فصل: تفسير الآيات (74- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (74- 79):

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}.
التفسير:
فى هذه الآيات أمور:
أولا: صلتها بالآيات التي قبلها.
فهنا قضية، يعرض فيها موقف الإنسان من الإيمان باللّه، وأن النّاس ليسوا سواء في الانتفاع بما أودع الخالق فيهم من قوى العقل والإدراك، للتهدّى إلى الخالق والبحث عنه، والإيمان به.
وهناك في الآيات السابقة مواقف للمشركين من الدعوة الإسلامية، وتأبّيهم عليها، وإعراضهم عنها، بعد أن جاءتهم بآياتها المشرقة، وأقامت بين أيديهم شواهد ناطقة تشهد بوجود اللّه، وتوقظ قلوبهم النائمة، وتنبه عقولهم الغافلة، إلى النظر إليه في ضوء تلك الآيات البينات.
فما أبعد الشّقة بين الموقفين، وما أشد التباين بين الحالين! وهنا إبراهيم، الذي هو الأب الأكبر لهؤلاء المشركين من قريش، والذين يدّعون- كذبا- أنهم على دينه، يطوفون بالبيت الذي طاف به، ويعبدون الإله عبده أبوهم الأول، إبراهيم عليه السلام.
وهناك هؤلاء المشركون من أبناء إبراهيم، وتلك أصنامهم التي شوّهوا بها معالم البيت العتيق، وأفسدوا بها الدّين الحنيف، الذي عبد اللّه عليه في هذا البيت، الذي لا يزال قائما يشهد هذا السفه الذي هم فيه.
وهنا داع يدعو إلى اللّه، هو إبراهيم عليه السلام، ويقف من الأصنام وعبّادها هذا الموقف الذي تتهاوى فيه الأصنام، حين يفضحها بمنطقه، قولا، وعملا.
وهناك داع يدعو إلى اللّه، بدعوة إبراهيم، هو محمد، صلوات اللّه وسلامه عليه، ويقف من تلك الأصنام وقفة إبراهيم، فيفضحها ويكشف ضعفها وعجزها، ثم يدعها لتدفن في غياهب الضّياع.
ثانيا: آزر.
ومن يكون هذا الإنسان؟.
القرآن الكريم يقول: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ}.
ولكن المفسّرين يذهبون في هذا الأب مذاهب شتّى.
فمن قائل: إن اسمه تارح ومن قائل: إن آزر اسم جدّه، أو عمّه، والعمّ والجدّ يسميان أبا مجازا!! وذهب بعضهم أن آزر اسم صنم، وهذا القول ينسب إلى ابن عباس، وقد فسّره الزمخشري: أتعبد آزر! منكرا عليه ذلك! (أي أن إبراهيم ينكر على أبيه أن يعبد هذا الصنم آزر).
وذهب آخرون إلى أنه وصف في لغة قومه، ومعناه المخطئ، وقيل بل معناه: الأعوج.
وقيل معنى آزر الشيخ الهرم.
ويقول الزجاج: ليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبى إبراهيم تارح! والذي دعا المفسرين إلى تلك المقولات، هو ما جاء في التوراة من نسبة إبراهيم إلى أبيه الذي تسميه التوراة تارحا وقد اعتمد المفسرون هذه النسبة وأخذوا بها، وتأولوا لها ما جاء في القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن يتأولوا هذه النسبة التي جاءت في التوراة كما تأولوها في القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن في التوراة تحريفا وتبديلا تناول كل شيء، حتى العقيدة..!
والذي ينبغى أن يكون عليه الأمر في هذا الموقف، هو الوقوف عند ما جاء به القرآن الكريم، الذي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48 المائدة] فالقرآن هو الذي يهيمن على ما سبقه من كتب، ولا تهيمن عليه، ويقضى عليها، ولا تقضى عليه.
وقد جاء القرآن الكريم في الحديث عن إبراهيم منسوبا إلى أبيه، باسم هذا الأب، وهو آزر: هكذا: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ}.
