فصل: تفسير الآيات (145- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (145- 147):

{وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)}.
التفسير:
ثم بيّن اللّه سبحانه وتعالى محتوى ما حمله موسى من رسالات ربّه، فقال تعالى: {وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فهذه الألواح التي أنزلها اللّه على موسى، هي التوراة، وفيها مواعظ وعبر، بما تقصّ من أنباء السابقين، وبما تحدّث به من قدرة اللّه، وكيف خلق الخلق وأقام هذا الوجود، على ذلك النظام البديع، بعد أن كان عدما لا وجود له.
ثم لقد جاءت التوراة في أحكامها، وتشريعها وآدابها، على صورة مبسوطة مفصلة تفصيلا، يتناول الكلّيات والجزئيات، وجزئيات الجزئيات، بحيث يكون كل شيء فيها واضحا مفهوما لكل إنسان، أيّا كان حظه من الفهم والإدراك.
وهذا التفصيل الذي جاءت عليه التوراة إنما يكشف عن طبيعة بنى إسرائيل، وأنهم على شيء غير قليل من بلادة الحسّ وجفاء الطبع، وسوء الفهم، بحيث يعاملون كما يعامل الأطفال في كشف معالم الأشياء لهم، كشفا لا يحتاجون معه إلى عقل يفكر.. كما أن هذا التفصيل يراد لغاية أخرى، وهى حصر هؤلاء القوم في حدود ما ترسم لهم الكلمات من حقائق، رسما محددا واضحا، يتناول أدق التفاصيل، حتى لا يكون لأهواء القوم ونزعاتهم سبيلا إلى التأويل الفاسد لمضامين الكلمات ومحتوياتها، الأمر الذي لا يعين عليه هذا التفصيل المبيّن لكل شيء.. ومن هنا جاء بنو إسرائيل إلى التوراة بالتحريف، والمسخ فحذفوا وأضافوا، وغيروا وبدّلوا، ليبلغوا بذلك ما لم يكن لهم إليه سبيل بالتأويل والتخريج.
وقوله تعالى: {فَخُذْها بِقُوَّةٍ}.
الضمير هنا للألواح، وهى التي كتبت فيها التوراة.. وأخذها بقوة، هو شدّ العزم على القيام لها، والعمل بها، والوفاء بما فيها من أمر ونهى.. فليست الشرائع والأحكام في نصوصها وعباراتها، وإنما هي بالعمل بما تحمل هذه النصوص وتلك العبارات، من شرائع وأحكام، وبتحويل هذه الشرائع وتلك الأحكام إلى واقع الحياة، فتكون سلوكا تظهر في الناس آثاره وشواهده.
وقوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها} أي بأحسن ما في هذه الألواح، والمراد بأحسن ما في الألواح المثل الطيبة للناس، وهى التي تعرضها التوراة لأهل الإيمان، والاستقامة والتقوى.. فهؤلاء هم الذين ينبغى أن يقتدى بهم، كما يقول اللّه تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ}.
وفى التوراة غير هذه المثل الطيّبة من الناس، مثل للقوم الظالمين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وتلك المثل هي التي ينبغى للعاقل أن يحذرها، ويتجنب الأخذ بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: {سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ} ففى تلك الديار التي ضمّت الفاسقين مثل ظاهرة، تحدّث بما حلّ بأهلها من بلاء ونكال.. فليحذر بنو إسرائيل أن يحلّ بهم ما حلّ بمن فسق عن أمر ربّه، واعتدى على حدوده، واستباح حرماته.
وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}.
فى هذا تحذير لبنى إسرائيل وتهديد لهم، إن هم سلكوا سبيل الظالمين، واستكبروا في الأرض بغير الحق، ومكروا بآيات اللّه، وعصوا رسله، وتنكبوا طريق الخير، وركبوا طرق الغىّ والضلال.
