فصل: تفسير الآيات (116- 118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (116- 118):

{وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} معطوف على ما قبله مما عطف على قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ}.
فهذه المساءلة لعيسى من اللّه تعالى، تكون يوم القيامة.. يوم يجمع اللّه الرسل.
وفى قوله تعالى: {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنما يراد به إقامة الحجة على أتباعه، الذين غيّروا معالم رسالته، وقلبوا حقائقها، واتخذوا من المسيح وأمه إلهين.. المسيح ابن اللّه، وأمه مريم زوجا للّه! وفى خطاب المسيح بقوله تعالى: {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} إشارة إلى الصفة التي هي له ولأمه.. فهو ابن مريم لا ابن اللّه، وأمّه أمة من إماء اللّه، لها ولد كما للنساء أولاد.
وفى سؤال المسيح: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أخذ اعترافه وإقراره على هؤلاء الذين ألبسوه وأمه هذا الثوب الإلهى، وعبدوهما من دون اللّه.
وفى هذا الإقرار خزى بعد خزى وإذلال بعد إذلال لهم، حيث يكشف المسيح عن وجهه ووجهه أمّه أمام هؤلاء الذين ضلّوا، ورأوا فيه وفى أمّه غير الحق.
ويواجه المسيح هؤلاء الذين كفروا باللّه، وجعلوا المسيح وأمه إلهين- يواجههم بما يخزيهم ويبهتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما: {سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} والذي ليس لى بحق هو أنى لست إلها ولا ابن إله، والذي هو لى بحق أنى عبد اللّه ورسوله.. فإن كنت قلت ما ليس لى بحق فقد علمته، وعلىّ تبعة هذا القول المنكر العظيم.. إن يكن قد كان منىّ.
وفى قوله: {تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} توكيد لما بين المسيح وبين الألوهية من بعد بعيد.. فلو أنه كان إلها لعلم ما يعلم اللّه، ولكنه لا يعلم حتى ما اشتملت عليه ذاته، وسكن في كيانه.. أمّا اللّه سبحانه فهو يعلم كل شيء.. لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض.
هذا وسنعرض لألوهية المسيح، ودعوى الذين يدعونها له في مبحث خاص، بعد ختام هذه السورة.
وفى جواب المسيح: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إشارة إلى أن المسيح مأمور، وأنه لا يقول شيئا من عنده، وإنما هو رسول يبلغ ما أمره به ربّه، وقد بلّغ رسالة ربّه، كما أمره بها: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}.
فالمسيح عبد للّه، كما أنهم عبيد له.. ومن كان عبدا للّه فليس له إلى الألوهية سبيل.
وقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} هو توكيد لبراءة عيسى مما تقوّله عليه أتباعه، وأنه كان عليهم شهيدا مدّة وجوده معهم، يقوّم انحرافهم، ويصحح معتقدهم، فلما قبضه اللّه إليه، انقطع اتصاله بهم، وبما أحدثوا بعده من هذه المعتقدات الفاسدة فيه، وفى أمّه.. وأنه إذا كان المسيح لم يعلم شيئا مما أحدثوا من بعده، فذلك ما لا يغيب عن علم اللّه، فقد علمه اللّه منهم، وأحصاه عليهم، وهاهم أولاء بين يديه يلقون جزاء ما صنعوا.
والشهيد: من يرى ما يقع في محيط حواسه.. مما يدانيه ويختلط به.
والرقيب: من يرى من مكان عال، وهو المرقب، حيث ينكشف له ما لا ينكشف لغيره.
ولهذا كان التعبير في جانب المسيح، بالشهيد، والتعبير في جانب اللّه، بالرقيب.. وهذا تمثيل، وللّه سبحانه وتعالى المثل الأعلى.
ثم كان من تمام هذا التمثيل قوله: {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي تطلع على كل شيء قريب وبعيد، ظاهر وخفى، اطلاع شهادة وحضور.
وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هو تفويض للّه سبحانه وتعالى للقضاء في أمر هؤلاء، الذين حملوا أوزارهم على ظهورهم، وأحاطت بهم خطيئتهم.
فإلى اللّه سبحانه وتعالى أمرهم، لا شفاعة لأحد فيهم.
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} وصنعة يديك، وربائب نعمتك، وغرس فضلك.. وليس لأحد أن يشارك المالك في تصرفه فيما ملك.
{وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} لا يسألك أحد لم غفرت لهؤلاء العصاة الظالمين.. فما غفرانك لهم عن عجز أو قصور أن تنالهم يدك، ويأخذهم عقابك، وإنما هو حلم الحليم، وحكمة الحكيم.. فعن قدرة عفا وغفر، وعن حكمة كان هذا العفو وتلك المغفرة.
سمع أعرابى قارئا يقرأ: {إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} فأنكر ما سمع، وقال ما هذا كلام اللّه، إذ ينقض آخره أوله.. فأعاد القارئ قراءة الآية على وجهها: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فقال الأعرابى: نعم هذا كلام اللّه.
عزّ فحكم، فإن شاء عفا وغفر!!

.تفسير الآيات (119- 120):

{قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}.
التفسير:
هذا ختام الموقف، وتلك كلمة الفصل من رب العزة جلّ وعلا، في مجمع الرسل والأمم يوم القيامة.
ففى هذا اليوم العظيم يجد الصادقون الذين أخلصوا دينهم للّه، ولم يحرّفوا ولم يبدلوا في دين اللّه- يجدون عاقبة هذا الصدق، مغفرة ورحمة ورضوانا في جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. لا يتحولون عنها، ولا ينتقلون إلا من نعيم إلى نعيم فيها.
{رضى اللّه عنهم} بما كان منهم من صدق في القول والعمل، {ورضوا عنه} بما أحسن إليهم من جزاء، وأفاض عليهم من نعيم.. و{ذلك هو الفوز العظيم} الذي تعدل اللحظة منه عمر الدنيا كلها، وما لقى المنعّمون فيها من نعيم، وما ذاق السعداء فيها من طعوم السعادة. فكل هذا، لا يعدّ شيئا إلى نظرة رضى من اللّه إلى من رضى اللّه عنهم، جعلنا اللّه منهم وأدخلنا في زمرتهم، وأرضانا بما أرضاهم، بما تبلغه بنا سوابغ رحمته، وتؤهلنا له أمداد مننه وأفضاله.
وفى قوله تعالى {وَرَضُوا عَنْهُ} لفتة كريمة من ربّ كريم، إلى عباده المكرمين، حيث يرضى عنهم وبرضون عنه، حتى لكأنه رضى متبادل بين الخالق والمخلوقين، والمعبود والعابدين، فسبحانه من ربّ كريم، برّ رحيم.
شاهت وجوه من يتجهون إلى وجه غير وجهه، وخسئ وخسر من يلوذون بجناب غير جنابه. ويطوفون بحمى غير حماه.
وقوله سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قولة حق ينطق بها الوجود كله في هذا اليوم، ويشهد تصريفها الناس عيانا في هذا اليوم المشهود، حيث تخشع الوجوه للحىّ القيوم، وتخفت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وحيث تذلّ جباه الجبابرة، وتغبر وجوه الظالمين، وحيث ينادى منادى الحق: {لمن الملك اليوم} فإذا رجع هذا النداء، هو هذا الوجود كله لسان بسبّح بكلمة الحق: {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.
