فصل: تفسير الآيات (12- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (12- 13):

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} هو سؤال من الحق جلّ وعلا، على لسان نبيّه الكريم، وهو سؤال وارد على خاطر كل ذى لبّ.. فهذا الوجود بما فيه من عجائب وغرائب، لا يمر عاقل على آية من آياته، إلّا وقف عندها، ونظر فيها، واجتهد في التعرف على أسرارها.. ثم سأل نفسه أو سألته نفسه، عن صانعها: من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
وما تزال هذه الأسئلة تلحّ عليه حتى ينسب هذا الوجود إلى صانع عظيم قدير، ليس كمثله شيء، لا يسأل عنه: بأين؟ ولا كيف؟.. إذ هو فوق كل أين، وغير كل كيف.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ} هو جواب قاطع، لا جواب غيره، عن هذا السؤال، الذي مطلوب من كل عاقل أن يسأله نفسه، وأن يجيب عليه.
وسيهديه نظره وعقله إلى هذا الجواب الذي أجاب به الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ} فالمالك لهذا الوجود، القائم على كل موجود، هو اللّه رب العالمين، لا شريك له في سلطانه.
وقوله تعالى: {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي الذي كتب على نفسه الرحمة،- وتلك صفة من صفات اللّه- هو الذي له ما في السموات وما في الأرض.
ومعنى كتب على نفسه الرحمة، أي أوجبها سبحانه وتعالى على نفسه، حيث اقتضتها حكمته، واستدعاها فضله.
فالملك الذي بين يدى المالك سبحانه وتعالى، هو من آثار رحمة اللّه.. تلك الرحمة العامة الشاملة التي تمسّ كل مخلوق، وتنال البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.. ولولا هذه الرحمة لما تنفس الكافر نفسا في هذه الحياة، ولما أمهل في محادّته للّه، وعدوانه على رسله، ولكن رحمة اللّه التي وسعت كل شيء، لم يحرم الكافر نصيبه منها، فأفسح اللّه له في الحياة، ليرجع إليه، ويصلح من أمره ما أفسده.
فإذا مضى الكافر على كفره، ثم أخذ بذنبه، كان من رحمة اللّه أن يؤدب وأن يعاقب، ففى هذا العقاب إصلاح لنفسه التي فسدت، وصقل لمعدنه الذي أكله الصدأ! وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} في توكيد الفعل {ليجمعنكم} بالقسم وبنون التوكيد، إشارة إلى أن البعث أمر كتبه اللّه سبحانه وتعالى على نفسه، كما كتب الرحمة، وأن البعث هو رحمة من رحمة اللّه، إذ هو إعادة الحياة التي ذهب بها الموت، والحياة نعمة من نعم اللّه، ورحمة من رحمته.. إنها نعمة تستوجب الشكر، والحمد للّه رب العالمين: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28: البقرة].
وفى تعدية الفعل {ليجمعنكم} بحرف الجرّ {إلى} إشارة إلى أن الجمع هو استدعاء من جهات شتى، ودعوة قاهرة إلى مكان معلوم، تصبّ فيه وفود المدعوين، وتجتمع إليه.. فمعنى الجمع، هو السّوق، أي ليسوقنكم إلى يوم القيامة، إذ كان يوم القيامة هو موعد اللقاء الذي يلتقى عنده الموتى، المبعوثون من القبور.. {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [51: يس].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي أن الفساد الذي اشتملت عليه نفوس أهل الضلال، هو الذي حجبهم عن الإيمان، وصار بهم إلى طريق الكفر والضلال.. وهذا يعنى أن في الكافرين- قبل كفرهم- نفوسا مهيأة لهذا الكفر، مستعدة له، لما فيها من فساد، وهذا الفساد من شأنه أن يرفض الطيّب، ويقبل الخبيث الفاسد، الذي يلائمه، ويتفاعل معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [10: البقرة].
وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فهذه قلوب لا تقبل خيرا، ولا تمسك به، ولهذا ختم اللّه عليها، فلم يسمعها كلماته، ولو أنها سمعت كلمات اللّه ما قبلتها ولا استجابت لها.
