فصل: تفسير الآيات (160- 162):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (160- 162):

{وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)}.
التفسير:
الأسباط: جمع سبط، وهو الحفيد، والمراد بالأسباط هنا هم الذرية التي ولدت لأبناء يعقوب الاثني عشر، الذين دخلوا مصر في عهد أخيهم يوسف، والذين كان منهم بنو إسرائيل الذين أخرجهم موسى من مصر.
ويظهر من هذا أن القوم لم ينزعوا عنهم عصبية البداوة، التي دخلوا بها مصر، بل ظلت متحكمة فيهم طوال تلك الأجيال التي عاشوها بين المصريين، فاحتفظ كلّ ولد من أبناء يعقوب الاثني عشر بنسب ذريته إليه من بعده، فكما كانوا اثنى عشر ولدا، صاروا فيما بعد اثنتي عشرة قبيلة! وفى قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى ابتلاهم بهذا التمزق في عواطف المودة والإخاء بينهم، فقطّع أوصال هذه الأخوّة، التي كان من شأنها أن تجمع بعضهم إلى بعض، وأن تجعل منهم كيانا واحدا، خاصة وهم في دار غرية، وليس هذا فحسب، بل هم في وجه محنة قاسية بما رماهم به فرعون من بلاء.
وفى قوله تعالى: {أَسْباطاً أُمَماً} إشارتان:
الأولى: أن أعدادهم المقطعة إلى اثنتي عشرة قطعة، كانت أعدادا كثيرة، وأن كل قطعة منها هي أمة، في كثرة عددها.. أولا، وفى تمايزها عن غيرها.
ثانيا. ولهذا كان الملاحظ في العدد هو الأمة لأ الأسباط، لذلك أنّث العدد بجزئيه، كأنه قال: {وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً}.
فأمة هي التمييز لهذا العدد لا الأسباط، وقد جاء التمييز جمعا ولم يجيء مفردا كما هو الشأن في تمييز الأعداد المركبة، للدلالة على أن الأمة الواحدة من هؤلاء القوم هي أمم، في مختلف مشارب أفرادها، وتنازع أهوائهم.. فكل جماعة في داخل هذه الأمة هي أمة، في اتجاه أهوائها، واختلاف مشاربها.
ثانيا: أن ذكر الأسباط، يشير إلى أن هذا التقطيع لتلك الجماعة قام على أسلوب خاص، وهو أن كل قطعة ترجع في أصلها إلى أبيها الأول من أبناء يعقوب.
وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ}.
استسقاه قومه: طلبوا السّقيا منه، حيث كانوا في الصحراء، ولا ماء هناك.. وقد ثارت ثائرتهم في وجه موسى، وكادوا يكونون عليه لبدا، فأوحى اللّه إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فيخرج منه الماء الذي يشربون منه.
وقد ضرب موسى بعصاه الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، بعدد أسباطهم، أو أممهم.
والانبجاس: تدفق الماء من محبسه في رفق ولين.. ثم كان التدفق الهادر بعد أن أخذ الماء مجراه، وقد جاء قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً} [60: البقرة]- جاء بالوصف الذي يضبط هذه الصورة كلها.
وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} إشارة إلى أن كل جماعة من تلك الجماعات الاثنتى عشرة قد علمت المشرب الذي لها من تلك العيون التي انبجست، فلا تشرب جماعة إلا من المشرب الذي هو لها.. وهكذا يظل القوم في عزلة مادية، إلى جانب تلك العزلة النفسية التي اشتملت عليهم.
وفى قوله: تعالى {وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}.
عرض لنعم اللّه عليهم، وإلفات لهم إليها، حتى يوجّهوا وجوههم إلى اللّه وحده، ويستقيموا على صراط مستقيم.
