فصل: تفسير الآيات (189- 198):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (189- 198):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)}.
التفسير:
هنا قضية، تعرضها تلك الآيات، وتقيم الحجة لها وتدحض مفتريات المفترين عليها، وتخرس ألسنة المتمارين فيها.
وهذه القضية، هي قضية الألوهية، وتفرّد اللّه سبحانه وتعالى بها، أمّا ما سواه، فهو من باطل المبطلين، ومفتريات المفترين.
فاللّه- سبحانه وتعالى- هو الخالق المصور لكلّ مخلوق في السموات أو في الأرض.. والإنسان هو من بعض ما خلق اللّه.. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها}.
فلينظر الإنسان مم خلق؟ ولينظر كيف كان خلقه، وعلى أية صورة صوّر؟
فهذا العالم البشرى كله، مخلوق من نفس واحدة! والمراد بالنفس الواحدة، الجرثومة أو السلالة التي تكاثر منها هذا النسل، وتوالد، كما تتكاثر وتتوالد حبّات السنبلة من حبّة واحدة، ثم تكون من تلك الحبّات سنابل، ومن تلك السنابلة حبات، ومن الحبات سنابل.
وهكذا.
وفى قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} إشارة إلى أنّ التزاوج الذي تمّ بين الجرثومة الأولى وأنثاها كان عن توافق بينهما، وتجانس في الصفات، حتى يكون ذلك داعية إلى اجتماعهما وتآلفهما: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} أي ليجتمع إليها، وليطمئن لها، ويستقر معها.
وقد أشرنا من قبل في قصة آدم وخلقه أن حواء التي قيل إنها خلقت من ضلعه، ولم تكن إلّا مرحلة من مراحل التطور في خلق آدم، وأن عملية التكاثر في تلك المرحلة كانت بانقسام الكائن الحىّ على نفسه، كما هو الشأن في بعض المخلوقات الدنيا من الديدان.
{فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ}.
أي فلما اتصل بها زوجها، اتصال الرجل بالمرأة علقت منه بالجنين الذي ولدته بعد أن تم حمله في بطنها.
وفى التعبير عن اتصال الرجل بالمرأة بقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاها} أدب من أدب القرآن، وإشارة لطيفة إلى ما يكون بين الزوجين، إذ يغشى الرجل المرأة، أي يكون لها غشاء ساترا، رقيقا، أشبه بالثوب يلبسه الإنسان، أو أشبه بالليل إذ يغشى النهار، ويدخل عليه، فيستر ما فيه من كائنات، ويحجب الأعين عنها.
وفى قوله تعالى: حملت {حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} إشارة إلى أول مراحل الحمل، وأنه يمرّ خفيفا لا نكاد تشعر به.
{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي أنه كلما مرّ الزمن بالجنين في بطن أمه، نما وكبر، وصار ذا أثر واضح في حياتها، يتغير به تركيبها الجسدى، فتكبر بطنها، ويثقل خطوها، وهنا يذكر كل من المرأة والرجل أن لهما ولدا محجبا في ستر الغيب، ستتمخض عنه الأيام، فيضرعان إلى اللّه أن يكون هذا الولد نبتة صالحة لهما في هذه الحياة، يجدان فيه قرة العين، وثلج الفؤاد.. وقد قطعا على أنفسهما عهدا أن يحمدا اللّه ويشكرا له على تلك النعمة.
{فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وفى هذا إشارة إلى ما يقع بين المشركين باللّه، الذين لا يقدرون اللّه حق قدره، فيضيفون أولادهم إلى غير اللّه، ويستمدون لهم أمداد الصحة، والسلامة من غير اللّه، بما يقدمون من قرابين وصلوات إلى من يتمسحون بهم من أصنام وأشباه أصنام! {فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه اللّه وعلا وتمجد عن أن يكون له شركاء، يعملون معه، ويشاركون في تدبير ملكه.
{أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}؟.
فى هذا إنكار على المشركين أن يسوّوا بين اللّه سبحانه وتعالى وبين هذه المخلوقات، أو المصنوعات، ويتخذونها أربابا لهم.
وكيف تسوغ لهم عقولهم أن يشركوا مع اللّه مخلوقا يخلق ولا يخلق؟
وكيف يرجون نصرا ممن لا يملك أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا؟
ذلك هو الضلال البعيد! وكيف يتعبدون لمن لا يهتدى بنفسه إلى الهدى، ولا يستمع لداع يدعوه إليه.. وسواء إذا دعى إلى الهدى أم لم يدع، فإنه حجر صلد لا يسمع، ولا يجيب: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ}؟.
