فصل: تفسير الآيات (39- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (39- 41):

{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)}.
التفسير:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ} استدعاء لهؤلاء المكذبين الضّالين، من بين عوالم الأحياء كلها، التي عرضها اللّه سبحانه وتعالى في الآية السابقة، في قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ}.
وفى هذا الاستدعاء، ينعزل الضالون المكذبون باللّه وآياته، عن هذا الوجود، كما يعزل المرضى بأمراض خبيثة عن الأصحاء! وهؤلاء الضالون المكذبون، هم في حقيقتهم مصابون بأمراض خبيثة، لا في أبدانهم، ولكن في عقولهم.
إنهم كما وصفهم الحق جلّ وعلا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ}.
وانظر إلى هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يحتويه الظلام ويشتمل عليه! إنه أصمّ لا يسمع.. أي لا يصل إليه من العالم الخارجي مسموع.
وإنه أبكم، لا ينطق.. أي لا يصل منه إلى العالم الخارجي منطوق.
فهو- والحال كذلك- مصمت مغلق، لا يتصل بشيء، ولا يتصل به شيء.
ثم إنه- بعد هذا كله- أعمى، لا يرى شيئا، حتى جوارحه التي معه، من يد أو رجل!! هذا هو حال الذين كفروا بآيات اللّه.
إنهم كائنات ميّتة، وإن بدت حيّة، في صورة الأحياء.. فقد تعطلت حواسّهم، وأظلمت قلوبهم وعقولهم، وبهذا لم يكن بينهم وبين آيات اللّه تعامل، بسمع، أو نظر، أو عقل! وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو عرض لمشيئة اللّه، وقدرته، وحكمته.. وأنه سبحانه وتعالى هو مالك الملك، إليه يرجع الأمر كلّه.
وهؤلاء اللذين عصوا اللّه، وضلّوا عن سبيله، لا يظنون أنّهم أصحاب قوة وسلطان.. إنهم أذلّاء ضعفاء لا يملكون شيئا.. حتى هذا الضلال الذي هم فيه.. إنه ليس لهم، وليس من واردات حولهم وقوّتهم.. إن هناك سلطانا فوق سلطانهم، وقدرة فوق قدرتهم، وبذلك السلطان وبتلك القدرة هم محكومون، وهم صائرون إلى هذا المصير المشئوم الذي هم فيه.. فليموتوا كمدا وحسرة.. إنهم ممن شاء اللّه أن يضلّهم، لأنهم أهل لما أراده اللّه بهم! وهؤلاء الذين استجابوا للّه، وآمنوا، واستقاموا على طريقه القويم، إنما كانت استجابتهم، يدعوة من اللّه، وتوفيق لهم منه، إلى الإيمان، وأن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي أخذ بأيديهم إليه، وأدخلهم في عباده الصالحين، ولولا ذلك لكان شأنهم شأن هؤلاء الضالين، الذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم، وأن ينزلهم منازل الإكرام عنده.. فليهنئهم هذا الرضوان، وليسعدوا بما آتاهم اللّه من فضله.
وفى مشيئة اللّه، ومشيئة العباد، كثر القول، واختلفت المقولات، وتعدّدت الآراء، وتشعبت مذاهب الرأى، فكان من ذلك مقولات كثيرة:
فى الجبر والاختيار، وفى القضاء والقدر، وفى الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يتّصل بمشيئة اللّه، ومشيئة عباده.. وهل للعباد مع مشيئة اللّه مشيئة؟ وهل إذا كانت لهم مشيئة أفلا ينقص ذلك من كمال اللّه وقدرته؟ وإذا لم يكن لهم مشيئة فكيف يثابون ويعاقبون على ما لا مشيئة لهم فيه؟ إنهم مسيّرون لا مخيّرون.. وعدل اللّه يقضى ألا يحاسب إنسان على ما ليس من كسبه؟
وهكذا تتشعب مذاهب القول، وتختلف وجوه الرأى، ويحتدم الصراع بين أصحاب المقولات، ويلتحم القتال زمنا طويلا، يترامى فيه المقاتلون بكل ما يقع لأيديهم من أسلحة، في مجال الرأى حينا، وفى ميدان الحرب بالرماح والسيوف حينا.
هذا، وسنعرض لهذا الموضوع، في بحث خاص إن شاء اللّه.
وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} تسفية وتجريم لهؤلاء الذين أشركوا باللّه، وضلّوا عن سبيله.. فإن هؤلاء الضالّين المشركين، إذا كربتهم الكروب، وأحاط بهم البلاء، وعاينوا الموت، تنبهت فيهم قوى الإدراك التي كانوا قد عطلوها، ووضحت لهم الحقيقة التي ضلّوا الطريق إليها، فرأوا أنه لا إله إلا اللّه وحده، وأنه هو الذي يملك دفع هذه الشدائد، ويقدر عليها.. هنالك يدعون اللّه، ويضرعون إليه، أن يكشف الضرّ، ويرفع البلاء!
وتلك هي حال الإنسان، في الشدائد يجتمع رأيه، وتتفتح ملكاته، فيرى الواقع على حقيقته، فإذا زالت الشدة، وانفسح الأمل، أعطى زمامه لهواه، وأسلم وجوده لشيطانه، وعاد إلى ما كان فيه من ضلال وكفر.. {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [8: الزمر] وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَكُمْ}.
الاستفهام يراد به التقرير.. أي أجيبوا على هذا السؤال الذي أنا سائلكم عنه.
وأصل هذا الفعل {أرأيتم} مخاطبا به هؤلاء المشركين خطابا مباشرا.
ولكن لما كان بين هؤلاء المشركين وبين عقولهم حواجز من الضلالات والمنكرات، فقد جاء خطابهم على تلك الصورة، الفريدة، التي تجمع بين مخاطبين، والمخاطب واحد، حتى لكأنه ذاتان، أو ذات منقسمة على نفسها.
وفى قوله تعالى: {إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ}.
المراد بالعذاب هنا هو ما يأخذهم به للّه من عقاب شديد في الدنيا، كما أخذ به الضالين المكذبين من قبلهم.
وعطف قوله تعالى: {أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} على قوله تعالى: {عَذابُ اللَّهِ} لبيان أن هذا العذاب الذي يندرون به، هو عذاب شديد، أشبه بأهوال يوم القيامة.
ومن أجل هذا، كان وقوع المشركين تحت وطأة هذا العذاب داعية لهم إلى أن ينخلعوا عما كانوا فيه من غفلة، واستخفاف، بما يشغلهم من مطالب الحياة الجسدية، التي أعطوها وجودهم كله..، وأن يولّوا وجوههم إلى اللّه.
ففى مواجهة الشدائد القاسية التي تتهدد وجود الإنسان، وتشرف به على الهلاك، تنحلّ قوى الجسد، وتتبخر الأهواء المتسلطة عليه، وهنا يجد العقل سماء صافية تسطع فيها أنواره، كما تجد الروح مجالا للحركة والعمل، وإذا الإنسان بعقله وقد تخلص من الضباب الذي انعقد عليه، وبروحه التي انطلقت من قيود هذا الجسد المعربد، وإذا الإنسان هنا، يعاين الحقيقة، ويرى الحق، فيؤمن، إن كان كافرا، ويستيقن، إن كان مؤمنا.
وهذا أشبه بحال من يعالج سكرات الموت، فإنه يرى ماوراء المادة من شواهد الحياة الآخرة، فيؤمن إن كان كافرا، حيث لا ينفعه إيمانه، ويتوب إن كان عاصيا، حين لا تنفعه التوبة.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه وتعالى لفرعون، وقد آمن بعد أن أدركه الغرق، وأشرف على الموت: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [91: يونس] ويقول سبحانه فيمن يتوب وهو في مواجهة الموت: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [18: النساء].
وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ اعتراف هؤلاء المشركين باللّه.
وجوابهم في تلك الحال التي يسألون فيها، وهم في أمن عافية، لا يذكرون معها تلك الحال التي يكونون فيها تحت قهر البلاء والشدة، أو في مواجهة أهوال القيامة- جوابهم في تلك الحال، لا يكون إلا جحودا للّه، وكفرا به، واستغناء عنه.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} إشارة إلى هذا الجواب الذي سيعطونه في تلك الحال، وأنه ليس الجواب الذي يعطونه لو كانوا في مواجهة المحنة والبلاء، ولهذا جاء قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} كاشفا عن حالهم تلك، وأنهم لو صدقوا أنفسهم، وتدبروا الموقف وتصوّروه على حقيقته، لكان جوابهم: لن ندعو غير اللّه، ولن نشرك به أحدا.. ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا.. ولهذا ضرب اللّه على الجواب المنتظر منهم، وتولّى سبحانه الجواب عنهم، وألزمهم به إلزام من يؤمنون باللّه، ويقدرونه حق قدره، فقال تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} أي إنكم مع ما تقولون الآن من كذب وشرك، وأنتم في سعة من أمركم، ستقولون هذا القول الحق، وأنتم في يد البلاء والمحنة.
وقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} أي أنه سبحانه هو الذي سيكشف الضرّ الذي نزل بكم، وصرعتم به إليه، على حين هرب من وجوهكم، وفرّ من بين أيديكم، تلك الآلهة الباطلة التي كنتم تتعاملون معها، وتركنون في أموركم إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ} لأنها تفاهات لا تذكر في ساعة الجدّ، ولا يتعامل معها سفيه حين يثوب إليه عازب عقله.

.تفسير الآيات (42- 45):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)}.
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لمقطع من مقاطع الحياة، قبل عصر النبوّة، وفيه تتمثل مواقف المعاندين والملحدين باللّه، والمكذبين برسله، وما أخذهم به من نكال وعذاب.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى.. فقد كان قبل النبيّ الكريم رسل كرام، بعثهم اللّه بالرحمة والهدى لأقوامهم، فكذبوهم، وبهتوهم ومدّوا أيديهم إليهم بالضرّ والأذى.
وقوله تعالى: {فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} هو تعقيب على كلام محذوف دل عليه سياق النظم، أي فكذبوا بآيات اللّه، ومكروا برسل اللّه {فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ} أي فأخذهم اللّه {بالبأساء} أي بالمحن والشدائد، كتسليط العدوّ عليهم، ووقوعهم ليده، يقتل ويسلب، {والضراء} أي الفقر والجدب، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. وذلك لتتفتح قلوبهم إلى اللّه، وترفع أكفّهم بالضراعة إليه، ومن ثمّ يكون لهم إلى اللّه عودة، لو عقلوا، وتدبّروا.
إذ أن من شأن الشدائد أن تصفّى النفوس من شوائب الضلال العالقة بها، وتنقّى القلوب من الوساوس المستولية عليها، وتكشف عن العقول الظلام المحيط بها.. هذا إذا كان كيان الإنسان سليما، وكانت تلك الأمور عللا عارضة، تقبل الدواء المرّ وتنتفع به، وتجد فيه الشفاء والعافية.. أما إذا كان الكيان فاسدا بطبيعته، فلا دواء ولا شفاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لعلّهم حين ترهقهم الشدة، ويكربهم الضرّ، يتذلّلون للّه، ويضرعون إليه.
وفى هذا الترجي لعلّ إشارة إلى المطلوب منهم في تلك الحال، إذ هي حال من شأنها أن تقيم الضالّين والمنحرفين على رجاء من رحمة اللّه، فتخبت له قلوبهم، وتلهج بالضراعة إليه ألسنتهم.
وقوله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا} تحريض لهؤلاء الضالين أن يتداركوا أنفسهم، وأن يعودا بها إلى اللّه من قريب، تائبين ضارعين.
ولم يذكر الضرّ هنا مع البأس، لأن البأس أعمّ من الضرّ، إذ هو ضر، وأكثر من ضر.
وقوله سبحانه: {وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فلم يتضرّعوا، ولم يعودوا إلى اللّه، مع ما أخذهم به من بأساء وضراء، بل ظلوا على ما هم فيه من عمّى وضلال.. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي حبّب إليهم الشيطان، بغوايته، وخداعه، هذه المنكرات التي يعيشون فيها، فلزموها، وتعلقوا بها.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ} بيان للوجه الآخر الذي أراهم اللّه من آياته، وأخذهم به من عبر وعظات، لتتفتح مغالق قلوبهم إليه، ويؤمنوا به.
والذي ذكّروا به ونسوه، هو البأساء والضراء وقد أخذهم اللّه بهما ليكون لهم منهما عبرة وعظة، ولكنهم لم يعتبروا، ولم يتعظوا.
ولكن اللّه سبحانه- مع هذا- لم يعجّل لهم العقاب، بل أخذهم بحلمه، وقدّم لهم الدواء الحلو السائغ، بدلا من هذا الدواء المرّ، الذي لم يستسيغوه، ولم ينتفعوا به.. فساق إليهم النعم، وأغدق عليهم العطاء، {فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ} مما تشتهى أنفسهم، وتهوى أفئدتهم.. ومع ذلك فما نفعهم هذا الدواء، ولا ذهب بما بهم من داء.. بل زادهم هذا الرزق الكريم، كفرا باللّه، ومحادّة له.
وإنه إذ لم يكن في البأساء والضراء، ولا في النعمة والرخاء، ما يصحح معتقد هؤلاء القوم في اللّه، ويقيمهم على طريقه- كانت الثالثة، وهى القاضية، التي فيها الهلاك والدمار.
