فصل: تفسير الآيات (125- 127):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (125- 127):

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)}.
التفسير:
هذا هو حكم اللّه في عباده، وتلك مشيئته فيهم: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} فيقبل عليه، ويتقبله.. {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} لا يقبل على خير، ولا يتقبل هدى، فكل كلمة حق يزور بها هذا الصدر الضيق، ويكاد يختنق منها.
والضّيّق الحرج: هو الذي كان ضيقه عن علة وداء.
والرجس: الدنس، والقذر.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} أي يلقيه عليهم، ويجعله بعضا منهم، فلا يتطهرون منه بالإيمان أبدا.. لأنهم لن يؤمنوا أبدا.
قوله تعالى: {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
والصراط المستقيم هو كتاب اللّه، وقد جاءت آياته بيّنة مفصّلة، ولكن لا ينتفع بها إلا من أرادهم اللّه للإيمان، وهيأهم له، وأعانهم عليه.
فهؤلاء الذين دعوا إلى الإيمان فأجابوا، ورأوا الهدى فاهتدوا، هؤلاء {لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي دار الأمن والعافية من كل سوء وبلاء يحل بالكافرين {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي يجعلهم أهل ولايته، وكرمه، وإحسانه {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي بما قدموا من أعمال صالحة، نالوا بها رضا اللّه، وفازوا بجنات النعيم.
وانظر إلى عظيم فضل اللّه، وإلى واسع رحمته، بالمؤمنين من عباده.. لقد دعاهم إلى الإيمان، وأعانهم عليه.. فآمنوا، ودعاهم إلى العمل، ووفقهم له.
فعملوا، ومع هذا فقد أضاف إليهم هذا العمل، وجزاهم عليه، ليذوقوا ثمرة عملهم الذي هو من مغارس فضل اللّه، وتوفيقه {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

.تفسير الآيات (128- 129):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)}.
التفسير:
بعد أن يستوفى الناس أعمارهم في الحياة، ينقلون إلى الدار الآخرة بما قدموا من خير أو شر، وبما كانوا عليه من هدى أو ضلال.
وهناك تكون المساءلة ويكون الحساب والجواب.
وفى قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} إخبار بهذا الأمر الذي لابد أن يكون، وهو الحشر، بعد الموت.. وإن كان الكافرون ينكرون هذا اليوم فلا يعملون له حسابا.
وفى الحديث عن اللّه تعالى: بضمير الغيبة {يحشرهم} بدلا من نحشرهم إشارة إلى أن هذا الحشر معلوم مقرر عند المؤمنين، وأنهم مستيقنون أن اللّه سيحشر الخلائق جميعا، ولهذا صح أن يكون الحديث عن الحشر بين اللّه والمؤمنين إذ كان غير خاف عليهم، على حين أنه خفى على المشركين.
وقوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}، هو نداء من قبل الحق سبحانه وتعالى لطائفة من تلك الطوائف التي حشرت في هذا اليوم، وهى طائفة الجن، ليلقى إليهم بهذا الذي كان منهم، من جذب الكثير من الناس إليهم، وتحويلهم من طبائعهم لانسانية إلى طبيعة الجن. {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أي قد جمعتم أعدادا كثيرة منهم، واستحوذتم عليهم.
ولا يجيب الجن، إذ كان الواقع يغنى عن الجواب، بل يأخذ المبادرة بالجواب أولئك الذين انضموا إليهم من الناس، وصاروا حزبا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا} أي قد انتفع بعضنا ببعض، فأخذ وأعطى.. فهؤلاء الضالون قد أخذوا من الجن ما سوّلوا لهم به وما عرضوه عليهم من متاع الحياة، وضلالاتها.
على حين أعطوا الجن ولاءهم وطاعتهم، وذلك إلى أن بلغوا الأجل الذي أجّله اللّه، وهو عمرهم المقدور لهم في الحياة.