فهؤلاء الذين يتخذون هذا الموقف اللئيم مع آيات اللّه، سيصرفها اللّه عنهم، كما انصرفوا هم عنها، فلا ينالون منها خيرا، ولا يجدون فيها هدى، كما يقول اللّه تعالى: {وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [127: التوبة] لقد حجبهم اللّه عن مواقع رحمته، بعد أن أخذوا من آياته هذا الموقف، فأغمضوا أعينهم عنها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم فلم يستمعوا لها.
إذ كذبوا بها قبل أن ينظروا فيها ويعرفوا وجهها.. {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ}.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ} تهديد بعد تهديد، لمن كذّب بآيات اللّه، ولم يرج لقاء اللّه.. فمن كان هذا شأنه، فقد حبط عمله، وساء مصيره، وذلك جزاء الظالمين: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ}؟ وإنهم لم يعملوا إلا شرّا، ولم يقدموا إلّا سوءا، فلم يكن جزاؤهم إلا ما يسوؤهم ويفسد عليهم وجودهم.

.تفسير الآيات (148- 150):

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}.
التفسير:
لم يكد بنو إسرائيل يفلتون من يد فرعون، بتلك المعجزة القاهرة التي رأوها وعاشوها، حتى غلبت عليهم طبيعتهم.. من كفر النعم، ومحاربة المنعم، وإذا هم يأتمرون فيما بينهم، فيما كانوا قد طلبوه من موسى من قبل فردّهم عنه، ونصح لهم.. فقد سألوا موسى حين رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم، أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة.. فأجابهم موسى: {إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} ثم قال لهم: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}.
فلما ذهب موسى لميقات ربّه، انتهزوها فرصة، فأخرجوا هذه الضلالات التي كانت تدور في رءوسهم، إلى واقع الحياة.. فصنعوا عجلا من ذهب على يد رجل منهم، قد أعدّ نفسه لهذه الفعلة، وأخذ لها وسائلها، وقد ذكر القرآن الكريم اسمه في موقف آخر في قوله تعالى: {قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً} [85- 86:
طه].. فهذا الرجل هو السامري، وقد فعل ما سنرى بعد.
وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ} هو خبر عن تلك الفعلة النكراء التي كانت من هؤلاء القوم.
وقد أضافهم اللّه إلى موسى هكذا: {قَوْمُ مُوسى} تذكيرا لهم بتلك الآيات التي أجراها اللّه على يديه، تلك الآيات التي لم يكن لهم منها عبرة أو عظة.. وفى هذا توبيخ لهم، واسترذال لعقولهم، وأنه ما كان لقوم ينتسبون إلى موسى الذي جاءهم بهذا الخير الكثير، وبتلك الآيات المشرقة، أن يفعلوا هذا الفعل المنكر الذي فعلوه.
وفى قوله تعالى: {مِنْ حُلِيِّهِمْ} إشارة إلى المادة التي صنع منها العجل، وهى مما يتحلى به القوم ويتزينون، وهو الذهب، والفضة ونحوها.
وكان بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر قد عملوا على أن يخفوا أمرهم على المصريين، فتخيّروا يوم عيد من أعيادهم كانوا قد رصدوه لخروجهم من مصر خفية.. ثم إنهم لكى يضلوا المصريين عنهم، طلبوا إلى نسائهم أن يستعيروا من جاراتهن المصريات ما يقدرن على استعارته من الحلىّ، على ما جرت به العادة من التزين في الأعياد.
ثم حين خرج بهم موسى، وجاوز بهم البحر، ونجاهم من فرعون، ذكر لهم ما كان منهم من سلب ما سلبوا من حلىّ، وأراهم أن ذلك خيانة للأمانة، وعدوان على غيرهم، وأنه لا يجوز لهم وقد خلصهم اللّه من البغي، أن يكونوا من الباغين.