فكيف يجوز لقائل أن يقول في هذه النسبة، وفى مسمى هذا الاسم قولا؟ إنه أبو إبراهيم بلا شك، وإنّ اسمه آزر بلا ريب.. هكذا قال القرآن، وهكذا يجب أن نقول.
وليس هذا فحسب، فإن القرآن قد ذكر مواقف بين إبراهيم وأبيه هذا، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [41- 42 مريم].
وقال سبحان على لسان إبراهيم: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ} وقال جلّ شأنه: {وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [114: التوبة] فالجدل والحوار كان دائما بين إبراهيم وأبيه، وفى مواجهته، وليس مع جده، أو مع صنم! وقد أثرنا هذه المسألة، لأنها تمس الصميم من القرآن الكريم، وتنبئ عن مدى صدقه، وأنه تنزيل من العالمين، كما يقول هو عن نفسه، أو أنه من عمل محمد ومن تلقياته التي أخذها من أهل الكتاب وغيرهم، كما يتخرص المتخرصون.
وهنا اختبار عملى لهذه القضية، ومقطع من مقاطع القول فيها.
فإما أن يكون آرز هو الاسم المعروف به أبو إبراهيم، وفى ذلك حكم قاطع بأن القرآن هو كلام اللّه، يقول الحق، ويأتى بأنباء الغيب، وإما ألا يكون آزر على غير هذا الوصف، فيكون القرآن كما يقول فيه المكذبون به، والكائدون له.
وهذا أمر يمكن أن يحقّق تاريخيا.. ولا أحسب أن اليهود تركوا هذه المسألة دون أن يحققوها، ولا أن المتربصين بالقرآن غفلوا عن هذا الخلاف الذي بينه وبين التوراة.. ولو أنهم وجدوا في هذا مطعنا على القرآن لكان ذلك من أقوى حججهم عليه. وطعناتهم له، الأمر الذي لم يقله اليهود، الذين لم يتركوا قولا يقولونه فيه. ويفترونه عليه، ولم يقله أحد من غير اليهود، الذين رصدوا للقرآن، وجعلوا يتصيدون كل سانحة من وهم أو خيال تسنح لهم فيه.
ثالثا: الطريق سلكه إبراهيم في التعرف على اللّه.
وهو الطريق الاستدلالي بالنظر في ملكوت السموات والأرض.. وهو نفس الطريق الذي جاءت الرسالة لإسلامية به، في دعوتها إلى التعرف على اللّه والإيمان به.
وقد سلك القرآن المنهج نفسه، الذي تعرف به إبراهيم على اللّه، في دعوة المشركين إلى التعرف عليه.
فكان أول ما لفت القرآن نظر المشركين إليه، هو النظر إلى آلهتهم تلك التي يعبدونها، من أصنام وأوثان، وأن يعيدوا النظر إليها مرة بعد مرة، ليروا إن كانت تدفع عن نفسها ضرا، أو إن كانت تسمع أو تعقل ما يناجيها به العابدون لها، أو تستجيب لما يرجى منها من دفع ضر أو جلب خير..!
وفى هذا يقول اللّه تعالى على لسان نبيه الكريم مخاطبا المشركين: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [73: النحل] ويقول سبحانه: {وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [22: العنكبوت] ويقول سبحانه على لسان المشركين: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].
وهكذا يلقاهم القرآن في كل سبيل مع هذه الآلهة، حتى ينفضح أمرها لهم، وتزول مشاعر الهيبة والتوقير لها في نفوسهم.. وهذا ما فعله إبراهيم إذ يقول لأبيه: {أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وإذ يقول: {يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}.
فإذا وهت هذه المشاعر، وتقطعت تلك الأسباب التي بين المشركين وبين آلهتهم تلك- جاء القرآن إلى هؤلاء المشركين ليجيب على هذا السؤال الذي فرضه هذا الفراغ الذي أصبحت فيه قلوبهم، بعد أن تبخرت منها سحب الأصنام التي كانت مخيمة عليها.. وكان السّؤال المفروض هو: وأين الإله الذي نعبده إذن، إذا كانت أصنامنا هذه ليست آلهة أو شبه آلهة؟.