وفى مبادرة المشركين بالجواب دلالة على أنهم هم المتهمون أصلا، وأنهم هم الذين استجابوا لدعوة الجنّ لهم، وأنهم لو أبوا عليهم ذلك ولم ينقادوا لما دعوهم إليه، لما كانوا في هذا الموقف.. فزمام الأمر هو في يد النّاس، وما الجنّ أو غيرهم من المغريات إلا داع يدعوهم إليه، فمن أجاب فعليه وزر عمله.. كالخمر مثلا، فإنها في مواطنها التي تباع فيها أو تشرب، هي في ذاتها داع تدعوا الناس إليها، وتغريهم بها، وللناس وحدهم أن يستجيبوا أو يمتنعوا.
وليست الخمر موضع مؤاخذة أو لوم.. كذلك دعاة السوء من الإنس والجنّ.. لا يحملون شيئا من إثم من دعوه فاستجاب لهم، وإن كان عليهم إثم هذه الدعوة المنكرة التي دعوا بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [22: إبراهيم] وقوله تعالى: {قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} هو الحكم الذي يلقّاه المشركون بعد اعتذارهم بما اعتذروا به.
{النَّارُ مَثْواكُمْ} أي داركم ومقرّكم {خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أي أن هذا الخلود في النار مرهون بمشيئة اللّه، إن شاء جعلها دار خلد لكم، وإن شاء جعلها عذابا موقوتا.. وذلك إلى اللّه وحده، لا يملك معه أحد شيئا في مصيركم الذي أنتم صائرون إليه.
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} يقوم أمره كلّه على الحكمة والعلم.. الحكمة التي تحكم كل أمر وتضبطه على موازين العلم، والعلم الذي يحيط بكل شيء، ويعلم ما ظهر وما بطن منه.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
أي نسلّط بعض الظالمين على بعض، ونجمع بعضهم إلى بعض، كما تسلّط الجنّ على أشباههم من الإنس، وصاروا جميعا إلى هذا المصير المشئوم.. وهكذا يجتمع الشر إلى الشر، وينجذب الأشرار إلى الأشرار، فيكونون جميعا جبهة واحدة.. بعضهم أولياء بعض.

.تفسير الآيات (130- 132):

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}.
التفسير:
وفى موقف الحساب يقوم القيامة، يسأل الخلق من جنّ وإنس هذا السؤال التقريرى من ربّ العالمين: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}؟.
أي من جنسكم، فللجن رسل من الجن، وللإنس رسل من الإنس.. {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}.
أي يسمعونكم آياتي، ويعرضون عليكم دلائل قدرتى، ويدعونكم إلى الإيمان بي؟ {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا}.
أي يحذرونكم لقاء هذا اليوم الذي أنتم فيه في موقف الحساب والجزاء؟
ويجيء الجواب من الجن والإنس: {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا}.
أي أقررنا بأن رسل اللّه قد جاءوا إلينا بآيات اللّه، وأنذرونا لقاء هذا اليوم.. وما كان للمسئولين أن ينكروا، حيث كل شيء ينطق هذا اليوم بالحق.. ثم يجيء التعقيب على هذه الشهادة: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ}.
وتلك هي شهادة أهل الموقف عليهم، بعد أن شهدوا هم على أنفسهم.. إنها تعليقات المؤمنين على موقف هؤلاء الضالين، وما كانوا عليه من كفر وعناد، واستخفاف بهذا اليوم الذي هم فيه.
وواضح أن المسئولين هنا من معشر الجن والإنس، هم الغواة الضالون منهم، الذين أنكروا رسل اللّه، وكفروا بما جاءوهم به من عند اللّه.
وقوله تعالى: {ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ} الإشارة هنا إلى ما كان من رحمة بعباده، من إنس وجنّ، وذلك بإرسال الرسل إليهم، ودعوتهم إلى اللّه، وكشف معالم الطريق إليه.. فإنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عباده إلا بعد أن يعذر إليهم بإرسال رسله، مبشرين ومنذرين، حتى ينتبهوا من غفلتهم، فلا يكون لهم عذر إذا أخذهم اللّه بالعقاب الذي يستحقونه على كفرهم وضلالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [15: الإسراء] وقوله سبحانه: {وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا} [59: القصص] وفى قوله تعالى: {بِظُلْمٍ} إشارة إلى أن عدل اللّه يقضى بألا يعاقب أحدا من خلقه، حتى ينذره ويقيم الحجة عليه.