وهذا هو حكم اللّه فيهم، وأخذه لهم: {حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} وإنه لأخذ أليم شديد.. إذ كانوا على حال من البهجة والمسرّة، وفى مقام من الأمل المزهر والرجاء العريض، فتهبّ عليهم عاصفة جائحة، تنتزعهم انتزاعا على حين غفلة، وهم على تلك المائدة الحافلة بشهىّ الطعام والشراب، وإذا الأيدى الممدودة إلى المائدة تتجمد في طريقها إليها، وإذا الشّفاه المترشفة للكئوس المترعة تيبس عليها، وإذا العيون السارحة بين ألوان الطعام والشراب تجمد حدقاتها، وينطفئ بريقها.. {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [102: هود].. فلو أن هؤلاء المشركين، أخذوا وهم في لباس البأساء والضرّاء لخفّف عليهم مرارة الموت، ما هم فيه من مرارة الحياة التي يحيونها، ولكنهم تجرعوا كأس المنية مرّا مترعا، وفى أفواههم، وعلى ألسنتهم، طعوم وطعوم، من كل حلو وشهىّ! والإبلاس: الحسرة الشديدة، والمبلس: الذي وقع في معصية ولا حجة له، ولا عذر بين يدى العقاب الذي وقع به.
وقوله تعالى: {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} هو آخر ما يشيّع به هؤلاء الهالكون، وما يتبعهم من دنياهم إلى المصير الذي هم صائرون إليه.. لقد قطع دابرهم، أي اجتثّ كل شيء لهم، ومحيت آثارهم، ولم تبق منهم باقية.. إنهم وباء وبيل، ومرض خطير، يتهدد الإنسانية بالفساد والضلال، فكان خلاص الإنسانية منهم نعمة من نعم اللّه، تستوجب الحمد والشكران.. {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا}، أي لم تبق منهم باقية، من أصول وفروع {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} الذي وقى النّاس هذا الشرّ المستطير، وعافاهم من هذا البلاء المبين!

.تفسير الآيات (46- 47):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)}.
التفسير:
بعد أن عرض اللّه سبحانه وتعالى في الآيات السابقة (42- 45) مصارع القوم الظالمين، بعد أن جاءتهم رسل اللّه، فكذّبوهم، وأخذوهم بالضرّ والأذى- أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى المشركين المعاندين من قومه بقوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}.
والضمير في {به} يعود إلى المأخوذ، المفهوم من قوله تعالى: {أَخَذَ} والمعنى: أجيبوا أيها المكابرون المعاندون، والمشركون باللّه- أجيبوا عن هذا السؤال: إذا أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، أي ضرب عليها سدّا، وعطّل وظيفتها، فلم يكن لها ما للقلوب من مشاعر ومدارك- فهل هناك إله غير اللّه يأتيكم بهذا الذي أخذه اللّه منكم؟
وفى التعبير بالفعل أخذ إشارة إلى أن هذه النعم هي منحة لهم من عند اللّه، وفضل من أفضاله على عباده، وللّه- سبحانه وتعالى- أن يأخذ منهم ما أعطى، ويستردّ ما منح، ولا اعتراض لهم عليه.
وإذا كانوا لا يحيون بغير هذه الحواس من سمع وبصر، ولا يكونون من عالم البشر إلا بهذه القلوب، فإن عليهم أن يبحثوا عن جهة تعيد إليهم ما أخذ منهم، أو مثل هذا الذي أخذ منهم، إن كان بهم حاجة إلى وجودهم في عالم البشر.
وإنهم مهما جدّوا في البحث، واجتهدوا في السعى، لن يجدوا غير اللّه لهذا الذي يطلبونه.. فما لهم لا يؤمنون به؟ وما لهم يعبدون من دونه ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟ أليس ذلك ضلالا وسفها؟ وبلى إنه الضلال والسّفه والخسران المبين.
وفى إفراد السّمع، وجمع الأبصار والقلوب، إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من آياته، على علوّ متنزّله، وأنه تنزيل من ربّ العالمين.
