فصل: سورة مريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.سورة مريم:

.تفسير الآيات (1- 3):

{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)}
{كهيعص} قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء، وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه: يا كهيعص فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسماً من أسماء الله تعالى، أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف {ذِكْرُ} تقديره هذا ذكر {عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} وصفه بالعبودية تشريفاً له، وإعلاماً له بتخصيصه وتقريبه، ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر، تقديره: رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه، وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له {إِذْ نادى رَبَّهُ} يعني دعاه {نِدَآءً خَفِيّاً} أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر، ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، ولئلا يلومه الناس على طلب الولد {إِنَّي وَهَنَ} أي ضعف {واشتعل} استعارة للشيب من اشتعال النار {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم، فاستجب لي في هذا، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه.

.تفسير الآيات (4- 13):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)}
{وَإِنِّي خِفْتُ الموالى} يعني: الأقارب قيل: خاف أن يرثوه دون نسله، وقيل: خاف أن يضيعوا الدين من بعده {مِن وَرَآءِى} أي من بعدي {عَاقِراً} أي عقيماً {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} يعني وارثاً يرثني، قيل: يعني وراثة المال، وقيل: وراثة العلم والنبوة وهو أرجح لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وكذلك {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} العلم والنبوة، وقيل: الملك، ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح {رَضِيّاً} أي مرضياً فهو فعيل: بمعنى مفعول {سَمِيّاً} يعني من سُمي باسمه، وقيل: مثيلاً ونظيراً، والأول أحسن هنا {أنى يَكُونُ لِي غلام} تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته، فسأل ذلك أولاً لعلمه بقدرة الله عليه، وتعجب منه لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو في سنّ من يرجوه، وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ {عِتِيّاً} قيل: يبساً في الأعضاء والمفاصل، وقيل: مبالغة في الكبر {كذلك} الكاف في موضع رفع، أي الأمر كذلك، تصديقاً له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته، وعلى هذا يوقف على قوله. كذلك. ثم يبتدأ: قال ربك، وقيل: إن الكاف في موضع نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره: هو عليّ هين {اجعل لي آيَةً} أي علامة على حمل امرأته {سَوِيّاً} أي سليماً غير أخرس، وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم، والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس، وقيل: إن سوياً يرجع إلى الليالي أي مستويات {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي أشار، وقيل: كتب في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام {أَن سَبِّحُواْ} قيل: معناه صلوا، والسبحة في اللغة الصلاة، وقيل: قولوا سبحان الله {يايحيى} التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته: {خُذِ الكتاب} يعني التوراة {بِقُوَّةٍ} أي في العلم به والعمل به {وآتيناه الحكم صَبِيّاً} قيل: الحكم، معرفة الأحكام، وقيل: الحكمة، وقيل: النبوة {وَحَنَاناً} قيل: معناه رحمة وقال ابن عباس: لا أدري ما الحنان {وزكاوة} أي طهارة، وقيل، ثناء كما يزكى الشاهد.

.تفسير الآيات (16- 21):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)}
{واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا} أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم {مَكَاناً شَرْقِياً} أي إلى جهة الشرق {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} يعني جبريل، وقيل: عيسى، والأول هو الصحيح؛ لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر، قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم، فقالت له هذا الكلام، ومعناه: إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني، فإني أعوذ بالله منك، وقيل: إن تقيا اسم رجل معروف بالشرّ عندهم وهذا ضعيف وبعيد {لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً} الغلام الزكيّ هو عيسى عليه السلام، وقرئ ليهب بالياء، والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى، وقرئ بهمزة التكلم، وهو جبريل، وإنما نسب الهبة إلى نفسه، لأنه هو الذي أرسله الله بها، أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} البغيّ هي المرأة المجاهرة بالزنا، ووزن بغيّ فعول {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} الضمر للولد واللام تتعلق بمحذوف تقديره: لنجعله آية فعلنا ذلك.

.تفسير الآيات (22- 27):

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)}
{فَحَمَلَتْهُ} يعني: في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر، وقال ابن عباس: حملته وولدته في ساعة {مَكَاناً قَصِيّاً} أي بعيداً، وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر {فَأَجَآءَهَا} معناه: ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية {المخاض} أي النفاس {إلى جِذْعِ النخلة} رُوي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس {قَالَتْ ياليتني مِتُّ} إنما تمنت الموت خوفاً من إنكار قومها، وظنهم بها الشر، ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا، وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه.
{وَكُنتُ نَسْياً} النِسْي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له، وقال بفتح النون وكسرها {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قرئ من بفتح الميم وكسرها، وقد اختلف على كلتا القراءتين، هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل قيل: إنه كان تحتها كالقابلة، وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير للنداء، فأن مفسرة {سَرِيّاً} جدولاً وهي ساقية من ماء كان قريباً من جذع النخلة، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بذلك وقيل: يعني عيسى فإن السري الرجل الكريم {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} كان جذعاً يابساً، فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيساً، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق، لأن الله أمر مريم بهز النخلة، والباء في بجذع زائدة كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] {تساقط عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} الفاعل بتساقط النخلة، وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع، ورطباً تمييز، والجني معناه: الذي طاب وصلح لأن يجتنى {فَكُلِي واشربي} أي كلي من الرطب، واشربي من ماء الجدول، وهو السري {وَقَرِّي عَيْناً} أي طيبي نفساً بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم، أو من تيسير المأكول والمشروب {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، وترين فعل خوطبت به المرأة، ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي صمتاً عن الكلام، وقيل: يعني الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام، مع المتهمين لها، ولأن عيسى تكلم عنها، فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام، وقيل: بالإشارة، ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا} لما رأت الآيات: علمت أن الله سيبين عذرها، فجاءت به من المكان القصي إلى قومها {شَيْئاً فَرِيّاً} أي شنيعاً وهو من الفرية.