وقوله سبحانه: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي لكل إنسان مكانته ودرجته من عمله، أي تهيّأ له هذه الدرجة من عمله، فإن كان عمله سيئا كانت مكانته من السوء بحسب عمله.. {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
فلا يختلط عنده عمل المحسن بعمل المسيء، بل لكل عمله وحسابه، وجزاؤه.

.تفسير الآيات (133- 135):

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}.
التفسير:
الخطاب للنبى الكريم، وإضافته إلى ربّه الغنىّ ذو الرحمة، تكريم له، ورفع لقدره ومنزلته عند ربّه، لاختصاصه بتلك الإضافة، وإن كان اللّه سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين جميعا. فإضافة النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- منفردا بهذه الإضافة إلى ربّه، غاية في التكريم، واللطف والرعاية.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بالغنى والرحمة، مناسبة لما بعد هذين الوصفين الكريمين، من أن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب الناس جميعا، لأنه في غنى عنهم ولكنه ذو رحمة واسعة، فلا يعجل بعقوبة هؤلاء المشركين، ولا يؤاخذ الناس بما كسبوا، بل يمهلهم، ويقيم بين أيديهم دلائل الحق والهدى، لعلهم يرجعون عما هم فيه من ضلال وكفران.
وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} بيان لقدرة اللّه، وأنه سبحانه قادر على أن يذهب المشركين، ويقضى عليهم، ويقيم من بعدهم من يخلفهم على ما في أيديهم من نعم اللّه وعطاياه، وأن إمهاله هو رحمة من رحمته وإحسان من إحسانه، ليكون في هذا مظاهرة للحجة عليهم، وقطع الأعذار دونهم.
قوله تعالى: {إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} هو خطاب للمشركين وما يتوعدهم اللّه به، وهو انتقالهم مما هم فيه، وقيام من يخلفهم على ما في أيديهم.
فهو أمر كائن، لابد منه، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، وإنهم مهما استطالوا وبغوا فلن يعجزوا اللّه، ولن يفتلوا من سلطانه القائم عليهم، وعلى كل موجود في هذا الوجود.
وقوله سبحانه: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ} أمر للنبى الكريم أن يلقى قومه بهذا الموقف الصريح، وأن يقطع ما بينه وبينهم من أسباب الجدل والشقاق، وأن يدعهم وما هم فيه.. ليقبل على ما هو فيه من دعوة الناس إلى اللّه، وليستقم على الطريق الذي هداه اللّه إليه.
وفى قوله تعالى: {يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} تهديد ووعيد لهم، بتركهم وما هم فيه من ضلال.
والمكانة: المنزلة التي فيها الإنسان، أيا كانت تلك المنزلة.
وفى قوله سبحانه: {إِنِّي عامِلٌ} مع حذف متعلق الخبر {عامل} إشارة إلى أن للنبى عملا غير عملهم، وطريقا غير طريقهم.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد آخر، ووعيد لهؤلاء المشركين، وما سينتهى به عملهم إليه، من البلاء وسوء المصير، و{مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ}.
أهم الذين أسلموا للّه، وآمنوا به وبرسوله، وبالكتاب الذي بين يديه؟ أم أنتم أيها المكذبون الضالون؟ فسوف تعلمون لمن عقبى الدار.
والحكم معلوم مقدّما.. {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} والمشركون ظالمون من غير جدال، إذ ردّوا نعمة اللّه المرسلة إليهم، وآذوا اليد التي حملتها لهم، والتي لا تطلب منهم أجرا، ولا تريد منهم على ذلك جزاء ولا شكورا.
فأى ظلم أبشع وجها، وأقبح صورة من هذا الظلم؟ فهم إذن المحكوم عليهم بعدم الفلاح، ومن لم يفلح فقد خاب وخسر، وكان من أصحاب الجحيم.

.تفسير الآيات (136- 137):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)}.
