فصل: تفسير الآيات (134- 137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (134- 137):

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)}.
التفسير:
الرجز ما يسوء وجهه، وأثره.. من الأمور، وهو مقلوب كلمة زجر فكأنه رجز ينقلب زجرا لمن يحلّ به.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي لما نزل بهم البلاء، وحلّ بهم العذاب.
{قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} أي لجئوا إلى موسى، ومدوا أيديهم إلى مصافحة عدوّهم، يسألونه العون والنّجدة.. ولكن في كبر وعناد.. {يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ}.
فهم ما زالوا على كفرهم، لا يؤمنون بالإله الذي آمن به موسى ودعاهم إليه، فهو رب موسى لا ربهم: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بما بينك وبينه من صلة، ومالك عنده من عهد باستجابة ما تدعوه به.
{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ} أي لئن استطعت بما بينك وبين ربك من صلة، أن تكشف عنا هذا البلاء لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل، ونطلقهم من أيدينا، لينطلقوا إلى حيث تشاء.
والقوم مبيتون النية على الغدر بهذا العهد والنكوص عنه، وفي كلماتهم ما يفضح هذا الغدر الذي ضمّت عليه صدورهم.
فهم- أولا- ينسبون إلى موسى أنه هو الذي يكشف عنهم البلاء، بحيلة أو بأخرى من حيله، {فيقولون لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} ولم يقولوا {لئن كشف ربّك عنّا الرجز}.
إنهم لا يعترفون- في قرارة أنفسهم- بأن هناك ربّا غير الأرباب التي يعبدونها.
وهم- ثانيا- لا يؤمنون باللّه إذا انكشف عنهم البلاء، بل يؤمنون بموسى، فيقولون: {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} ولم يقولوا: لنؤمننّ بإلهك!.
{فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
فلقد كشف اللّه عنهم الرجز إلى أجل، أي كشفا مؤقّتا، لينكشف ما هم عليه من غدر ومكر.. وقد انكشف غدرهم ومكرهم، فنكثوا هذا العهد، ولم يؤمنوا بموسى، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل.. بل عادوا معهم سيرتهم الأولى، في صورة أشدّ وأنكى.
{فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} وتلك هي عقبى الدين ظلموا.. لقد أغرقهم اللّه بذنوبهم، بسبب تكذيبهم بآيات اللّه، وغفلتهم عن مواقع العبرة والعظة منها.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها}.
القوم الذين كانوا يستضعفون هم قوم موسى، وقد منّ اللّه عليهم بالخلاص من يد فرعون بعد أن أهلكه.
وفي قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها} إشارة إلى أن فرعون هذا الذي كان يحسب أنه من الخالدين، قد أهلكه اللّه، وأن هؤلاء القوم الذين كانوا شيئا مرذولا في الحياة لعين فرعون ولآل فرعون، قد ورثوا هم الحياة بعده، وها هم أولاء على الأرض أحياء، على حين أصبح فرعون وملأه في الهالكين.
والمراد بمشارق الأرض ومغاربها: سعة هذه الأرض، وقدرتهم على التحرك فيها، والتنقّل بين شرقها وغربها، غير مضيّق عليهم من أحد.
فهى أرض ذات آفاق متعددة، كل أفق منها مشرق ومغرب، فهى بهذا الاتساع، مشارق ومغارب.
والمراد بالأرض التي بارك اللّه فيها، هي الأرض المقدّسة التي دعاهم موسى بعد ذلك إلى دخولها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى:
{يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}.
والمراد بالكلمة الحسنى في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} هي الكلمة التي وعد اللّه بها بنى إسرائيل على لسان موسى، وهو أنهم سيخلصون من هذا البلاء كما قال اللّه تعالى: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
فهم إذا استعانوا باللّه وصبروا كانت العاقبة لهم.
وتمام الكلمة، إنجاز ما فيها من وعد كريم.
وكون الكلمة حسنى لأنها تحمل إلى بنى إسرائيل الرحمة والنعمة، لا البلاء والنقمة، وكلمات اللّه كلها حسنى، ما حمل منها الرحمة، وما حمل البلاء.. ولكن حين تكون كلمة اللّه مبشرة هي غيرها حين تكون منذرة... وذلك في واقع حياة الناس، وفي حسابهم.. أما كلمات اللّه فكلها الحسن والكمال.
