فصل: سورة الأنعام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الأنعام:

أسماؤها: أشهر أسمائها: الأنعام، لكثرة ما ذكر فيها من لفظ أنعام وتسمى الحجّة، لأنها اشتملت علما كثيرا من دلائل حجة النبوة.
نزولها: ملكية.. إلا ست آيات نزلت بالمدينة.
وقيل إن السورة نزلت دفعة واحدة، ما عدا هذه الآيات الست.
عدد آياتها: مائة وخمس وستون آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة.
عدد حروفها: اثنا عشر ألفا ومئتان وأربعون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}.
التفسير:
تفتتح هذه السورة الكريمة، بالحمد، لمستحقّ الحمد، سبحانه وتعالى، ذى القدرة والطول، الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير، فتلك صفته- سبحانه وتعالى- التي كانت مختم السورة السابقة، والتي أضيف بها هذا الوجود كله إليه، لا شريك له فيه، ملكه بسلطانه، واستولى عليه بقدرته.. ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فلا متوجّه إلا إليه، ولا حمد إلّا له.
فقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} قصر للحمد عليه وحده، وهو حمد مطلوب من كل كائن أن يسبّح للّه به، إذ هو الذي خلقه وأوجده من عدم.. والوجود بالإضافة إلى العدم نعمة تستأهل الشكر، وتستوجب الحمد.. فأى موجود- على أية صفة، وعلى أي حال- هو نفحة من نفحات اللّه سبحانه، وعطاء من عطائه، وصنعة من صنعته، وليس كذلك العدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع أبدىّ.. إنه لا شيء، وشيء خير من لا شيء! إن أي موجود- على أية صفة وعلى أي حال- هو مجلى قدرة اللّه، وآية من آيات تلك القدرة الخالقة المبدعة المصوّرة، وإشارة دالة على وجود الخالق، إذ لا يعرف الخالق إلا بما خلق.
وفى أول ما تلقّى النبيّ الكريم من ربّه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فكانت صفة الربوبية والخلق أول ما صافح أذن النبيّ، ومسّ شغاف قلبه من صفات الحق جلّ وعلا.. فالربوبية والخلق صفتان متلازمتان... إذ لا ربوبية إلا لمربوبين، ولا خلق بغير ربوبية، تمسك الخلق، وتحفظ عليهم وجودهم.
ومن هنا ندرك بعض السرّ في أن كانت فاتحة الكتاب، مفتتحا لرسالة الإسلام وكتابها الكريم، وأن كانت صلاتنا- وهى عماد ديننا- وتسبيحا بالفاتحة، وأن كان الحمد مفتتح الفاتحة.
وقوله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} هو صفة اللّه، المحمود بما خلق من السموات والأرض، وما أبدع في خلقه، وخالف بين مخلوقاته، فجعل الظلمات وجعل النور.
وهنا أمور يجب الوقوف عندها:
فأولا: جمع السموات وإفراد الأرض.
وفى القرآن الكريم، جاءت السموات بلفظ الجمع، كما جاءت بلفظ المفرد:
هكذا السماء.
ولم تجيء الأرض إلا بلفظ المفرد هكذا: الأرض.
فما سر هذا؟
ومدلول اللغة يقضى بأن الجمع أكثر من المفرد عددا.. فالجمع، أكثر من اثنين، إلى ما تنتهى إليه المعدودات من عدد.. والمفرد واحد، لا يزيد.
هذا في الأشياء المتفقة نوعا أو جنسا.
فهل يكون ذلك في المختلف من الأنواع والأجناس؟ وهل إذا كان الجمع أكثر عددا، هل يكون أكبر جرما وقدرا؟
والجواب: أن ذلك ليس بالحتم اللازم، فقد يكون الجمع مع كثرته عددا، أقلّ من المفرد، جرما وقدرا.
فألوف الألوف من النمل مثلا، لا تعدل الفيل جرما.. وألوف الألوف من الحصا، لا تعدل حصاة من ذهب.
والسؤال الوارد هنا: هل جمع السموات وإفراد الأرض، يقضى بأن تكون السموات أكبر جرما وأعظم قدرا من الأرض؟
وللإجابة على هذا، ننظر في القرآن الكريم، فنجد أن السموات ذكرت جمعا، في أكثر من مائة وخمسين موضعا، كما ذكرت بلفظ المفرد في نحو مئة وعشرين موضعا..!
