فصل: تفسير الآيات (59- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (59- 64):

{لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)}.
التفسير:
بعد هذا العرض الذي تتجلى فيه قدرة اللّه وسلطانه المتمكن في هذا الوجود، ورحمته المبثوثة في كل أفق- بعد هذا جاءت آيات اللّه لتحدّث عن مشاهد من الكفر والضلال والمكر، بآيات اللّه، ولتقيم منها عبرة وعظة لهؤلاء المشركين الذين كذبوا رسول اللّه وبهتوه، وأخذوه ومن آمن معه بالبأساء والضراء.. وفى هذا عزاء للنبىّ وللمؤمنين معه، ووعيد للمشركين والضالين أن يحلّ بهم ما حلّ بأقوام سالفين، كذبوا رسل اللّه، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالضر والأذى.
فهذا نوح- عليه السلام- يدعو قومه إلى اللّه، ويحذرهم من عذاب يوم عظيم، إذا هم لم يستجيبوا له، ويستقيموا على الطريق الذي يدعوهم بآيات اللّه إليه.
والقوم في عمى وضلال.. يلقون هذا الدّاعى الكريم بالتكذيب والسفه:
{إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
أهكذا يجزى المحسنون على ما يقدمون من إحسان؟ ذلك ظلم مبين، وعدوان آثم على البر والإحسان..!
والرسول الكريم حريص على سلامة قومه، ضنين بهم أن تغتالهم الضلالة ويفتك بهم الكفر، فيلقى سوءهم بإحسان، ويدفع الشر بالخير: {يا قوم ليس بي ضلالة ولكنى رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربىّ وأنصح لكم وأعلم من اللّه ما لا تعلمون} ولا تبلغ كلمات الرسول منهم أذنا واعية، ولا تصادف قلبا متفتحا للخير.. إنهم يحسدون نوحا أن يكون الرجل الذي يتولى مكان القيادة والتوجيه، ولو كانت قيادته لهم ستفتح عليهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
{أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} فذلك هو الداء المتمكن فيهم، والذي يعزلهم عن نوح، ويقطع بينهم وبينه الطريق إلى اللقاء، ويسد بينهم وبينه منافذ التفاهم والفهم. {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ}.
فهذا هو الجزاء العادل، لمن انقاد لهواه، وأبى أن يفتح عينيه على هذا النور الذي يملأ الآفاق من حوله.. إن تلك هي جنايته على نفسه، وذلك هو مصيره الذي اختاره وارتضاه.
والملأ: الجماعة من الرجال خاصة.
و{عمين} جمع عم، وهو الأعمى، يقال: عمى عمّى فهو أعمى، وعم.
وأصل عم عام، صيغة مبالغة من اسم الفاعل، مثل: حاذر وحذر، وهذا يعنى أن العمى الذي عليه القوم، ليس عمى طبيعيا، وإنما هو تعام عن الحق، ومبالغة في هذا التعامي.. فهو عمى البصيرة، وليس عمى البصر.

.تفسير الآيات (65- 72):

{وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}.
التفسير:
وهذا رسول آخر من رسل اللّه الكرام، هو هود عليه السلام، يجيء بعد نوح إلى قومه عاد فيدعوهم دعوة نوح إلى اللّه، ويلقى منهم ما لقى نوح من قومه من تكذيب وتسفيه، ولكنه يمضى معهم- كما مضى نوح مع قومه- ناصحا، متلطفا، يلقى السيئة بالحسنة، والشر بالخير، وهم- مع هذا- لا يزدادون إلا عنادا وإصرارا على ما هم فيه من عمى وضلال.
وتجيء الخاتمة التي لا تختلف أبدا.. نجاة للمؤمنين، وهلاك للمكذبين المعاندين.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [62: الأحزاب] والسفاهة. خفة الحلم والطيش.
والبسطة في الخلق: الزيادة في بناء الجسد، وقوته. ذلك نعمة من نعم اللّه، إذا صادفت عقلا راشدا، وقلبا سليما.
والآلاء: النعم، وهى جمع: إلى، على وزن معى، وألى على وزن قفا.
والرجس: القذر والنجس.
ووقع عليهم: أي حلّ بهم، وأصابهم.
والدابر: ظهر الشيء وخلفه.. ودابر القوم: آخرهم.. والمراد أنهم أخذوا عن آخرهم، فلم تبق منهم باقية.
والقطع: الاستئصال من الجذر.
وفى قوله تعالى: {وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أنهم لن يكونوا أبدا من المؤمنين، ولو جاءتهم كل آية.. حتى يروا العذاب الأليم.

