فصل: تفسير الآيات (33- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (33- 34):

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)}.
التفسير:
بعد أن عرض اللّه للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا العرض الكاشف للمشركين، وما يلقون في موقف الحساب من خزى وهوان، وما يذوقون في جهنم من نكال وعذاب- بعد هذا العرض الذي يرى فيه النبيّ عاقبة المكذبين به- يلقى اللّه سبحانه النبيّ الكريم بهذه المواساة الكريمة، وهذا العزاء الجميل، لما يلقاه من قومه من تكذيب له، واستهزاء به.
وفى قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} استجابة لسكاة النبيّ قبل أن يشكو، وفى هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن اللّه يرعاه، ويعلم ما يجد في نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ردّ اعتبار للنبىّ عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف اللّه ما في نفوسهم عن النبي ورأيهم فيه.. فهم في دخيلة أنفسهم لا يكذبون محمدا.
إنهم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب. بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. {وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عنه الخبر والفلاح.
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنّهم يكذبون بآيات اللّه التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند اللّه، وقال لهم إنها كلام اللّه، وأنه رسول اللّه بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى اللّه، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس! ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق.
إذ كيف لا يتّهم إنسان بالكذب في حال، ثم يتهم به في حال أخرى؟ إن الإنسان وحدة متكاملة، في خلقه، فإمّا أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرّى الصدق في كلّ قول.. وقد عرفوا محمدا أنه صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على اللّه ربّ العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصّدق ودلائله ناطقة في كلام اللّه، مستغنية عن صدق من يجيء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متّهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا} [34: الأنعام] هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ورحمات من ربّ رحيم تتنزّل عليه، وهو في مواجهة هذا العناد والعنت الذي يلقاه من قومه.. وفى هذا العزاء يرى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- مشاهد كثيرة لهذا المشهد الذي يعيش فيه.. فهناك رسل كثيرون من رسل اللّه قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا في أنفسهم من سفهاء قومهم، ولكنهم اعتصموا بالصبر، واحتملوا الأذى في سبيل الرسالة الكريمة التي شرفّهم اللّه بها.
فهذا نوح عليه السلام- يلقاه قومه بالنكير والاستهزاء، ويلاحقونه بالأذى والضرّ- وفى هذا يقول اللّه على لسانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [35: هود].
وقد أخذهم اللّه بهذا المنكر.. فأغرقهم ونجّى نوحا ومن معه:
{فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ} [119- 120: الشعراء].
وهذا هود- عليه السلام- يلقى قومه داعيا إلى اللّه، مبشرا ومنذرا بآياته، فتكون قولتهم له: {يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ} [53- 54: هود].. ثم كانت عاقبتهم عاقبة كل ظالم.. فأهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [6- 8: الحاقة].
وهكذا كان الشأن مع صالح، ولوط، ومع كلّ نبى أعنته قومه، وكذبوا بآيات اللّه التي بين يديه.. النجاة والسلامة للنبىّ والمؤمنين به، والهلاك والدّمار لمن كذبوا به، وبآيات ربه.
وفى هذا أسوة للنبىّ، وللمؤمنين معه.. فليحتمل الأذى، وليصبر على الضرّ، وليحتمل المؤمنون الأذى وليصبروا على الضرّ، فإنّ العاقبة له ولهم، وإن النصر للحق ولمن ينصرون الحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} فتلك هي سنّة في الذين خلوا، ولن تتخلّف آثارها في حاضر أو مستقبل.. فإن أحكام اللّه لا تنقض وكلماته لن تتبدّل.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} تذكير للنبىّ بما قصّ اللّه- سبحانه- عليه من قصص الأولين، فليعد النبيّ إلى هذا القصص، ولينظر إلى ما فيه من عبر وعظات.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} [120: هود]. ويقول: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [111: يوسف].

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)}.
