فصل: تفسير الآيات (100- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (100- 102):

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)}.
التفسير:
هذه الآيات والآيات التي قبلها هي تعقيب على ما حلّ بالقوم الظالمين، الذين عصوا رسل اللّه، واسترهبوهم بصور مختلفة من الوعيد.
وهذه التعقيبات هي مما يمكن أن يرد على الخواطر، ويتردد على الألسنة ممن يمرّ من عقلاء الناس بمصارع القوم الظالمين، ويجوس خلال الديار التي عمروها، أو يقصّ عليه خبرها، وتكشف له أنباؤها، ففيها العبرة، وفيها العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}.
.. إنه يكشف عن وجه من وجوه العظة والاعتبار.. فهؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم.. ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم أو بصائرهم أن اللّه سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم؟ ولساق إليهم نذر الدّمار والهلاك كما ساقها إلى الهالكين من قبلهم؟ فما حجتهم على اللّه حتى يدفع عنهم هذا البلاء الذي هم جديرون بأن يؤخذوا به؟ وما وجه فضلهم على من أهلكوا قبلهم حتى لا يصيروا إلى مثل مصيرهم، وقد فعلوا فعلهم، وأخذوا طريقهم؟
إنه لا لحجة لهم على اللّه، ولا لفضل ظاهر فيهم، أن عافاهم اللّه من هذا البلاء، وأن صرف عنهم عذابه، ولكن لمقام رسول اللّه بينهم، ولفضل اللّه على نبيه الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما وعده ربّه هذا الوعد الكريم:
{وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [33: الأنفال] وهذه خصيّصة لمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه، من بين رسل اللّه جميعا، ألّا يرى عذاب السّماء ينزل على قوم هو منهم، أو يصيب بلادا هو فيها.
وفى قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن العذاب الذي سيقع بهؤلاء الظالمين ليس عذابا ظاهرا، ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض، ولكنه بلاء خفىّ، يغشى قلوب الظالمين، فيحجب عنها الهدى، فلا تتهدّى إليه، ويصرف عنها الخير، فلا تعرف له وجها.
وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه المقام، والتقدير: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} (و أخذناهم بما أخذنا به القوم الظالمين قبلهم من بلاء ونكال، ولكنا لا نفعل بهم هذا، تكريما للنبي الكريم، {وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} كلام اللّه، ولا ينتفعون به).
وهذا عقاب خفىّ، لا يراه الرسول، حتى لا يحزن ولا يأسى.
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} إشارة إلى أن المعجزة التي بين يدى هؤلاء القوم، والتي تكشف لهم الطريق إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به- ليست معجزة منظورة تراها العين، ولكنها معجزة مقروءة تسمعها الأذن، ويعيها القلب.. وتلك المعجزة هي القرآن الكريم، والمستمعون لها هم هؤلاء القوم المشركون، ولكنهم لا يسمعون السمع الذي ينفذ إلى القلب، ويتصل بالعقل.
قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ}.
القرى المشار إليها للنبىّ، هي تلك القرى التي قصّ اللّه سبحانه وتعالى أخبارها من قبل، وما حلّ بأهلها، بعد أن كذّبوا الرّسل.
وهؤلاء مشركوا أمّ القرى ومن حولها، قد سمعوا ما قصّ اللّه من أنباء القرى التي أهلكها اللّه حين كذبوا رسل اللّه، وهاهم أولاء يكذبون النبيّ ويمثّلون معه الموقف نفسه الذي وقفه من سبقهم من أهل القرى التي أهلكها اللّه- هؤلاء المشركون وتلك حالهم، هم بين أمرين:
إما أن ينتظروا البلاء الذي حلّ بمن سبقهم، وإما أن يؤمنوا باللّه، ويستجيبوا للرسول.
أما البلاء، فلن يقع بهم والنبيّ فيهم.
وأما الإيمان، فلن يؤمنوا، لأن اللّه قد طبع على قلوبهم.
وإذن فليس لهم إلا الخزي في الدنيا، وعذاب السعير في الآخرة.
والمراد بهؤلاء القوم هو رءوس الكفر، من مشركى مكة، الذين علم اللّه أنهم لن يؤمنوا، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [57- 58: الكهف].