.تفسير الآيات (73- 79):

{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}.
التفسير:
وبعد هود جاء صالح إلى قومه ثمود.
وتتكرر الأحداث، ويشهد صالح ما شهد النبيّان الكريمان من قبله، نوح، وهود.. من البهت والتكذيب، والإصرار على الضلال والكفر.
وتجيء الخاتمة المنتظرة.. غضب اللّه وعذابه للقوم المجرمين، ورحمته وإحسانه للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين.
ولدعوة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم دائما، هي الإيمان باللّه، والانخلاع عن عبادة لأوثان والأصنام: {اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
تلك هي رأس دعوتهم.
ويجيء صالح إلى قومه بآية محسوسة يضعها بين أيديهم: {هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
والناقة التي جاءهم بها صالح- عليه السلام- هي البينة، وهى الآية، التي تشهد له بأنه رسول اللّه، وقد اختلف في أوصاف هذه الناقة، وفى الوجه الذي جاءت منه، فقيل إنهم اقترحوا عليه ناقة تخرج من صخرة أشاروا له إليها، فخرجت منها الناقة. وقيل إنها كانت على شيء عظيم من بسطة الجسم، حتى لقد كانت تشرب الماء الذي كان يشربه القوم كلهم في يوم.. وقد حملوا هذا المعنى على قوله تعالى: {هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [155: الشعراء].
وليست العبرة في خلق الناقة، ولا في أوصافها التي كانت عليها، وإنما العبرة فيما ابتلوا به منها.. إنها ناقة اللّه.. وربما لا يكون فيها شيء يختلف عن جنسها من النياق، ولكن هكذا أضافها اللّه إليه تكريما وتشريفا، لتكون معلما من معالم الحق، له احترامه، وتوقيره.. والبلوى فيها هو ألا يمسوها بسوء.. فإن هم مسوها بسوء أخذهم العذاب.. وهذا هو وجه التحدي من تلك الآية، وتلك هي المعجزة المتحدية منها.
ولم يصبر القوم على هذا البلاء، ولم يدعوا الناقة تأكل في أرض اللّه كما تأكل جميع النياق، ولكنهم تحدوا هذه المعجزة، واستعجلوا العذاب الذي يأتيهم من جهتها، فمقروها. وقد أغراهم على ذلك ما أغرى أباهم آدم بالأكل من الشجرة التي نهى عن أكلها.. وإنه لو لم ينه عنها فلربما لم يلتفت إليها ولم يأكل منها.. وكذلك هم، كان نهيهم عن ترك الناقة تأكل في أرض اللّه إلفاتا لهم إليها، وابتلاء لهم بعدم الامتثال لما أمروا به في شأنها.. {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ} أي مقلوبين على وجوههم، كما يجثم الطائر على الأرض والرجفة التي أخذتهم هي الزلزلة.. وقد وصفت بالطاغية في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [5: الحاقة] ووصفت بالصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} [68: هود] وفى قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} إشارة إلى أن صالحا كان ذا جاه في قومه، وأن سفاءهم لم يواجهوه مواجهة بالتجريح والتكذيب، بل كان ذلك منهم للذين آمنوا من مستضعفيهم.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} [62: هود] فهو قد كان في مكانة ظاهرة في قومه، وفى منزلة عالية من الاحترام والتقدير.. فلما جاءهم يدعوهم إلى اللّه، تغيّرت نظرتهم إليه، وساءت حاله عندهم.. وذلك لسابق ما أراد اللّه لهم من فتنة! وفى قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} وذلك بعد أن أخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين- في هذا ما يكشف عما كان في نفس صالح من أسى وحسرة على هلاك قومه، وأن عزاءه عند نفسه أنه أبلغهم رسالة ربه ونصح لهم ولكنهم لم ينتصحوا.. فأخذهم اللّه بذنبهم: {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
وفى التعبير بلفظ التولّى الذي يدل على الإعراض- إشارة إلى أنه أعطاهم ظهره، غير آسف عليهم، بعد أن عزّى نفسه هذا العزاء.. ثم مضى في طريقه مع من آمن به، وترك هؤلاء جثوما هامدين.