فالسّمع من وظيفته أن يتلقى الأصوات، وأن يميز بينها، ويمسك بالواضح المميز منها، وإنه لن يحقق هذا، أو يتحقق له هذا، إلا إذا عزل الصوت الذي يريد استقباله، عن كل ما يتصل به من أخلاط الأصوات الأخرى.. وهذا يعنى أن السّمع وإن اتسع لمئات الأصوات المختلطة، فإنه لا يميز إلا واحدا منها، بالإصغاء إليه، وعزل ما سواه عنه، وإلا كان المسموع له، أصواتا لا مفهوم لها، إلا على أنها دوىّ كدوىّ النحل مثلا! ومن هنا كانت الحكمة في إفراد السّمع، في القرآن، وفى جميع الآيات التي ذكر فيها، وذلك من القرآن، هو توجيه لوظيفة السمع، وإقامتها على الوجه الذي ينتفع به صاحبه، فالكلمة التي تدخل على الإنسان من طريق سمعه، لا تثير تفكيرا، ولا تحرك وجدانا، ولا تهزّ شعورا، إلا إذا كانت ذات مدلول محدّد واضح.. وهذا لا يكون إلا إذا استقلّت بذاتها، واتخذت طريقها من السمع إلى مواطن الإدراك والشعور من الإنسان، غير مختلطة بغيرها، مما يسبقها أو يلحقها من كلام.
ومن هنا أيضا ندرك السّرّ في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
فإن أبرز ما في هذا الأمر من حكمة، هو نقل كلمات اللّه، من اللسان، إلى الأذن، ثم إلى العقل والقلب، في صورة سويّة واضحة، ليكون مفهومها سويّا واضحا.
فالإنسان له سمع، وإن بدا أن هذا السمع هو أسماع، في استقباله لعشرات الأصوات ومئاتها، دفعة واحدة.. والمطلوب من الإنسان أن يستعمل سمعا واحدا، ليكون لما يسمعه معقول، ومفهوم، وثمر! أما حاسّة البصر، فهى على خلاف حاسّة السمع.. إذ أن العين تستطيع أن تضبط كثيرا من صور المرئيات في نظرة واحدة، كما أنها تستطيع أن تعاود النظر في الشيء المرئي لها، مرّة ومرة، ومرات كثيرة، حتى تتحققه وتستيقنه.
ومن هنا كانت العين مجموعة من الأعين، بتردّدها على الشيء، ومعاودتها النظر إليه، حالا بعد حال، وليس كذلك الأذن التي إن أفلت منها الصوت الملقى إليها، لم يكن في الإمكان ردّه، فقد ذهب أدراج الرياح، ولا يمكن أن يعود، وإن أمكن استدعاء مثله، من مصدره الذي جاء منه.
والقلب، في تأثّره بالمحسوس، من مرئى، ومسموع، ومشموم، وملموس، هو أشبه بالعين، في قدرته على معاودة النظر إلى تلك الصور التي تلقى بها الحواس إليه، فيعيش معها زمنا، على هيئة خواطر ومشاعر ووجدانات، يشكّل منها جميعا عالمه الذي يعيش فيه، ويستملى منه نزعاته وسلوكه.
وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ}.
تصريف الآيات: تنويعها، وبسطها، لتنكشف وتتضح.
ومعنى يصدفون: أي ينصرفون، ويميلون عن الحق الذي تحمله آيات اللّه- إلى ما يشتهون من الباطل والضلال.
وفى هذا المقطع من الآية الكريمة تشنيع على هؤلاء الضالّين، وفضح لسفاهتهم، على أعين الناس، ودعوة لكل ذى عقل أن يرى ويحكم.
وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} استحضار لهؤلاء المشركين في موقف آخر من مواقف المساءلة، ومواجهة العذاب المعدّ لمن يدينهم الحساب في هذا الموقف، بعد أن ذكّروا بنعم اللّه التي تلبسهم ويلبسونها، والتي إن سلبها اللّه إياهم لم يكن لقوة في الوجود أن تأتيهم بها.
وهنا في هذا الموقف، هم مجرمون، قد حكم بتجريمهم من قبل، وها هم أولاء يهدّدون بعذاب اللّه، الذي يؤخذ به كل متكبر جبار، وأن هذا العذاب غير موقوت بوقت لديهم، وإنما أمر ذلك إلى اللّه، فقد يأتيهم على حين غفلة، من حيث لا يشعرون أو يتوقعون، كما فعل ذلك بقوم لوط وقوم عاد، أو قد يأتيهم العذاب بعد أن ينذروا به، ويحدّد لهم وقته، تلميحا، كما في قوم نوح، أو تصريحا، كما في قوم صالح، إذ يقول اللّه تعالى: {فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [65: هود].
وفى قوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} دفع بهم إلى يد الهلاك، ليلحقوا بالظالمين، الذي أهلكهم اللّه من قبل، ودمدم عليهم بذنبهم.. فتلك سنّة اللّه في الذين خلوا من قبل.. وأنه إذا كان سبحانه وتعالى لم يعجّل لهم الهلاك، ولم يوردهم موارد الظالمين، فذلك إملاء لهم، ومظاهرة لحجة اللّه عليهم، ليذوقوا العذاب ضعفين يوم القيامة {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [16: فصلت].