فقوله تعالى: {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} مراد به هؤلاء العتاة من رءوس المشركين من قريش.. إنهم لا يؤمنون أبدا بهذا الرسول الذي كذّبوا به، وبما أنزل إليه من آيات ربّه، فما ينزل من آيات اللّه بعد هذا، وما يساق إليهم فيها من عبر وعظات في قصص الأولين- كل هذا لن يزيدهم إلا نفورا.. {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ} ذلك الطبع الذي لا ينفذ منه إلى القلب لمعة من نور الحق أبدا.
وقوله تعالى: {وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ} هو وصف كاشف لهؤلاء الرءوس من أهل الشرك في قريش. وأمّا العهد الذي نقضوه مع اللّه فهو قولهم الذي حكاه القرآن عنهم: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ} [156- 157: الأنعام] فهم قد عاهدوا أنفسهم أن لو جاءهم كتاب كما جاء أهل الكتاب كتاب، لآمنوا باللّه، وكانوا أهدى سبيلا من أهل الكتب السابقة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ}.
.: {إن} هنا هي المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة، واللام في قوله تعالى: {لفاسقين} هي اللام المؤكدة، الداخلة على الخبر، والمعنى، وإنّا وجدنا أكثرهم لفاسقين، ينقضون العهد الذي وثقوه مع أنفسهم، وذلك خيانة منهم لوجودهم.

.تفسير الآيات (103- 116):

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}.
التفسير:
فى الآيات التي مضت، ذكر فيها قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، وقد تخللت هذه القصص لمحات وإشارات إلى مشركى مكة، تلفتهم إلى مصارع القوم الظالمين، الذين كذبوا رسل اللّه وأعنتوهم، وأن هؤلاء المشركين من قريش إذا أصروا على ما هم عليه من عناد وشرك، بعد هذا الهدى الذي جاءهم من عند اللّه، على يد رسول اللّه- فلن يكونوا بمأمن من هذا المصير المشئوم الذي صار إليه الظالمون من قبلهم.
ولم تذكر الآيات السابقة قصة موسى، مع فرعون، ثم قصته مع قومه بنى إسرائيل.
وهذا ما عرضت له تلك الآيات التي نحن بين يديها الآن.
{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
أي ثم بعث اللّه سبحانه وتعالى، من بعد هؤلاء الرسل الذين ذكرتهم الآيات السابقة- بعث موسى بآيات معجزات إلى فرعون وملائه، أي الوجوه البارزة من قومه، من وزرائه وقواده، وأصحاب الرأى والكلمة عنده، فلم ينتفع هو ولا قومه بهذه الآيات، ولم يروا فيها طريقا يصلهم إلى اللّه ويدعوهم إليه، بل ظلوا على ما هم عليه من ظلم ومن بغى، بل لقد كانت تلك الآيات باعثة لهم على المبالغة في الظلم والبغي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَظَلَمُوا بِها} أي اتخذوها أداة من أدوات الظلم، وذريعة من ذرائعه، كما سنرى ذلك في موقف فرعون بعد أن التقى به موسى، وعرض عليه ما بين يديه من معجزات.
وفى قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.
في هذا ما يسأل عنه وهو: كيف يجيء الأمر بالنظر إلى ما صارت إليه حال القوم المفسدين، ولم تأت عاقبتهم بعد؟ وماذا ينظر الآن من عاقبة هؤلاء المفسدين؟
والجواب: أن المبادرة إلى هذه الدعوة بالنظر إلى مصير المفسدين، هي لإثارة التطلعات إلى تلك الخاتمة المثيرة التي ستختم بها هذه القصة، وما ينتهى إليه الصراع بين الحق والباطل، ففى هذه المبادرة إعداد للنفس، وإثارة لأشواقها، وإخلاء لها من الشواغل، حتى تلتقى بتلك الخاتمة وهى على حال تامة من الوعى واليقظة، فلا تفوتها من مواقع العبرة والعظة فائتة.
ومن جهة أخرى، فإن في المبادرة بهذا الحكم، على هؤلاء القوم بأنهم مفسدون- إشعارا بأن القضية هنا قضية صراع بين حق وباطل، وبين دعاة إصلاح وأهل فساد، وفى هذا ما يقيم شعور المستمع لهذه القضية على هذا الموقف منها، وهو موقف بين المحقين والمبطلين.
{وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
فهذا هو مبدأ القصة.. يلتقى موسى بفرعون لقاء مباشرا... ثم يبدؤه بهذا الخبر:
{يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
ويفعل هذا الخبر فعله في نفس فرعون، ومن حوله.. ثم لا يكاد فرعون يفيق من صدمة هذا الخبر غير المتوقع، حتى يسد عليه موسى منافذ القول بالتكذيب أو الاتهام، فيتبع الخبر بخبر آخر، يؤكده ويوثقه: {حقيق على ألا أقول على اللّه إلا الحق} فإن من كان رسولا لربّ العالمين، لا ينبغى له أن يقول غير الحق، إذ الرسول وجه كاشف عن وجه من أرسله.. واللّه سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص، فكذلك ينبغى أن يكون الرسول الذي يرسله، على حظ موفور من الكمال البشرى، فلا يكذب، ولا يخون.. فهو أحق الناس وأجدرهم ألا يقول غير الحق.
وتثور في نفس فرعون تساؤلات، لا يكاد يمسك بواحدة منها حتى يلقاه موسى بالجواب لما تفرق أو اجتمع في خاطره من تلك التساؤلات: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ}.
فالأسئلة التي تواردت على خاطر فرعون كثيرة، كان منها وأهمها: ماذا يريد موسى بهذه الدعوى التي يدعيها؟ وما شأن فرعون به وبرسالته؟ ليكن رسولا من عند اللّه أو من عند غير اللّه.. فما لفرعون وهذا الذي يقتحم عليه مجلسه، ويلقى إليه بمثل هذه المقولات؟
وجواب موسى على هذه الأسئلة: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ} وكان الجواب المنتظر هو: أرسل معى بنى إسرائيل.
فهذه هي رسالة ربه، المطلوب منه أن يبلغها فرعون.. فإن أبى فرعون أن أن يصدقه، عرض عليه من آيات ربه ما يقيم الدليل على صدقه، ويؤكده.
ولكن جبروت فرعون وتسلطه يحدّثان بأنه لن يقبل من موسى قولا، ولن يسلّم له بشيء مما يقول، بل سيجبهه بالزجر، ويتوعده بالعقاب، ويرميه بالكذب.. ولهذا كان من الحكمة- لكى يطفئ بعضا من غضب فرعون وثورته عليه- أن يلقاه أولا بالدليل الذي يسند دعواه، ويدل على صدقه، وأن يدير تفكيره- ولو مؤقتا- إلى تلك للمعجزات التي يحملها موسى بين يديه من ربّه، وأن يثير فيه غريزة حب التطلع إلى هذا المجهول الذي يخفيه موسى عنه.
ولهذا كان ردّ فرعون:
{إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
ولم يعرض فرعون لما طلبه موسى في شأن بنى إسرائيل، وإرسالهم معه، بعد إطلاقهم من يده.. وهو المطلب الأول، بل هو كل ما طلب من فرعون في هذا الموقف. وإنّما كان همّه كله هو الاطلاع على ما عند موسى من آيات!
ولم يمهل موسى فرعون، بل طلع عليه فجأة بما ملأ عليه وجوده كله، هولا، وفزعا ودهشا!! لقد كان فرعون ينتظر من موسى شيئا من الحوار والجدل، والأخذ والردّ، فيما سيعرضه عليه من معجزات.. كأن يستحضرها أولا، ويتخير لها الزمان والمكان ثانيا.. فما كان مع موسى شيء يتوقع أن تخرج منه معجزة، وإلا فأين أدوات هذه المعجزة؟ وأين أجهزتها ومعداتها والأيدى التي تعمل فيها؟.. ولكن هكذا كان تدبير الحكيم العليم وتقديره! {فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
هكذا تقع المعجزة، وتكون المفاجأة!! العصا التي يمسكها موسى بيده.. يلقى بها إلى الأرض فإذا هي ثعبان مبين.
يفغر فاه حتى ليكاد يبتلع فرعون ومن حوله! ويد موسى التي أدخلها في جيبه (أي في فتحة قميصه على صدره) يخرجها، فإذا هي بيضاء من غير سوء، لم يتغير شيء من خلقها، إلا أنها ترسل ضوءا مشرقا كضوء الكوكب الدرىّ في فحمة الليل.
لقد ألقى موسى بكل ما معه دفعة واحدة، حتى يضرب فرعون الضربة القاضية، التي لا تدع له فرصة يلتقط فيها أنفاسه.. وواحدة من هاتين الضربتين تكفى لكى يستسلم لها كل جبار عنيد.. ولكن فرعون كان أكثر من جبار عنيد..!
ولا يذكر القرآن هنا ما وقع في نفس فرعون من فزع، وذعر، بل يدع ذلك لتصورات الناس، يأخذ كل إنسان ما يقدر عليه الخيال من الصور المرعبة المفزعة، لهذا الهول الذي وقع.
