فصل: تفسير الآيات (52- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (52- 53):

{وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)}.
التفسير:
وفى الانتقال من مشاهد القيامة إلى الحياة الدنيا، يقوم طريق يصل بين هذين العالمين.. عالم الحياة، وعالم ما بعد هذه الحياة.. وعلى امتداد هذا الطريق، وفى نهايته، يرى المشركون مصائرا لجبابرة والمتجبرين، وكيف تزلوا منازل الهون والعذاب.. يستغيثون فلا يغاثون، ويستجدون فلا يجود عليهم أحد ولو بقطرة ماء.
لقد سمع المشركون آيات اللّه تلك التي صورت لهم مشاهد القيامة، وشهدوا منها تلك المشاهد التي تنخلع لها القلوب، مما نزل بأمثالهم من المعاندين والمتجبرين، وأنهم إذا كانوا اليوم مجرد نظارة ومشاهدين، فإنهم في غد على موعد مع هذا المكان الذي أطبق على أمثالهم، ولن يفلتوهم منه أبدا.
وإذ يخرج المشركون من بين يدى آيات اللّه، التي صورت تلك المشاهد، وإذ لا تزال صور هذه المشاهد تملك عليهم مشاعرهم، وتستولى على أفكارهم- وإذ هم في تلك الحال يلقاهم قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فماذا هم فاعلون بهذا الكتاب، الذي أنزله اللّه عليهم مفصلا مبينا، على علم.. من لدن حكيم عليم؟ فلم يكن بيانه وتفصيله من عمل بشر.
هكذا تنطق آياته، وتتحدث وتتحدّى كلماته.. فيه هدى ورحمة لقوم يتقبلون الحقّ، وينتفعون بالخير الذي يساق إليهم.. أما من أعرض وتولى، فقد حرم حظّه من الحق والخير.. فما موقف هؤلاء المشركين مع هذا الكتاب المعين؟
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على أهل الشرك والضلال توفّقهم في الاستجابة لهذا الكتاب، والإيمان به، والعمل بما فيه.. فماذا ينظرون؟ أو ماذا ينتظرون؟ أينتظرون تأويل هذا الكتاب، ووقوع ما أخبر به من وعد ووعيد؟ إن تأويله- أي ما تؤول إليه أخباره- لا تكون إلا يوم القيامة.. فهل إذا جاء هذا اليوم، ووقع بهم الوعيد الذي أوعدهم اللّه به، أينفعهم إيمان أو يقبل منهم عمل؟ وكلّا.. فإن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً} [158: الأنعام].. إنّهم في هذا اليوم لا يملكون إلا أن يردّدوا الأمانىّ الباطلة: {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}.
وكلّا.. فلا شفعاء، ولا رجعة إلى الحياة مرة أخرى. لقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وطوى الكتاب على ما عمل العاملون من خير أو شرّ.. وهؤلاء المشركون لم يسجّل لهم في كتابهم إلا الشرّ، وإذن فهم: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ}.
لقد ذهبت مفترياتهم أدراج الرّياح، إذ كانت كلها من واردات الخيال والأوهام.

.تفسير الآيات (54- 58):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}.
التفسير:
ويترك المشركون في موقفهم مع أنفسهم، من هذا النداء الكريم الذي يدعوهم به اللّه سبحانه إلى كتابه، وإلى الإيمان به، قبل أن تنقضى آجالهم ويختم على أعمالهم، ويأتيهم تأويل ما في الكتاب من وعيد، وعذاب شديد- يتركون هكذا ليتدبروا أمرهم وليأخذوا الطريق الذي يشاءون.. ثم إن لهم بعد هذا أن يستمعوا إلى آيات اللّه، وما يتنزل فيها من هدى ونور، يهدى إلى اللّه، ويكشف الطريق إليه، بما يتجلّى فيها من سلطان اللّه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فهذه بعض مظاهر قدرة القدير، وحكمة الحكيم.. {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}.
وقد أشرنا من قبل إلى هذه الأيام الستة التي خلق اللّه فيها السموات والأرض، وقلنا إنها ليست بيانا للزمن الذي عملت فيه القدرة هذا الخلق للسموات والأرض-
كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين- فذلك فهم خاطئ لقدرة اللّه، التي تحكم الزمن ولا يحكمها.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فهذه الأيام الستة، هي المدة التي ينضح فيها خلق السموات والأرض، وهى الوعاء الحاوي لخلق السموات والأرض، وتسويتهما على الصورة التي أرادها اللّه وذلك كما يتخلّق الجنين في بطن أمّه، ويتم خلقه في تسعة أشهر.
وهكذا الشأن في كل مخلوق.. له وعاء زمنى يتخلق فيه، وأجل محدود ينتهى إليه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ}.
اختلف المفسرون في العرش وفى صفته، وفى وظيفته.. كما اختلفوا في الاستواء.. ما هو؟ وكيف يتصور؟
أما العرش، فقد ذكر في القرآن أكثر من مرة.. مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} [7: هود].