مبحث في المسيح الإله والمسيح الإنسان:
نعرض في هذا البحث قضية الألوهية، التي ادّعاها المدّعون للمسيح، وآمنوا عليها، وأقاموا لها منطقا استساغوه، وغذّوا منه مشاعرهم، وترضّوا به عواطفهم.
وسبيلنا في عرض هذه القضية، هي أن نلقاها لقاء بعيدا عن النصوص الدينية، التي يقيمها أصحاب هذه الدعوى شاهدا على ما يدّعون، وبمنأى كذلك عن النصوص الدينية التي جاء بها القرآن الكريم لدحض هذه الدعوى.
وإسقاط كل حجة لمدعيها.
ذلك لأن تعارض هذه النصوص حول تلك القضية في جانبى الإثبات والنفي، لا يتيح لمن يقف موقفا محايدا من هذه القضية سبيلا إلى الحكم فيها، إذا هو أخذ بتلك النصوص المتعارضة، وجعل لها عنده الاحترام والولاء، الذي يمسكها عليه أصحابها. من طرفى الخصومة في هذه القضية.
إذن، فالعقل، والعقل وحده هو الحكومة التي يرجع إليها للقضاء في هذه القضية، أولا.. ثم إذا كان للنصوص الدينية بعد هذا التقاء مع العقل والمنطق أخذ بها كشاهد يؤيد العقل ويزكّى منطقه، وإلّا انفرد العقل بالحكم الذي يطمئن إليه، ويعيش معه في تلك القضية على وفاق ووئام، وبهذا يحتفظ الإنسان بوحدته، فلا يكون شعوره الديني في ناحية، واتجاهه العقلي في ناحية أخرى.. فذلك أشأم بلاء يبتلى به الإنسان في مسيرة الحياة.
العقل في مواجهة المسيح:
وإن العقل إذ يواجه المسيح، فإنما يواجه منه شخصية تاريخية، لها وجود مادى محقق، رآها الناس رأى العين، كما يرون أنفسهم.. فالمسيح هو يسوع الذي ولد في قرية الناصرة من مقاطعة الجليل، بأرض اليهودية، من بلاد الشام، وأمه مريم، وأبوه الذي ولد على فراشه، ونسب إليه، هو يوسف.
وكان مولده إبان حكم الرومان لبلاد الشام في السنة الثالثة أو الرابعة أو السابعة قبل الميلاد، على خلاف في تحديد السنة التي ولد فيها.
والتاريخ يتحدث عن يسوع أنه ولد ميلادا طبيعيا، حملت به أمّه مدة الحمل المعتاد للناس، فاحتواه رحمها تسعة أشهر، وأرضعته من ثدبيها، وكفلته كفالة الأمهات لأطفالهن. ثم كان له صبى، وشباب، وكهولة، وطريق في الحياة يسلكه، ورسالة يقوم عليها، وأنه في سبيل هذه الرسالة- شأنه شأن أصحاب الرسالات- قد دخل في صراع مع القائمين في طريقه، والمتصدين لرسالته، حتى انتهى به الأمر إلى الموت صلبا! هذا هو مجمل الصورة التي تقع لعينى من يطالع حياة يسوع المسيح ويقرأ ما سطر التاريخ من سيرته! إنه إنسان قبل كل شيء، وفى كل شيء؟ لم تفكر أمّه التي امتزج دمها بدمه، ولحمها بلحمه، وخالطت روحها روحه، وأنفاسه، لم تنكر شيئا من أمره، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات من أبنائهن، وإن كانت مخايل النبل، والطهر والحكمة تفوحان من أردانه! إنه بكرها، وواحد من أولادها، الذين استقبلتهم بعده!.. ولو أنها رأت فيه شيئا لم تعرفه الأمهات في أبنائهن لأنكرته، أو لأنكرت نفسها، ثم لكانت منها نفرة من الاتصال برجلها يوسف ومعاودة الحمل والولادة! فهو- أي عيسى- إن يكن إلها فقد ولدته، ولا يعقل أن تلد إلها أو آلهة غيره.. وإن يكن خلقا آخر، غير الإله، وغير البشر. فلن تطاوعها نفسها على الدخول في تجربة جديدة، تلد بها أعجوبة أخرى! ولكنها إذ لم تنكر من وليدها يسوع شيئا، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات في أطفالهن، مضت في طريقها، طريق الأمومة، الذي تسلكه الأمهات! واتصلت برجلها يوسف فولدت منه بنين وبنات!! أين يضع العقل المسيح؟
والعقل إذ يواجه المسيح، وإذ يلقاه على هذا الوجه الذي عرفته الحياة منه، وسجله التاريخ له- لا يمكن أن يخرجه عن دائرة البشرية، أو يعزله عن عالم الإنسان.
والمسألة هنا هى: أين يأخذ المسيح مكانه من الناس، وأين المكان الذي ينزله العقل فيه؟
وهنا نرى المسيح يأخذ أوضاعا مختلفة، وينزل منازل متباينة.
حسب وزن العقول له، وتقديرها لشخصيته، وحسابها لمقومات تلك الشخصية! وإذن فلا نستبعد أن نرى المسيح يأخذ مكان القمة من الإنسانية، كما لا نستغرب إذا رأيناه ينزله منزلة الحضيض فيها.. ففى هذا الفراغ الهائل، بين السطح والقاع، يتحرك الناس، وفيه يتقلّبون، بحيث يملأ بهم هذا الفراغ كلّه! والمسيح- في هذه النظرة- واحد من آحاد الناس، وللناس أن ينزلوه فيهم بالمكان الذي يرونه.. صعودا، ونزولا.. مغالين، أو مقتصدين، أو ظالمين.. دون أن يخرج في هذا كلّه عن دائرة الإنسانية، أو يتعدّى حدودها! فكل قول يقال في المسيح، مما يقع في محيط الإنسانية، يمكن أن يوضع موضع البحث والنظر، وأن يعتبر في معرض القبول والتسليم.. فإذا قال فيه قوم إنه نبىّ أو صدّيق.. لم يكن هذا القول مستحيلا.. إذ في الناس الأنبياء والصدّيقون! وإذا قال قوم إنه فارس مغوار، أو فيلسوف عظيم، أو عالم كبير.
لم يكن هذا القول مستحيلا أيضا، إذ في الناس الفرسان والفلاسفة والعلماء! وإذا قال قوم إنه مشعوذ محتال.. لم يكن هذا القول مستحيلا كذلك، لأن في الناس المشعوذين والمحتالين! وهكذا كل قول يقال فيه، مدحا أو ذمّا، مما هو واقع في عالم البشر، لم يكن مستحيلا، ولا مستغربا.. والبحث، والنظر، هو الذي يكشف عن صدق أو كذب كل ما يقال فيه، ويمخض ما فيه من حق أو باطل.