وإذ يفيق القوم من هذا الهول العظيم، بعد أن يدعو موسى الثعبان إليه فيكون عصا في يده، ويردّ يده إلى مكانها الذي كانت عليه- إذ ذاك يأخذون في التفكير لمواجهة هذا التحدّى الذي جاءهم به موسى، ويجدّون في التماس السبل للوقوف في وجهه، قبل أن يتصل خبره بالناس، فتكون الفتنة، ويكون البلاء... كما وقع في ظنونهم وأوهامهم.
{قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ}.
أي ساحر يقوم سحره على علم ومعرفة، وهو من أجل هذا مصدر خطر عظيم على فرعون وعلى مكانته في قومه.
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}.
فمثل هذا الإنسان الذي يملك تلك القوة، وهذه البراعة، لا يعجز عن أن يفعل ما هو أكثر مما فعل، وليس ببعيد أن يحيل الناس إلى أحجار ودمى، كما أحال العصا ثعبانا مبينا.. وليس ببعيد أن يطوّح بفرعون، ويلقى به في مكان خارج ملكه، ويستولى هو على هذا الملك! ويدور بين القوم حديث طويل متصل، تتوارد فيه الآراء، وتكثر وجوه العروض والحلول.. ثم ينتهى فرعون إلى موقف يسأل فيه الملأ:
ماذا عندهم من قول في موسى، وفى هذا الذي شهدوه منه..؟.
{فَما ذا تَأْمُرُونَ}؟
إن فرعون يريد منهم موقفا حاسما، ورأيا قاطعا، وأمرا نافذا في هذا الموقف، الذي لا يحتمل غير المواجهة الحازمة الحاسمة.
وفى قول فرعون لقومه: {فَما ذا تَأْمُرُونَ} خروج على المألوف بينه وبينهم، فما اعتادوا أن يسمعوا منه غير كلمة واحدة، هي الأمر منه، والطاعة والتنفيذ منهم.
أمّا هنا في هذا الموقف، فهو متخاذل متهالك، قد هزّته الصدمة، وأذلّت من كبريائه، فذهل عن نفسه، ونسى أنه فرعون الذي يأمر... ولا يؤمر، ويقول... ولا يقال له.
إنه هنا في معرض الهلاك، وفى مواجهة البلاء الذي يتهدّده، ويتهدّد ملكه.
وإنه هنا ليواجه الضعف الإنسانىّ الذي يتعرّى فيه من كل مظاهر العظمة الكاذبة، والاستعلاء المصطنع، حين يصطدم بواقع الحياة، ويواجه أهوالها وشدائدها... إنه هنا، هو هذا الإنسان الذليل الضعيف المستكين، الذي يقبل الصدقة من أي يد تمتدّ إليه..!
ويجيء جواب القوم أمرا حاسما.. لقد نسواهم كذلك أنهم في مجلس فرعون، وبين يدى جبروته وكبريائه، إنهم لا يرون منه الآن إلّا إنسانا مثلهم، قد أدركه الفزع، واستولى عليه الذعر، وأنهم وهو على سواء في هذا الموقف الأليم.. وهل حين تغرق السفين، ويلقى براكبيها في لجة البحر، يكون هناك ملك وسوقة؟ وسيد ومسود؟ إنهم جميعا في يد الهلاك سواء! {قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ}.
{أرجه} أي أنظره وأخّر الأمر فيه إلى أن نجمع ما في المدن من السحرة، أصحاب العلم، والتخصص في هذا الباب، وبهذا نلقى سحره بسحر مثله، يستند إلى علم ومعرفة.
والحاشرون: هم الذين يتولّون جمع السحرة وحشدهم، وحشرهم إلى ساحة فرعون.. والتعبير بالحشر هنا، يشير إلى أن الأمر عظيم، وأنه لابد له من حشر الناس إليه، وبعثهم سراعا من كل أفق، ليلقوا موسى، ويقفوا في وجه هذا الخطر الذي دهمهم به.
وحشر السحرة على عجل، وأقبلوا من كل أفق، وغصّت بهم ساحة فرعون.. وما كانوا قد رأوا رأى العين ما كان من فعل موسى بعصاه ويده، مع فرعون، وإن كانوا قد سمعوا به، وتصوروه على ما روى لهم.