وقوله تعالى: {وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} إشارة إلى ما حلّ بدولة فرعون، وما وقع فيها من اضطراب وفساد بعد أن هلك، وهلك رءوس القوم معه، فقد صار أمر الناس إلى فوضى واضطراب، ففسد كل شيء كان صالحا، وخرب كل مكان كان عامرا، من ديار وزروع.. معروشات وغير معروشات.

.تفسير الآيات (138- 141):

{وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}.
التفسير:
ما كاد بنو إسرائيل يخلصون من يد فرعون وتزايلهم مشاعر الخوف والفزع التي كانت مستولية عليهم- حتى تنبّهت فيهم غريزة المكر واللؤم، وحتّى تحرك فيهم داء اللّجاج والعناد.. فإنهم ما إن رأوا أناسا يتعبدون لأوثان وأصنام، حتى سألوا موسى أن يأخذ لهم نصيبهم من هذا الباطل الذي بين يدى هؤلاء النّاس! إنهم يحسدون الناس على أي شيء يقع لهم حتى ولو كان بلاء وشرّا! وقوله تعالى: {وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ} أي نقلناهم من شاطئه الغربي إلى الشاطئ الشرقي، فجاوزوه وخلّفوه وراءهم.
{فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ} أي فمروا بقوم منهمكين في عبادة الأصنام التي اتخذوها آلهة لهم.
{قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ}.
إنهم مع إيمانهم بأن اللّه واحد لا شريك له، فإنهم لن يعبدوه، بل ولن يؤمنوا به حتى يتجسّد لهم ويروه رأى العين.. فهم يطلبون إلى موسى أن يجسّد لهم اللّه، وأن يصوره لهم على أية صورة محسوسة مجسّده.
وذلك ضلال مبين، وجهل جهول.. فكيف تكون للّه صورة؟
وكيف يحويه شيء؟ إنه لو تصوّر لتحدّد، ولو تحدّد لاحتواه المكان والزمان، وهذا يعنى أنه دون المكان والزمان، إذ اشتملاه واحتويا عليه!! ولهذا كان جواب موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إذ لا يقول هذا القول في اللّه إلا من جهل قدر اللّه، ولم يعرف ما للّه من كمال وجلال.
{إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثم زاد موسى القوم علما وبيانا، فكشف لهم عن عبدة الأصنام هؤلاء، وأن هذا الذي هم فيه من عبادة الأصنام ليس إلا غيّا وضلالا، وإلا عبثا ولعبا.
والمتبّر: الهالك الضائع، والتبار: الهلاك والفساد.. وهذا هم فيه ضلال وبوار.. لا يثمر إلا ضلالا وبوارا.
{قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} أعاد موسى القول هنا لأنه في مواجهة مباشرة لبنى إسرائيل، بعد أن كان الخطاب متجها إلى عبدة الأصنام.
وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً} أي أأطلب لكم إلها غير اللّه الذي رأيتم آياته فيكم، وكيف فعل بعدوّكم؟
وقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} المراد بالعالمين، الجماعات التي كانت معروفة لهم يومئذ، وقد فضلهم اللّه عليهم لأنهم كانوا أهل كتاب، وعلى إيمان باللّه، على حين كانت الأمم المتصلة بهم أمما وثنية، تدين بعبادة معبودين غير اللّه.
{وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي إذا لم تعرفوا اللّه في جلال ذاته، وفي عظمة ملكه، فاعرفوه بما أنعم به عليكم، وبما له من آثار واضحة فيكم.. فقد كنتم في بلاء يصبّ عليكم صبّا من آل فرعون.. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} أي يكرهونكم إكراها على هذا العذاب الأليم، الذي يسوقونكم سوقا إليه، كما تساق السائمة، لا تملك من أمرها شيئا.. {يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي في هذا الذي كنتم فيه، وفى هذا الذي صرتم إليه، بلاء من ربكم واختبار لكم.. ففى الحال الأولى اختبار لصبركم على الضرّ، وفي الحال الثانية اختبار لقيامكم بالشكر.

.تفسير الآيات (142- 144):

{وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)}.
التفسير:
الواو في قوله تعالى: {وَواعَدْنا}، للاستئناف، حيث بدأت الآيات تعرض وجها آخر من وجوه قصة موسى مع بني إسرائيل.