ماذا عن المسيح اللّه؟
فإذا جاء إلى الناس من يقول لهم: إن يسوع هذا الذي رأيتموه أو سمعتم أخباره، والذي عرفتم من أمره أنه لم يكن إلا بشرا سويا.. في هيأته وملامحه، وفى طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وفرحه وحزنه، ورضاه، وسخطه، وفى كل ما تعرفون من شئونكم، وما تتقلّبون فيه من حياتكم يسوع هذا، هو اللّه رب العالمين! عاش تلك الفترة المحدودة من الزمان وفى هذا الوضع المحدود من المكان في مسلاخ الإنسان يسوع وفى جسده.
ثم ترك هذا الجلد، وزايل ذلك الجسد، وارتفع إلى ملكوته- نقول إذا جاء أحد يقول للناس هذا القول، في شأن المسيح، أو في أي إنسان غيره من الناس على طول الإنسانية وعرضها، فبأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول، وبأى عقول يلقونه؟
ولنذكر أننا بمعزل عن مقولات الكتب المقدسة في أمر المسيح وأننا إنما نواجه المسيح من خارج الدائرة العقيدية، وأننا إنما ننظر إليه كظاهرة إنسانية، كان لها في حياة الناس- ولا يزال- دور كبير، دارت وتدور حوله شئون لهم وشئون!.
ونعيد سؤالنا مرة أخرى: بأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول الذي يقال في المسيح الإله، وبأى عقول يلقونه؟
ولا نتكلّف لهذا السؤال جوابا، فالجواب حاضر، نأخذه من فم التاريخ الذي يحدّث عن أعداد كثيرة من الناس قد لبسوا أثواب الآلهة، أو ألبسوا هذه الأثواب.. ويحدث التاريخ- قبل المسيح وبعده- أن الناس انخدعوا لهذه الآلهة، وآمنوا بها، وأنزلوها من قلوبهم وعقولهم منزلة الإله الذي يؤمن به المؤمنون باللّه! ففى مصر، والهند، وفارس، وفى بلاد اليونان والرومان، دان الناس أحقابا طويلة للالهة البشرية.. من فراعنة، وقياصرة وأباطرة، وهراقلة، وعبدوهم عبادة المؤمنين للّه رب العالمين.. ولا زالت بقايا هذه الظاهرة باقية ممتدة في القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كان امبراطور اليابان الإله المعبود من دون اللّه، في أمة بلغت من الحضارة والمدنية حظّا كاد يجعلها على رأس العالم المتحضر في هذا العصر! وفى التاريخ الإسلامى ادّعى المدعون ألوهية علىّ رضى اللّه.. وكادت تكون فتنة، لولا أن صدمتها العقيدة الإسلامية صدمة قاتلة، بيد علىّ نفسه، الذي أرادوا أن يلبسوه ثوب الإله.!
ويحدث التاريخ الإسلامى أيضا أن المقنّع الخراسانى،- واسمه عطاء- كان صاحب فرقة من فرق الشيعة، وكان مشعوذا، قد بلغ به الأمر أن ادعى الألوهية لنفسه، وكان لا يسفر عن وجهه، وقد اصطنع لذلك وجها من ذهب، تقنع به، فسمى المقنع.. وكانت له شعوذات خدع بها الأغرار من الناس، فتبعه خلق كثير، مما وراء النهر، وآمنوا بألوهيته، وكادت تكون فتنة.
ولما اشتهر أمره ثاروا عليه، وقصدوه الناس في قلعته التي اعتصم بها، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما، فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات أيضا، وذلك في سنة ثلاث وستين ومئة هجرية.
وراءه! وبهذا الشعور خلق الفنانون الأساطير، ونسجوا الخرافات، التي كانت المورد الذي تتزاحم عليه الإنسانية، وتروى منه أشواقها ومواجدها، وتغذّى به آمالها وأحلامها.
وإذ طلع عصر العلم التجريبى على الناس واستقامت العقول على منطق التجربة، وحكم الواقع المادىّ- لم يعد للقوى الغيبية هذا السلطان المتسلط على العقول والقلوب، ولم يعد في الناس من تستهويه هذه القوى، أو تحمله على الوقوف طويلا عندها.. فإن يكن للناس مع هذه القوى وقفة في هذا العصر، فهى وقفة اللاهي العابث، الذي يلتمس التخفف من ضغوط المادة، وثقل الواقع.
ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه إلى عالم المادة والواقع، الذي يتقلب فيه، ويتعامل معه! ولهذا، فإن أي لباس يلبسه الإنسان اليوم غير جلده البشرىّ، وثوبه الإنسانى، لا يمكن أن يحجب أعين الناس عن حقيقته، أو أن يخيّل إليهم منه أنه غير إنسان!! فقد يلبس الناس على المسارح جلود الحيوانات، وأثواب الشياطين، والجن والآلهة.. ثم هم مع هذا في أعين المتفرجين أناس كسائر الناس.. وأن هذه الأثواب، وتلك الأصباغ أشياء مستعارة.. لا تغير ولا تبدّل من الحقيقة الواقعة شيئا.
ولا يخرج الحال بأولئك الذين يدّعون لأنفسهم، أو يدّعى لهم أنهم من طينة غير طينة الناس، ومن جلود غير جلود الناس- لا يخرج بهم الحال عن تلك الصّور المتغايرة التي يلبسها الممثلون والمهرجون! إن الناس قد استقلّوا اليوم بعالمهم الأرضى، وأجلوا عنه كل قوى غيبية كانت تعيش مع أسلافهم فيه، وتتحكم في مصائرهم، وتبدل من أحوالهم!
وأنهم إذا شاقهم لقاء تلك القوى الغيبية أطلعوها بقدر، للتسلية والترفيه، ثم أرسلوها لتعود من حيث جاءت! والسؤال هنا هو: ترى لو جاء اللّه إلى الناس اليوم في صورة إنسان من الناس، يعرفون وجهه، وليدا وطفلا، وصبيا، وشابا، وكهلا.. ثم دعاهم هو، أو دعاهم داع غيره إلى الإيمان به إلها، والتعبد له ربا- أكان يجد من الناس أذنا صاغية، وقلبا واعيا، لتلك الدعوة؟ ربما كان بعض الأغرار، وأصحاب الأهواء والبدع، ممن تستهويهم المواقف الشاذة، وتروقهم الانحرافات والشطحات- ربما كان بعض هؤلاء وأولئك يلتفتون إلى هذه الدعوة، ويستجيبون لها.. ولكنهم مهما بلغ عددهم، يظلون في عزلة عقلية واجتماعية عن المجتمع الإنسانى العصرى.. لا ينظر إليهم الناس إلا نظره الشذاذ الخارجين على الجماعة الإنسانية! ينكرهم الناس أينما التقوا بهم.. ثم لا يلبث أمرهم أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه كل أمر لا يقوم اليوم على واقع التجربة، ولا يستند إلى برهانها! والصورة التي ظهر بها يسوع المسيح وإن تشابهت مع هذا التصور في بعض ملامحه، إلا أنها تخالفه من وجهين:
الوجه الأول: هو أن المسيح ظهر في عصر غير هذا العصر.. في عصر كانت فيه صور الآلهة البشرية تعيش في تفكير الناس، وفى أحلامهم، لا ينكرونها إذا هي التقت بهم، وتحدثت إليهم.. فلطالما التقى آباؤهم بالآلهة، وتحدثوا إليهم وتعبّدوا لهم، ولا تزال وجوه هذه الآلهة وأشباحها تطلّ عليهم من قريب!.
