فصل: تفسير الآيات (66- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (66- 67):

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}.
التفسير:
ومع هذه الآيات البينات، وتلك المعارض المشرقة التي ترفعها لأعين الناس، فإن كثيرا من الناس ضلّوا عنها، وكفروا بها، وأنكروا الواقع المحسوس الذي يجابه حواسّهم من نورها السنىّ، وأريجها العطر.
وفى قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} تشنيع على هؤلاء المعاندين من زعماء قريش وساداتها.. وأنّهم إذ جحدوا الحقّ، فقد جحدوا كذلك معه عاطفة القرابة والرحم.. وأنهم بدلا من أن يكونوا إلى جانب النبيّ المبعوث منهم، ينصرونه ويشدّون أزره- كانوا حربا عليه، وعلى من ظاهره، وآمن به.
وفى كلمة {قومك} تسفيه لهؤلاء القوم الذين لم يستنّوا مع النبيّ سنّتهم في الحياة التي يحيونها، بل لقد خرجوا عليها خروجا فاضحا.. ذلك أن من عاداتهم التي تكاد تكون طبيعة فيهم، الانتصار للقريب، والاستجابة لدعوته.. ومن مأثور أقوالهم في هذا: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ومنه قول شاعرهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ** في النائبات على ما قال برهانا

فكيف وداعيهم هو هذا النبيّ، الذي يدعوهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم.. {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ}.
وقبل هذا وذاك، هو يدعوهم إلى أن يرفعوا وجوههم إلى السماء، وأن يرتفعوا بأنفسهم عن هذا الامتهان المهين، وهم عاكفون على قطعة حجر، أو خشب، يعبدونها، ويعفّرون وجوههم بالتراب بين يديها؟
وقوله تعالى: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} هو تهديد لهؤلاء المشركين بأن يتركوا ليد الضياع والهلاك، بعد أن أدّى النبيّ رسالة اللّه إليهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم تلك الجناية التي أمسكت بهم على مواقع الشرك والضلال.. والنبىّ ليس وكيلا عنهم، بل هم راشدون يتولّون أمر أنفسهم، ويحاسبون على ما يقع منهم.
وقوله سبحانه: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إما أن يكون من مقول القول الذي قاله النبيّ لهم، وأسمعه إياهم، وإما أن يكون من اللّه سبحانه ابتداء.
والمعنى أن لكل أمر عاقبة ونهاية، وسوف تعلمون أيها المشركون عاقبة أمركم، وسوء مصيركم..!

.تفسير الآيات (68- 70):

{وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.
التفسير:
بعد أن صرّف اللّه الآيات للنّاس، وأبان لهم فيها معالم الطريق إليه، فآمن من آمن، وكفر من كفر، أمر سبحانه النبيّ الكريم، أن يخلص بنفسه وبدينه من المشركين، وألا يتحكك بهم، حتى لا يسمع منهم ما يكره، أو يرى منهم ما يسوء.
وإذ كان النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- حريصا على هداية قومه، وإذ كان بينه وبينهم هذه الرابطة من صلات القربى والمخالطة في الحياة، الأمر الذي يشق على النبيّ ويعنته، إذا هو اعتزلهم عزلة كاملة، وقطع ما بينه وبينهم من صلات- فإن اللّه سبحانه وتعالى قد قصر هذا الأمر للنبىّ باعتزال قومه والإعراض عنهم، على الحال التي يخوضون فيها في آيات اللّه، ويتخذونها هزوا وسخرية، ففى تلك الحال ينبغى على النبيّ ألّا يخوض معهم في هذا الحديث، وألا يجادلهم فيما يخوضون فيه، بل يترك هذا المجلس الذي هم فيه، لأنهم على منكر، وهو لا يستطيع أن يغيّر هذا المنكر بيده، أو لسانه، فليغيّره بقلبه.
بتلك الصورة التي يريهم منها منطقا عمليا لما ينكره عليهم.. {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
والخوض في الحديث، معناه إرسال القول جزافا، بلا حساب ولا تقدير، وذلك لا يكون إلا في مجال الاستهزاء والاستخفاف بالحديث الذي يدار.
وليس الإعراض الذي يكون من النبيّ في تلك الحالة، هو إعراض دائم متصل أبدا، وإنما هو إعراض موقوت بهذا المجلس، وبكل مجلس يكون فيه مثل هذا الخوض في آيات اللّه من المشركين.. فإذا كان منهم بعد هذا مجلس يجرى فيه حديث جدّ، ووقار، والتزام عقل ومنطق، فلا بأس على النبيّ من أن يعود إلى الجلوس معهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي في حديث غير حديث الدّين الذي يدعون إليه، أو الدّين الذي هم فيه.. فإذا خاضوا في أمور غير أمور الدّين، مما يتصل بحياتهم الخاصة، من تجارة، وحرب، وسلم، وغير ذلك، فإن الخوض هنا لا يمسّ الدّين، ولا يجرح مشاعر النبيّ.. وإنه لا بأس على النبي من الجلوس معهم.
وقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هو تنبيه للنبىّ، وتحذير له من تلك المجالس، التي تدور فيها أحاديث المشركين، هازئة عابثة بالدين، وأنه إذا كان النبيّ في مجلس مع هؤلاء المشركين، ثم جرى الحديث بينهم في هذا الاتجاه، ثم كان من النبيّ أناة واستماع، طلبا لكلمة حق تجرى على لسان أحدهم، أو التماسا لمدخل يدخل به إلى الحديث معهم فيما هو حق وخير، فإن هذا الموقف من النبيّ هو مما يدخل في أمر الحظر الذي جاء في قوله تعالى {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وأن هذا أيضا مما يغفره اللّه للنبى، ويتجاوز له عنه، إذ كان ذلك عن سهو ونسيان، لما وقع في نفسه من رجاء في هداية القوم.. ولكن إذا ذكر النبيّ في تلك الحال ما أمره اللّه به من الإعراض عنهم، فليعرض عنهم في الحال، وليأخذ نفسه من بينهم بلا مهل، حتى لكأنه وقع تحت خطر يتهدّده، ويطلب النجاة منه.. وفى هذا إشعار للنبىّ بأن مجالسة القوم- وهم في تلك الحال- شر مستطير، يجب أن يكون على ذكر منه دائما، وعلى حذر منه أبدا.
وفى قوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ} إلفات قوىّ للنبىّ، لحراسة نفسه من هذا الخطر، وتحريض شديد له على أن يكون على حذر دائما من هؤلاء القوم، ومن مجالسهم، التي لا تنضح بغير الشر والسوء.
والشيطان لا سلطان له على النبيّ، بل لا سلطان له على أىّ مؤمن صادق الإيمان، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [99- 100 النحل] والباء في {به} هنا للسببية، أي أنهم أصبحوا مشركين بسبب متابعتهم للشيطان، واستسلامهم لغوآياته.
وفى نسبة هذا النسيان من النبيّ إلى الشيطان، وإضافته إليه، زيادة في تقبيح هذه المجالس التي يخوض فيها المشركون في آيات اللّه، وأنها تحت سلطان الشيطان، يمسك فيها زمام الموقف، ويجرى على ألسنة القوم ما يتساقط منها من هزء وسخرية.. ومجلس هكذا يحضره الشيطان، ويدبر الحديث فيه، لا ينبغى للنبىّ أن يكون من شهوده، فإن كان فيه لحظة- تحت أي ظرف- وجب أن ينتزع نفسه منه انتزاعا.
وقوله تعالى: {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} إشارة إلى أن ما يقع من المشركين في تلك المجالس الهازئة الهازلة من منكر، لا يمسّ المتقين بسوء، ولا يحمّلهم شيئا من أوزار هؤلاء القوم.
ولكن تجنّب هذه المجالس هو حماية للمؤمنين من أن تصيبهم عدوى هذه الأحاديث، وإن من الخير لهم، والسلامة لدينهم، أن يتّقوا هذه المجالس، ويحذروها.
وهكذا في كل شر، من قول أو عمل.. إنه واقع بأهله أولا وقبل كل شيء، وما يصيب غيرهم منه، لا يخفف من آثاره السيئة الواقعة بهم، بل إنه ليضاعف من إثمهم، ويضيف إلى جرمهم جرما.. وما يجب على المؤمنين في تلك الحال هو أن يعزلوا أنفسهم عن تلك المآثم، وأن يتقوا الخطر الذي قد يصيبهم من مداناتها.
وهذا الأمر المتوجّه به إلى النبيّ، هو أمر عام، متوجّه به إلى كلّ مؤمن، وأنه إذا كان النبيّ- وهو من هو في وثاقه إيمانه، وقوة يقينه، وعصمة ربّه له- مدعوا إلى تجنب هذه المجالس الآثمة، خوفا عليه في نفسه ودينه، فإن غيره من المؤمنين أولى بمحاذرة هذه المجالس، واجتنابها.
وقوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} هو توكيد لهذا الأمر الذي أمر به النبيّ، من اجتناب المشركين، وقطع كل ما في نفسه من أمل أو طمع في هدايتهم، بهذه اللقاءات التي يحرص على لقائهم فيها.. فإنهم ليسوا من أهل الدين، ولا يرجى أن يكون لهم دين، لأن دينهم الذي يملك عليهم نفوسهم، هو اللعب واللهو، والعكوف على هذه الحياة الدنيا، التي أعطوها كل وجودهم، بحيث لا تتسع نفوسهم لشيء آخر غير هذه الدنيا، وما فيها من لهو ولعب! وليس معنى هذا أن يطوى النبيّ كتاب دعوته، وأن يعتزل الناس والحياة، إنما المطلوب منه هو أن يذكّر بدعوته، وأن يبشر وينذر، وأن يسمع النّاس جميعا كلمات ربّه.. {وذكر به} أي بالقرآن الذي معك، مجرّد تذكير، وليس للنبىّ أن يحمل الناس حملا عليه، وأن يقطع أنفاسه بالجري وراء من لا يستمع إليه، ولا يستجيب له.
وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} أي أن دعوة النبيّ هي البلاغ، والتذكير بيوم الحساب، والتخويف من هذا الموقف الذي تبسل فيه كل نفس بما كسبت، أي تعزل وتفرد، ليس معها إلا ما كسبت من خير أو شر.. والأصل في الباسل، أنه الكريه، المخيف، الذي يتجنبه الناس، ومنه سمىّ الفارس الشجاع: باسلا، لأن المحاربين يتجنبونه، ويصدّون عن لقائه، وفى هذا يقول عنترة:
فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل ** مرّ مذاقته كطعم العلقم