التفسير:
وإذ استمع النبي إلى كلمات ربه، وما تحمل إليه من مواساة كريمة، وعزاء جميل، فقد وجب على النبي أن يطمئن قلبه، وتسكن نفسه ويذهب حزنه وحسرته، على ما يلقى من قومه.. فإذا كان قد بقي في نفس النبي شيء من تلك العوارض التي عرضت له من قومه، وإن كانت لا تزال به توازع الحزن والحسرة عليهم، فإن السماء ليس عندها ما تقدمه لهم من وسائل الإقناع، بعد أن قدمت لهم ما قدمت من آيات، وما ساقت إليهم من نذر! فإن وجد النبي القدرة من نفسه على أن يأتيهم بما يقنعهم، ويحملهم على التصديق به، وبما يدعوهم إليه، فليفعل!! وهذه هي الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، فإن استطاع أن يشق الأرض أو يرقى السماء بسلّم ليأتيهم بآية مقنعة، فليفعل وهيهات هيهات!!
{وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} أي إن شقّ عليك إعراض قومك عنك، فحاول- إن استطعت- أن تشق الأرض، أو ترقى في السّماء، لتأتيهم بما يقترحون عليك من آيات! وليس هذا دعوة من اللّه سبحانه للنبىّ أن يفعل هذا، وإنما هو صرف له عن هذا اللغو الذي يلغوا به قومه، من مقترحات يقترحونها عليه، وتيئيس لهم من أن يكون لهذا اللّغو قبول عنده.
وفى قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} إشارة إلى أن ما قدمته السّماء من آيات هو القدر المطلوب لهداية من فيه استعداد لقبول الحق، حين تلوح أماراته، وتظهر له دلائله.. وليس من حكمة السّماء أن تقهر الناس قهرا على الإيمان، ولا أن تحملهم حملا على الهدى، فإن مثل هذا الإيمان الذي يجيء إليه الإنسان قهرا وقسرا، هو إيمان لا دخل لكسب الإنسان فيه، ولا جزاء له عليه، إذ أنه ليس من سعيه وكسبه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى} [39- 41: النجم].. ولو أراد سبحانه وتعالى أن يدخل الناس جميعا في الإيمان لفعل، ولوضع بين يدى المعاندين والكافرين والمشركين من الآيات القاهرة ما يحملهم على الإيمان، حيث لا يجدون معها سبيلا إلى الإنكار والجحد.. ولكنّه سبحانه أراد أن يكون للإنسان تقديره وتفكيره، فيما يحمل إليه رسل اللّه من آيات، يرى فيها العقلاء دلائل الحق، وأمارات الهدى، ولا يرى فيها الضّالون والمعاندون شيئا يفتح لهم الطريق إلى اللّه.. وفى هذا ابتلاء وامتحان، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.
{وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} فما قوة في هذا الوجود تردّ مشيئة اللّه، ونفاذ ما يشاء.. ولكنّه سبحانه وضع الإنسان بهذا الوضع الذي يكون له فيه مجال للاختيار، {فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [99: يونس].
قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} هو عزل للنبىّ عن أن يكون ممن يجهلون حكمة اللّه هذه، وسنّته في خلقه، وفى هذا وقاية للنبىّ من أن تطرقه طوارق الأسى والحسرة على من تخلّف عن الدعوة التي يدعو بها، ولوى وجهه عن الحق الذي بين يديه، من ذوى قرابته، ومن يريد لهم الخير ممن يحبّهم.. {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص].

.تفسير الآيات (36- 38):

{إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}.
التفسير:
فى قوله تعالى في الآية (35) {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى} إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين المعاندين، قد أضلّهم اللّه لعنادهم وكفرهم، وتركهم وما اختاروا من ضلال وشرك.. ذلك لأنهم عموا عن آيات اللّه، وأبوا أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لها.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} بيان لحال هؤلاء الكافرين المعاندين، وأنهم لن يسمعوا كلمة الحق، ولن يعطوها آذانا واعية، ولهذا كان من الحكمة ألا يلحّ عليهم أحد بما يدعوهم إليه من حقّ وهدى، فإنهم لن يسمعوا، ولو سمعوا ما استجابوا.. {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي الذين يسمعون سمعا عاقلا متدبرا.. يصغى، ويفكر، ويعقل.. أما هؤلاء وإن كانت لهم آذان يسمعون بها فإنها تصبح ثقيلة عند سماع الحق، كأن بها وقرا، لأن قلوبهم مريضة، وعقولهم سفيهة، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [23: الأنفال].
وقوله تعالى: {وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} معطوف على قوله سبحانه: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي أن هذين الأمرين من واد واحد، إذ هما ممكنان واقعان في قدرة اللّه: استجابة الذين يسمعون ويعقلون، لما يسمعونه ويعقلونه، وبعث لأموات من قبورهم يوم القيامة.