والوجه الثاني: هو أن ألوهية المسيح لم تعلن إلى الناس وهو حىّ قائم فيهم، حتى كان يمكنهم أن يعيدوا النظر إليه، ويملئوا عيونهم منه، وهم يلتقون به على تلك الصفة.. وإنما كان ذلك بعد أن انتهي المسيح تلك النهاية المعروفة.
فقيل للناس بعد هذا: إنه بعد أن صلب عاد إلى الحياة.. وصعد بعد أربعين يوما إلى ملكوته السماوي الذي نزل منه! وهنا تكثر الأحاديث عن المسيح وعن شخصيته! إنه ليس مجرد إنسان! وشاهد ذلك معجزاته الكثيرة التي عرفها الناس منه في حياته.
وإنه ابن اللّه!.. وشاهد هذا أنه ولد من عذراء! فليس يوسف النجار أباه، وإنما هو زوج أمه! وإنه هو اللّه ذاته! شاهد ذلك أنه أمات نفسه ثم أحياها.. واللّه وحده هو الذي يحيى ويميت، ويميت ويحيى! يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ! وهكذا استدبر الناس حياة المسيح إلها، بعد أن استقبلوا حياة المسيح إنسانا بشرا! وبهذا لم يكن للشاهد أكثر مما للغائب في شأن البحث عن ألوهية المسيح والتحقق منها.. إذ أن الذين شاهدوا المسيح لم يكن يقع لتفكيرهم أنهم يعيشون مع إله، ويتحدثون أو يستمعون إلى إله.. وإنما هم مع إنسان، وإن عظم في الناس أمره، وسما قدره.. فهم والذين لم يروه على سواء، في التحقق من الصفة الجديدة التي كان عليهم أن يروه من خلالها.. إنهم يستعيدون ذكريات، ويتذكرون أحداثا، على حين يطالع غيرهم- ممن غاب عنهم شخص المسيح- تلك الذكريات، وهذه الأحداث، مسطورة في كتب، مصورة في رسائل! وأين الإله إذن في هذا الإنسان يسوع؟
إن أحدا لم يره إلها، ولم يتعامل معه كإله، وإلّا كانت قد دارت الرءوس وجنّ جنون الناس!
فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخريجات وتأويلات، لذكريات وأحداث، وأخبار، عن تلك الذكريات وهذه الأحداث! فاللّه الذي تجسد في يسوع المسيح لم يعلن نفسه للناس الذين ظهر فيهم وولد وعاش، وصلب، وقام من الأموات بينهم! وإنما كان هذا الإعلان بعد أن ترك اللّه هذا الجسد، وزايل هذا المكان الذي كان فيه! هذه واحدة! وأخرى، يقف العقل إزاءها متسائلا:
لماذا ظهر اللّه في هذا الجسد المحدود؟ في هذا الزمن المحدود؟ في هذا المكان المحدود؟
إنه لو كان يريد أن يكشف ذاته للناس لكان غير ذلك أولى به وأجدى!! كان ينبغى مثلا أن يظهر ظهورا متجددا متكررا.. في أجساد كثيرة، وفى أمكنة متعددة، وفى أزمنة متجددة، حتى يستطيع الناس أن يأخذوا جميعا حظهم من هذا الإعلان.. إن كان لهذا الإعلان حكمة، وكان له أثر! ولابد أن يكون له حكمة وأثر، وإلا لما كان هناك داعية له.
إن مثل هذه الاعتراضات قد دارت في كثير من الرءوس التي واجهت تلك المقولات التي تقال في المسيح، وفى تجسد اللّه في الجسد الذي اتخذه من عذراء! وقد أجاب عليها الذين آمنوا بهذه المقولات، ورضوا بها واطمأنوا إليها.
وإنه لا بأس من أن نعرض هنا نماذج من تلك الاعتراضات، ودفع المعترضين عليها، ثم تعليقنا على هذه الدفوع.
اعتراض:
إن الأنبياء كانوا يقومون بإعلان اللّه للبشر وهدايتهم إليه.. لذلك لم يكن هناك داع لأن يقوم اللّه تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده! فما تأويل هذا؟.
وجواب: إن الأنبياء لم يعلنوا للبشر ذات اللّه، بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم.. إذ فضلا عن أنهم مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلا لإعلان ذات اللّه، فهم أيضا محدودون في ذواتهم، والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض التجسّد لم يكن مجرد إعلان ذاته لليشر، بل الظهور بينهم بحالة مدركة لهم، لكى يستطيعوا معرفته والاقتراب منه، والتوافق معه- اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقا.
والذي يرد على هذا الاعتراض هو رجل من رجال الدين المسيحي! وعالم من علماء المسيحية.
ألا يكون هذا إعلانا واضحا عن اللّه؟ ثم ألا يكون فيما يجيء به رسل اللّه وأنبياؤه من دعوات تكشف عن هذا الوجود، وتجلّى للأبصار والعقول ما غشّى عليها الجهل والضلال منه- ألا يكون في هذا ما يكشف للناس عن وجود اللّه، وعظمة اللّه، وجلال اللّه، حتى يجيء اللّه نفسه للناس ليقول لهم: ها أنا ذا؟
اعتراض آخر.. يقول: إن التوافق مع اللّه لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله، ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد اللّه.. إذ أنه موجود في كل مكان.. وفى أقواله لنا ما يكفى نفوسنا لإدراك كل شيء عنه وبالتالى للتوافق معه! وجواب: حقا إن التوافق مع اللّه لا يتوقف على رؤية العين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله.. لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئا عن اللّه من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعا لا، لأن النفس كما قلنا محدودة، واللّه غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته غير المحدود، لذلك كان من البديهي أنه إذا أراد اللّه أن يجعل ذاته مدركا لنفوسنا- وعمل مثل هذا يتفق مع ذاته وصفاته كل الاتفاق- أن يظهر لنابهيئة محسوسة، نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هي الهيئة التي تنازل واتخذها، له المجد!.