وقوله تعالى: {وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} كشف لمساوي هؤلاء القوم، وما فيهم من ضلال وعناد ومكر بآيات اللّه.. فإنهم لم يرعوا هذه النعم المرسلة عليهم من السماء، ولم يلتفتوا إلى تلك الألطاف التي تحفّهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق، بل كفروا باللّه، وعاثوا في الأرض فسادا.. وهم بهذا إنما يظلمون أنفسهم، ويوردونها مورد الهلاك والضياع، حين يعرضونها لسخط اللّه ونقمته، ولن يضرّ اللّه شيء من هذه المآثم التي يغرقون فيها، ويغرقون فيها أنفسهم، بل إن في هذا البلاء العظيم الذي يشتمل عليهم.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} هو بيان لوجه من وجوه بنى إسرائيل المنكرة، التي كانوا يتعاملون بها مع اللّه، حيث يلبسهم النعمة، فتزيدهم باللّه كفرا وضلالا.
ولقد دعاهم اللّه سبحانه أن يدخلوا القرية، وأن يسكنوها، حتى ينتقلوا من الصحراء الجديب، إلى حياة الاستقرار والسّكن، وأن ينعموا بما تخرج أرضها من جنات وزروع.. وأوصاهم اللّه حين يدخلون هذه القرية أن يكونوا على حال خاصة، هي أن يدخلوا بابها ساجدين للّه، قائلين {حطّة} أي مغفرة لذنوبنا، وتكفير لسيئاتنا.. ولكنّهم حين دخلوا القرية أبوا إلا أن يغيّروا ويبدلوا في هذا الأمر الذي أمرهم اللّه به، ولم يدخلوها على تلك الصورة التي رسمها اللّه لهم، ولم يكن ذلك بالذي يعنتهم أو يثقل عليهم، ولكن هكذا الطباع اللئيمة، والنفوس المريضة، لا تقبل الخير ولو كان الهواء الذي تتنفسه وتعيش عليه.. إنها طباع أطفال، تأبى إلّا الخلاف والشرود.
وفى قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وصف فاضح مخز لهؤلاء القوم، فقد دمغهم اللّه بالظلم، وأدخلهم مداخل الظالمين، ولهذا جاء النظم القرآنى مصرحا بهم هكذا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولم يقل: فبدلوا.
وقد أخذهم اللّه بظلمهم، وعجّل لهم العذاب، بأن أنزل عليهم رجزا من السماء، أي لعنة ومقتا، {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ} بدلا- مما كان ينزل عليهم من المنّ والسلوى، وما كان يظللهم من غمام.
فالسماء التي كانت تتنزل منها الرحمة عليهم، هي السماء التي تصبّ عليهم البلاء والنقم.. والمراد بالسماء هنا الإشارة إلى متنزل الأقدار التي تنزل بالناس، من خير وشر، وأنها من مصدر عال متمكن، يشرف على الوجود كله، ويمسك به.
و{الْقَرْيَةَ} التي أمر بنو إسرائيل بالسّكن فيها لم يذكر القرآن اسمها، ولم يبيّن صفتها، ومع هذا، فقد كانت معروفة لبنى إسرائيل، مشارا لهم إليها هكذا: {هذِهِ الْقَرْيَةَ}.
وقد تكلف المفسرون البحث عنها، واختلفوا فيها.. ونحن نحترم سكوت القرآن عنها، وحسبها أنها قرية يسكن الناس فيها، ويجدون مطالب الحياة ميسرة في أرضها، إذ لا متعلّق لاسم هذه القرية، ولا لصفتها فيما أمر به بنو إسرائيل عند دخولها.. وغاية ما يمكن أن يقال في تحديد مكان القرية- لا اسمها- هو أنها في الأرض المقدسة من فلسطين، حيث أشار اللّه سبحانه إلى هذا بقوله تعالى في سورة المائدة على لسان موسى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} (الآية: 21).

.تفسير الآيات (163- 167):

{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}.
