فصل: تفسير الآيات (10- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (10- 13):

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}.
التفسير:
بعد أن عرض اللّه سبحانه وتعالى الناس على مشاهد القيامة، وما سيكون لهم فيها من مواقف، بين سعداء وأشقياء- بعد هذا العرض استقبلهم سبحانه- بتلك الآيات الكريمة التي تذكرهم بما كانوا في غفلة عنه من أمرهم، وماللّه من فضل عليهم، فيما مكن لهم من أسباب الحياة في هذه الأرض، وفيما كان قبل ذلك من إيجادهم من عدم، وخلقهم على تلك الصورة الكريمة، التي صار بها الإنسان أهلا ليكون خليفة اللّه في الأرض.
وهذا من شأنه أن يلفت الإنسان إلى هذه النعم، وإلى أداء حق المنعم بها، وذلك بحمده، والولاء له، وخاصة بعد هذه المشاهد المثيرة التي طلعت على الناس من مشاهد يوم الحساب.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} هو عرض لبعض تلك النعم التي أنعم اللّه بها على الناس، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى في الأرض، وجعل لهم سلطانا على كائناتها، من حيوان ونبات وجماد، بما منحهم من عقل، يفكر، ويقدّر، ويسخر قوى الحيوان والطبيعة لخدمتهم، ولتوفير أسباب الحياة الطيبة لهم.. ولكن أكثر الناس لا يشكرون للّه فضله، ولا يقدرونه حق قدره، بل إن كثيرا منهم ليحارب اللّه بهذه النعم، ويتخذ من دونه شركاء، يتعبّد لهم، ويجعل ولاءه إليهم، دون خالقه، ورازقه، ومالك الملك كله.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
هو بيان لخلق الإنسان وتقلّبه في أطوار الخلق.. ومن أين جاء؟ وكيف نشأ؟ وإلى أين يصير؟
كان الخلق أولا، ثم التصوير ثانيا.
والخلق عملية ذات مراحل طويلة، تنقل فيها الإنسان من طور إلى طور، ومن خلق إلى خلق، حتى دخل طور الإنسان الذي فيه كان التصوير على تلك الصورة الإنسانية الكاملة.
وفى العطف بثمّ بين الخلق والتصوير، ما يشير إلى هذا الفاصل الزمنيّ الطويل، الذي قد يبلغ ملايين السنين، بين بدء بذرة الخلق للكائن الحي، وبين الثمرة التي أعطتها شجرة الحياة.. في صورة هذا الإنسان..!
ثم إن هذا الإنسان حين أطل برأسه إلى هذا العالم، لم يكن إلا إشارة باهتة إلى هذا الإنسان العاقل المدرك، الذي يحمل أمانة التكاليف، ويناط به عبء خلافة اللّه على هذه الأرض.
ولهذا جاء العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}.
فهذا الآدم الذي أمر اللّه سبحانه الملائكة أن يسجدوا له، هو الإنسان العاقل الرشيد، لا الإنسان في طفولة الإنسانية التي لم تنسلخ من جلد الحيوان بعد.
وهذا ما يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه من قبل في خلق آدم وتطوره.
وفى قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} موضع لسؤال.
هو: كيف يكون الإنكار على إبليس بترك السجود، بهذا الاستفهام عن السبب الذي منعه من عدم السجود.. وهو على خلاف المراد من الاستفهام الذي يطلب إليه فيه أن يجيب عن سبب المنع عن السجود، لا عن سبب المنع من عدم السجود.. كيف يكون هذا؟
يجيب المفسّرون على هذا بأجوبة كثيرة.. منها القول بأن لا النافية زائدة.. وهو أرجح الآراء عندهم..!
والقول بزيادة اللام لا معقول له إلا- عند القائلين به- أنه يسوّى النظم القرآنى، ويمنع اضطراب المعنى، أو فساده! ولا يشفع لهذا القول ما جاءوا به من شواهد من الشعر العربي بزيادة حرف النفي لا.
فالقرآن حجة على الشعر، وليس الشعر حجة على القرآن.
ثم إن القرآن ليس شعرا حتى تباح فيه الضرورات التي تباح في الشعر.