وتعليق: هذا الجواب ليس بالذي يسدّ هذه الثغرة التي أوجدها الاعتراض، الذي يجاب عليه بهذا الجواب! فإذا كان الإيمان باللّه لا يكمل ولا يتم بمجرد السمع أو القراءة عن اللّه، بل لابد من رؤيته مجسسدا، فمعنى هذا أن جميع الذين لم يروا اللّه مجسدا في المسيح هم على تلك الصفة.. إيمانهم ناقص، لا يتم إلا برؤية اللّه مجسدا في المسيح، ومعنى هذا أيضا أن إيمان جميع الذين سبقوا المسيح من الأنبياء والرسل وأتباعهم إيمان ناقص، وكذلك إيمان أتباع المسيح جميعا الذين لم يروه رأى العين! فما الجواب؟ وأظن لا جواب! اعتراض ثالث: إن كان ولابد من تجسّد اللّه.. فلما ذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟ وجواب: إن غرض اللّه من التجسد، لم يكن لإظهار عظمته، أو إثارة وإعجاب الناس به لأن تصرفا كهذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب في تعظيم الناس له بل هو جمعهم حوله لكى يمتّعهم بحبّه وعطفه، ويخلصهم من خطاياهم وضعفتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة، وبما أنه لو كان تعالى قد ظهر لهم بهيئة تناسب مجده الأزلى لارتعب الناس منه، ولما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه- كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهى الهيئة البشرية، لكى تتحقق أغراضه هذه، كما أنه لو كان قد تجنب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهؤلاء- كما نعلم- هم السواد الأعظم من البشر، وهم في جملتهم أكثر من الأغنياء استعدادا لمعرفته والسير في سبيله، لذلك كان من البديهي أيضا ألا يظهر بأى مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية كذلك، بل يظهر بالمظهر العادي، الذي ظهر به فعلا، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به، والإفادة منه.
وتعليق وهذا الجواب أيضا أبعد من أن يدفع الاعتراض المعترض به.
فاللّه إذ ظهر هذا الظهور الذي هو أقرب إلى الخفاء والتستر، منه إلى أي شيء آخر، إذ لم ير الناس- الذين رأوه شيئا منه.. إنهم لم يروا إلا إنسانا.
مجرد إنسان يقال عنه، أو قيل عنه- فيما بعد- إنه هو اللّه! فأين اللّه الذي رآه الناس على أنه اللّه- وأين الناس الذين رأوه على تلك الصورة؟ لا جواب!.
ثم إن الذين رأوه، هم قلّة في الناس، لا يكادون يذكرون إلى تلك الأعداد التي لا حصر لها من الذين لم يروا المسيح، ولم يضمهم إليه، ويمتعهم بمحبته! واعتراض رابع: إذا كان المسيح هو اللّه.. فلما ذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس، حتى يؤمنوا جميعا به؟.
وجواب: لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم، لكانوا قد اعتبروه محترفا ومدعيا، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقا.. لكن شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته، من حياته، وأعماله، لكى لا يكون إيمانهم به نظريا أو سماعيا، بل إيمانا اختباريا عمليا.
ومع كل فقد أعلن السيد المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكّون في شخصيته، أو لا يستطيعون الكشف عنها فقد قال مرة لأعمى كان- له المجد- قد شفاه: أتؤمن بابن اللّه؟ فلما سأله هذا: من هو يا سيد لأومن به؟ أجاب له المجد: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو فقال له الأعمى: أو من يا سيد، وسجد له.
وتعليق: المسيح، كما هو ظاهر من هذا القول، لم يعلن أنه هو اللّه، بل قال إنه ابن اللّه.
وللبنوة هذه معنى كان معروفا عند الناس إذ ذاك في الكتب المقدسة.. وطبيعى أن هذا الأعمى لم يكن عنده علم بالأقانيم الثلاثة التي يمثل الابن وجها من وجوه اللّه بها.. والتي عرفت بعد ذلك بزمن طويل.
فإذا اعترف بأن المسيح ابن اللّه، كان اعترافه بأن المسيح ذات مستقلة عن اللّه.. فالمسيح ابن، واللّه أب.. والأب غير الابن.
أما القول بأن المسيح لم يعلن عن ألوهيته حتى يختبرها الناس في أعماله وآثاره، فقد كانت نتيجة هذا الاختبار هو صلب المسيح كما يؤمن بذلك الذين آمنوا بألوهيته.. وهى نتيجة ناطقة ببطلان هذا القول.
واعتراض خامس: إن كان ولابد من تجسد اللّه، فلما ذا لم يظهر في العالم رجلا كامل النمو، بدلا من ولادته من امرأة، ومروره في أدوار الطفولة والصبا، التي لم يفعل فيها شيئا مذكورا؟.
وجواب: إن السنّة التي وضعها اللّه للأفراد والجماعات هي النمو والتقدم، وبناء على ذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح- وقد رضى أن يكون إنسانا- طفلا، يتدرج في النمو، قامة وعقلا، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعيا، تتهيأ بسببه لقبول المسيح والاستماع إليه.
كما أننا إذا وضعنا قبلة أنظارنا أن غرض اللّه من التجسد لم يكن مجرد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، لكى يكون الرأس الفعلى أو الحقيقي لجنسنا (عوضا عن آدم الأرضىّ الذي بانتسابنا إليه، وتوالدنا منه قد ورثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدى) حتى نستطيع بدورنا أن نتحد باللّه اتحادا عمليا حقيقيا- اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر دون أن يأخذ جسدا من جنسنا، لكان قد ظل غريبا عنا، ومفارقا لنا، وبالتبعية لما كان رأسا لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به، لكن بتفضله بالولادة من جنسنا، قد اتحد بنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به، اتحاد الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية بالتجسد.
وتعليق: لقد انحرف هنا الجواب أيضا عن الرد المباشر على الاعتراض.
وهو لما ذا لم يظهر اللّه حين تجسد، رجلا كامل النمو، بدلا من أن يمر في تلك الأدوار التي مرّ فيها.؟ وقد أجاب المجيب إجابة متهافتة، وإذ شعر بهذا، فقد اتجه اتجاها آخر بالإجابة على هذا الاعتراض، وهو أن اللّه قد اتحد بجنسنا لكى نتحد نحن به، لأن الجنس أشكل بجنسه! وكان على المتصدّى للرد على هذا الاعتراض أن يعلل لتجسد اللّه- لا في جسد إنسانى وحسب- بل وبمرور هذا التجسد في جميع أدوار الحياة الإنسانية من الميلاد إلى الممات.! ولو أنه فعل لوجد أن المسيح الذي تجسد اللّه فيه قد مات شابا، فلم يمرّ في أدوار الكهولة، والشيخوخة! وكان منطق الردّ يقضى بأن يمر المسيح أو اللّه المتجسد في المسيح، في جميع هذه الأدوار، حتى يلبس الإنسانية كلها، وبهذا يمكن أن يكون رأسا لها! ثم ماذا يقول المجيب على هذا الاعتراض، عن حياة المسيح في رحم أمه، ثم في دور طفولته، وهو في قيد الضعف والعجز، لا يملك من أمر نفسه شيئا...؟
واعتراض سادس: إذا كان المسيح هو اللّه.. فلما ذا ظهر في أماكن محدّدة، ولم يظهر في جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس، ويؤمنوا به؟
وجوابه: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن باللّه إيمانا خالصا من كل زيغ، هو الشعب اليهودي، ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه اللّه المتأنّس، بين اليهود لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به!.. وكان من البديهي أيضا أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان، ولكن لما رفضوه على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته- اختار من بينهم أشخاصا كانوا أكثر استعدادا من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة في تدريبهم وتعليمهم، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة، ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته، ليس إلى اليهود وحدهم، بل إلى كل الأمم (متى 28: 18) وهذا يناقض ما نطق به المسيح: إلى أمم لا تمضوا [متى 10: 5]وإذا أضفنا إلى هذا: أولا: أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح لم يره كل شخص من سكانها، بل إن كثيرين لم يروه إطلاقا، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم لكان كثيرون أيضا من سكانها لا يرونه. وثانيا أن معرفة اللّه في المسيح لا تتوقف على رؤية العين، بل على الإيمان به بالقلب، وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه، إذا كانوا قد آمنوا به!! ويستوى الذين رأوه والذين لم يروه إذا كانوا لم يؤمنوا به!.
