدراهم التي جاؤوا بها لشراء الطعام، والمزجاة القليلة، وقيل: الرديئة، وقيل: الناقصة، وقيل: إن بضاعتهم كانت عروضاً فلذلك قالوا هذا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} قيل: يعنون بما بين الدراهم الجياد ودراهم من فوق وقيل: أوف لنا الكيل الذي هو حقنا وزدنا على حقنا، وسموا الزيادة صدقة، ويقتضي هذا أن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: تصدق علينا برد أخينا إلينا {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} قال النقاش: هو من المعاريض وذلك أنهم كانوا يعتقدون أنه كافر، لأنهم لم يعرفوه، فظنوا أنه على دين أهل مصر، فلو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا، فقالوا لفظاً يوهم أنهم أرادوه وهم لم يريدوه.

.تفسير الآيات (89- 92):

{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} لما شكوا إليه رقَّ لهم وعرّفهم بنفسه، ورُوِي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لثام، ثم أزال اللثام ليعرفوه، وأراد بقوله ما فعلتم بيوسف وأخيه: التفريق بينهما في الصغر، ومضرتهم ليوسف وإذايتهم أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} اعتذار عنهم، فيحتمل أن يريد الجهل بقبح ما فعلوه أو جهل الشبابُ {قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه؛ والاستفهام على أنهم عرفوه؛ والاستفهام على أنهم توهموا أنه هو ولم يحققوه {مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ} قيل إنه أراد من يتق في ترك المعصية، ويصبر على السجن، واللفظ أعم من ذلك {آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي فضلك {لخاطئين} أي عاصين، وفي كلامهم استعطاف واعتراف {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} عفو جميل، والتثريب التعنيف والعقوبة، وقوله اليوم راجع إلى ما قبله فيوقف عليه، وهو يتعلق بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار؛ وقيل: إنه يتعلق بيغفر، وهذا بعيد لأنه تحكم على الله؛ وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: لا تثريب عليكم اليوم، ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقه.

.تفسير الآيات (93- 98):

{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}
{اذهبوا بِقَمِيصِي} روي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله له حين أخرج من النار، وكان من ثياب الجنة، ثم صار لإسحاق، ثم ليعقوب، ثم دفعه يعقوب ليوسف، وهذا يحتاج إلى سند يوثق به، والظاهر أنه كان قميص يوسف الذي بمنزلة قميص كل أحد {يَأْتِ بَصِيراً} الظاهر أنه علم ذلك بوحي من الله {فَصَلَتِ العير} أي خرجت من مصر متوجهة إلى يعقوب {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص وبينهما مسافة بعيدة {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} أي تلومونني أو تردون علي قولي، وقيل: معناه تقولون: ذهب عقلك، لأن الفند هو الخرف {ضلالك القديم} أي ذهابك عن الصواب، بإفراط محبتك في يوسف قديماً {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} روي أن البشير يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم فقال لإخوته: إني ذهبت إليه بقميص القرحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} وعدهم بالاستغفار لهم، فقيل سوّفهم إلى السَّحَر لأن الدعاء يستجاب فيه، وقيل إلى ليلة الجمعة {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} هنا محذوفات يدل عليها الكلام، وهي فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا يوسف {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي ضمهما، وأراد بالأبوين أباه وأمه، وقيل أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت، وسمى الخالة على هذا أمّا {إِن شَآءَ الله} راجع إلى الأمن الذي في قوله آمنين.

.تفسير الآيات (99- 101):

{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} أي على سرير الملك {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} يعني حين رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، وكان بين رؤياه وبين ظهور تأويلها ثمانون عاماً وقيل أربعون {أَحْسَنَ بي} يقال أحسن إليه وبه {أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} إنما لم يقل أخرجني من الجب لوجهين: أحدهما: أن في ذكر الجب خزي لإخوته، وتعريفهم بما فعلوه فترك ذكره توقيراً لهم. والآخر: أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة به أكثر {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} أي من البادية وكانوا أصحاب إبل وغنم، فعدّ من النعم مجيئهم للحاضرة {نَّزغَ الشيطان} أي أفسد وأغوى {لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} أي لطيف التدبير لما يشاء من الأمور {مِنَ الملك} من للتبعيض، لأنه لم يعطه إلا بعض ملك الدنيا بل بعض ملك مصر {تَوَفَّنِى مُسْلِماً} لما عدد النعم التي أنعم الله بها عليه اشتاق إلى لقاء ربه ولقاء الصالحين من سلفه وغيرهم، فدعا بالموت. وقيل ليس ذلك دعاء بالموت، وإنما دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله.