فصل: تفسير الآيات (56- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (56- 58):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين أرادوا النبيّ على أن يطرد من اجتمع إليه من الفقراء والمستضعفين، ثم ليتحدث بعد هذا إليهم هم، إن كان له معهم حديث! وقد أمر اللّه النبيّ أن يلقى هؤلاء المشركين بهذا القول الفصل فيما بينهم وبينه:
{إِنِّي نُهِيتُ} أي تلقيت نهيا من ربى {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من أصنام، أو ملائكة أو جنّ، أو كواكب، وما أشبه ذلك.
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ} بيان لضلال هؤلاء المشركين، وأنهم إنما يعبدون آلهة من صنعة أهوائهم، ونزغات شياطينهم، لا يقلبها عقل، ولا يتعامل معها عاقل.. وتكرار الأمر {قل} هو- كما قلنا- مزيد من عناية اللّه- سبحانه- بالرسول الكريم، وإشعار له بأنه مأنوس برحمة اللّه، إذ يضع سبحانه وتعالى على فمه كلماته، وآياته، ليلقى بها المشركين، ويفضح باطلهم، ويكشف ضلالهم.
وقوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} هو تتمة مقول القول، في قوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ} لأن من يتبع أصحاب الهوى يضلّ ولا يهتدى أبدا. وأنتم أيها المشركون أصحاب هوى وضلال، فلو اتبعتكم كنتم مثلكم من الضالين، وحاشا للّه أن أفعل هذا، وأن ألقى بنفسي إلى التهلكة.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي على أمر واضح مشرق من صلتى بربّى ومعرفتى به، تلك المعرفة التي لا يدخل عليها شك أو ريب، ولا يلحقها وهن أو ضعف.. وحرف {على} هنا يفيد الاستعلاء والتمكن، وهذا يعنى أن معرفة النبيّ بربّه معرفة كاملة، تملأ القلب يقينا واطمئنانا، فلا يتحول عنها أبدا.
وقوله سبحانه: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} هو عطف على قوله تعالى: {إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} من عطف الجمل.. أي إنى على معرفة بربّى وقد آمنت به، وأنتم على ضلال وعمى فكذبتم به، ولم تتخذوه إلها واحدا تعبدونه.
وقوله تعالى: {ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ} أي ليس في يدىّ العذاب الذي تستعجلونه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ} [53: النمل].. وما حكاه سبحانه وتعالى على لسانهم في قوله: {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال] وقوله سبحانه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي أن إلى اللّه سبحانه مرجع هذا الذي تستعجلون به من عذاب، إن شاء عجّل لكم العذاب، وإن شاء أخره، وإن شاء رحمكم وأخذ بكم إلى طريق الهدى.. أما أنا فلا أملك من هذا كله شيئا.. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} أي يقضى به، {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} فما قضى به فهو الخير كله، وهو العدل كله.
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إشارة إلى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لو كان في يده هذا المقترح الذي يقترحونه عليه، ليكون آية صدقه عندهم، لجاءهم به، ولأرسل عليهم العذاب الذي طلبوه، ولقضى الأمر بينه وبينهم، ولم يعد ثمّة جدال، أو خلاف.. ولكن الأمر بيد اللّه، وهو حكيم حليم، لا يعجّل لكم ما تطلبون، مما فيه هلاككم، وقد اقتضت حكمته أن يمهلكم، فلعل في امتداد الزمن بكم ما يفسح المجال أمام الكثير منكم، ليهتدى، ويؤمن باللّه، ويفوز برضوانه.
فكل يوم يمر بكم دون أن يأتيكم هذا العذاب الذي تطلبونه، هو رحمة من اللّه بكم، ودعوة مجدّدة منه سبحانه إليكم، أن ترجعوا إليه، وتؤمنوا به، وتكونوا في عباده المخلصين.. وهذه فرصتكم.. إن أفلتت منكم فلن تعود أبدا.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} تهديد ووعيد لهؤلاء الذين أمهلهم اللّه، ولم يعجل لهم العذاب، ليصححوا عقيدتهم، ويرجعوا إلى ربهم.. ولكن الظالمين ظلوا على عتوّهم، وكفرهم، وعنادهم.. واللّه عليم بهم، وسيأخذهم بذنوبهم: {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}.

.تفسير الآيات (59- 62):

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)}.
التفسير:
بدأت السورة بآيات فيها عرض لجلال اللّه، وعظمة ملكه، وبسطة سلطانه، وسعة علمه، ثم جاءت بعد ذلك بمواجهة النبي وقومه، وخاصة المشركين منهم، الذين أنفوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وأبوا أن يدخلوا في دين يجعلهم والأرقاء والفقراء على سواء.
ثم تجيء الآيات بعد ذلك، لتعرض جانبا من جلال اللّه وعظمته، ليكون في ذلك ذكرى لمن غفل عن اللّه، ونسى ما ذكّر به من قبل.
وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} الضمير في {وعنده} يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى، حيث جاء لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}.
الآية (58).
ومفاتح الغيب: مفاتيحه التي تفتح بها خزائنه المودع فيها الغيب.
والغيب: ما غاب عنا إدراكه بحواسنا أو بعقولنا.
والمعنى: أن الغيب المحجب عنا في أطواء الزمان أو المكان، هو مما استأثر اللّه- سبحانه- بعلمه وأن ما يضمره هؤلاء الظالمون، من شر، وما يبيتونه من سوء، هو واقع في علم اللّه، وسيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة منه والتعبير عن الغيب بأنه مودع في خزائن، وأن هذه الخزائن لها مفاتيح، وأن هذه المفاتيح لا يعلمها إلا اللّه- في هذا إشارة إلى أن الغيب الذي استأثر اللّه بعلمه، أبعد من أن ينال، أو أن يطلع عليه أحد، إلا لمن أذن له الرحمن، ممن اصطفاه من خلقه.
وفى هذا يقول سبحانه: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ} [26- 27: الجن].
وإظهار الرسول على الغيب، هو إعلامه به من قبل اللّه تعالى، بما يوحى إليه من أنباء الغيب، كما يقول سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا} [49: هود].
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} هو بيان لبعض علم اللّه.
وتخصيص البر والبحر، لأنهما مما يقعان تحت حواسنا، وقوعا دائما متصلا.
ومع هذا فإنهما مما هو غيب عنا، إذ أن كل ما نعلم من أمرهما هو قليل قليل إلى ما لا نعلم.. ثم إن هذا العلم الذي نعلمه هو جهل بالنسبة لعلم اللّه، الذي يعلم حقائق الأشياء، وما أودع فيها من أسرار، أما علمنا فهو واقف عند ظواهرها، لا ينفذ إلى الصميم من أعماقها.
وقوله سبحانه: {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ} هو تفصيل، بعد تفصيل، بعد إجمال.. فقد جاء علم اللّه عاما شاملا: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} ثم جاء مفصلا {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ثم فصل هذا المفصل {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ} إلا يعلمها، وإلا هي {فِي كِتابٍ مُبِينٍ} أي أن كل شيء وجد أو سيوجد، هو في علمه منذ الأزل، مسجل في كتاب محفوظ، لا يتغير ولا يتبدل: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ} [34: الأنعام] والكتاب المبين، هو الواضح، المحكم، المتمكن من كل شيء... {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً} [29: النبأ].
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} إشارة إلى نعمة النوم، واليقظة، وأن النوم أشبه بالموت، حيث تسكن فيه الحواس، وتتعطل ملكات الإنسان.. ونوم الإنسان ويقظته كل يوم، فيه تذكير له بالموت والبعث، إن كان مؤمنا، وتصوير لهما إن كان شاكا، ومظاهرة للحجة عليه، إن كان منكرا كافرا.
وفى قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} بعد قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} إمساك بالإنسان وهو في حال النوم، كميّت بين الأموات، ووضعه أمام ما كسب في حال يقظته، قبل أن يحتويه النوم أو يمسكه الموت.
وتلك عملية يرى فيها الإنسان صورة مصغرة لما يكون عليه حسابه يوم القيامة، وأنه ما هي إلا نومة كهذه النومة، حتى يجد نفسه هو وما عمل، بين يدى اللّه، للحساب والجزاء، وللجنة أو النار.
وفى هذا ما يحمل الإنسان على أن يتدبر أمره، ويراجع حسابه، ويستعد لليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وفى التعبير عن أعمال الناس بالجرح {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} إشارة إلى الأعمال السيئة، وأنها عدوان على حرمات اللّه، وجرح لها، حتى لكأنها كائن حىّ، يصاب بطعنة رمح، أو ضربة سيف.. وإذ كانت كذلك فإنه لابد من قصاص، كما يقول سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ}.
والسؤال الوارد هنا: إذا كان علم اللّه عامّا شاملا لكل ما يعمل الإنسان من خير وشر، فلم اقتصر به هنا على ما اكتسب الإنسان من سيئات، وما اجترح من حرمات؟.
والجواب على هذا، هو أن سلامة الإنسان قائمة على تجنبه المعاثر، ووقوفه على حدود اللّه.. فإذا كفّ يده عن اجتراح المحارم، فقد فاز ونجا.. ذلك أنه إذا خلّص نفسه من دواعى الإثم والشر، استقامت طريقه على الحق والهدى، وانطلق في حرية إلى حيث أمر اللّه من خير وإحسان.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} الضمير المجرور بحرف الجر في يعود إلى النهار.. {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} والمراد بالنهار ليس نهارا بعينه، وإنما هو مطلق النهار، حيث تكون فيه يقظة الإنسان والكائنات الحية.. وحيث تقع فيه كل أعمال الإنسان من خير أو شر.
وقوله: {لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى} أي أن هذا البعث الذي يكون باليقظة من النوم إنما هو لاستيفاء الأجل الذي قدره اللّه للإنسان في حياته الدنيا.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي أنه بعد استيفاء الأجل المقدور لكم، يرجعكم اللّه إليه بالموت، ثم يبعثكم بعد الموت لتروا أعمالكم، وتحاسبوا عليها.
قوله تعالى: {هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} بيان لقدرة، وهو أنه- سبحانه- بهذه القدرة، قائم على عباده، آخذ بنواصيهم، لا يملكون شيئا معه من أنفسهم، وأن عليهم حفظة من عنده، يكتبون ما يفعلون، ويحصون عليهم ما يعملون.. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ} [10- 12: الانفطار] وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} مجيء الموت: هو حلول وقته، بانتهاء عمر الإنسان.. فإذا انتهى أجل الإنسان، أدّى رسل اللّه مهمتهم معه، بانتزاع روحه، دون إمهال أو تفريط.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ} إمارة إلى أن الموت ليس هو نهاية الإنسان، وإنما هو بداية مرحلة جديدة، ونقلة إلى عالم آخر، حيث يبعث الناس، ويردون إلى اللّه مولاهم الحق، كما هو حق سبحانه في ذاته، وكما يراه المؤمنون والكافرون يومئذ.. حيث ينادى منادى الحق: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيكون جواب المخلوقات جميعها بصوت واحد: {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.

.تفسير الآيات (63- 65):

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)}.
التفسير:
وهذا مظهر آخر من مظاهر جلال اللّه وقدرته، وبسطة سلطانه، وسعة علمه.
فهو سبحانه، هو الذي يرجى لكشف الملمّات، ويدعى عند الشدائد.
حيث تضل عن العقول كل تلك الخرافات التي يعبدها الضالون، ويتعامل معها المشركون.
وقوله تعالى: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؟.
استفهام تقريرى، مطلوب الجواب عليه، ممن يدخلون في مثل هذه التجربة القاسية، التي لا يسلم منها إنسان، في جميع أحواله وظروفه.
وفى قوله تعالى: {مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إشارة إلى أن الشدائد التي تصيب الإنسان في البر والبحر، هي ظلمات تحجب عنه الرؤية، وتعمّى عليه طريق النجاة، فلا يجد إلا الاستسلام، واللّجأ إلى اللّه.
والتضرع: التذلل والمسكنة.. والخفية: التخافت، والهمس.
وهذا ما يفعله الكافرون والمشركون، خوفا من أن يفتضح حالهم، وذلك حين تكون الشدة الممسكة بهم غير قاهرة، فإذا كانت الشدة مطبقة ضاغطة، كان منهم الضّراعة والتذلل.. علانية وصراخا.
وفى قوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ} ما يكشف عن تلك الطبائع المنكرة، وهذه القلوب القاسية، التي تأبى أن تخلص الإيمان، حتى وهى في مواجهة الموت، فلا يدعون اللّه دعاء من هو حاضر في نفوسهم، مستول على كيانهم، بل يدعونه دعاء الغائب، البعيد عنهم.. {لَئِنْ أَنْجانا} ولم يقولوا لئن أنجيتنا.. لأنهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنه قريب منهم، يسمع سرّهم ونجواهم.
ومع هذا، فقد أوسع اللّه لهم في باب رحمته، فكشف عنهم الضرّ، ودفع عنهم البلاء.. فلما اطمأنوا، عادوا إلى ما كانوا عليه من شرك وكفر.
{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}.
وقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}.
فاللّه الرحمن الرحيم، هو منتقم شديد العقاب.. قادر على أن يبعث على هؤلاء المشركين المحادّين للّه ورسوله، صواعق مهلكة من السماء، أو بحارا مغرقة من الأرض، أو أن يلبسهم شيعا، أي يجعلهم أهواء متفرقة، ومذاهب متقاتلة، يضرب بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.
وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطكم شيعا وفرقا، حتى ليكاد يلبس بعضكم بعضا، كما يلبس الجسد الثوب، مع تفرقكم مشاعر وعواطف ونزعات.. وهذا هو البلاء، أعظم البلاء، يصاب به مجتمع، يحويه مكان واحد، وحياة واحدة.. وإنه لا نعمة أعظم من نعمة الألفة بين قلوب الجماعة، تلك الألفة التي تجمعها على الحب والمودة والرحمة، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً}.
وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}.
إلفات لكل ذى عقل أن ينظر إلى هذه الآيات التي تكشف عن جلال اللّه، وقدرته، وعلمه وحكمته، والتي يجلّيها في معارض شتّى، بحيث يرى منها كل ذى نظر، وجه الحق، ويتعرف طريقه إلى اللّه.. وما ذلك إلا ليتنبه هؤلاء الغافلون، ويفقه أولئك الجاهلون.. لعلّ لمعة من لمعات الهدى والإيمان، تضيء ظلام عقولهم، وتكشف ضلال قلوبهم.