وتعليق: ونقف عند هذا المقطع الأخير من الجواب.. ونسأل: إذا كانت معرفة اللّه لا تتوقف على رؤيته بالعين، بل على الإيمان به بالقلب- وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه من المؤمنين به وغير المؤمنين- فلما ذا إذن هذا التجسد للّه؟ وما حكمته، إذا كان يستوى في ذلك الذين رأوه والذين لم يروه؟ ثم لم هذه البلبلة وهذا الاضطراب، وهذه الفتن التي تجيء من وراء القول بتجسد اللّه؟ وإن أقلّ ما فيه أنه يفتح باب الادعاء على مصراعيه، لكل من يدّعى أنه اللّه، وأن اللّه قد تجسّد فيه! وفى هذا ما فيه من التعمية على الناس، والتشويش على المؤمنين باللّه!؟
واعتراض سابع: إن تجسد اللّه، إما أن يظل إلى آخر الدهور، فتدوم فوائده، وإما أن يكون مؤقتا، وحينئذ لا يكون هناك مبرر لتمتع جيل خاص برؤيته في الجسد، دون غيره من الأجيال.
وجوابه: بما أنه مع ظهور اللّه في الجسد في العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، استمر معظمهم في شرورهم وآثامهم. وبما أنه تعالى يريد أن يكون الإيمان به مقترنا كل الاقتران بحياة القداسة.. وبما أن حياة القداسة لا تتأتّى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة اللّه، بل بواسطة الاتصال الروحي به.. وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية، بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية- إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب في أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها في العالم (وهذه والحمد للّه-يقول المؤلف-: كانت كافية كل الكفاية لإثبات شخصيته، وإظهار محبته للبشر أجمعين، حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية، بل العلاقة الروحية...).
والتعليق: وإذن فقد كان ظهور اللّه متجسدا في تلك المدة المحدودة، في الزمان والمكان- كان ذلك لمجرد إثبات شخصيته! ولكن لمن؟
لجماعة معدودة من الناس.. في جيل محدود من أجيالهم، وفى رقعة محدودة من أوطانهم.. وإذن فقد كان على اللّه أن يقدّم بطاقة شخصية إلى كل إنسان، في كل زمان، وفى كل مكان.. وإلا كان من حق الناس أن يجهلوه ولا يعترفوا به! مشكلات كثيرة أثارها تجسّد اللّه في المسيح.. في إنسان معروف للناس، رأوه رأى العين، يعالج من شئون الحياة ما يعالجون، ويأتى ما يأتون، ويذر ما يذرون.. ثم يعود فيطلع عليهم من عالم الأموات، فإذا هو اللّه رب العالمين!! كان يمكن أن تكون هذه الدعوى أكثر احتمالا، وأقرب إلى الواقعية لو أن الناس قد التقوا بدعوى ألوهية المسيح حال حياته، حيث يتاح لهم النظر إليه من قرب، واختبار أحواله عن واقع.. وأدخل من هذا في باب الاحتمال والواقعية لو أن المسيح لم يلتق بالناس ولم يلتق به الناس إلا رجلا كاملا، لم يروا فيه ضعف الطفولة، وعجزها، وتحكّم الضرورات الإنسانية فيها، وخضوعه خضوعا مطلقا ليد من يرعاه ويقوم بأموره!
وقد رأينا الدفوع التي دفعت بها هذه الاعتراضات وأشباهها، وأنها كانت دفوعا هزيلة متهافته، لا تغنى من الحق شيئا، ولا تزيد الأمر إلا غموضا على غموض، وشبها فوق شبه! حلّ أضاف إلى المشكلة مشكلات:
وأمر آخر من أمر المسيح الإله زاد العقدة عقدا، وأضاف إلى المشكلة مشكلات.. وهو هذا الفهم الجديد للألوهية، ذلك الفهم الذي لم تعرفه الدعوات السماوية من أمر الإله، في هذا الوصف الكاشف لذاته، والتشريح المكيّف لتلك الذات.. حيث ظهر القول بتلك الأقانيم أو التعيّنات الثلاثة للّه واعتباره ثلاثة في واحد، وواحدا في ثلاثة.. هم: الأب، والابن، وروح القدس! هذه المقولة قد وضعت المسيح اللّه وضعا جانبيا في الذات الإلهية.
فلم يكن هو اللّه كلّ اللّه وإنما هو الابن ظاهرا، ثم هو في الوقت نفسه الأب والروح القدس، قائما وراء هذا الظاهر! إنها عملية معقدة! وحلقة مفرغة لا يدرى أحد أين طرفاها!! فالمسيح إنسان، وإله.
إنسان كامل.. وإله كامل.
وانظر كيف يجتمع الإنسان والإله في كيان واحد!.. شخصية مزدوجة، وجهها إله، وظهرها إنسان! والمسيح.. ابن، وأب، وروح قدس! والابن هو اللّه..!
والأب هو اللّه..!
وروح القدس هو اللّه! والأب، والابن، وروح القدس، وهم اللّه! إنها ألغاز وطلاسم، لا يمكن أن يتصورها العقل إلا إذا اصطنع لها التشبيهات، والتخيلات! ولعل أقرب صورة تمثل هذا المفهوم للّه، هو القمر، ومنازله المختلفة.
فالقمر يكون هلالا.. فبدرا.. فمحاقا.
وهو هو القمر.!
فإذا كان هلالا ففى كيانه البدر والمحاق! وإذا كان بدرا فمن ورائه المحاق والهلال! وإذا كان محاقا.. فبين يديه الهلال والبدر! ومع هذا فإن الناس لا يقولون عن الهلال إنه بدر أو محاق. ولا يقولون عن البدر إنه محاق أو هلال.. إن لكل وجه من هذه الوجوه مفهوما خاصّا عند الناس! ولكن لو كان للّه تعينات، ووجوه كوجوه القمر، فإن معنى هذا أن اللّه متحول متغيّر.. يلبس أثوابا مختلفة، ويبدو في وجوه متعددة! والمؤمنون باللّه- ومنهم أتباع المسيح- مؤمنون بأن اللّه لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يتحول من حال إلى حال أبدا! ثم من جهة أخرى... لا يرى الذي يؤمن بألوهية المسيح- على هذا المفهوم- إلا وجها واحدا من اللّه وهو وجه الابن أو أقنوم الابن.