التفسير:
وإذ أنهى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم موقفه مع المشركين من قومه على هذا الوجه الذي أنذرهم فيه بأنه معتزلهم وما يعبدون من دون اللّه، وأنه سيفرغ لنفسه ولدعوته ولمن يستجيبون له، ولا عليه أن يغرقوا فيما هم فيه من ضلال، بعد أن بلغهم رسالة ربّه، وبعد أن بالغ في هذا الإبلاغ- إذ أنهى النبي موقفه مع المشركين على هذا الوجه، بحيث لا يلقاهم لقاء مواجها بعد هذا الموقف، فإنه صلوات اللّه وسلامه عليه لم يقطع ما بينه وبينهم من لقاء غير مباشر، أو مواجه، فما زالت آيات اللّه تتنزل بفضح المشركين، والتشنيع عليهم، وكشف ما هم فيه من جهالة وعمى وضلال.
وفى هذا التدبير السماوي الحكيم يتحقق أمران:
أولهما: إلفات المشركين إلى أنفسهم، حتى يعيدوا النظر إلى تلك الحال التي تركهم النبيّ عليها.. وذلك في حال هم فيها في غير مواجهة صريحة مع النبيّ، الذي يكشف أدواءهم، ويقدّم لهم الدواء، الأمر الذي كثيرا ما تتأباه النفوس المريضة، وتزورّ به العقول السقيمة، على خلاف ما إذا خلا أمثال هؤلاء بأنفسهم، واطمأنوا إلى أن أحدا لن يطلع عليهم، فإنهم عندئذ قد يتعرّون مما ركبهم من ظلام وضلال، وقد يجد أحدهم الجرأة أمام نفسه فيفضحها ويهتك سترها، وينخلع مما هو فيه، ثم ينطلق إلى مطالع النور، ومواقع الهدى.
وثانيهما: أن المسلمين إذ يرون ما تكشف آيات اللّه من سوء حال المشركين، وما ينتظرهم من مصير مشئوم، يزداد إيمانهم إشراقا وألقا، ويبدو لهم أنهم أثقل ميزانا، وأكرم مقاما من هؤلاء المشركين الذين يسومونهم العذاب، ويأخذونهم بالبأساء والضراء.. وفى هذا عزاء جميل للمسلمين وتثبيت لأقدامهم على الطريق المستقيم.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً} اتهام للمشركين بما افتروا على اللّه، وما شرعوا لأنفسهم من شريعة، استملوها من أهوائهم الباطلة، وتصوراتهم الفاسدة.. ومن هذا أنهم جعلوا للّه نصيبا مما {ذرأ} أي خلق {من الحرث} أي الزرع، {والأنعام}.
فقالوا {هذا للّه بزعمهم} أي بما زعموه هم، لا عن أمر سماوىّ من اللّه.
{وقالوا هذا لشركائنا} أي لآلهتهم التي عبدوها، وجعلوها شركاء للّه، يقدمون لها القرابين مما رزقهم اللّه! وقوله تعالى: {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ} أي فما جعلوه للّه جحدوه، ولم يحرصوا على الوفاء به، ولم يكن له في أنفسهم حساب أو توقير، وما جعلوه لأوثانهم وأصنامهم لم يترخّصوا فيه، بل أدّوه لهم كاملا. خوفا من أن تحبس عنهم هذه المعبودات الباطلة أسباب الخير، أو تدفع إليهم نذر البلاء والنقمة.
وقوله سبحانه: {ساءَ ما يَحْكُمُونَ} تسفيه لهذه الأحكام الخاطئة التي لم يتزموا فيها جانب العدل حتى فيما شرعوه هم بأنفسهم، فلم يسوّوا في هذه القسمة الجائرة بين اللّه وبين تلك المعبودات.. من أصنام وأوثان.