التفسير:
لم تكن قصة موسى وبني إسرائيل هنا حديثا مباشرا لليهود الذين عاصروا البعثة النبوية، إذ كانت الدعوة لا تزال في مواجهة قريش، لم تحدد مكانها من اليهود بعد، ولم تنتقل إلى مطلعها الجديد في المدينة التي سيهاجر إليها الرسول، ويواجه فيها اليهود مواجهة مباشرة.
ومع هذا، فإن الدّعوة الإسلامية- وهى في مكة- كانت تشير إلى أهل الكتاب، وإلى اليهود خاصة، إشارات تنبئ عن أن للرسالة الإسلامية شأنا معهم، وأن عليهم أن يهيئوا أنفسهم لها منذ اليوم، وأن ينظروا فيها، ويحدّدوا موقفهم منها.. وهذا من أنباء الغيب التي حملها القرآن، وأخبر بها قبل أن تقع.
وإذ انتهت قصة موسى وقومه، وإذ تكشف الآيات القرآنية عن القوم وعما في قلوبهم من مرض، وما في طباعهم من لؤم ومكر- فقد ناسب ذلك أن تأتى آيات أخرى تكشف عن طبيعة القوم، وتعرض صورا من كفرهم بنعم اللّه، ومكرهم بآياته، وفى هذا نذير لمشركى مكة إن هم جروا على سنّة هؤلاء القوم مع رسل اللّه، وإن هم أخذوا عنهم ما يلقون به إليهم من زيف القول، يكيدون به للرسول الكريم.
وقوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ}.
هو سؤال إلى اليهود لم يلقهم به النبي لقاء مباشرا، وإنما نقل إليهم من كفار قريش الذين كانوا يتعاملون مع اليهود في التّصدّي للنبىّ، وفى نصب المزالق والعثرات له.. إذ كان اليهود يلتقطون أخبار النبيّ وما ينزل عليه من قرآن، أولا بأول، فيجدون القرآن يحدّث عنهم، ويفضح تاريخهم الأسود مع أنبيائهم دون أن يلتفت إليهم النبيّ الكريم، وأن يلقاهم بوجهه.. وهذا مما يثير القلق والاضطراب في نفوسهم، ويجعلهم والقرآن وجها لوجه، من غير أن يكون للرسول موقف معهم، يمكنهم من أن ينالوا منه منالا..!!
والقرية التي كانت حاضرة البحر، هي إحدى القرى التي كانت لبنى إسرائيل، على شاطئ بحيرة طبرية، أو شاطئ البحر المتوسط.. وكونها حاضرة البحر، أي قائمة عليه، وبمحضر منه، أي ليست بعيدة عنه، بل هي مشرفة عليه.
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ}.
وذلك أنهم كانوا قد ابتلوا بيوم السبت، فلا يعملون فيه عملا، وإلا وقعوا تحت لعنة اللّه.
وفى هذا تقول التوراة: اذكر يوم السبت لتقدّسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للربّ إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن في ستة أيام صنع الربّ السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع لذلك بارك الربّ يوم السبت وقدّسه [سفر الخروج: الإصحاح العشرون].
وقد مكر أصحاب هذه القرية بهذا اليوم، فكانوا يحتالون على العمل فيه، وخاصة فيما يتصل بصيد السمك الذي كان العمل الغالب عليهم.
ولهذا فقد ابتلاهم اللّه في هذا اليوم بابتلاء آخر، وهو أن الحيتان كانت لا تظهر في شاطئ البحر طوال أيام الأسبوع إلا يوم يسبتون، أي يوم السبت.
فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان من كل صوب، تتراقص أمام أعينهم، حتى لتكاد تلقى بنفسها إلى اليابسة.. وفى ذلك ابتلاء لهم أىّ ابتلاء.. فإما أن يصبروا على حكم اللّه فيهم، فلا يمدّوا أيديهم إليها، وإما أن يأخذوا منها ما يشاءون، وفى هذا هلاكهم، فلا تبقى منهم باقية.