.تفسير الآيات (28- 33):

{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
{ياأخت هارون} كان هارون عابداً من بني إسرائيل، شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه، وقيل: كان أخاها من أبيها، وكان رجلاً صالحاً، ويل: هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته، فأخت على هذا كقولك: أخو بني فلان أي واحد منهم، ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة، فإن بين زمانهما دهراً طويلاً {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت {كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} كان بمعنى يكون، والمهد هو المعروف، وقيل المهد هنا حجرها {آتَانِيَ الكتاب} يعني الإنجيل، أو التوراة والإنجيل {مُبَارَكاً} من البركة وقيل: نفاعاً، وقيل: معلماً للخير. واللفظ أعم من ذلك {وأوصاني بالصلاة والزكاة} هما المشروعتان، وقيل: الصلاة هنا الدعاء، والزكاة: التطهير من العيوب {وَبَرّاً} معطوف على مباركاً، روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد، ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر، وفي كلامه هذا ردّ على النصارى، لأنه اعترف أنه عبد الله، وردّ على اليهود لقوله: وجعلني نبياً {والسلام عَلَيَّ} أدخل لام التعريف هنا لتقدّم السلام المنكر في قصة يحيى، فهو كقولك: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل، وقال الزمخشري: الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال: السلام كله عليّ لا عليكم، بل عليكم ضدّه.

.تفسير الآيات (34- 38):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}
{قَوْلَ الحق} بالرفع خبر مبتدأ تقديره: هذا قول الحق، أو بدل أو خبر بعد خبر، وبالنصب على المدح بفعل مضمر، أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم {فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يختلفون فهو من المراء، أو يشكون فهو من المِرية، والضمير لليهود والنصارى {وَإِنَّ الله رَبِّى} من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمز تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وبكسرها لابتداء الكلام، وقيل: هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: يا محمد قل لهم ذلك عيسى بن مريم، وأن الله ربي وربكم، والأول أظهر {فاختلف الأحزاب} هذا ابتداء إخبار، والأحزاب اليهود والنصارى، لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافاً شديداً، فكذبه اليهود وعبده النصارى، والحق خلاف أقوالهم كلها {مِن بَيْنِهِمْ} معناه من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}
{يَوْمَ الحسرة} هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود لا موت، وقيل: هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية، لا على الظرفية {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} يعني في الدنيا، فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أي بأنذرهم.

.تفسير الآيات (41- 47):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)}
{صِدِّيقاً} بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق، ووصفه بأنه صدّيق قبل الوحي نُبِّئ بعده، ويحتمل أنه جمع الوصفين {مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} يعني الأصنام {صراطا سَوِيّاً} أي قويما {لأَرْجُمَنَّكَ} قيل: يعني الرجم بالحجارة وقيل: الشتم {واهجرني مَلِيّاً} أي حيناً طويلاً، وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك {قَالَ سلام عَلَيْكَ} وداع مفارقة، وقيل: مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} وعد، وهو الذي أشير إليه بقوله: عن موعدة وعدها إياه قال ابن عطية، معناه: سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك، وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز، وقيل: وعده أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك، ويقوي هذا القول قوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 86]، ومثل ثذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك {حَفِيّاً} أي باراً متلطفاً.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} أي ما تعبدون {إسحاق وَيَعْقُوبَ} هما ابنه وابن ابنه، وهبهما الله له عوضاً من أبيه وقومه الذين اعتزلهم {مِّن رَّحْمَتِنَا} النبوّة، وقيل: المال والولد، واللفظ أعم من ذلك، لسان صدق يعني الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر.

.تفسير الآيات (51- 54):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)}
{مُخْلِصاً} بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوّة والتقريب {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} النبي أعم من الرسول، لأن النبي كل من أوحى الله إليه، ولا يكون رسولاً حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوة، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسول {وناديناه} هو تكليم الله له {الطور} وهو الجبل المشهور بالشام {الأيمن} صفة للجانب، وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن {نَجِيّاً} النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل: هو من المناجاة، والأول أصح {مِن رَّحْمَتِنَآ} من سببية أو للتبعيض، وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} روي انه وعد رجلاً إلى مكان فانتظره فيه سنة، وقيل: الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102]، وهذا يدل على قول ما قال: إن الذبيح هو إسماعيل.

.تفسير الآيات (56- 58):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
{إِدْرِيسَ} هو أول نبيّ بعث إلى أهل الأرض بعد آدم، وهو أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم وخاط الثياب، وهو من أجداد نوح عليه السلام {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} في حديث الإسراء: وإنه في السماء الرابعة، وقيل: يعني رفعة النبوة وتشريف منزلته. والأول أشهر ورجحه الحديث {أولئك} إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة، من زكريا إلى إدريس {مِّنَ النبيين} من هنا للبيان، والتي بعدها للتبعيض {مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ} يعني نوحاً وإدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا} يعني إبراهيم {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} يعني أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية {وَبُكِيّاً} جمع باك ووزنه فعول.