وقوله سبحانه: {وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي مما افتراه المشركون على اللّه هذا المنكر الذي زيّنه لهم شركاؤهم، وهو قتل أولادهم ظلما وعدوانا، بل سفها وضلالا. إذ أنهم بهذا العمل المنكر قد نزلوا عن مرتبة الحيوان الذي تأتى عليه طبيعته أن يمدّ يده بأذى إلى صغاره، بل إنه ليجعل نفسه دريئة لهم من كل سوء، ويقدّم حياته دفاعا عنهم من كل عدوّ.. فكيف طوعت لهؤلاء الحمقى السفهاء من الآدميين أنفسهم أن يقتلوا أولادهم بأيديهم؟
إن ذلك لا يكون إلا من إنسان فقد عقله، فلم يدر ما يفعل، حتى ولو قتل نفسه بيده! فليس بعد هذا ضلال، أو خسران.. واللّه سبحانه يقول:
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [140: الأنعام].
وفى كشف هذه الجريمة الشنعاء، كشف لما وصل إليه هؤلاء المشركون من سفه وحمق، لا في شركهم باللّه، وعبادتهم الأحجار، وحسب، بل في هذا الأمر الذي صاروا به من عالم الجماد الذي لا يعقل، ولا يحس.
وفى إضافة التزيين بقتل الأولاد إلى الشركاء من أصنام وأوثان، إشارة إلى أن هؤلاء المشركين قد صاروا لعبة في يد هذه الجمادات، يتلفّون من صمتها المطبق دلالات وإشارات، يؤولونها هذا التأويل الفاسد، الذي ينتهى بهم إلى عبادتها، وتقديم أبنائهم قربانا لها.. وفى هذا ما يكشف لهم- إن كان فيهم بقية من عقل- أنهم خدعوا وضلّلوا، وأن هذه الأصنام هي التي ضللتهم، وخدعتهم، وقتلت أولادهم وفلذات أكبادهم.. وأنهم إذا كانوا قد فعلوا فعلتهم في أولادهم وهم في سكرة من الضلال، فإن هذا الدم الذي لطخت به أيديهم من أبنائهم، جدير به أن يملأ قلوبهم ألما وحسرة، وأن يوقع العداوة والبغضاء بينهم وبين واتريهم في أبنائهم.. وإن أقلّ ما يثأرون به لقتلاهم هو اعتزال هؤلاء القتلة وإجلاؤهم من عالمهم، بل وتحطيمهم، إن كان هذا التحطيم يشفى غليلا، أو يخفف كمدا وحسرة.
وقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي أن ما فعله الشركاء- من أصنام وأوثان- بهؤلاء المشركين، إنما كانت عاقبته إهلاكهم، وإفساد دينهم عليهم.. فإهلاك أبنائهم هو إهلاك لهم، ثم هو إغراق لهم في الضلال والبعد بهم عن الدين الصحيح.
والسؤال هنا: هل لهؤلاء المشركين دين حتى يعلق به فساد كما يقول اللّه تعالى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}؟
والجواب: أنه كان ينبغى أن يكون للمشركين دين صحيح، لو بقيت معهم عقولهم، ولم يفسدها عليهم شركاؤهم، وأن ما زينه لهم الشركاء من قتل أولادهم هو غاية ما يمكن أن يصل إليه معتقد الإنسان، من فساد لا يرجى له صلاح أبدا.. فهؤلاء الشركاء قد أفسدوا على أتباعهم هؤلاء فطرتهم، وغيّروا معالم إنسانيتهم، ومن كان حاله تلك الحال، فلا صلاح يرجى لشيء فيه أبدا، من دين أو غيره.. فأى دين يدين به هؤلاء القوم، وهم على تلك الحال من السّفه، هو دين سقيم بسقام عقولهم، وفساد فطرتهم.
وقوله سبحانه: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى لم يرد أن يدفع عنهم هذا البلاء الذي حلّ بهم، لأنهم أهل له.
وأن اللّه سبحانه لو علم فيهم خيرا لدفع عنهم هذا البلاء، ولما كان للشيطان أن يصل إليهم.. ويفسد عليهم وجودهم! وقوله سبحانه: {فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ} تهديد لهؤلاء المشركين، ومبالغة في إهمالهم، وتركهم لأهوائهم المضلّة، تغتالهم وتهلكهم، دون أن يخفّ أحد لنجدتهم.