وقد وقف القوم موقفا وسطا، خيّل إليهم فيه أنهم يخدعون اللّه، وأن اللّه سينخدع لهم، فجعلوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة بالليل ليقع فيها السمك نهار السبت، حتى إذا كان آخر النهار، ومضى يوم السبت، أخرجوا شباكهم وقد امتلأت صيدا! ولهذا فقد صيّر اللّه- سبحانه- السبت لعنة عليهم، فحرّم عليهم فيه أي عمل، ومن خرج منهم عن هذا الأمر فقد حلّ قتله، كما تقول التوراة، في الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج:
ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للربّ، كل من يعمل فيه عملا يقتل، لا تشعلوا نارا في جميع مساكنكم يوم السبت.
وهكذا كان الأمر إليهم أولا أن يقدسوا يوم السبت، وألا يباشروا فيه عملا من أعمال الدنيا.. فلما خرجوا عن هذا الأمر أوجب اللّه عليهم القتل إذا عملوا أي عمل في هذا اليوم.. وهكذا انقلبت تلك النعمة شرّا ووبالا عليهم. فوقعوا منها تحت هذا الإصر الذي لا يحتمل!! وقوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} أي يوم يدخلون في السبت، وقوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} أي يوم لا يكون السّبت، وذلك بقية أيام الأسبوع.
وأصل السبت السكون، وعدم الحركة.
وقوله تعالى: {شُرَّعاً} أي شارعة ظاهرة، ومنه شراع السفينة.
سمّى بذلك لظهوره، ومنه الشّرع، والشريعة، لظهورهما، ووضوح أمرهما.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} الإشارة هنا إلى ما ابتلاهم اللّه به من يوم السبت، ثم ما ابتلاهم به في يوم السبت نفسه، بما يتعرض لهم فيه من حيتان، لا تظهر لهم إلا في هذا اليوم.. وذلك الابتلاء إنما هو بسبب فسقهم، وخروجهم على أحكام اللّه، واحتيالهم على التفلّت منها.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
لم يكن أهل القرية كلّهم على سواء في الخروج على يوم السبت، والاحتيال على التخلص من هذه البلوى التي ابتلاهم اللّه بها.. فهناك أمّة منهم، أي جماعة أرادت أن تنصح للقوم وتدعوهم إلى الصبر على حكم اللّه فيهم، فقامت جماعة أخرى تحاجّ تلك الجماعة، وتدعوها إلى أن تترك القوم وشأنهم، ليلقوا المصير الذي أعدّه اللّه لهم، وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} في الدنيا {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً} في الآخرة؟ وقد ردّت عليهم الجماعة التي أرادت أن تنصح وترشد بقولها: {مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي إنما ننصح لهم لئلا يكون لهم على اللّه حجة، ولعلّ في هذا النصح ما يذكرهم باللّه، وبانتقامه من المعتدين، فيفيئوا إلى الرشد والهدى.
وانظر كيف يمكر القوم بعضهم ببعض؟ وكيف يضنّ بعضهم على بعض حتى بالكلمة التي تنبّه إلى الخطر، وتوجّه إلى السلامة؟
إن هذا الجدل الذي ذكره القرآن هنا، إنما هو بين أهل العلم والرأى فيهم، فقد انقسم هؤلاء إلى فريقين: فريق يريد أن ينصح ويرشد، وفريق يعترض هذا العمل، ويقول بعدم جدواه، وأن يترك القوم لمصيرهم المشئوم! {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}.
وقد مضى الناصحون في طريقهم ينصحون ويدعون إلى التزام أمر اللّه في حرمة السبت، ولكن القوم ظلّوا على ما هم فيه من بغى وعدوان.
أما الذين نصحوا، وكانوا ينهون عن السوء فقد نجاهم اللّه، وأما الذين ظلموا واعتدوا فأخذهم اللّه بعذاب بئيس، أي قاهر مذلّ.. بما كانوا يفسقون.
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}.