وقد تحرّج كثير منهم من هذا الحلىّ المسلوب، ولكنهم ظلّوا ممسكين به، لا تطاوعهم أنفسهم على أن يفلت من أيديهم.. إنّه الذهب والفضة، يبيع اليهودىّ عمره من أجل قبضة منهما! ثم إنه لمّا أخلى موسى مكانه فيهم إلى مناجاة ربّه، تناجوا هم مع شياطينهم، وانتهى الرأى بينهم إلى أن يقيموا لهم معبودا، وجعلوا هذا المعبود عجلا مصنوعا من ذهب، وهان في أعينهم هذا الذهب الذي سلبوه وأمسكوه، حين جعلوه مادة لهذا الإله الذي تصوروه.. فصوروه وجسّدوه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة طه: {قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ} [86- 88].
ففى قولهم {حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} إشارة إلى أن هذا الذي كانوا يحملونه من زينة المصريين هو أوزار تثقلهم، وأنهم انتهزوا هذه الفرصة فتخلصوا منها على هذا الوجه الغبي.. إنّها- كما علموا- أوزار، وسيئات، ومع هذا فقد صاغوا منها إلها يعبدونه!! فما أغبى غباءهم، وما أضلّ ضلالهم.
يسرقون، ويتصدقون.. كالزانية تزنى وتتصدق!! ولكن التوراة تحكى قصة هذا الحلىّ الذي أخذه بنو إسرائيل من المصريين ليلة خروجهم من مصر- تحكى هذه القصة على وجه غريب، فتنسب هذا الفعل إلى اللّه، وتجعله أمرا من عنده إلى بنى إسرائيل، لينتقموا من المصريين بهذا الفعل الدنيء، الذي تأباه النفس الكريمة، فكيف يجوز أن يكون هذا أمرا من أمر اللّه، ووصاة من وصاياه؟
تقول التوراة على لسان الرب:
وأعطى نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين، فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأت من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا تضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين!! (3: خروج).
وهكذا تبلغ الجرأة بالقوم على اللّه، فيحرفوا كلمه عن مواضعه، ويغيروا ويبدلوا في كلماته، حتى تستقيم مع أهوائهم المريضة، وتجرى مع نزعاتهم الفاسدة، وحتى ليضيفوا إلى اللّه كل إثم لهم، ويجعلوا شريعته مغرسا لكل فسق منهم.. فهم إذا سرقوا غيرهم أو نهبوه كان ذلك عن أمر اللّه، إذ أباح لهم دماء الناس وأموالهم.. حسب ما أدخلوه على التوراة من تحريف.
وفى قوله تعالى: {لَهُ خُوارٌ} أي صوت كصوت البقر.. وذلك أن السامري.
كان قبض قبضة من أثر الملك الذي كان يخاطب موسى، ثم قذف بهذه القبضة على هذا العجل الذي صوره من الحلىّ الذي قذفه القوم في النّار، فإذا هو عجل له حياة، وله خوار!!
وسنعرض لهذه القصة في موضعها من سورة طه إن شاء اللّه.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} إشارة إلى غفلة القوم، وإلى إغراقهم في الجهل والضلال.. ذلك أنه إذا كان قد أخذ السامري على عقولهم بهذا الذي فعله، فإنه لم يزد على أن جاء بعجل كسائر العجول التي تملأ السّهل والوعر.. فكيف يصح أن يكون هذا العجل بالذات إلها لهم يعبدونه من دون اللّه؟ إنه لا أكثر من حيوان، فكيف يعبد الإنسان ما هو أقل منه شأنا؟ {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا}.
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ} هو جواب لسؤال مقدر هو:
وهل اتخذ القوم هذا العجل إلها مع أنه لم يكلمهم، ولم يكشف لهم طريقا إلى الحق؟ فكان الجواب: نعم، اتخذوه، وهم في اتخاذهم إياه ظالمون، معتدون على اللّه، ملقون بأنفسهم في البوار والهلاك.
قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} أي حين وقعت الواقعة، وظهر العجل بينهم، ووقفوا منه موقف العابدين، بان لهم ضلالهم، وانكشف لهم سوء فعلتهم، ولكنهم لم يدروا ماذا يصنعون بهذا الإله القائم بينهم..!
وقوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}.