وأنها حين تذكر جمعا يكون في مقابلها الأرض بلفظ المفرد.. هكذا: {السموات والأرض}.
يكاد ذلك يكون مطردا في معظم القرآن.. مثل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [190: آل عمران]. وقوله سبحانه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} [255: البقرة] وقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} [77: النحل].. {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [86: المؤمنون] {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [3: سبأ] وهكذا تجمع السموات، وتفرد الأرض في كل مقام يراد فيه عرض جلال اللّه، وعظمة قدرته، وسعة ملكه، ليكون في ذلك العرض ما يدعو إلى التأمل والنظر، وتوجيه البصائر والأبصار إلى ماوراء هذا الأفق المحدود الذي يعيش فيه من لا يمدون أبصارهم إلى أكثر من مواقع أقدامهم.
وأما حين تذكر السماء مفردة، فتارة يكون في مقابلها الأرض، وتارة تذكر وحدها، غير مقترنة بالأرض، وهى في كلا الحالين لا يراد بها جرمها وبناؤها الكونى، وإنما يراد بها أنها جهة علوّ بالنسبة للأرض، وما على الأرض.
مثل قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ}.
وقوله سبحانه: {وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ} [11: الطارق] والرجع: هو المطر، والصدع:
تشقق الأرض حين يخرج منها النبات. وقوله: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} [7: الذاريات] والحبك: الطرائق الحسنة بين النجوم.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [24: الروم] وقوله سبحانه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} [5: السجدة] وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً} [64: غافر] وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً} [22: البقرة].
ومن هذا نرى أن التعبير القرآنى عن السموات بلفظ الجمع يرد دائما حيث يراد المقابلة بينها وبين الأرض، لا من حيث الوضع علوا وسفلا، وإنما من حيث البناء التركيبى لكل منهما، وأن السموات عوالم متعددة، والأرض بالنسبة لها أشبه بالمفرد بالنسبة لجمعه، وأنهما إن اختلفتا اسما، فقد اتفقتا صفة، بأنهما آيتان من آيات اللّه الدالة على علمه، وقدرته، وحكمته.
وحين ينظر الناظر إلى السماء نظرا مباشرا، غير معتمد على كشوفات العلم ومقرراته، فإنه يرى في السماء من دلائل القدرة الإلهية والإبداع الرباني ما لا يراه في الأرض، ولهذا كان أول مالفت إبراهيم- عليه السلام- إلى اللّه، ما راعه من ملكوت السموات، في بنائها وارتفاعها، سقفا محفوظا بغير عمد، وما زينت به من كواكب.. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [76- 78: الأنعام].
هذا ما يبدو للنظر المجرد، البعيد عن معطيات العلم ومقرراته.. السماء أكبر جرما من الأرض، وأوسع مدى، وأكثر محتوى للعجائب والغرائب.
فإذا ووزنت بالأرض من تلك الجهة، فهى جمع والأرض مفرد.. هي سماوات والأرض أرض أو سماء! ثم إذا كشف العلم أن الأرض ليست إلا ذرّة سابحة في فضاء هذا الكون العظيم، لا تعدو أن تكون قطرة من محيط- إذا كشف العلم هذا كان للمسلم العالم أن يرى السموات جمعا يدخل في محتواه كل حقيقة يقررها العلم، وتبلغها مقاييسه، وتنكشف لرؤيته أو لرؤاه.. من اتساع وبسطة، وامتداد، بحيث لا يرى الأرض إلا أرضا، هي ذرة من رمال الصحارى أو شواطئ البحار، بالإضافة إلى هذا الكون العظيم.! فالسموات بصيغة الجمع صالحة لأن يدخل فيها من أعداد السماء ما لا حصر له.. بلا قيود ولا حدود آية واحدة، جاءت في القرآن الكريم فجمعت بين السموات والأرض بما يشعر بالمساواة بينهما، وهى قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [12: الطلاق].
فالمثليّة هنا قد حملها المفسرون على المثلية في العدد، وأنه كما أن هناك سبع سموات، فهناك سبع أرضين.. وقد أكثروا من القول في هذه الأرضين، وفى اسم كل أرض، كما قالوا ذلك في السموات السبع، واسم كل سماء.