العتوّ: مجاوزة الحدّ في البغي والعدوان، والخروج عن حدود اللّه في غير تحرّج.
فقد بغى القوم أولا، فاعتدوا على حرمات اللّه، في خوف وحذر.. فأخذهم اللّه بالعذاب البئيس، أي المذلّ، المهين.. في الدنيا، ورصد لهم هذا العذاب ليوم القيامة.
ثم لما استمرأ القوم هذا البغي، وصاروا يأتونه في غير تحرّج أو تأثم- أخذهم اللّه بعذاب عاجل في هذه الدنيا، مع هذا العذاب الذي أعدّه لهم في الآخرة: {قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}.
فقد ردهم اللّه إلى عالم الحيوان، ومسخهم في طبائع القردة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خاسِئِينَ} أي مطرودين إلى الوراء، مزجورين من هذا الموقف الإنسانى الذي كانوا فيه، إلى حيث ينزلون إلى عالم القردة.. تقول: خسأت الكلب، أي زجرته، فرجع إلى الوراء.
وفى قوله تعالى: {قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} أمر بخلق جديد لهؤلاء القوم، {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فالقوم لم يلبسوا خلقة القردة، وإنما لبسوا أخلاقها وطباعها.
وفى ردّة القوم إلى طبائع القردة إشارة إلى النسب الذي بين الإنسان وبين القردة في سلسلة التطور، وأن القردة درجة نازله في الخلق المتطور للإنسان.
وهكذا يعود القوم إلى الوراء ملايين السنين، ويكون بينهم وبين عالم الناس هذا الحاجز الزمنى الطويل.. فهم خلق في طبائع القردة، وفى أجسام الآدميين.. وهكذا يعيشون في الناس، يمثلون حركات القردة وإشاراتها، حتى ليخيّل لمن يراهم أنهم كائنات مدركة عاقلة، وما هم في الواقع إلا قرود تمثل أفعال الآدميين.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ}.
{تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أي قضى وحكم.. والواو واو القسم، تأكيدا لهذا الحكم الذي أوقعه اللّه عليهم.
{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ} جواب القسم، أي أن اللّه حكم حكما قاطعا بأن يبعث عليهم من عباده، ويسلط عليهم من خلقه، من يأخذهم بالعذاب الأليم، والهوان والذلة، وذلك في أجيالهم المتعاقبة.. إلى يوم القيامة!! وهنا سؤال:
هذا عقاب استحقه القوم بأفعالهم.. فما بال أبنائهم من بعدهم، جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة؟.
والجواب: أن اللّه سبحانه قد ردّ هؤلاء القوم إلى عالم القردة، ونكسّهم في الخلق، فهم- بهذا- خلق آخر غير خلق الإنسان السّوىّ- فما تناسل منهم لا يكون إلا على هذاالخلق إلى يوم القيامة.
فإذا ذهبت تسأل: ما ذنب هذه الذّرية التي نتجت من هؤلاء القوم؟
فاسأل: ما ذنب القردة أن تكون قردة؟ وما ذنب ذريتها أن تجيء على صورتها؟.
إن هذا من ذاك.. سواء بسوء..!!
فاللّه- سبحانه- يخلق ما يشاء: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
وانظر إلى اليهود في مسرح الحياة.. إنهم لم ينزع عنهم أبدا هذ الثوب الذي ألبسهم اللّه إياه، ثوب القردة.. إنهم بين الناس عالم آخر، في طباعه، وفى تدبير شئون حياته.. إنهم لعبة في يد الناس، يحركونهم لكل مأرب يبغونه.. للتسلية حينا، وللعضّ أحيانا، وللسّرقة والخطف في أكثر الأحيان..!
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو- سبحانه- سريع العقاب لمن حادّه، وحاربه، ونقض عهوده، واستباح حرماته، وهو- سبحانه- غفور رحيم لمن أذنب، ثم تاب، ولمن عصى، ثم أناب.