ويجيء الجواب من القرآن الكريم بأن اللّه قريب منهم، وما عليهم لكي- يروه- إلا أن ينظروا في هذا الوجود، وفيما فيه من مبدعات تدلّ على قدرة الخالق، وتحدّث عن سعة علمه، وبسطة سلطانه، وروعة حكمته.
والقرآن المكىّ يكاد يكون كلّه معرضا لآيات اللّه، ودعوة مثيرة للعقول، مغرية لها بالنظر في ملكوت السموات والأرض.. ولا نستشهد لهذا حيث آيات القرآن أكثر من أن تحصى في هذا الأمر.. وفى سورة الأنعام هذه التي نحن بين يديها، عشرات الآيات.
وقد كانت نظرة إبراهيم إلى اللّه قائمة على هذا الوجه الاستدلالىّ، للتعرف على ربّه، والإيمان به.
{وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} أي نفتح نظره، وعقله، وقلبه، على هذا الوجود، ليتعرف إلى اللّه.. والملكوت، هو الملك الخاضع لسلطان اللّه.
وقد وجّه إبراهيم نظره، وعقله وقلبه، إلى ملكوت السموات والأرض.
فماذا رأى؟ {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} أي كوكبا من تلك الكواكب السيارة، كالزهرة مثلا.. وقد رصد إبراهيم هذا الكوكب منذ أطلّ على هذا العالم من الأفق الشرقي، وتبعه في مسيره، وكان كلما علا في السماء وازداد ألقا وإشراقا، ازداد إبراهيم به تعلقا وشغفا، إذ حسبه أنه الكائن الأعلى، القائم على هذا الوجود.. فلمّا هوى إلى الأفق الغربي خفق قلب إبراهيم خفقة الخوف على هذا الذي تصوّره إلها، أن يهوى وراء هذا الأفق، فلمّا هوى أخلى إبراهيم بصره، وعقله، وقلبه منه، ونفض يديه من هذا الإله، كما ينفض الحىّ يديه من ميت عزيز، أودعه القبر، وهال عليه التراب.. وقال: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}.
.! {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي}.
وتبعه في مسيرته من الأفق إلى الأفق.. حتى إذا هوى إلى المغيب، ودفن وراء الأفق الغربي، كاد يؤرقه اليأس من أن يعثر على الإله المنشود، وقال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}.
والسؤال هنا: كيف يطلب إبراهيم الهداية من ربّه، وهو يبحث عنه؟
والجواب: أن إبراهيم كان على يقين بأن لهذا الوجود ربّا، وأن لتلك المصنوعات صانعا، قادرا، مدبّرا.. ولكن من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ هذا ما يبحث عنه إبراهيم.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فهو يؤمن بحدسه ومشاعره أن لهذا الوجود إلها، وهو في بحثه هنا إنما ليعرف هذا الإله، ويستيقنه.. وذلك قبل أن يختاره اللّه لرسالته.
وسؤال آخر:
لماذا كان أوّل ما نظر إليه إبراهيم من ملكوت اللّه، هو الكوكب، أي النجم، ثم القمر، ثم الشمس؟ ولم لم يتجه نظره أولا إلى الشمس إذ كانت أعظم ما يواجه الإنسان من هذه المخلوقات؟
والجواب.. أن وحشة الليل، ورهبة ظلامه، تجعل لأى لمعة من لمعات الأنوار، وقعا على النفس، وتأثيرا على المشاعر، وليست كذلك النظرة إلى الشمس التي تكاد سطوة أضوائها، تذهب بكل إحساس بوجودها! وهذا ما نراه في نظر إبراهيم إلى هذا الكوكب أولا، ثم إلى القمر ثانيا.
ذلك أن هذا الكوكب، وهو نجم من تلك النجوم التي يتلألأ ضوؤها كلّما اشتدّ ظلام الليل، وأطبقت حلكته، هو في تلك الحال أفعل في النفس، وأكثر إلفاتا للنظر من القمر، الذي يغمر نوره ما احتواه الليل كله.
وإذ لم ير إبراهيم في ملكوت الليل وما يبزغ فيه من نجم أو قمر- إذ لم ير في هذا الملكوت إلهه الذي ينشده، شخص ببصره إلى ملكوت النهار، فرأى الشمس تبسط سلطانها عليه، فعلق بها نظره، واحتواها عقله وقلبه، وقال: {هذا ربى هذا أكبر}.