ولهذا فإنه يحدّق دائما في هذا الوجه، ويتعامل معه، دون أن يكون للوجهين الآخرين حساب أو تقدير، في مجال الشعور والوجدان، وإن كان لهما في مجال البحث والدرس حساب وتقدير عند من لهم قدرة على البحث والدرس! إن المسيح الذي يمثل أقنوم الابن في اللّه هو وحده الذي يتعامل معه أتباع المسيح.. فهو اللّه المسيح! وهو اللّه الابن! أما بقية اللّه، أو الجوانب الأخرى من اللّه، فهى شيء وراء هذا الحساب، وهذا التقدير!! والشعور الذي يقوم في كيان المؤمن باللّه على هذا الوجه، شعور يتسلط عليه إحساس منه، بإيثار بعض اللّه على بعض، وأن اللّه أبعاضا.. هذا التصور، لا يمكن أن يتخلّص من الإحساس به أي مؤمن باللّه المسيح، ولو حاول ذلك وأجهد نفسه في المحاولة! فالمؤمن باللّه المسيح، إنما يعنيه من اللّه هذا الوجه المطل عليه في شخص المسيح، وهو أقنوم الابن الذي تجسد اللّه به في هذا الجسد! ألم نقل إن الحلّ الذي أريد به إيجاد تسوية لألوهية المسيح قد أضاف إلى المشكلة مشكلات، وزاد عقدها عقدا؟
وبلى! فإن القول بأن المسيح هو اللّه.
كلّ اللّه.. بجميع صفاته وأقانيمه، وتعيّناته- هذا القول أقرب إلى العقل من القول بأن المسيح هو اللّه متجسدا في أقنوم الابن دون الأقنومين الآخرين اللذين يقال إنهما للّه، وهما الأب وروح القدس! إن القول بتجسد اللّه في أقنوم الابن، الذي منه كان المسيح، ثم القول بأن المسيح هو اللّه- يجعل المسيح ذا صور ثلاث: إنسانا، وإلها وبعض إله.
وهذه الصور الثلاث تتخايل دائما- مجتمعة ومتفرقة- في عينى من يعتقد في ألوهية المسيح.. فكلما ذكر المرء المسيح وقعت في تصوره هذه الصور الثلاث.. تجتمع، وتتفرق، ويختلط بعضها ببعض، فتتشكل منها صور وأشكال..!
العقل.. والمسيح الإنسان:
الوجه الإنسانى في المسيح، هو أبرز هذه الوجوه الثلاثة، التي تتخايل منه، لمن ينظر إليه على اعتبار أنه اللّه مصمتا مجملا، أو اللّه مفككا مفصلا.!
فالمسيح الإنسان قد رآه الناس رأى العين، وقد وصفه الواصفون وصف رؤية وعيان.. فهو حقيقة ماثلة في عين من يؤمنون بألوهيته.. فضلا عن الذين لا يؤمنون به إلها!! وقد استجاب المؤمنون بالمسيح الإله، لهذا المعطيات التي أعطاها الشهود الحسّى لهم منه، فتمثلوه- وهو اللّه- حاضرا معهم في جسده، الذي رأوه رؤية بصرية، أو خبرية.. فصوروه. وصنعوا له التماثيل، وليدا، ومصلوبا، وصاعدا إلى السماء. بعد قيامته من الأموات! إن المسيح الإنسان هو الذي يملأ قلوب المؤمنين بأنه هو اللّه، وإنهم- مهما جهدوا- لن يستطيعوا أن يتمثلوا اللّه في حال من الأحوال، إلا في صورة المسيح الإنسان الذي رأوه في صوره المختلفة التي تمثلوها له، وصوروه، أو مثلوه عليها! ولهذا فقد غلبت صورة المسيح الإنسان على كلّ تصور للّه، ولهذا أيضا كانت صورة المسيح الإنسان في عينى، وفى قلب كل مؤمن بأنه اللّه.
ونسأل:
وماذا لو استقام المسيح على وجه واحد.. فكان إنسانا لم يخالطه شيء من الألوهية، أو كان إلها لم تشبه شائبة من البشرية؟ إن أعدل صورة للإنسان هو أن يكون إنسانا في كل شيء.. في ظاهر أمره وباطنه جميعا.
فأعضاؤه، وحواسّه، إذا خرج منها شيء عن حدود البشرية، ومألوفها.
فسد أمره، واضطرب وجوده بين الناس! وانظر كيف يكون حال إنسان له رجل واحدة بدل اثنتين، أو كان له أربع عيون بدلا من عينين، أو أن عينيه ركبتا فوق رأسه، أو أن حاسة بصره كانت أشبه بالمجهر، أو أن حاسة سمعه كانت كمكبرات الأصوات.. أترى مثل هذا الإنسان يهنؤه طعام، أو يستقيم له أمر؟
وقل مثل هذا في كيانه الداخلى.. في عواطفه ونوازعه، وفى أفكاره وخواطره.. إنه إن خرج في شيء من ذلك عن حدود البشرية، في أعلا ذراها، أو أدنى مستوياتها، تعس وشقى! إن الغراب الذي يلبس جلد الطاووس.. ليس غرابا، وليس طاووسا.. بل ليس من عالم الطير إطلاقا! والمسيح- صلوات اللّه وسلامه عليه- تحدّث سيرته عن إنسان كرم في الإنسانية غرسه، وطاب ثمره، فكان غرّة في جبينها، ودرة في تاجها، ونجما لامعا في سمائها، ومصباحا هاديا في أرضها.. هيهات أن تلد الأمهات من يدانيه، نبلا، وطهرا، واستقامة وعفّة.. إلا من كان من الصفوة المتخيّرة من رسل اللّه وأنبيائه! فالمسيح- الإنسان- أمل من آمال الإنسانية، ومنزع من منازعها، وحلم من أحلامها.. قد ظفرت به حقيقة واقعة، فرأت فيه الإنسان كيف يستعلى على شهواته، وكيف يقهر هواه، وكيف يبلغ به خلقه في العالم الأرضى ما لا تبلغ الملائكة في عالمها العلوي! وإنه لكسب عظيم للإنسانية أن يكون المسيح الإنسان واحدا منها، إذ به وبمن شابهه أو داناه، من الأنبياء، والحكماء، والقادة، والمصلحين- تثقل موازين الإنسانية، ويرتفع قدرها، ويستقيم خطوها، وتثبت أقدامها على طريق الحق، والخير، والسلام! وانظر كيف يكون حال الإنسانية من الجدب والعقم، في خلقها، وفى تفكيرها، لو أن هؤلاء العباقرة، وأولئك الرءوس الشوامخ الذين تلدهم الحياة بين الحين والحين- أضيفوا إلى عالم غير عالم البشر، فكانوا من الجن، أو الملائكة، أو الآلهة.. أو أي خلق آخر مما يكبر في صدور الناس؟
إن هذه الفتوح العظيمة التي حققتها الإنسانية على هذه الأرض، في ميادين العلم والفنّ، وما أخرج العلم والفن من ثمرات عمرت بها الحياة، وقامت بها تلك الحضارة التي تملأ وجوه الأرض، حياة وعمرانا- هذه الفتوح العظيمة هي من صنع الإنسان، ومن وحي العباقرة والملهمين من الناس! فلو أن الإنسانية لم تلد هؤلاء العباقرة والملهمين من أبنائها، لظلت تحبو في طفولتها، وتعيش في هذا المستوي الطفولىّ، الذي لا يرتفع بها كثيرا عن مرتبة الحيوان! وحول الإنسانية، وفى محيطها قوى غيبية لا حدّ لقدرتها، ولا نفاد لحولها وقوتها.. كالجن والملائكة مثلا.. ومع هذا فإن الإنسان لم يفد منها شيئا، في صراعه مع الحياة، ولا في غزواته لكشف أسرارها!.