فالعرش هنا موجود قبل خلق السموات والأرض، فكيف يجيء في الآية السابقة معطوفا على خلق السموات والأرض بحرف العطف {ثم}؟.
جاء ذكر العرش في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [86: المؤمنون] وفى قوله سبحانه: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [75: الزمر] وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [15: 16- البروج].
فالعرش إذن كون من هذه الأكوان التي خلقها اللّه سبحانه، كما خلق السموات والأرض وغيرهما.. إنه مربوب لربّ الأرباب.
ولكن ما صفة هذا العرش؟ وما وظيفته؟.
جاء في قوله تعالى عن عرش ملكة سبأ: {قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [38: النمل] وجاء في قوله سبحانه: {فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [42: النمل].
فالعرش هنا هو مقصورة الملكة، أو مجلس الملك، حيث تتخذ منه الملكة مجلسا تتولّى فيه إدارة ملكها، هي وأعوانها.
فهل العرش الذي خلقه اللّه هو شيء من هذا القبيل، على بعد بعيد، فيما هو للّه، وفيما هو لعباد اللّه؟
ليس ببعيد أن يكون لهذا الوجود فلك يدور فيه، وأن يكون لهذا الفلك مركز، وأن يكون العرش هو مركز هذا الوجود، وهى جميعها من خلق اللّه، وفى يد القدرة القادرة.
بقي معنى استواء اللّه على العرش.
وهذا أمر يتعلق بذات اللّه، فكما لا يمكن تصور ذاته، لا يمكن تصور أفعاله.. وقد سئل الإمام مالك رضى عنه- عن معنى الاستواء، فقال قولته المشهورة: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي يجلّل الليل بالنهار، أي يجعله جلالا له، وساترا، وغطاء، حيث يحجب ظلامه نور النهار.. ومنه قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} أي يلبسكم النعاس، وكذلك قوله سبحانه: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} أي دخلوا فيها، وأخفوا أنفسهم.
قوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} جملة حالية من اللّيل، أي أن اللّيل يتبع النهار ويقتفى أثره، فينسخ نوره بظلامه.
وهكذا النهار والليل في دورة الفلك، حيث تدور الأرض حول نفسها، تحت سلطان الشمس مرة كل يوم، من الغرب إلى الشرق.. وفى تلك الدورة اليومية بتناسخ كل من الليل والنهار، أي ينسخ كل منهما الآخر، وذلك بتحرك الأرض شيئا فشيئا، بحيث يكون دائما نصفها المقابل للشمس نهارا، والنصف الآخر ليلا، ففى كل لحظة، ضوء ينسخ ظلاما، ويلبسه، ويغشيه.. فالظلام الذي يخيم على الأرض شيء أصيل، والضوء الذي يلبسها كائن جديد داخل عليها.
الظلام منسوخ، والضوء ناسخ له. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً} [12: الإسراء].
وهناك حقيقة علمية مقررة، تتكشف من النظر في قوله تعالى {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} وذلك بعد أن أصبحت كروية الأرض ودورتها حول الشمس من الغرب إلى الشرق من الحقائق المسلّمة، التي لم تعد موضع بحث أو خلاف.. تلك الحقيقة، هي أن الليل، أي الظلام، كان مستوليا على الأرض كلها، فلما أخذت الأرض مكانها من الشمس مع المجموعة الشمسية، انتسخ نصف الظلام الذي كان يغطى هذه الأرض، أو هذه الكرة، فكان نهارا، وبقي النصف الآخر ليلا.
وفى الحركة التي تتحركها الأرض في مواجهة الشمس من الغرب إلى الشرق- يتناسخ الليل والنهار، فما يكون ليلا يتحول إلى نهار، وما يكون نهارا يتحول إلى ليل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ} [37: يس].
وسلخ النهار من الليل، تعريته منه، كما يتعرى الحيوان من جلده الذي يكسوه.. فالنهار إذ يكسو وجه الأرض بضوئه يكون أشبه بالغشاء الجلدى الذي يكسو الجسد، فإذا انسلخ النهار، انكشف الليل بظلامه الكثيف.
وفى الحساب الزمنى بتقدم النهار الليل أبدا، حيث كان الشرق هو مطلع الشمس، فحيث تشرق الشمس يكون أبدا وراءها ظلام، أو ليل، هو متخلف زمنا عن النهار.
فالنهار في الشرق هو ناسخ لليل لذى كان في الغرب، والليل الذي يستولى على الشرق، هو في مقابل النهار الذي انسحب منه.. أو بمعنى جغرافى آخر.. أننا إذا فرضنا أن الوقت الآن نهار في نصف الكرة الشرقي، كان معنى هذا أن وراء هذا النهار ليل هو قائم في النصف الغربىّ من الأرض، وأنه بحكم دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق، سيأخذ كل من النهار والليل مكان صاحبه بعد نصف دورة كاملة من دورة الأرض.. فبين الشرق والغرب فرق زمنى هو مدة نهار كامل، وهذا ما يمكن أن يفهم عليه قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [40: يس].. فالنهار يسبق الليل أبدا، والعكس لا ينبغى أن يكون، لأن سلطان الشمس قائم على الأرض مسلط عليها، أو بمعنى أصح على النصف المواجه للشمس منها دائما.