ثم إن القرآن ليس من قول بشر حتى تحكمه الضرورة، وتلتمس لقائله المعاذير.
ولكنه كلام ربّ العالمين.. {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
وإذن فحرف النفي لا حرف أصيل، هو من صميم النظم القرآنى في الآية الكريمة، له مكانه من الإعجاز الذي تحمله الآية الكريمة، ولو حذف لحذف معه بعض ما في الآية من إعجاز.
هذا ما يجب أن يتقرر ويتأكد أولا، قبل أن نجد لهذا الحرف لا مفهوما.
إذ لابد من أن يكون له مفهومه في الآية الكريمة، حيث هو، وكما هو، سواء اهتدينا إليه أو لم تهتد، فإنه لابد أن يهتدى إليه الباحثون، بالكثير أو القليل من البحث والنظر.. أما القول بزيادة حرف أو كلمة في القرآن الكريم، فهو- على أقل تقدير- هروب من مواجهة كلمات اللّه وآياته.
وننظر، فنجد:
أولا: أن لا إذ قيل بزيادتها كان المعنى حسب منطوق النظم بعد الحذف، هكذا: {ما منعك أن تسجد}؟
وهذا يعنى أن مع إبليس حجة على منعه من السجود! ولقد أجاب إبليس على هذا، وقدّم الحجة التي معه، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
ولكن.. أية حجة لمخلوق أمام الخالق؟
لقد أمره اللّه سبحانه وتعالى بالسجود.. وكان عليه أن يمتثل لهذا الأمر وأن يسجد كما سجد الملائكة كلهم أجمعون.
أما التردد في الامتثال لهذا الأمر، أو النكوص عنه، فهو عصيان صريح للّه، وتحدّ وقاح لأمره، لا تقوم لصاحبه حجة، ولا يقبل منه قول.
وثانيا: إذا بقيت لا بمكانها من النظم- وهى باقية أبد الدهر- مؤدية وظيفة النفي- وهى مؤدية له إلى ما شاء اللّه- فإن المعنى حينئذ يكون هكذا حسب منطوق النظم: ما منعك من ألا تسجد إذ أمرتك؟ أي ما حملك على ألا تسجد؟ وبهذا يكون النظر إلى كلمة المنع لا إلى الحرف لا.
وهل هو منع قائم على حواجز وحوائل، تمنع من امتثال الأمر، وتحول بين المأمور وبين إتيان ما أمر به، أم أنه منع قائم على أوهام وضلالات، ومستند على محامل وعلل من الوهم والضلال؟
والجواب، أنه ليس هناك منع على الحقيقة، وإنما هي علل فاسدة، ومحامل باطلة، اتخذ منها هذا الشقىّ ذريعة يتذرع بها إلى عصيان ربّه، وعذرا يعتذر به إليه.
ولهذا كان النفي للمنع مطلوبا هنا، حيث لا سبب للمنع على الحقيقة.
ثالثا: في مساءلة اللّه سبحانه وتعالى لإبليس، في غير هذا الوضع، جاء قوله تعالى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [32: الحجر] فقوله تعالى: {ما لَكَ} هو بمعنى {ما منعك}؟ حيث لا منع، وإنما هو- كما قلنا- ضلالات وأوهام من قبل إبليس، لا وزن لها، ولا معتبر في ميزان الحق.
هذا، وقد جاء في موقف آخر قوله تعالى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [75: ص]- جاء من غير حرف النفي لا ولكن جاء بعده، ما يكشف عن تعلّات إبليس وأوهامه المندسّة في صدره، فقال تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ}؟ فهو الاستكبار والتعالي، وتلك موانع اصطنعها إبليس، وأقامها من ضلاله وجهله.
رابعا: في النظم القرآنى جاءت مساءلة إبليس في ثلاث مواضع.
هكذا.
1- {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [11: الأعراف].
2- {يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [75: ص].
3- {يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [3: الحجر].
وهذه المواضع الثلاث، لم يكن تكرارها لمجرد التكرار، وإنما لتعطى الصورة الكاملة لموقف الاتهام الذي وقفه إبليس بين يدى اللّه.. وأنه تلقى هذه الأسئلة جميعا في تبلّد ووجوم، وكان جوابه عليها في وقاحة فاجرة.. هكذا:
{ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.
{ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}.
{ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ أستكبرت أم كنت من العالين}: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}.
وتتردد هذه الإجابات في صدر إبليس، وتضطرب على لسانه، وإذا هي كما انتزعها اللّه سبحانه وتعالى من صدره، وضبطها على لسانه.
وقد تكررت إجابته: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} إذ كان هذا الاختلاف فيما بين النار والطين، هو الذي أضلّ إبليس وأغواه، حين قدّر أن النار خير من الطين.. وأن الأعلى لا يسجد للأدنى.
من هذا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} هو بمعنى قوله تعالى: {ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}.
وأن فعل المنع هنا بمعنى الدافع الذي دفع إلى ترك الفعل المأمور به، والتقدير: ما حملك أو ما دفعك على أن يكون منك هذا الموقف الفاجر الذي وقفته، وهو أنك لم تكن من الساجدين..؟
وأما قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فهو مطالبة لإبليس ببيان المانع الذي منعه، إن كان هناك مانع.. فلما لم يجد المانع طولب بأن يبيّن الدافع الذي تولّد في نفسه وحمله على ألا يسجد.. ثم لما اضطرب وتلجلج في الكشف عن هذا الذي ضلّ عنه وهو يحاول الإمساك به، قيل له: مالك- إذن- ألّا تكون مع الساجدين؟.
وهكذا يؤخذ بمخانقه، ويسقط في يده، فينهار ويهوى، ثم يتخبط في هذا الهذيان المحموم، وقد عرف ألا نجاة له، وأنه من الهالكين..!
قوله تعالى: {قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
الضمير في منها يعود إلى المنزلة التي كان فيها إبليس قبل هذه المعصية، وكذلك الضمير في قوله تعالى: {فِيها}.
والهبوط هنا هبوط معنوى.
والمعنى: اخرج أيها الشيطان المريد من هذه النعمة التي خولتك إياها، ورفعت بها منزلتك حتى اتخذت منها حجة على هذا العصيان الوقاح لأمرى، فتأبى أن تسجد لمن دعوتك إلى السجود له.. فما يكون لك أن تتكبر في هذه النعمة، وتختال بها.. وها أنت ذا قد أصبحت من الصاغرين، قد نزع عنك ما كنت تدّعيه لنفسك من منزلة تعاليت بها على هذا المخلوق الآدمي، الذي خلق من طين..!
وهكذا كل من ألبسه اللّه نعمة من نعمه فلم يرعها، ولم يؤدّ حق شكرها للّه، من الطاعة والولاء- إنها تنزع منه، ويلبس بدلها ثوب النقمة والبلاء.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال].

.تفسير الآيات (14- 18):

{قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}.
التفسير:
وقع الحكم بالإدانة على المجرم. فلم يستسلم، ولم يتقبل الأمر بالهبوط على إطلاقه هكذا! فطلب من اللّه سبحانه أن ينظره أي يؤخر هلاكه إلى نهاية الحياة الإنسانية على هذه الأرض، ليكون في صحبة الإنسان.
بتحدّاه، وينتقم منه، إذ كان سببا في هذه اللعنة التي وقعت عليه.
ولقد سوّلت لهذا الرجيم نفسه أن يتحدى اللّه بهذه التجربة التي بينه وبين الإنسان، والتي قدّر أنه سينتصر فيها على الإنسان، ويقيم من ذلك حجة على اللّه في امتناعه عن السجود لآدم، لأنه خير منه، وأن بيده سلطانا متمكنا عليه، حين يأمره فيطيع، ويدعوه إلى الإثم فيجيب، وبهذا تنكشف التجربة عن كائن بشرى يتمرغ في الوحل والطين، متمردا على اللّه محاربا له!.. لا يستحق من اللّه هذا التكريم، وسجود الملائكة له.
وهذا موقف يدعو الإنسان أن ينتصر فيه لنفسه، وأن يجزى إبليس، ويتحدّى سفاهته، ويقف منه موقف العدوّ لعدوّه، في ميدان القتال.
{قال أنظرنى إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم} إن هذا اللعين يتحدى اللّه، ويثأر لنفسه في شخص هذا الإنسان الذي أراده اللّه ليكون خليفته في أرضه، فيفسد عليه أمره، ويشوّه وجه خلافته.