ولقد تتعلق عيون الناس وآمالهم قرونا وأجيالا طويلة بهذه القوى الغيبية تريد عونها ومساندتها، في الإمساك بسفينتها المضطربة بين متلاطم الأمواج.
ولكن الذي كان يطلع على الإنسانية دائما، هو واحد من أبنائها، يستجيب لندائها، ويحقق ما اتجهت إليه أنظارها، وتفتحت له آمالها.
ولو ارتفع المسيح إلى مرتبة الألوهية، وخرج من حساب الإنسانية، لخفّ ميزان النّاس، ولحرموا هذا الخير الكثير الذي يجدونه في تلك الكلمات المشرقة المسعدة، التي تطلع عليهم من فم إنسان، ومن قلب إنسان، ومن تفكير إنسان... ثم لمّا نزعت بهم نازعة إلى تمثّل سيرته، واقتفاء أثره، إلا إذا حسبوه في سجلّ الإنسانية، وعدوّه إنسانا من الناس.. أما إذا أضيف إلى الآلهة، وحسب في عدادها، فلا يقع في نفس إنسان أن يتشبه به، أو يحذو حذوه.. فذاك إله، وهذا إنسان.. وأين الإنسان من الإله؟
لذلك طريق ولهذا طريق!.
والأمر أكثر من هذا خسارة على الإنسانية وتفويتا لما يرجى لها من خير.. لو أن المسيح كان هو اللّه الذي يؤمن به المؤمنون، ويتعبّد له المتعبّدون! وانظر كيف يكون هذا الحساب! إنّ اللّه الذي يؤمن به المؤمنون.. أزلىّ أبدى.!
فهو هو لم يتغيّر ولم يتبدّل، ولن يتغيّر أو يتبدل، ولم يزد ولم ينقص، ولن يزيد ولن ينقص! والمسيح الذي ظهر في فترة ما، لأعين الناس الذين رأوه، ليس إلا اللّه الأزلى الأبدى.. على ما يؤمن المؤمنون بألوهيته.
وظهور اللّه في هذا الجسد لم يغيّر من ذات اللّه شيئا!
فاللّه هو اللّه- في جسد المسيح، وفى غير جسد المسيح.. أو في أي جسد آخر.
بشرى، أو غير بشرى!.
وإذن فليس هنا اللّه والمسيح.
وإذن- أيضا- فلا ذات إلا ذات واحدة، تمثلّ الألوهية، هى:
اللّه أو المسيح!.
فاللّه- كما قلنا- ذات واحدة، لم ولن تتبدل أو تتغيّر، ولم ولن تزيد أو تنقص، وهذا هو ما يقول به أتباع المسيح.. كما يقول به المؤمنون باللّه.
فالقول بألوهية المسيح، وبأنه اللّه، قول لا يدخل منه على الألوهية شيء، فلا يضيف إلى ذات اللّه بهاء، ولا جلالا، بل إن العكس هو الصحيح، إذ نزل بقدر اللّه، وعفّر ذاته بتراب الأرض، وعرض وجهه للبصق والصّفع، وأقام جسده على الصليب مشدودا، تدقّ يداه وقدماه بالمسامير، ويستسقى فيسقى المرّ المذاب، ويصرخ صرخات ضارعة مستيئسة، ولا راحم، ولا مجيب! وتعالى اللّه عند ذلك علوّا كبيرا.
إن اللّه المسيح، قد كشف في هذه الأحوال عن إله لا حول له ولا قوة، يصارع الخطيئة التي غرسها بيده في كيان الإنسان.. (ونعم غرسها بيده، إذ كان الشيطان هو الذي ساقه إليها، أو ساقها إليه، والشيطان من صنعة يد اللّه، بلا شك) ثم يحتال اللّه لذلك، فلا تسعفه الحيل إلا بأن يتخلّق في رحم امرأة، ويولد منها، ويرضع من ثديها، حتى يشبّ ويكون رجلا، فيتخذ له تلاميذ وأتباعا، يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه.. ثم ينتهى أمره إلى الموت صلبا، ليكون بهذا الموت ذبيحة، لغفران الخطيئة التي أخطأها آدم في عصيانه أمر اللّه!.
أرأيت أعجب من هذا العجب! إنسان يخطئ في حق اللّه، ويخرج عن طاعته.
فلا يعاقبه اللّه، ولا يأخذه بجريرته! ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لكان مفهوما مقبولا.. إنسان أخطأ، ورب غفور رحيم! ولكن الذي لا يفهم، ولا يقبل، هو أن يجيء اللّه، لكى يغفر جريمة هذا الإنسان، فيربّى نفسه في حجر الإنسانية، ثم إذا أصبح حملا صالحا للذبح، ذبح نفسه، ليكون كفارة لهذا الذنب الذي ارتكبه في حقه عبد من عبيده! وندع هذا الحساب المغلوط، شكلا وموضوعا.. لمن يقيم خلله، إن كان في الناس من يحسن البناء على خواء، ويقيم صرحا في الهواء.
ونسأل: أين المسيح الإنسان؟
أين ذلك الوجه المشرق الوضيء الذي طالع فيه الناس سمات الإنسانية، في نبلها، وطهرها، وعفتها، ورحمتها، وحكمتها؟ أين ذلك الإنسان الذي عاش في الناس فآنس وحشتهم، وفتح لهم طرقا مستقيمة إلى معالم الخير، والنور، والسلام؟
إنه لا وجود له في عالم الناس..!
إنه لم يكن إلا اللّه.
ولم تكن تلك الفترة التي رآه الناس فيها في صورة إنسان- إلا حلما من تلك الأحلام المسعدة، التي يصحون بعدها على الواقع الذي يعيشون فيه! هكذا هو في زى الإله الذي ألبسوه إياه.
إن المسيح اللّه.
لا حساب له في عالم الناس.!
وإنها لخسارة فادحة محققة للإنسانية، إذ تفتقد المسيح إنسانا، حين تراه إلها.
ثم تتطلع إليه مقام الألوهية، فلا ترى له وجودا.. لأنه عاش على الأرض وصلب، ودفن في الأرض.. وأن من كان هذا شأنه، فلن يعود إلى مقام الألوهية أبدا، على فرض أنه كان الإله، وكان اللّه رب العالمين.
إن مخايل الإنسانية وصفاتها، ومشخصاتها لن تفارقه بحال، ولن تزايل أنظار الناظرين إليه، والمؤمنين به على تلك الصفة.
أما اللّه سبحانه وتعالى، فهو اللّه الذي تنزّه عن التجسد والتشكل.
اللّه وحده.. لا شريك له! اللّه في عظمته وجلاله.. قبل المسيح.. وبعد المسيح! اللّه الذي آمن به آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع أنبياء اللّه، ورسله، ومن استجاب لهم، وسلك سبيلهم!