.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}.
التفسير:
وهذا لوط وقومه.. ولكل قوم داؤهم الذي جاء الرسول ليطبّ لهم منه.. وداء هؤلاء القوم هو أنهم يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وقد كانوا في هذا الفعل المنكر أول أناس فعلوه.. فهم أئمة في هذا الضلال، عليهم وزر هذا الإثم ووزر من عمل به إلى يوم القيامة! والقوم- شأنهم شأن كل معتد أثيم- يستمرئون هذا الضلال، ويقيمون له منطقا يقع من نفوسهم موقع اليقين والاطمئنان، وبهذا عدّوا أنفسهم أصحاب دعوة راشدة، ودعاة فلسفة حكيمة، وأن لوطا ومن معه قوم منحرفون، متجمدون على القديم، لا يتحولون عنه.. ومن هنا سوّل لهم منطقهم هذا أن يؤذنوا لوطا ورهطه بالخروج من بينهم: {فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
وتجيء الخاتمة، كخاتمة كل صراع بين حق وباطل، وهدى وضلال.
{فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ} أي كانت من هؤلاء القوم الذين هلكوا ومضوا.. فالغابر، هو الماضي، إذ كان من شأنه أن تعلوه الغبرة بفعل الزمن.. وقد أصبح هؤلاء القوم في حكم الغابرين، إذ قضى اللّه بإهلاكهم وليس لقضائه من مردّ.
وهذا لوط وأهله إلا امرأته قد نجوا، وسلموا من هذا البلاء.
وأما قومه فقد أمطروا مطر السّوء.. مطرا من نوع لم يعرفه أحد.
ولهذا جاء النظم القرآنى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً}.
هكذا مطرا منكرا على غير مألوف الحياة.. إنه حجارة من سجيل، قلبت المدينة وما فيها ظهرا لبطن، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة هود: {فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} فهو، مطر ولكنه من حجارة، وهى حجارة ولكنها من سجّيل (أي من صوّان) وهى سجّيل ولكنها منضودة (أي مهيّأة ومعدّة لهم، في أحجام منتظمة) وهى منضودة، ولكنها مسوّمة (أي معلّمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه).
وقوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} دعوة إلى النظر المتأمل المتفحص، الذي يأخذ العبرة من الأحداث... ففى هذا الذي حدث لقوم لوط عبرة وعظة.

.تفسير الآيات (85- 87):

{وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)}.
التفسير:
وهؤلاء قوم شعيب، وداؤهم أنهم يختانون في الكيل والميزان، فإذا كالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
وقد جاء شعيب يدعو قومه دعوة الحق، ويقيمهم على طريق العدل فيما بينهم.. وها هو ذا يقول لهم: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
فمن آمن باللّه كان من شأنه ألا يظلم، ولا يعتدى، {قد جاءتكم بينة من ربّكم}.
والبينة هي الآية والمعجزة المتحدية، ولم يذكر القرآن الكريم نوع هذه المعجزة، ولكن الذي ينبغى التصديق به أنه كان بين يديه معجزة ما، تحدّى بها القوم، وأراهم قدرة اللّه منها.. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} والبخس هو الغمط، والنقص، والخيانة.
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم مؤمنين باللّه، ومؤمنين بالحق والعدل الذي يدعو إليه الإيمان.
{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} والقعود بكل صراط: هو التصدي لمن يريدون الحق، ويطلبون الهدى، والإبعاد: الوعيد بالشرّ والتهديد به.
{وتبغونها عوجا} أي تريدون أن تكون هذه السبيل- سبيل اللّه- معوجّة، أي ينحرف الناس عنها إلى سبيل الضلال والغىّ.. فهكذا أهل السوء والضلال، يحرصون دائما على أن يكون الناس جميعا على شاكلتهم، حتى لا يظهر سوؤهم، ولا ينكشف ضلالهم.. وهكذا الشرّ دائما موكّل بالخير، يريد أن يشوّه معالمه، ويفسد طبيعته، ليتوازى معه على كفتى ميزان.
ولكن اللّه بالغ أمره.. فما كان قائما على الشرّ والفساد، مستنبتا في منابت الضلال، فلا بقاء له، وما كان قائما على الحق والخير، مغروسا في مغارس الهدى والنور، فهو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها.. {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ}.