وقوله تعالى: {وَواعَدْنا} المواعدة لا تكون إلا بين طرفين، واللّه سبحانه وتعالى هو الذي جعل لموسى هذا الموعد للقائه. ولكن لما كان موسى هو الذي تلقّى هذا الموعد وامتثله دون مراجعة، فكأنه كان عن اتفاق ورضى بينه وبين ربه على هذا الموعد، فصح أن يكون طرفا فيه.
وفي هذا تكريم لموسى، واحتفاء به!
وفي قوله تعالى: {ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} في هذا ما يسأل عنه، وهو:- لما ذا جاء النظم هكذا: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ولو جاء من أول الأمر:
{وواعدنا موسى أربعين ليلة} لكان ذلك مؤديا المعنى، مع الإيجاز، الذي هو أسلوب القرآن الغالب فيه؟.
والجواب: أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر ذلك الموعد في سورة البقرة بقوله تعالى: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [51: البقرة] وسورة البقرة مدنية، وسورة الأعراف مكية.. أي أن ما ذكر هنا في سورة الأعراف هو الذي نزل به القرآن أولا، فجاء به مفصلا.. {ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ}.
ثم لما جاء ذكر هذا الموعد مرة أخرى جاء مجملا: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذلك بإحالة المجمل على المفصّل.
وإذن فلابد أن يكون لهذا التفصيل حكمة.. فما هي هذه الحكمة؟.
ونقرأ النصّ القرآنى: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ} فنجد أن الثلاثين ليلة لم تكتمل لتكون موعدا تاما حتى أضيفت إليها الليالى العشر، فتمت حينئذ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَتْمَمْناها}.
والإتمام في مقام الفضل والإحسان، هو زيادة على المطلوب من الفضل والإحسان.. فضلا وكرما.. وهذا يعنى أن موسى- عليه السلام- كان على موعد ليكون في ضيافة ربّه ثلاثين ليلة.. وهذا ما أذن به لموسى في أول الأمر، فلمّا أنس بألطاف ربّه، ووصل نفسه بأنوار السماء، وأضاف وجوده إلى العالم العلوي- عزّ عليه أن تنقطع رحلته بعد هذه المدة، وأن يعود إلى عالم التراب والظلام، ولكن لمّا لم يكن بدّ من أن يعود إلى قومه، ويتمم رسالته التي بدأها معهم، فقد كان من لطف اللّه به، ومن تمام نعمته عليه أن مدّ ضيافته عشر ليال أخرى..! فكانت ضيافته أربعين ليلة.! وكان ذلك من تمام النعمة.
حيث أن هناك نعمة، وتمام نعمة!
واللّه سبحانه وتعالى قدّر هذا الموعد بأربعين ليلة في علمه الأزلى، ولكنه سبحانه أعطى منها موسى أولا ثلاثين ليلة، ثم أتمّ عليه وعده، بما كشف له من سوابغ فضله، ومزيد نعمائه، بهذه الليالى العشر، التي وقعت من نفس موسى أكثر مما كان للثلاثين ليلة من وقع في نفسه، إذا أنها جاءت على شوق ولهفة، ووقعت على غير انتظار وتوقع.. وهكذا يكشف اللّه لأوليائه، وأصفائه، من ألطافه التي قدّرها لهم في علمه، على هذا الأسلوب الذي يضاعف من آثارها، حين تجيء في أنسب الأحوال الداعية لها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً}.
وقوله سبحانه ليوسف على لسان يعقوب: {وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} [6: يوسف] فإتمام النعمة هو البلوغ بها إلى غايتها، من التمام والكمال.
فهذه الليالى العشر، هي إحسان، ونعمة إلى نعمة.. فإنها وإن بدت أنها نافلة هي أوقع من الأصل، لأنها- كما قلنا- جاءت على غير انتظار، ووقعت أكثر مما كان يؤمّل ويرجى..!
ففى بشارة اللّه سبحانه وتعالى لامرأة إبراهيم بالولد، بعد اليأس منه، جاءت إليها البشرى، لا بالولد وحده، بل بالولد، وولد الولد، حيث يقول اللّه تعالى: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ}.
ومع أن مولودها هوإسحق وهو غاية ما كانت تتمنىّ على اللّه.. فإنّ مما يضاعف من فرحتها أن ترى لإسحق ولدا.. وهذا الولد هو- في الواقع- الذي وجدت فيه ريح الولد، الذي تنسى به أنها عاقر، وأنها قد بلغت من الكبر عتيّا.. فهى بهذا الولد الذي يولد لإسحق، يردّ إليها اعتبارها بأنها أنثى كاملة، وأنها تستقبل أول حياتها كأنثى ولود، يكون لها أولاد وحفدة!.