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} أي أن النفس- كل نفس- لا ينفعها إيمان، ولا عمل يوم القيامة، فهى في دار حساب وجزاء، وليست في دار إيمان وعمل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} [158: الأنعام] والمراد ببعض آيات ربك، هو ما يكون بين يدى الساعة من علامات وإرهاصات.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} هو إمساك بمخانق هؤلاء الذين أشركوا باللّه، وعرض لهم في هذا الموقف العظيم على رؤوس الأشهاد، والإشارة إليهم وهم في قفص الاتهام: {أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا} من سيئات، لا شيء معهم غيرها.. والباء هنا للإلصاق، مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [21: الطور] هؤلاء الذين أشركوا باللّه، وأفردوا، بما كسبت أيديهم من آثام، ووضعوا موضع المساءلة والحساب- ما تكاد العيون تأخذهم، وترى ما على وجوههم من غبرة ترهقها قترة، حتى يؤذّن مؤذّن الحق، بالحكم الذي حكم عليهم به أحكم الحاكمين: {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} لا شيء لهم غير هذا، فليذقوه حميما وغسّاقا.. فتلك هي عاقبة الكافرين.
والحميم: هو الماء الحار الذي اشتدّ غليانه، ومنه الحمم، وهى القطع الملتهبة من النار.

.تفسير الآيات (71- 73):

