فصل: سورة النور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.سورة النور:

.تفسير الآية رقم (1):

{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}
{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} السورة خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة، وأنزلناها صفة للسورة، {وَفَرَضْنَاهَا}: أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فَرّضناها بالتشديد للمبالغة {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال، وقيل: معنى بينات هنا ليس فيها مشكل.

.تفسير الآيات (2- 3):

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
{الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} الزانية والزاني يراد بهما الجنس، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك، وإعراب الزاني والزانية كإعراب: السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وقد ذكر في [المائدة: 38] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [النساء: 14] من الإمساك في البيوت، في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين، فيخرج منها الكفار، فيردّون إلى أهل دينهم، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة، فأما العبد والأمة: فحدّهما خمسون جلدة سواء كان محصنين أو غير محصنين، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك.
وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهرة العموم في المسلمين والكافرين، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق، ومنها باختلاف، فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا: أخذاً بعموم الآية، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا، والرجم إن أحصنوا أخذاً بالآية، وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذا زنيا، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى: في سورة النساء {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} [النساء: 15] فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه. ولكن بقيت في محلها، وأما العبد والأمة: فرأى أهل الظاهر أن حدّ الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وأن حدّ العبد الجلد مائة لعموم الآية، وقال غيرهم: يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة، إذا لا فرق بينهما، وأما المحصن فقال الجمهور: حدّه الرجم فهو مخصوص في هذه الآية، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخاً، ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ، فقيل: الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله: الشيخ والشيخة إذ زنيا فراجموهما البتة {نكالاً من الله والله عزيز حكيم} وقيل: الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب: يجلد المحصن بالآية، ثم يرجم بالسنة فجعوا عليه الحدّين، ولم يجعلوا الآية منسوخة، ولا مخصصة، وقال الخوارج: لا رجم أصلاً فإن الرجم ليس في كتاب الله، ولا يعتد بقولهم، وظاهر الآية الجلد دون تغريب، وبذلك قال أبو حنيفة، وقال مالك: الجلد والتغريب سنة للحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»، ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك، وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي: يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب، ويجرّد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} قيل: يعني في إسقاط الحدّ: أي أقيموه ولا بد، وقيل: في خفيف الضرب، وقيل: في الوجهين. فعلى القول الأول: يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح، وهو مذهب مالك والشافعي، وعلى القول الثاني والثالث: يكون الضرب في الزنا أشد، واختلف: هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟ فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم، واختلف في أقل ما يجزىء من الطائفة فقيل: أربعة اعتباراً بشهادة الزنا وهو قول أبي زيد، وقيل: عشرة، وقيل: اثنين وهو مشهور مذهب مالك، وقيل: واحد {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية: معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة، وينكح على هذا بمعنى يجامع، وقيل: معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانياً أو مشركاً، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا، والأول هو الصحيح {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} الإشارة إلى الزنا أي حرم على المؤمنين وقيل: الإشارة إلى تزويد المؤمن غير الزاني بزانية، فإن قوماً منعوا أن يتزوجها، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها وهو بعيد، وأجاز تزويجها مالك وغيره، وروي عنه كراهته.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
{والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} هذا حدّ القذف، وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي، والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد، وقيل: إن المعنى؛ يرمون الأنفس المحصنات، فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال.
ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والمقذوف والشهادة في ذلك، فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقاً، أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية، خلافاً لأبي حنيفة، أو النفي من النسب، ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافاً للشافعي وأبي حنيفة، وأما القاذف فيحدّ: سواء كان مسلماً أو كافراً لعموم الآية، وسواء كان حراً أو عبداً، إلا أن العبد والامة إنما يحدّان أربعين عند الجمهور، فنصفوا حدَّهما قياساً على تنصيفه في الزنا خلافاً للظاهرية، ولا يحدّ الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين، وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به، والتمكن من الوطء تحرزاً من المحبوب وشبهه، فلا يحدّ عنده من قذف صبياً أو كافراً أو محبوباً أو عبداً ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل: يحدّ من قذف واحداً منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رُمي به وأما الشهادة التي تسقط حدّ القذف، فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبد أو كافر أو يشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمردود في المكحلة، ويؤدون الشهادة مجتمعين {إِلاَّ الذين تَابُواْ} تقدّم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام، وهي الحدّ، ورد شهادة القاذف، وتفسيقه، فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق، وأن ذلك يزول عنه بالتوبة، واتفق على أنه لا يرجع إلى الحدّ وأنه لا يسقط عنه بالتوبة، واختلف هل يرجع إلى ردّ الشهادة أم لا: فقال مالك: إذا تاب قبلت شهادته، خلافاً لأبي حنيفة، وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقبل إكذاب نفسه.