ولكن الرّب الكبير لم يكن إلّا خدعة خدع لها إبراهيم، حتى إذا أفلت ودّعها غير آسف، وأشرق قلبه بنور الإله الحق، الإله الذي يسيّر هذه الكائنات ويصرّفها كيف شاءت إرادته، واقتضت حكمته.. {فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وهكذا عرف إبراهيم ربّه، وهكذا يعرف كل ذى عقل ربّه، إذا هو نظر، وفكّر، وعقل..!

.تفسير الآيات (80- 82):

{وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}.
التفسير:
وإذ يعرف إبراهيم ربّه، ويملأ قلبه من الإيمان به، يقف من قومه مسفّها أحلامهم، زاريا عليهم عبادتهم لهذه الأحجار التي ينحتونها بأيديهم، ثم يعبدونها، ويذلّون بين يديها.. {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} [95: الصافات].
{وَحاجَّهُ قَوْمُهُ} أي جادلوه فيما يقول في شأن آلهتهم، وفى الإله الذي يدعوهم إليه.. هو يريدهم على أن يدعوا هذه الأصنام، ويعبدوا ربّ السموات والأرض، وهم يريدونه على أن يعبد آلهتهم، ويدع الإله الذي يعبده، ويحذّرونه أن يتخذ غير هذه المعبودات معبودا، وإلّا مسّه منها ضرّ، وأصابه سوء.. فكان جوابه: {أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ}.
إنه قد عرف الحق واستيقنه، فكيف تقوم لهم حجة عنده، تصرفه عن هذا الإله، الذي شهد آياته، وعرف ما عرف، من علمه، وقدرته وحكمته..؟ ثم كيف يخاف هذه الأحجار الصّماء أن تصيبه بسوء.. إنها لا تملك شيئا، وإن شرّا لن يصيبه منها، إلّا أن يكون ما يصيبه هو مما أراد اللّه له، وما أراد اللّه له فكلّه خير.. وكيف يخاف إبراهيم أحجارا صمّاء، على حين أنهم لا يخافون إلها خالقا رازقا، له ملك السماوات والأرض؟ {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ويجيء قول الحق جلّ وعلا بالحكم الفصل في هذه القضية.. {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
ولبس الإيمان بالظلم، هو خلطه به.. والظلم هو الشرك باللّه، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}: فالإيمان المصفّى من الشرك، هو الإيمان الذي يقبله اللّه من أهله، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى، ويجعلهم في أمن وسلام، يوم يكون الكافرون في فزع وكرب وبلاء.

.تفسير الآيات (83- 87):

{وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)}.
التفسير:
قوله تعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ}.
الإشارة هنا إلى الحجة، أي هذه حجتنا، والمراد بالحجة ماملأ اللّه به قلب إبراهيم من إيمان، بما أراه- سبحانه- في ملكوت السموات والأرض، من دلائل القدرة الإلهية، وسلطانها القوىّ الممسك بكل ذرة في هذا الوجود.. وبهذا الإيمان وقف إبراهيم وحده، في وجه هذا الكفر الذي طوى تحت جناحيه مجتمعه كلّه الذي يعيش فيه.. ومع هذا فإنه بالحق الذي يملأ كيانه، قد أخرس كل ناطق، وأفحم كل منطيق، وسقطت بين يدى حجته الدامغة كل مقولة لملحد، وكل حجة لمشرك، وبهذا استحق إبراهيم أن يلقى من ربّه هذا التكريم، وأن ينعته هذا النعت العظيم بقوله سبحانه: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [120: النحل].
فهو أمة وحده، ومجتمعه أشبه بفرد واحد إزاء هذه الأمة العظيمة، أو هو الأمة، وقومه لا شيء، إذ كان هو الإنسان الوحيد فيها، الذي يحمل عقل الإنسان وينتفع به.
وقوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} هو تنبيه إلى أن هذا الذي كان عليه إبراهيم من قوة الإيمان، ووثاقة اليقين، هو من فضل اللّه، يضعه حيث يشاء.