{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}.
التفسير:
فى هذا المعرض الذي يؤخذ فيه المشركون بشركهم، حيث يلقون في جهنم، ويصلون نارها، ويشربون حميمها- يتلفت المؤمنون إلى أنفسهم، ويتلمسون طريق الخلاص من هذا المصير المشئوم، فيلقاهم على أول الطريق، النبيّ الكريم، بقول اللّه تعالى: {أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا}.
والاستفهام هنا إنكارى، ينكر فيه المؤمنون على أنفسهم أن يأخذوا طريق هؤلاء القوم الضالين، الذين ساقهم الضلال إلى هذا المصير المشئوم، وأن يتخلّوا عن هذا الطريق المستقيم الذي أقامهم الرسول عليه، ليأخذوا وجهتهم فيه إلى رضوان اللّه، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم.
وإنه لخسران مبين، وسفه جهول، أن يرى المؤمن هذا الذي يلقاه المكذبون باللّه، من بلاء ونكال ثم يسلك طريقهم، ويتبع سبيلهم.. إنه بهذا يردّ إلى الوراء، على وضع مقلوب: {وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا}.
وليس ثمة عذر يقوم لهذه العودة إلى القهقرى، {بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ} وأرانا الهدى مشرقا وضيئا، وأقامنا على الصراط المستقيم.
أفبعد هذا ينتظم المؤمنين ركب مع هؤلاء الضالين، الذين لم يعرفوا غير الظلام لونا، ولا غير الضلال طريقا؟
أنردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه، ونكون كالذى استهوته الشياطين في الأرض حيران، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويمدّون إليه أيديهم بحبل النجاة، فلا يستجيب لهم، ولا تعلق يده بحبالهم؟.
وفى قوله تعالى: {لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا} إشارة إلى أن المؤمنين هم دعاة هدى مع النبيّ، يحملون إلى الناس هذا الخير الذي بين أيديهم، ويطعمونهم مما طعموا منه.. إن ذلك أشبه بالزكاة المفروضة على المسلمين للفقراء والمساكين.. وهؤلاء المشركون هم فقراء ومساكين، يستحقون العطف والإحسان.. ولكن كثيرا منهم يموت على ضلاله وكفره، دون أن يمد يده إلى تلك اليد التي تقدم له مركب النجاة! وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} يحتمل وجهين:
الوجه الأول: هو أنه وصف للقرآن الكريم، ولما حمل من شريعة، وأنه هو هدى اللّه، وكل ما سواه باطل وضلال.. وهذا الوصف الذي وصف به القرآن هو وصف لكل كتاب سماوىّ، ولكل شريعة سماوية.
والوجه الآخر هو أن الهدى الذي يؤثّر أثره في النفوس، فيستجيب المدعوون إليه- هو ما وقع في نفوس أراد اللّه لها الخير، ويسر لها السبيل إليه.. أما من لم يرد اللّه أن يهديه فلا هادى له أبدا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [125: الأنعام] ويقول سبحانه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} [17: الكهف] ويقول سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص] وقوله تعالى: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} معطوف على مقول القول: {قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
ووجه آخر.. وهو أن يكون المراد بالواو في قوله تعالى: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} واو الحال، والجملة بعدها حال.
وهذا الوجه يؤيد ما ذهبنا إليه في فهمنا لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ} على الوجه الآخر، بمعنى أن من أراد اللّه له الهدى اهتدى.. ومع هذا فإن اللّه قد كلفنا أن نهتدى بهداه الذي ندعى إليه، وأنّ كون الأمر كله للّه لا يرفع عنا هذا التكليف، ولا يعفينا من مسئولية الجمود على ما كنّا فيه من ضلال، فهذا الإيمان الذي دخل قلوبنا هو من هدى اللّه لنا، ومع هذا فهو من كسبنا. إذا استجبنا لأمر اللّه، واستقمنا على ما دعانا إليه.
وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} معطوف على جملة {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين، ونستجيب لدعوته، وأن نقيم الصلاة، وأن نتقيه، ونتجنب محارمه، ونلتزم حدوده.
وفى عطف الأمر في قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} على الخبر في قوله تعالى: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} إشارة إلى أن الخبر يتضمن الأمر والإلزام، وأن قوله تعالى: {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ} معناه: أسلموا للّه رب العالمين.
والحكمة في المخالفة بين المطلبين، مطلب الإسلام للّه والإيمان به، ومطلب إقامة الصلاة وتقوى اللّه، إذ جاء المطلب الأول بصيغة المتكلم، على حين جاء المطلب الثاني في صيغة المخاطب- هي أن الإيمان باللّه مطلوب من الإنسان أولا أن يبحث عنه بنفسه، وأن يهتدى إليه بعقله، فإذا هو أصبح في المؤمنين، كان مهيأ لأن يتلقى شريعة هذا الدين الذي آمن به، وأن يتعرف على ما ينبغى أن يؤديه للّه الذي عرفه، وأسلم له.. من عبادات، وطاعات.. فكانت الصلاة بعينها، هي المطلوب الأول من المؤمن أن يؤديه للّه، ويتصل به عن طريقه.
ثم كانت التقوى على إطلاقها، هي المطلوب الذي يجمع جميع الطاعات والعبادات، ومنها الصلاة، التي أفردت بالذكر، لعظم شأنها في تحقيق التقوى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} هو تذكير باللّه، وبالموقف الذي يقفه الناس بين يديه يوم القيامة.
وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} عرض لقدرة اللّه وجلال عظمته، وأنه قادر على أن يبعث الناس بعد موتهم، ويحشرهم إليه، ويوفّيهم حسابهم عنده.
وفى قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه اللّه من سماوات وأرض، وما في السموات والأرض، وما هو غير السموات والأرض- كله خلق بالحق، أي متلبسا بالحق.. كل ذرة فيه عن تقدير وعلم، وحكمة، وليس عن مصادفة عابثة أو هوى لاه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} [38- 39:
الدخان] وقوله سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [115- 116 المؤمنون].
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ} إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه اللّه سبحانه، كان عن أمره وتقديره، وأن لا شيء يعجزه، وأن تقدير المخلوقات، ومجيئها على صفاتها وأحوالها وأزمانها، كل ذلك كان بالحق، وبالحساب، وبالتقدير.
وقوله سبحانه: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} تقرير لهذه الحقيقة، وأنه سبحانه حين ينفخ في الصور لم يكن هذا النفخ إلا عن أمره، وقوله الحق لنافخ الصور: أن انفخ فيه وليس عن مصادفة عمياء.
وقوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} عرض آخر لسعة علم اللّه، وسلطان قدرته، فهو {الحكيم} الذي لا يصدر عنه إلا ما كان متلبسا بالحكمة، قائما على الحق، {الْخَبِيرُ} الذي تقوم حكمته على علم شامل بما هو حق وخير.