كان موسى قد علم- وهو في مناجاة ربّه- أن قومه قد فتنوا من بعده، وضلوا، وذلك كما أعلمه اللّه تعالى بقوله: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [83- 85: طه].
وقوله تعالى: {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} زجر لهم، وتشنيع لفعلهم، وما أحدثوه من بعده، وقد كانوا خلفاءه على شريعة اللّه التي تركها في أيديهم.
وقوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} إشارة إلى أنهم لم ينتظروا حتى يجيئهم موسى من الميقات، حاملا لهم شريعة اللّه إليهم، كما وعدهم من قبل.
وقوله: {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} إشارة لمظاهر الغضب والأسف التي نفّس بها موسى عن نفسه، لما رأى ما عليه قومه من كفر وضلال.. فلم يجد إلا هرون، الذي أقامه على القوم، وقال له: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} فأمسك به من رأسه يجرّه إليه في عنف، ويؤنبه في غضب.
وقوله: {قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هو استعطاف من هرون لأخيه الذي ثار عليه ثورته تلك، وأخذه من ناصيته يجرّه إليه.
وفى نسبته إليه بأمّه زيادة في الاستعطاف، إذ يذكر موسى بهذا النسب، فترة الطفولة التي كانت تضمه هو وهرون تحت جناح أمهما، فيرقّ له وتأخذه الشفقة به.
ومن عجب أن التوراة تنسب إلى هرون عليه السلام، أنه هو الذي صنع العجل لبنى إسرائيل ودعاهم إلى عبادته!! ولا تعجب لهذا، فإن في التوراة أمورا منكرة، أدخلها اليهود عليها لحاجات في أنفسهم.. ولا أدعك لتذهب بك الظنون كل مذهب.. وها ذا هو بين يديك ما تقول التوراة هنا:
ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه.. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وجعله عجلا مسبوكا (22: سفر الخروج).. فيا للّه من هذا الافتراء على رسول كريم من رسل اللّه!

.تفسير الآيات (151- 153):

{قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}.
التفسير:
وتقع كلمات هرون موقعها من نفس موسى، فيرقّ له، ويأسف لما أخذه به، فيدعو اللّه له ولأخيه بالمغفرة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ولم يدخل أحدا من بنى إسرائيل معهما في هذا الخير الذي طلبه من ربّه، لأنهم على حال ليسوا هم فيها أهلا لرحمة أو مغفرة، لهذا الإثم العظيم الذي أغرقوا أنفسهم فيه، والذي استحقوا به أن يتوعدهم اللّه تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}.
فهكذا يجزى البغاة الظالمون، الذين يتخذون العجل إلها معبودا.. وهكذا يقع هؤلاء الذين عبدوا العجل تحت غضب اللّه، ولعنته، فتضرب عليهم الذلّة والمسكنة في هذه الدنيا، فهذا حكم واقع عليهم لا يرفع عنهم أبدا بتوبة أو استغفار، وقد كان من غضب اللّه عليهم أن أمرهم بأن يقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ} [54: البقرة] فليس غير القتل سبيلا إلى إصلاح ما أفسدوا.. إنهم بهذا الإثم الذي تلبسوا به قد أصبحوا كيانا فاسدا، لا يصلح للحياة، ومن الخير للإنسانية القضاء على هذا الداء الخبيث الذي نجم فيها؟
أما في الآخرة فأمرهم إلى اللّه، فإن تابوا ورجعوا إلى اللّه- وليست توبتهم إلا بأن يقتلوا أنفسهم- كانوا في معرض رحمته ومغفرته، وإن ظلوا على ما هم عليه من ضلال وكفر، فإن اللّه أعدّ للكافرين عذابا مهينا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والضمير في {مِنْ بَعْدِها} يعود إلى السيئات، أي تابوا وآمنوا من بعد فعل هذه السيئات، وقد جعل اللّه توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم، بعد أن يؤمنوا باللّه، ويبرءوا من عبادة العجل الذي عبدوه!