.تفسير الآيات (6- 8):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}
{والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك، وسببها «أن رجلاً قال يا رسول الله: الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقلته فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فسكت عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال مثّل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فأتني بها فأتى بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما».
وموجب اللعان عند مالك شيئان: أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني. والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله، فإذا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام: نفي حدّ القذف عنه، وانتفاء سبب الولد منه، ووجوب حدّ الزنا عليها إن لم تلاعن، فإن تلاعنت سقط الحدّ عنها، ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم، وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزني، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني؛ ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وزاد أشهب أن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو، وانتصب: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم وقرأ بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم، وقوله: {بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم {والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني، وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة، أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع، وقرئ أن لعنه، وأن غضب: بتشديد أن، ونصب اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} العذاب هنا حدّ الزنا، أي يدفعه التعان المرأة، وهي أن تقول أربع مرات: أشهد بالله ما زنيت، وإنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول في الخامس: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحدّ عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة.

.تفسير الآية رقم (10):

{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} جواب لو محذوف هنا وفي الموضع الآخر تقديره {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} لأخذكم، أو نحو هذا.

.تفسير الآية رقم (11):

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)}
{إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} الإفك: أشدّ الكذب، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ست عشرة آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك، وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها، وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها، ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها، والكرامة لها والتشديد على من قذفها.
وقد خرج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما، واختصاره «أن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس، فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل، فرآها فنزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وسأل جارية عائشة، فقالت: والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر».
والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت، قيل: إن حسّان لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن، واختبار ابن عطية أن يكون عصبة بدلاً من الضمير في جاؤوا، ويكون الخبر {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} على تقدير: إن حديث الذين جاؤوا بالإفك، والأول أظهر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} خطاب للمسلمين، والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {والذي تولى كِبْرَهُ} هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين، والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحدّ أو عذاب الآخرة.

.تفسير الآية رقم (12):

{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}
{لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} لولا هنا عرض، والمعنى أنه: كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد في حقهم، فهو في حق عائشة أبعد لفضلها، وروي أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري، فقال لزوجته: أكنت أنت تفعلين ذلك، قالت: لا والله، قال فعائشة أفضل منك؟ قالت: نعم، فإن قيل: لم قال: {سَمِعْتُمُوهُ} بلفظ الخطاب، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله: {ظَنَّ المؤمنون}، ولم يقل ظننتم؟ فالجواب أن ذلك التفات، قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان، الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شراً.

.تفسير الآيات (13- 14):

{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)}
{لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} لولا هنا عرض، والضمير في {جَآءُوا} لأهل الإفك، ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء {أَفَضْتُمْ فِيهِ} يقال أفاض في الحديث وخاص فيه إذا أكثر الكلام فيه.

.تفسير الآية رقم (15):

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)}
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} العامل في إذ قوله: {لَمَسَّكُمْ} أو {أَفَضْتُمْ}، ومعنى {تَلَقَّوْنَهُ}: يأخذ بعضكم من بعض، وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم في حديث الإفك، وإن كانوا لم يصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك بالكلية، فعاتبهم على ثلاثة أشياء، وهي: تلقيه بالألسنة: أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول والثاني: قولهم ذلك، والثالث: أنهم حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله: {بِأَلْسِنَتِكُمْ} وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب، إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}
{ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له، ولولا أيضاً في هذه الآية عرض، وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما، بقوله: {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها، والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به، وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه، ومعنى {مَّا يَكُونُ لَنَآ}: ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا.
{سُبْحَانَكَ} تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال أهل الإفك، وقال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر، والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال ما فيه.