ومن هنا وقع في أنفسهم أنه ساحر مثلهم، وأنّه إذا كان على شيء من القوة بالنسبة لهم، فإن في جمعهم هذا ما يتغلب على كل قوة.
ومن هنا أيضا وقع في أنفسهم أنهم أصحاب الموقف المنتظر بينهم وبين موسى، فكانت لهم بذلك دالّة على فرعون، وقد أطمعهم فيه، ما وجدوه عليه من ذلّة وانكسار، فجاءوا إليه يسألونه الأجر مقدّما، ويسألونه الجزاء الذي لهم عنده، بعد أن يكون لهم الغلب!! {وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ}!.
ولا يملك فرعون في هذا الموقف إلا أن يستجيب لهم، ويترضّى مشاعرهم، حتى يبذلوا كل ما يملكون من حول وحيلة.. إنهم الآن لا يعملون إلا بأجر، وقد كانوا من قبل هذا الموقف عبيدا مسخّرين! {قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
فليس الأجر وحده، ولا المال وحده، هو الذي سيبذله لهم، إن هم انتصروا على موسى، وأبطلوا كيده، وأفسدوا تدبيره، ولكن لهم إلى هذا المال الوفير الذي سيغدقه عليهم- أن يقرّبهم إليه، ويدنيهم منه، ويجعلهم أعوانه، وأصحاب الكلمة والرأى عنده.
ولا يذكر القرآن هنا اجتماع السحرة بموسى، والاتفاق معه على موقع المعركة وزمانها.. فذلك متروك لتقدير من يتلو هذه القصة، وتصوره لملء هذا الفراغ الذي لا يغيب عن فطنته، فإن لم يسعف الإنسان ذكاؤه هنا، وجد القرآن الكريم في معرض آخر من معارض هذه القصة، يعرض الصورة المثلى التي تملأ هذا الفراغ وتغطيه!.
ومن أجل هذا جاء اللقاء المواجه بين السحرة وموسى هكذا.
{قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}.
إن المعركة قد بدأت، وإنها الآن في أول جولة من جولاتها.
ولقد خيّر السحرة موسى، بين أن يبدأ هو الجولة، أو هم الذين يبدءونها.؟
وأجابهم موسى أن يكونوا هم البادئين.. وهذا أدب من أدب الحرب.
أعطوه الفرصة، فأعطاهم هو إياها.. ولقد جاءوا بأدوات كأدوات موسى.
عصىّ وحبال أشبه بالعصىّ، كما جاء هو بعصاه.. فتلك هي أصول منازلة الخصم لخصمه.. أن يحاربه بمثل سلاحه.
وقد أعطاهم موسى الفرصة ليظهروا كل ما عندهم، وكان ذلك عن حكمة وتدبير وتقدير.. فلو بدأ موسى- وقد جعلوا هم الأمر إليه في اختيار من يأخذ المبادرة- لكان غير عادل معهم، إذ بدءوه بالإحسان.. ولهذا فقد ردّ إليهم إحسانهم بإحسان، وأعطاهم حقّ المبادرة التي كان له أن يأخذها لنفسه.
ثم- من جهة أخرى- إن موسى كان واثقا من تأييد اللّه له، ومن نصره في هذا الموقف.. ولو بدأ هو الجولة، وضرب السحرة ضربته، وأوقع بهم الهزيمة من قبل أن يعطوا ما عندهم، لكان في نصره هذا الذي أحرزه مقال لقائل أن يقول: إنهم لو أظهروا السّحر الذي في أيديهم أولا، لشلّوا حركة موسى، وضربوه الضربة القاضية.. ولكنه عاجلهم فكانت الضربة له، ولم تكن لهم!! هذا قول يقال، في مثل تلك الحال، وفيه يجد أصحاب الضلال وأهل العناد متعلقا يتعلقون به، ويتخذون منه مثارا للشغب على موسى حين ينتصر بالضربة القاضية.
ويلقى السحرة حبالهم وعصيتهم، ويأنون منها بألوان من السّحر، وضروب من الشعوذة، فيها مهارة وبراعة، أخذت بألباب الناس، وسحرت عقولهم، وألقت الرعب في قلوبهم.
ويأخذ موسى شيء من هذا الذي يأخذ الناس، من خوف واضطراب، في مواجهة الغرائب من الأحداث، ويكاد يفلت زمام الموقف من يده.
وهنا تتدخل السماء، ويجيء وعد اللّه.. وتبدأ الجولة الثانية، وفيها تتبدل الأحوال وتنقلب موازين الأمور.!