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} معطوف على قوله سبحانه: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أي وخلق الشمس والقمر والنجوم، وهى كائنات مسخرات لأمره، لا سلطان لها، ولا فعل لها من ذاتها.. ومن هنا لا تصح عبادتها، ولا ينبغى أن يتعلق مخلوق بمخلوق مثله، وينشد الرزق منه. فقوله تعالى: {مُسَخَّراتٍ} حال من الشمس والقمر والنجوم.
وقوله سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} الخلق:
خلق الكائنات جميعها، العلوىّ منها والسفلىّ.. {والأمر} التدبير والتسخير وإجراء كل مخلوق على التقدير الذي قدّره اللّه له.
فالمخلوقات جميعها صنعة الخالق، وحركاتها وسكناتها كلها بتقدير اللّه، وبأمره.. {تبارك} أي علا وتقدّس وتمجّد وعظم.. {اللّه ربّ العالمين}.
هذا لسان حال الوجود كله، يسبح بحمد اللّه، ويمجده ويقدسه ويعظمه.
قوله سبحانه {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي إذا كان هذا الوجود كله هو صنعة اللّه، وكل حركة وسكون فيه هي بتقدير اللّه وبتدبيره وأمره، فإنه ينبغى ألا يكون لمخلوق متوجه إلا إلى اللّه وحده إليه تتجه لوجوه، وله ترفع الأكفّ وتبسط لأيدى.. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}.
أي ادعوه في تذلل وخضوع، وفى همس وخفوت، فهذا أجمع للجوارح، وأدعى إلى سكن النفس وطمأنينة القلب، وليس كذلك.. الصراخ والهتاف، حيث تتوزع المشاعر، وتتفرق الجوارح، ويدخل على الإنسان شعور يبعد اللّه عنه، وبأنه يملأ هذا الفراغ الذي بينه وبين اللّه، بهذا الهتاف والصراخ.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الاعتداء هنا هو الالتفات إلى غير اللّه، وللجأ إلى وجه غير وجهه.. فذلك عدوان على اللّه، وما له من حق على العباد في الولاء له، والطلب منه.
قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها}.
الإفساد في الأرض هو اتخاذ الطرق المعوجة فيها، بعد أن أقامها اللّه على السلامة والفطرة.. فمن الإفساد العظيم في الأرض، الشرك باللّه، أو الكفر به، أو الانحراف عن شرائعه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً}.
قوله سبحانه: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إذا انتهيتم عما نهاكم اللّه عنه، وهو الإفساد في الأرض، فوجهوا وجوهكم إلى اللّه، وادعوه وأنتم على إشفاق وطمع.. إشفاق من عذابه، وطمع في مغفرته.
هكذا هو شأن المؤمنين باللّه.. حالهم أبدا معه على خوف منه، ورجاء فيه.. فالخوف يدفع الإنسان إلى العمل والاجتهاد في الطاعات.. والرجاء يشدّ عزمه، ويقوّى يقينه، ويثبت خطوه.
يقول بعض الصالحين: لو أنزل اللّه كتابا بأنه معذب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه.
وهذا أعدل موقف يقفه الإنسان، بين خوفه من ربّه وطمعه في رحمته.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فى الآية الكريمة عرض لمظهر من مظاهر قدرة اللّه، وما تحمل هذه القدرة إلى الناس من رحمة.
فهذه الرياح، يرسلها اللّه رسل رحمة إلى الناس، حيث تحمل السحاب مثقّلا بالماء، فتسوقه إلى الأرض الجديب والبلد الميت، ثم تنزل ما حملت من ماء، فتسيل به الوديان، وتجرى منه العيون، وإذا هذا الجدب، وذلك الموات، حياة تدبّ في أوصال الكائنات، من جماد، ونبات، وحيوان.
تلك بعض مظاهر القدرة.. القادرة تلبس الجماد ثوب الحياة، وتخرج من الأرض الجديب زروعا ناضرة، وثمارا دانية القطوف، مختلفة الطعوم.
فهل تعجز هذه القدرة عن إحياء الموتى، ونشر الهامدين من القبور؟ ذلك ما لا يقول به عاقل إذا نظر نظرة هناك، ثم نظر نظرة هنا: {كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون}.
ولكن أين من يعقل ويتذكر؟.
قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً}.
وهكذا الناس، يصوبهم الغيث الإلهى من آياته وكلماته بين يدى الرسل، فيكون منهم ما يكون من الأرض الجديب يصوبها المطر، فبعضها طيب كريم، يقبل الماء ويتفاعل معه، فيخرج الثمر الطيب، والعطر الزكىّ، وبعضها لا يخرج شيئا، أو ينبت الحسك والشوك والمرار!.
والنكد: السيء الرديء، الذي يتأذى الناس منه، طعما أو ريحا.