وتحديد السموات بأنها سبع، يعنى أنها سبعة أكوان، ولا يدرى كنه هذا الكون، ولا العوالم التي يحتويها إلا اللّه سبحانه وتعالى، وأما ما بلغه علمنا من أكوان السموات، فلا يعدو أن يكون أفقا محدودا من آفاق هذه الأكوان، أو موجة على صدر محيطه الغمر الرحيب.
وأما المثلية بين السموات والأرض في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فليس من الحتم أن تكون مثلية في العدد، كما فهمها عليه المفسرون، ولعله من الصواب أن يكون المراد هو المثلية في الإبداع والقدرة التي تظهر فيها عظمة الصانع، وقدرته، وحكمته، وعلمه.. فليس الأمر أمر جرم عظيم، وآخر صغير.. وإنما هو ما يتجلى في أي جرم- مهما صغر- من دقة الصنعة، وإحكام البناء، وروعة التكوين.
فليس الجبل في ضخامة جرمه بأعظم من الذرة قدرا، ولا أظهر منها بيانا، للدلالة على قدرة الصانع، وروعة إبداعه، وسلطان علمه، وذلك في نظر من له بصيرة نافذة، وإدراك سليم.
الفيل في ضخامة جسمه، وقوة احتماله، ليس أبلغ من النملة في الدلالة على قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته.
بل ربما كانت النملة في جرمها الصغير تحمل من الأجهزة العاملة، مالا يحمله الفيل في كيانه الضخم العظيم.
وإذن فلكى تكون الأرض في صغرها مثل السموات في كبرها، وامتداد آفاقها، ينبغى أن يكون النظر إليها بعين المستبصر الباحث، الخبير.
فإنه حينئذ تصغر السموات، وتصبح أي رقعة من الأرض أكثر من سماء، وأكبر من سماوات.. إذ كان سلطان الإنسان على الأرض، وعمله فيها، على حين لا سلطان له على السماء، ليكشف أسرارها، ويقف على عوالمها التي لا تنتهى حدودها.
وإذن- مرة أحرى- فهذه المناظرة التي بين السموات والأرض، في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} هي إشارة سماوية إلى الإنسان أن يكشف مجاهل هذه الأرض التي يعيش عليها، وأن يفتش في الكشف عن أسرارها، فإنه إن فعل لم يستصغر الكوكب الذي يعيش فيه، ولوجد فيه ما يذهل ويروع من آيات اللّه.
وثانيا: قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} مع قوله تعالى في السموات والأرض {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}.
فهل ثمة فرق بين الخلق والجعل؟ أم أن الخلق هو الجعل، والجعل هو الخلق؟ وأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى هو أسلوب من أساليب القرآن، تحاشيا للتكرار وثقله، كما يقول بذلك المفسرون؟
والقول بأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، إنما داعيته هي أن ينأى القرآن به عن الرتّابة والثقل بتكرار اللفظ- هو قول إن قيل به في أساليب البلغاء، فلن يقبل في نظم القرآن، الذي يعلو ببلاغته عن هذا المعيار الإنسانى.
فإذا كرر القرآن الكريم اللفظ مرة ومرة ومرات، لم ينزله ذلك قيد شعرة عن مكانه السامي من الفصاحة والبيان، وجاء التكرار كلا تكرار، في روعة الأداء، وتجاوب النغم، وحلاوة الجرس.. وكم كرّر القرآن من ألفاظ، وحروف، فكان اجتماعها إعجازا من إعجاز القرآن، وآية من آيات رب العالمين! وسنعرص لهذا في بحث خاص به إن شاء اللّه.
فلابد إذن أن يكون لهذا الاختلاف في النظم بين {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} داعية، استدعته وغاية أربد به تحقيقها.
والقرآن الكريم قد فرق بين الخلق والجعل في المعنى، كما هما مفترقان في اللفظ.
فالخلق في القرآن- في كل موضع ورد فيه- هو الإيجاد، إيحاد غير الموجود، وإظهاره للوجود.
{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ}.
{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ}.
{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}.
{اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}.
فالخلق، وهو الإيجاد من عدم، هو مما انفرد به اللّه سبحانه وتعالى، ولهذا كان من صفاته الكريمة: الخالق.