وفى قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} التفات من رب كريم إلى النبيّ الكريم، وقد نازعته نفسه، وهفت به أشواقه إلى فضل اللّه وإحسانه، الذي رأى آثاره في إبراهيم عليه السلام.. فجاء قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ} ليشعر النبي أنه في ضيافة ربه، وكفى ما يلقاه الضيف الذي ينزل في ضيافة ربّ العالمين.. الحكيم في تقدير الأمور العليم بعباده، وبمن هم أهل لمزيد فضله، وعظيم إحسانه.
ومن فضل اللّه على إبراهيم- عليه السلام- أن بارك عليه في ذريته، وجعل من نسله الأنبياء والمرسلين.
{وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
فهذا هو جزاء المحسنين، وتلك هي عاقبة الإحسان، تمتد آثاره إلى صاحبه، وإلى من يتصل بصاحبه، من أهل وولد.. كالشجرة الطيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان العبد الصالح لموسى، عليهما السلام: {وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [82: الكهف].
وفى الجمع بين نوح وإبراهيم إشارة إلى أنهما الأبوان لهؤلاء الأنبياء، كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} [26: الحديد].
وقوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي أن هؤلاء المصطفين من عباد اللّه، هم من ذريّة هذين النبيين الكريمين: نوح وإبراهيم، إذ كان من هؤلاء الأنبياء من ليس من ذرية إبراهيم كلوط مثلا.
وقوله تعالى: {وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ} أي كلّ واحد من هؤلاء فضّل على عالمه الذي كان يعيش فيه، إذ كان رسول اللّه المبعوث لهداية عالمه هذا، وهو بهذه الصفة صفوة هذا العالم، والإنسان المتخيّر لرسالة السماء.
وقوله تعالى: {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ} إشارة إلى أن هؤلاء الذين اختصهم اللّه بهذا الذكر، ليسواهم وحدهم الذين شملهم فضل اللّه، ومسّتهم رحمته، بل إن من آباء هؤلاء وأبنائهم وإخوانهم من شمله هذا الفضل، ومسّته تلك الرحمة.. سواء من كان منهم نبيّا أو رسولا، أو عبدا من عباد اللّه الصالحين.. وحسب ذريّة هؤلاء الذين لم يذكروا هنا- حسبهم شرفا وذكرا أن يكون منهم خاتم النبيين، محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. فهو من ذرية إسماعيل، ومن حفدة إبراهيم.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} هو معطوف على محذوف، يفهم من سياق النظم في قوله تعالى: {وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ} والتقدير: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم من ألحقناهم بهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم.
وأمر هنا نحب أن نقف عنده ونلتفت إليه:
وهو أن الترتيب الزمنى لم يكن هو الأساس الذي قام عليه النظم القرآنى في ذكر هؤلاء الأنبياء، من ذرية نوح وإبراهيم.
والملحظ الذي نود أن نشير إليه، هو أن إسماعيل لم يذكر مع إسحق، مع أنهما ولدا إبراهيم، لم يكن له ولد غيرهما، ومنهما كانت جميع ذريته، وإسماعيل هو البكر، وولد له بعده إسحق.
هذه حقيقة لا خلاف عليها عند أهل الكتاب، من يهود ونصارى، كما أنها حقيقة مقررة في القرآن الكريم.. فلم لم يجيء النظم القرآنى هكذا: {ووهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب}؟
ولا جواب لهذا إلّا أنه كلام رب العالمين، وأنه لو كان من عمل بشر لما جاء هكذا في النظم القرآنى، بل لالتزم فيه واضعه الترتيب الزمنيّ.. أما محمد فلو أن هذا الكلام كان من وضعه، لكان أول ما يعمله هو أن يبدأ بإسماعيل، لأنه أبوه.. أولا، ولأنه أسبق ميلادا من إسحق.. ثانيا! أليس في هذا عبرة لمعتبر؟ أليس في هذا إخراس لكل مقولة تقال في القرآن الكريم، إنه من قول بشر؟ وبلى، ذلك هدى اللّه يهدى به من يشاء من عباده..!