وهذا الذي كان من اللّه سبحانه لامرأة إبراهيم كان لإبراهيم، إذ يقول اللّه سبحانه: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} [72: الأنبياء].
أي زيادة في الفضل والإحسان. فكلمة {نافلة} حال من يعقوب قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} هو بيان لما كان عليه الموقف في بنى إسرائيل بعد أن ذهب موسى لموعده مع ربّه.. فلقد جعل موسى أخاه هرون خليفة عليهم من بعده:
إذ يقول له {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} ووصّاه بما ينبغى أن تكون عليه سيرته فيهم، فقال {وأصلح} وهرون عليه السلام، نبىّ كريم، لا يكون منه إلا ما هو صالح، ولكنه توكيد لرسالته، وتحذير له مما يقع من القوم من مفاسد وشرور، فالقوم- كما يعرفهم موسى- لا يستقيمون على حقّ، ولا يصبرون عليه، ومن هنا كان تحذيره لأخيه بقوله: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي}.
الميقات: الموعد الذي أقّت له وقت، فهو مكان وزمان معا.. مكان معلوم، ووقت محدود.
وحين سمع موسى كلام ربّه، كلاما مباشرا من غير واسطة، اشتاقت نفسه أن يرى ربّه الذي أسمعه صوته، وأطمعه ذلك في أن يطلب مالا يطلب، وذلك حين قدّر أن الذي يسمعه بأذنه يمكن أن يراه بعينه، على أيّة حال تكون هذه الرؤية..!
ولهذا لم يطلب موسى الرؤية إلا بعد أن سمع الكلام.. فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وهذا ما يشير إلى أن موسى لم يكن يطلب رؤية كتلك الرؤية التي تقع له من عالم الأشياء.. وإنما هي رؤية من نوع فريد، كما أن الكلام الذي سمعه كان على صورة لم يعهدها فيما يسمع من أصوات.. فمعنى قوله {رَبِّ أَرِنِي} أي بيّن لى طريق النظر إليك، فإن بيّنت لى أنظر إليك، وإلّا فلا سبيل إلى النظر.. ومثل هذا قول إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى}.
وقد أجاب اللّه موسى بقوله: {لَنْ تَرانِي}.
هكذا حكما قاطعا مؤبدا.
إذ أن ذلك أمر مستحيل.
ثم كشف اللّه- سبحانه- لموسى عن وجه الاستحالة هذه فقال له:
{وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي}.
وينظر موسى إلى الجبل.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً}.
وهكذا يرى موسى بعينيه، الشاهد الذي يكشف له وجه الاستحالة في رؤية ربّه.. إن الجبل، في ضخامة كونه، وشدة أسره، لم يتحمّل لمحة من لمحات تجلّى الذات الإلهية له.. لقد استشعر هذا الحجر الأصمّ جلال اللّه وعظمته، فتهاوى، وتفتت، وصار حطاما.. فكيف بالإنسان وضالة جسمه، وما فيه من مشاعر وأحاسيس؟ أيحتمل شيئا من هذا الجلال وتلك الخشية التي تصدّع لها الجبل، وتشقق، ثم هوى؟ لقد صعق موسى مما رأى من الجبل، ومن تصدعه وتشققه وتهاويه.. فكيف لو كان ما نزل بالجبل نزل به؟.
وهنا يدرك موسى أن ما طلبه كان أمرا فوق المستحيل.. فيفزع إلى اللّه تائبا من تلك الجرأة التي دعته إلى هذا الطلب.
{فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بك، وبجلالك وعظمتك.
قوله تعالى: {قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
وهكذا يرجع موسى بهذا العطاء الجزيل، وهذا الفضل الكبير.. لقد اصطفاء اللّه واختاره من بين قومه، وجعله رسولا إليهم برسالاته، وهى ما ضمت عليه التوراة من أسفار... وأسمعه كلامه من غير واسطة.. وكلها نعم وأفضال، لا يفى بها شكر الشاكرين، وحمد الحامدين، ومع هذا فإن اللّه يقبل شكر الشاكرين، ويرضاه لهم.