أما الجعل فهو إضافة تلحق المخلوق، وتكشف عن صفته، وتبرز طبيعته.. هو توجيه الخالق للمخلوق، ليعطى وظيفته، ويحقق وجوده.
{إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها} [7: الكهف].. {وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} [9- 11: النبأ].
{وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا}، (24: السجدة).. {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [143: البقرة].
بل إن الجعل يضاف إلى الإنسان، ويحسب له، أو عليه، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [19 الزخرف] ويقول سبحانه: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [19: التوبة] ويقول: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} (النحل 57).
وننظر في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} فنجد أن السموات والأرض، قد خلقنا بيد القدرة القادرة، فكان فعل الخلق {خلق} مطلوبا لتحقيق هذا المعنى المراد هنا.
ونجد أن الظلمات والنور، وإن كانا مخلوقين للّه، إلا أن الخلق غير مراد هنا، وإنما المراد وظيفة هذين المخلوقين، وأنهما الثّوبان اللذان يلبسان المخلوقات، أو يلبسان الكوكب الأرضى الذي نعيش عليه، ونشهد آثارهما فيه.
وثالثا: جمع الظلمات، وإفراد النور.
ماذا وراء الجمع هناك والإفراد هنا؟
إن الظلام كثيف ثقيل، والنور شفيف رقيق.. هكذا موقعهما على العين.. الظلام كأنه ظلمات بعضها فوق بعض.. إذا أقبل عليها النور أزاحها طبقة طبقة.
هذا في واقع الحسّ.
ومن جهة أخرى، فإن الظلام وحشة وعمى وضلال، ومن هنا تتشعب طرقه، وتتعدد مسالك الهائمين فيه.. أما النور فهو أمن وهدى وحق.. وجه واحد، وطريق واحد.. من قصد وجها غير وجهه ضل، ومن سلك طريقا غير طريقه هلك.
هذا بعض ما ينكشف من قدرة اللّه، وعلمه وحكمته، فيما تعرضه كلمات اللّه: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}.
وقد كان جديرا بالإنسان، وقد منحه اللّه نظرا يبصر، وأذنا تسمع، وعقلا يعقل ويدرك، ومشاعر تتأثر وتنفعل- كان جديرا به أن يرى الخالق في هذه الأكوان التي أبدعها، وفى هذا الوجود الذي أقامه، ولكن كثيرا من الناس يذهله اشتغاله بنفسه، وبدواعى نزعاته وأهوائه، عن أن يفتح قلبه لهذا الوجود، ولذلك فهو يعيش مغلقا على نفسه، مقوقعا في ظلمات جهله وسفهه.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} [105: يوسف].
وكثير من الناس أيضا، يرى، ويبصر، ويعقل، ثم يركبه شيطانه، فيغمض عينه عما رأى، ويصمّ أذنه عما سمع، ويتهم عقله فيما عقل، وإذا هو ممن يمكرون بآيات اللّه، ويولّون وجوههم عن اللّه إلى آلهة اتخذوها، وأرباب صطنعوها وعبدوها.
{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي ثمّ بعد هذه الآيات البينات، يكون في الناس من يكفر باللّه، ويجعلون له أندادا، يسوّون بينهم وبينه، ويجعلونهم عدلا له وندا؟
وفى العطف بحرف {ثمّ} ما يشير إلى التهديد والوعيد لهؤلاء الذين كفروا باللّه، بعد أن ملأ اللّه عليهم هذا الوجود بالآيات الناطقة بوجوده، الدالّة على كمال قدرته، وشمول علمه، وبسطة سلطانه.. ففى هذا العطف تعقيب على المعطوف، وهو تعقيب فيه تراخ وامتداد في مسافات الزمان والمكان بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا يؤذن بالمفارقة البعيدة بين المتعاطفين اللذين كان من شأنهما التشاكل والتلاحم.. ولكن كفر الكافرين باللّه يجعلهم أبعد من أن يتعاطفوا مع آيات اللّه، وأن ينتفعوا بها، ويهتدوا بهديها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.
ولو كان ما أعقب هذه الآيات هو التعرف على اللّه والإيمان به، لجاء النظم القرآنى عطفا بالفاء، على هذا النحو مثلا:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}.
فعرفه وآمن به أصحاب الأبصار، وذوو البصائر.. من عباده.