وها هو ذا يقعد على صراط اللّه المستقيم، الذي أقام اللّه الإنسان عليه، ثم يترصد الإنسان، وبنحرف به عن سواء السبيل.
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ}.
هكذا يتربص الشيطان بالإنسان، يلقاه في كل وجه، ويأتيه من كل طريق، ويدخل عليه من كل باب، ليضله عن سبيل اللّه، فيشرك بربه، ويكفر به، ويتخذ الشيطان وليا له من دونه.
{قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً}.
المذءوم: المطرود، والمذموم، والمعيب، يقال: ذأمه يذأمه ذآما، وذأما، إذا عابه.
والمدحور: المنهزم المغلوب.
{لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ}.
اللام هنا في {لمن تبعك} موطئة للقسم، و{لأملأن جهنم منكم أجمعين} جواب القسم.
وفى هذا استخفاف بأمر الشيطان، وبما معه من كيد وغواية، كما يقول اللّه سبحانه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً} بالإضافة إلى ما مع الإنسان من عقل، وعزم.. فمن أعطى الشيطان زمامه، واتخذه وليا، فهو من حزب الشيطان، يضاف إليه، ويصير إلى المصير الذي هو صائر إليه، وهو بهذا غير جدير بأن يكون في ضيافة اللّه، ومن حزب اللّه.

.تفسير الآيات (19- 25):

{وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)}.
التفسير:
وفى مواجهة إبليس، وفى مقابل تحدّيه للّه في شخص آدم- يدعو اللّه آدم إلى أن يسكن في تلك الجنة التي هو فيها، وهى جنة أرضية كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وفى الجنة رزق موفور وخير كثير.. ولآدم وزوجه أن يأكلا من كل فاكهة فيها، إلا تلك الشجرة التي أشار اللّه سبحانه إليها، ونهاهما عن الأكل منها.
ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عن الأكل منها إلا ابتلاء لآدم وزوجه، وإلا تحريكا لأشواقه إليها، وإلا تعجيلا بإظهار إرادته، وترددها بين امتثال أمر اللّه وعصيانه.
وفى هذا الموقف الذي يتأرجح فيه آدم بين الإقدام والإحجام، تجيئه دفعة مغرية بيد الشيطان، تدفعه إلى الخروج عن أمر ربه، فيأكل من الشجرة التي نهى عن الاقتراب منها!! وهنا يبدأ آدم وزوجه يعرفان أن لهما إرادة، وأنهما قادران بتلك الإرادة على أن يتصرفا كيف يشاءان، ولو كان في ذلك عصيان ربهما.
ومن هنا يولد آدم ميلادا جديدا.. فإذا هو الإنسان العاقل، المدرك، المريد.
وإذ يفتح هذا المولود الجديد عينيه على الوجود، يرى كل شيء على غير ما كان يراه من قبل.
وها هو ذا يرى أنه عريان لا يستره شيء كسائر الحيوان، فيخجل من نفسه، ويرى سوأته- وكأنه يراها لأول مرة- فيحاول سترها بما يقع ليده.
وليس بين يديه، ولا في ملك قدرته إلا ورق الشجر، فيتخذ منه ساترا يستر به سوأته- تماما كما يفعل الإنسان البدائى، الذي لم يخرج من عالم الغابة أو الجنة التي هي كل دنياه! ونقرأ الآيات: {فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
فالملائكة عالم لا يعرف الشر، بل قل إنه لا يعرف الخير أيضا.. فمن لا يعرف الشر لا يعرف الخير.
وإلى اللحظة التي لم يأكل فيها آدم من الشجرة كان أشبه بالملائكة، لا يعرف خيرا ولا شرا.. أما إبليس فقد عرف الشر وواقع المعصية، وبهذا خرج من عالم الملائكة، وكان عليه أن يضم آدم إلى عالمه هذا الذي تحول إليه.
ولا يتم هذا إلا إذا كانت لآدم إرادة تعمل في مواجهة الإرادة الإلهية.
{وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} أي أقسم لهما أنه ناصح، لا يبغى إلا الخير لهم.. وهكذا كل منافق، يتكثّر من الحلف، ولو لم يشك فيه أحد.. إنه يشعر بما في قلبه، وما على لسانه، من كذب وزور، فيحاول جاهدا أن يؤكده ويقويه بالأيمان.
وفى قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما} إشارة إلى تنازع الأقسام بينه وبينهما، وكأنّ في سكوتهما عنه قسما منهما باتهامه والحذر منه، ولهذا صح أن تكون المقاسمة شركة بينهما وبينه.
{فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
دلّاهما أي أنزلهما من مرتبهما، التي كانا فيها على السلامة والبراءة، إلى حيث كانت منهما مواقعة الخطيئة وارتكاب المعصية.. والتدلية: السقوط من عل، يقال: دلّى الدلو وأدلاه إذا ألقى به في البئر.
والغرور: الخديعة والاحتيال.. والباء في قوله تعالى: {بِغُرُورٍ} باء الاستعانة أي أنزلهما مستعينا بالتغرير والخديعة.
والسوأة: العورة، وما يسوء الإنسان أن يطلع عليه أحد.
وفى قوله تعالى: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} إشارة إلى موالاة الخصف من ورق الشجر.. والخصف جمع الشيء إلى الشيء، وخياطته به.
{قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} ذلك هو جوابهما واعتذارهما، لما كان منهما.. إنهما ظلما أنفسهما بما فرط منهما بارتكاب المعصية، والخروج عن أمر ربهما، فهما في معرض الهلاك والخسران، إن لم يغفر لهما ربهما ويرحمهما.
والخطيئة التي وقع فيها آدم هي التي اكتمل بها وجوده كإنسان، ولولا هذه الخطيئة لظل- كما قلنا- في عالم الحيوان، الذي هو ليس أهلا للتكليف وحمل الأمانة.
ولعل هذا المعنى هو ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا} [72: الأحزاب] وهذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم جهول، يلتقى مع قول آدم فيما ذكره اللّه تعالى عنه: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} فقد ظلم آدم نفسه، وظلم ذريته معه بحمل هذه الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.
وأحب أن أفهم قول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء» فهما متسقا مع هذا المعنى الذي أشرنا إليه، وهو أن لإنسان خلق خلقا مشوبا بالمعصية والخطيئة.. هكذا أراد اللّه له، وهكذا خلقه.
فالمعصية من آدم لم تلبسه ثوب للعنة، هو وذريته- كما تقول بذلك بعض الديانات- وإنما ألبسته لباس الإنسان، الذي أراده اللّه، ليكون خليفة له في الأرض.
ولقد عرف الملائكة- بما أخبرهم اللّه- أن الإنسان سيكون على هذا الخلق الذي يجتمع فيه الخير والشر، والطاعة والمعصية.. عرفوا هذا قبل أن يخلق آدم، وذلك حين قال اللّه تعالى لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ}.
قوله تعالى: {قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ}.
وقد هبط إبليس من قبل، هذا الهبوط المعنوي، حين نزل عن رتبته في العالم العلوي إلى هذا العالم السفلى.. فلما عصى آدم ربه ألحق بإبليس في أن عوقب على هذه المعصية بخروجه من عالمه الذي كان فيه.. فخرج من عالم اللاشعور إلى عالم الوعى والشعور، وهو عالم امتحان وابتلاء.
ولكن شتان بين هبوط آدم، وهبوط إبليس، فهبوط آدم، في حقيقته صعود، ولكنه صعود يحمّله أعباء ثقالا، تبهظه، وتنقض ظهره.. إنه يحمل بهذا الهبوط- أو هذا الصعود- أمانة عرضت على السموات والأرض والجبال {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا}.
أما هبوط إبليس فهو هبوط مطلق إلى عالم الإثم والمعصية، لا يتحول عنه أبدا.
والمستقر والمتاع إلى حين: هو الحياة الإنسانية على هذه الأرض إلى أن ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين.. وقد بيّن هذا قوله تعالى: بعد ذلك: {قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ}.
فعلى هذه الأرض يحيا آدم وأبناؤه، وفى هذه الأرض يموت ويدفن آدم وذريته، ومن هذه الأرض يبعث الموتى، ويعرضون على رب العالمين.. للحساب والجزاء.