وفى الجمع بين الأمرين دلالتان:
أولاهما: أن الناس لهم كسب ولهم إرادة، وقدرة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} وأن اللّه سبحانه وتعالى لم يكلّف الناس إلّا ما هو ملائم لطبيعتهم، مناسب لقدرتهم، أما ما فوق ذلك فلم يكلّفوا به، ولم يحاسبوا عليه، كبعث الموتى، الذي هو مما للّه وحده {والموتى يبعثهم اللّه}.
وثانيتهما: أن الضّالين المعاندين من الناس، الذين لم يستمعوا للحق، ولم يستجيبوا له، قد وضعوا بذلك أنفسهم موضع العجز المطلق، أمام هذا الأمر الممكن الذي دعوا إليه، فكأنهم والأموات سواء.. فكما يستحيل على الأموات أن يبعثوا من تلقاء أنفسهم، كذلك يستحيل على هؤلاء الضالين المعاندين أن يستمعوا للهدى وأن يستجيبوا له بطبيعتهم.. والأموات يبعثون حين يريد اللّه بعثهم ودعوتهم إليه، والضالون الشاردون عن اللّه، يهديهم اللّه، إذا أراد لهم الهداية، ودعاهم إلى طريقه.. ولكن هؤلاء الضالين المعاندين لن يدعوهم اللّه إليه، ولن يهديهم إلى الحق، كما يقول سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}.
فهم وقد كان الإيمان باللّه من الممكنات لهم، قد جعلوه بعنادهم وضلالهم مستحيلا يحتاج إلى قدرة فوق قدرتهم، هي قدرة اللّه تعالى، وإذ تخلّى اللّه عنهم وأخلاهم لقدرتهم، فلن يهتدوا إذن أبدا.. وإن اللّه- سبحانه- يبعث الموتى، ولكنه لا يهدى هؤلاء الضالين العاندين.
وفى هذا تيئيس لهم، وخذلان مبين، وخزى فاضح، ووعيد بالحساب الشديد، والعذاب الأليم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} الضمير في {يرجعون}، يعود إلى هؤلاء المعاندين، الذين لن يهتدوا أبدا، إلى أن يموتوا، ثم يبعثوا مع الموتى.
ثم يرجعون إلى اللّه، للحساب والجزاء.. وهذا هو سرّ العطف بثم الذي يفيد التراخي الزمنيّ.. فهم إذ خوطبوا كانوا أحياء.. ثم يبعثون، ثم يحشرون قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هو بيان لموقف هؤلاء الضالين المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا للّه ولرسوله، وأصبح قبولهم الإيمان أمرا مستحيلا في مواجهة ما جاءهم به النبيّ، ولن يكون لهم نظر وكسب فيما كان يدعوهم إليه من إيمان، بعد أن تأتيهم الآيات التي يقترحونها.
{وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} والآية التي يقترحونها هي معجزة مادية، يرونها بأعينهم. كما يقول اللّه تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} (الإسراء: 90- 91- 92) وفى قولهم {من ربّه} كفر صريح باللّه، واتهام للنبىّ بأن له ربّا غير الرّبّ الذي يعرفونه، ويتقربون بالأوثان إليه.
وفى قوله تعالى {نُزِّلَ} إشارة إلى أن الآية التي يطلبونها هي آية حسّية، تتحرك بين الناس، ويتحرك الناس بين يديها.. فهى- والأمر كذلك- شيء مغاير للآيات القرآنية التي تنزل على النبيّ، فلا يكون لها هذا الأثر الحسّى، الذي يبعث في الحياة هزّة، وثورة ظاهرتين للعيان! وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} فليس أمام قدرة اللّه ما يعجز، وقد نزّل اللّه كثيرا من الآيات الحسّية كهذه الآيات التي يقترحونها، ولكن كثيرا من الناس كفر بها، وخادع حواسه وخان عقله فيها.
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى جهل هؤلاء المكذبين، فوق ما هم فيه من ضلال وكفر.. ولو علموا لرأوا أن هذا المقترح الذي يقترحونه. فيه هلاكهم ودمارهم.. حيث ذلك هو الجزاء الذي يعقب التكذيب بالمعجزات الحسيّة، التي هلك المكذبون بها، حين جاءتهم على يد الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وعيسى.
قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} إشارة إلى أن عالم الأحياء، من إنسان، وحيوان، وطير، يرجع إلى أصل واحد، كانت منه جميع هذه المخلوقات، في أنواعها وأجناسها.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} تسوية بين عالم الإنسان، وعالم الحيوان، في إقامة كل جنس من أجناس الحيوان، على نظام في حياته، وفى أسلوب معيشته، وتوالده، وصلات أفراده بعضها ببعض أو صلاته بالقريب والبعيد منه من أجناس الحيوان- أشبه بنظام المجتمع الإنسانى.
فكما أن الناس يمسكهم نظام، ويضبط حياتهم سلوك، وتربط بينهم عادات، وتحكمهم قوانين، فكذلك كل جنس من أجناس الحيوان، وكل نوع من أنواعه.. له عالمه الذي يعيش فيه، وله تقاليده، وعادانه، ولغته التي يتفاهم بها، وله سلطانه الذي يأخذ به الخارجين على نظام الجماعة، المتمردين على أوضاعها المستقرة فيها.
وفى قوله تعالى: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} ما يسأل عنه:
لما ذا كان ذكر الجناحين هنا، مع أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ وهل هناك طائر يطير بغير جناحين؟ وإذا كان من الطير ما يطير بلا جناحين، فهل يخرج من هذا الحكم الذي قضى اللّه به على الدواب والطير؟
والجواب على هذا، هو أن أجناس الطير كثيرة، متفاوتة القدر، مختلفة الحجم والصورة، من النّسر، والصقر، إلى البعوضة، والذرّة.. وكلها ذات جناحين تطير بهما، ومن هذه الطيور ما لا ترى العين جناحيه، ولا يكاد يتصور العقل أنه يحمل أجنحة، وفى ذكر القرآن للأجنحة التي لكل طائر، ما يدعو الإنسان إلى إعادة النظر وإمعانه في هذه المخلوقات الضئيلة، وفى دقة تركيبها، وروعة بنائها، وأنها- على صغر جرمها- عالم متكامل، في تكوينه، قد أودعت يد القدرة فيه من الأجهزة، والحواس، ما أودعته في أرقى الكائنات الحية، من قوى، ومشاعر، ومدركات.
وفى القرآن الكريم كشوف رائدة، رائعة، عن عالم الحيوان، وما أودع الخالق العظيم فيه من قوّى وأسرار، لا تقلّ روعة وإحكاما، عما في الإنسان، الذي ينظر إلى وجوده بين هذه المخلوقات وكأنه إله، وكأنها هي من نافلة الحياة، أو من نفاياتها بالنسبة له!! فهذه النملة- على صغر جرمها، وضآلة شأنها.. تقف من سليمان موقف الندّ للندّ، وتتصدى له، وهو في بهاء ملكه، ومظاهر عظمته، وقد حشر له الجنّ والإنس والطير، في مظاهرة ولاء، واستعراض انقياد وخضوع، وإذا النملة التي يمرّ بها سليمان، فلا يأبه لها، ولا يحفل بها، بل ولا يكاد يذكر عن أمرها شيئا، وهو متخم بهذا السلطان العظيم الذي بين يديه- إذا هذه النملة تلقى سليمان لقاء مثيرا، وتحاجّه في منطق قاهر، لا يقلّ عن منطق سلطانه القوى المبين، فيعجب لهذا الذي يأتيه من قبل أضعف المخلوقات شأنا، وأهونها قدرا، وإذا سلطانه الذي بين يديه يهتزّ، ثم يتهاوى، وإذا هو والنملة على سواء.
إنها تقوم على دولة لا تقلّ عن دولته، نظاما وإحكاما وروعة، وإنها لتقوم على رعية تسوسها بالرأفة والحكمة، وتحوطها بالرّعاية والعناية، وتوفر لها الأمن والسلامة، بما لا يكون إلا من القلّة القليلة من أصحاب الحكم والسلطان..!
ونستمع إلى قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [17- 19: النمل] وإذا نستمع إلى كلمات اللّه هذه، نكاد ننصرف بأبصارنا ومشاعرنا عن سليمان، عليه السلام، وحشوده الحاشدة، من الجنّ والإنس والطير، إلى هذا المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره.
بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى اللّه، ضارعا بالحمد والشكر: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ}.
وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد اللّه الصالحين، الذين دعا اللّه أن يلحقه بهم، ويدخله في زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو في أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر اللّه له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو في هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه في صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان: {أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ}!! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، في غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه في السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هي أمم مثل الأمة الإنسانية، في وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك، وغيرها، من تلك التي لا تكون الأمة أمة إلا بها.
فالأمة لا تسمى أمة، إلا إذا كان بناؤها الذي تقوم عليه ينتظم جميع الأفراد الذين يدخلون في حسابها، وينتسبون إليها، بمعنى أن يكون بين أفراد الأمة من قوى التلاحم والترابط ما يجمع بعضهم إلى بعض، ويؤلّف منهم جسدا اجتماعيا أشبه بجسد الكائن الحىّ وما بين أعضائه، من ترابط، وتساند، وانسجام! ومن هنا يمكن أن تتغير نظرة الإنسان إلى عالم الحيوان، وأن يفتح له العلم الحديث آفاقا جديدة في دراسة علم الحيوان، فلا يقف عند حدود دراسة جسدية له، تدور حول الوظائف العضوية وما يتصل بها، بل ينبغى أن يتجاوز العلم هذه الدراسة إلى دراسات نفسية، وعقلية أيضا.. بحيث يكون من موضوعات هذه الدراسات: لغة الحيوان.. بجميع أجناسه وأنواعه، وعن طريق التعرف إلى هذه اللغة يمكن التعرّف على معارف عالم الحيوان، ونظرته إلى الكون، وصراعه مع الطبيعة، ووسائله التي بلغها في التغلب عليها.
ولربما يقع للعلم في هذه الدراسات، من أسرار وعجائب، ما لم يقع له إلى اليوم من أسرار وعجائب!.
وإنّ عجزا من الإنسان، وقصورا في علمه، هو الذي وقف به على شاطئ هذا المحيط العظيم من عالم الحيوان، فلم يعرف كيف يتفاهم مع الحيوانات، ويترجم مشاعرها وإحساسها، ويفسّر حركاتها وسكناتها.. وليس بغير العلم تنفتح مغالق هذه العوالم.. ويوم يبلغ الإنسان من العلم ما يستطيع به الالتحام مع عالم الحيوان والتفاهم معه، يومئذ يكون الإنسان بحق هو سيد هذا العالم الأرضى، وخليفة اللّه فيه، وإلا فهو ليس بالسيد ولا بالخليفة، إذ لا سيادة لمن لا يعرف كيف يخاطب المسودين له، ولا خلافة لمن لا يحسن الفهم عمن هو خليفة عليهم.. وإنه ما انقادت تلك الجماعات من الجن والإنس والطير لسليمان، إلا بعد أن أوتى من العلم ما أقدره على فهم هذه الجماعات، والتفاهم معها.
وقوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}.
اختلف في الكتاب هنا: أهو اللوح المحفوظ، أم هو القرآن الكريم..؟
ولعل الأقرب إلى مفهوم الآية الكريمة هنا، هو القرآن الكريم حيث يبيّن في آياته هذه أصولا، وأحكاما، ومقررات تندرج تحتها جميع المعارف الإنسانية، التي بلغها العقل، والتي في مقدوره أن يبلغها يوما ما.
وإذا لم يكن القرآن الكريم قد كشف الغطاء عن هذه المعارف، فإنما ذلك ليثير في الإنسان دوافع النظر والبحث، وليترك لعقله مجال الحركة والصراع، فينتصر حينا، وينهزم حينا، وهو في انتصاراته وهزائمه، سيّد نفسه، وقائد سفينة حياته، وحسب القرآن الكريم في هذا أن يومئ إليه من بعيد إلى مواطن الصيد، التي يلقى بشباكه فيها، فتجيء إليه بصيد وفير.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الضمير في ربهم يعود إلى هذه المخلوقات كلها، من دواب الأرض، وطيور السماء.
وقد اختلف في حشر هذه الكائنات من حيوان ووحش وطير.. وهل تحاسب؟ وإذا حوسبت فهل تعذّب أو تنعّم، كما يحاسب الإنسان ويعذب أو ينعم؟
ولا شك في أنها ستحشر إلى اللّه، فهذا صريح بنص القرآن في هذه الآية، وفى قوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [5: التكرير].. أما ما وراء هذا فأمره إلى اللّه، وعلمه عند علام الغيوب.