وقوله تعالى: {وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} هو استكمال للجواب الذي أجيب به على قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فكأنه قيل: قل للّه ما في السموات وما في الأرض، وله كذلك ما سكن في اللّيل والنهار، أي ما اشتمل عليه الليل والنهار من موجودات.
فكل ما طلع عليه النهار، واستولى عليه سلطان الضوء، وكل ما غشيه الليل، واستولى عليه سلطان الظلام، هو في ملك اللّه، وتحت سلطان علمه وسمعه.

.تفسير الآيات (14- 16):

{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}.
التفسير:
الولىّ: السيد، والمعين.. فاطر السموات والأرض: أي خالقهما ابتداء.
وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} استفهام إنكارى، وكأنه ينكر على نفسه أن تدعوه إلى أن يتخذ من دون اللّه وليّا ومعينا، أو ينكر على غيره أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.
والمعنى: إنى لا أتخذ وليّا ومعتمدا أعتمد عليه، وأستعين به، غير اللّه، ذى الحول والطول، وذى القدرة التي لا يعجزها شى.. تلك القدرة التي كان من صنعتها هذا الوجود كلّه، في سماواته وأرضه، أوجدهما- سبحانه- ابتداء على غير مثال {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وهذا الاستفهام الإنكارىّ، أقوى قوة، في إظهار الولاء الخالص للّه، والثبات عليه- من الخبر التقريرىّ بالولاء، إذ فيه إنكار لموالاة غير اللّه أولا، ثم إقبال على موالاته سبحانه، ثانيا، وفى هذه العملية إثارة للعقل وتحريك للوجدان، ومواجهة لمن يدعوهم الدّاعون أن يتخذوا أولياء من دون اللّه.. حتى إذا أنكرهم العقل ولفظهم الشعور، أقبل المرء على اللّه، وقد صفّى حسابه مع هذه الضلالات القائمة على طريقه إلى اللّه، فيلقى ربّه بكيانه كله، ويلقى إليه بولائه خالصا.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي فاللّه المستحقّ لأن يتخذه الناس وليّا، ومعتمدا، هو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يقوت المخلوقات ويطعمها، ويمدّها بما يحفظ وجودها، دون أن يكون لهذا مقابل.
وإنما هو فضل وكرم من ربّ العالمين، المستغنى عن كلّ عون، الغنىّ عن كل مخلوق.. وكيف لمن كان مصدر العطاء أن يكون محتاجا إلى عطاء؟
وكيف لمن يستمدّ منه العون أن يكون محتاجا إلى معين؟ تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وقوله سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} هذا ما أمر به النبيّ من ربّه، وهو أن يكون أول من أسلم وجهه للّه، وأول من ألقى بنفسه بين يديه، ووالاه.. إذ كان صلى اللّه عليه وسلم- هو مفتتح دعوة الإسلام، وحامل رسالتها إلى المسلمين، فكان أول من آمن بها، واستقام على هديها.. وذلك بعد أن استدلّ على خالقه بتفكيره في خلقه، وأنكر أن يتحذ وليّا من دونه، وهو الذي فطر السموات والأرض.. وهو الذي يطعم ولا يطعم، فإذا جاءت دعوة اللّه تعالى إليه صادفت تلك الدعوة قلبا مستقبلا لها.
والأمر هنا، هو الدعوة إلى الإيمان باللّه، من اللّه، وإلى نبى اللّه، وليس في هذا الأمر إلزام ولا قهر، ولكن النبيّ الكريم في استجابته لربّه، وفى مبادرته إلى الاستجابة، واحتفائه بها، وشدّ نفسه إليها، وعقد قلبه عليها كل أولئك قد جعل الدّعوة الإلهية أمرا يتلقّاه النبيّ بكيانه كله، ويعطيه كل ما قدر عليه من قوة وعزم.
وقوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هو عطف على الأمر المفهوم من قوله تعالى: {أُمِرْتُ} أي أن اللّه سبحانه وتعالى أمرنى بأن أكون أول من أسلم، فقال لى: كن أول من أسلم، ونهانى عن أن أشرك به فقال لى: ولا تكوننّ من المشركين.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
هو بيان لبعض دواعى الإيمان باللّه في نفس النبيّ، وفى نفس كل مؤمن باللّه، وهو أن الخوف من عذاب اللّه يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان باللّه، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد اللّه.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب للّه ويؤمن باللّه، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه.
وقوله سبحانه: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل اللّه عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان باللّه، والولاء له، والامتثال لأمره.. {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى اللّه عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}.
!

.تفسير الآيات (17- 19):

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)}.
التفسير:
المسّ: لمس الشيء برفق.
وقوله تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عرض لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي بيده النفع والضرّ، وأن أقسى ما يصيب الإنسان من ضرّ هو لمسة خفيفة، محفوفة برحمة اللّه ولطفه، ولولا ذلك لما احتملها بشر.. وكذلك ما ينال الإنسان من خير، هو قطرة من فضل اللّه، محفوفة بحكمته وتقديره، ولولا ذلك لفاضت فملأت على الإنسان دنياه، ولما وجد لنفسه متنفّسا فيها.
فإذا مسّ الإنسان ضرّ فهو من اللّه سبحانه، ولا يرجى لكشف هذا الضرّ غيره.. لأنه مما قضى به، ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذين يحفّان بقضائه، فيمضى على ما قضاه، ولكن تقوم إلى جانب ذلك في كيان الإنسان مشاعر تستقبل هذا القضاء برضى، وتحتمله في صبر، حتى يأذن اللّه برفع هذا الضرّ، وكشفه.. وهذا هو بعض اللطف في القضاء.
وإذا مسّ الإنسان خير، فهو كذلك مما قضى اللّه به، وأراده، ويسرّ الإنسان له.. وفى تقديم الشر على الخير هنا ما يملأ مشاعر الإنسان خوفا من اللّه، وتعلقا به، واتجاها إليه، فإن الإنسان في الخير كثيرا ما يذهل عن اللّه، ويغفل عن ذكره.. ولكنه في حال الشدّة والضرّ يذكر اللّه ويهتف به، ويمدّ يده إليه كما يقول سبحانه: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [8: الزمر].
وكما يقول: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً} [83: الإسراء].. فما أقلّ أولئك الذين يجدون في نعم اللّه طريقا يصلهم إلى اللّه، ويقرّبهم منه، ويقيمهم على الشكر والحمد، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ] أما في البلاء، وأما في الشدة، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، يذكرون اللّه، ويهتفون به، حتى فرعون، فإنه حين أدركه الغرق، قال آمنت!.
وهكذا الناس.. تدنيهم الشدائد من اللّه، وتقربهم منه.. وإنها لنعمة تلك الشدائد، التي توجّه الإنسان إلى اللّه، لو أنه استقام على طريقه إلى اللّه، ولم يكن من الخائنين لنفسه، الذين يمكرون بآيات اللّه.
قوله تعالى: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} أي أنه ذو السلطان القائم فوق عباده، يملكهم ولا يملكونه، ويقضى عليهم ولا يقضون عليه، ويعطى ويمنع، ويعزّ ويذل: {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [26: آل عمران].
وليس سلطان اللّه سبحانه، القائم فوق عباده، الآخذ على جوارحهم ومشاعرهم ومدركاتهم- ليس بالسلطان المستبدّ الجهول، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنما هو سلطان قائم بالعدل، والحكمة، والعلم والقدرة، وما كان كذلك، فهو سلطان الرحمة والإحسان.
وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} إشارة إلى هذا السلطان القاهر الغالب، وأنه بيد حكيم خبير، يضع كل شيء موضعه، بحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، فيأخذ مكانه الذي هو له، في أحسن وضع، وأكمل صورة، في ملك اللّه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ} [3: الملك].
وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً} هو استدعاء لهؤلاء المكابرين المعاندين، الذين ينظرون إلى هذا الوجود على أنه لهم وحدهم، وأن كل ما فيه تبع لأهوائهم: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [71: المؤمنون].. فإذا سمع هؤلاء المكابرون هذا النّداء، وقيل لهم: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً} عندكم، تأخذون بشهادتهم عليكم، في الحكم بينى وبينكم فيما أدعوكم إليه، من الإيمان باللّه، وأنى رسول اللّه إليكم، أحمل إليكم كلمته، وأوجه وجوهكم وقلوبكم إليه؟ ما الشاهد الذي تكبرون شهادته، وتنزلون على ما يشهد به؟
ولا يمهلهم اللّه أن يجيبوا، لأنهم لا يجيبون إلّا ضلالا، ولا يقولون إلا زورا وبهتانا، بل يلقاهم بالشاهد الذي إن لم يقبلوا شهادته اختيارا قبلوها قسرا واضطرارا، لأنه الشاهد الذي يحكم ولا معقب لحكمه، والقاضي الذي يقضى ولا راد لقضائه.. إنه هو اللّه ربّ العالمين.
{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
هذا هو الشاهد، والحكم بينى وبينكم، فردّوا عليه شهادته إن استطعتم! وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} تلك هي القضية التي بينى وبينكم، وقد أدليت بشهادتى فيها، بين يدى أحكم الحاكمين.
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ} من ربّ العالمين {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} وأحذركم من عذاب يوم عظيم، إن أنتم لم تصدقوا برسالتى، ولم تؤمنوا بما بين يدىّ مما أوحى إلىّ، ولست رسولا إليكم وحدكم، بل إن رسالتى إليكم وإلى كل من تبلغه، وتصل إليه بلساني، أو بلسان من يدعو بها، فهى رسالة عامة للناس جميعا، فمن بلغته ولم يؤمن بها، فقد حقّ عليه ما حقّ على الكافرين منكم {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وفى عطف قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ} على قوله تعالى: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}.
تفويت على أولئك المكابرين المعاندين أن يجدوا فسحة من الوقت يردّون بها الشاهد الذي أشهده الرسول عليهم، وإلغاء لكل شاهد يقيمونه في هذا الموقف غير اللّه سبحانه وتعالى، وقطع للجاجهم وعنادهم، وإمساك بآذانهم أن تنحرف عن هذا الموقف الذي هم فيه.
وقوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى} هو تقرير لهم من الرسول، وهم في هذا الموقف، بعد أن أوقفهم بين يدى اللّه، وأشهده عليهم.
ومع هذا، فإن العناد لا يزال مستوليا عليهم، وإن اللجاج لا يزال يضرب بأمواجه فوقهم.
ولهذا، فإن الرسول الكريم، لا ينتظر جوابهم، إذ كان جوابا منحرفا عن الحق، بعيدا عن الهدى.. فليتركهم وشأنهم، وبين أيديهم دعوة الحق، وأمامهم طريق الهدى، فإن أطاعوا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما هم في ضلال وخسران.. أما الرسول الكريم، فعلى الطريق الذي أقامه اللّه عليه.. {قُلْ لا أَشْهَدُ} أن مع اللّه آلهة أخرى. {قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
وفى قوله تعالى: {قُلْ} تثبيت للنبى من ربّه، ووضع للكلمة التي ينبغى أن يقولها، على لسانه وفى قلبه.. يتلقاها من اللّه، فتلتقى مع الكلمة التي يريد أن يقولها، فإذا هي نور في قلبه، وقوة في عزمه، وطمأنينة في صدره، ولطف عظم من ألطاف ربه.. وفى تكرار {قل} مع كل قول من اللّه تعالى لهم، كمال عناية، وتمام رعاية من اللّه سبحانه للنبى حيث يجد مع كل نفس يتنفّسه، وحي السماء يقول له: قل.. قل.. قل.. وبهذا يشتدّ عزمه، وتثبت في لقاء الكافرين قدمه.