وفى قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ} تشنيع على هؤلاء المشركين، وتسفيه لعقولهم، إذ يجعلون ولاءهم لهذه الدّمى، التي إذا دعاها عابدوها إلى الهدى لا تتبعهم.. وهذا يعنى أن تلك الآلهة قائمة على ضلال، وأنها إذا دعيت إلى الهدى لا تستجيب، لأنها لا تستطيع أن تتحول عن وضعها الذي هي فيه، إلا إذا امتدت إليها يدمن يحولها عن مكانها.
وانظر إلى آلهة ضالة يتعبد لها قوم ضالون، ثم يراد لهؤلاء الضالين أن يكونوا دعاة هدى لآلهتهم التي يعبدون؟.
إنها أوضاع مقلوبة.. يصبح فيها العابدون قادة وهداة للعابدين.. فبئس العابد والمعبود!.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
فهؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه- جمادا كانوا أم شياطين أم ملائكة- هم خلق مثلهم، مخلوقون للّه، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكون منهم لغيرهم نفع أو ضرّ؟.
وها هو ذا الواقع يكشف عن هذه الحقيقة ويقررها.. فليدع المشركون آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه، ثم لينظروا ما ذا يبلغ هذا الدعاء منهم؟
هل يسمعون؟ وإذا سمعوا.. هل يعقلون؟ وإذا عقلوا.. هل يقدرون على تحقيق المطلوب منهم؟ وكيف وهم لا يستطيعون لأنفسهم جلب خير، أو دفع ضر؟.
وفى قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين ركبهم الضلال، واستولى عليهم العمى، فاتخذوا هذه الدّمى آلهة لهم من دون اللّه.. إنهم يفترون الكذب، على أنفسهم، وعلى اللّه.
فهم المتهمون بهذا الضلال لا آلهتهم التي عبدوها.. ولهذا جاء قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} مخاطبا المشركين ولم يجيء مخاطبا آلهتهم التي أشركوا بها.. ولو كان ذلك لجاء النظم القرآنى.. هكذا: {إن كانوا صادقين}.
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها}؟.
ومن عجب أن هذه الآلهة المعبودة من دون اللّه، أهون الكائنات شأنا، وأقلها غناء، وأضعفها أثرا.
إنها جماد صامت، ليس فيها حياة، ولا تملك في وجودها جارحة تعمل، كما تعمل جوارح الكائنات الحية.. فليس لهم أيد يدفعون بها الأذى، ولا أرجل ينتقلون بها من حرور إلى ظل، أو من ظل إلى حرور.. وليس لهم أعين يرون بها ما يرى الكائن الحىّ من الوجود الذي يعيش فيه، ولا آذان يسمعون بها من يدعوهم، أو يلقى إليهم ثناء أو سبابا! فكيف يلقى الإنسان بوجوده بين يدى هذه الجمادات؟ وكيف يعطيها ولاءه وطاعته، وخضوعه؟ أليس ذلك غاية ما يمكن من بلادة الطبع، وسخافة العقل وصغار النفس؟
وقد يجد الإنسان في مجال الوهم والجهل ما يبرر به عبوديته لكائن أقوى منه وأكثر قوة وسلطانا، ولكن عبوديته لجماد صامت، لا يتسع له عذر أبدا، في أي باب من أبواب الوهم والجهل!.
وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} هو تحد من الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- لهذه الآلهة، وما يدّعى لها عابدوها من آثار عاملة في الحياة.. فليدع هؤلاء المشركون آلهتهم تلك، وليوجهوها إلى النبيّ- صلى اللّه عليه وسلم- لترمى بكل كيدها إليه، ولتدفع بكل ما لديها من ألوان الضرّ نحوه، وذلك في غير انتظار، أو مهل.
ولسوف تكشف هذه التجربة عما يخزى هؤلاء المشركين ويفضح آلهتهم التي يعبدون.
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}.
فإذا كان هؤلاء المشركون لا يزالون مصرين على ولائهم لهذه الأحجار وتلك الدمى، بعد أن افتضح أمرها، وظهر عجزها- فإن رسول اللّه يجعل ولاءه كله للّه الذي نزل عليه هذا الكتاب الكريم الذي بين يديه، واللّه سبحانه وتعالى يتولى من يتولاه، وينصر من يستنصر به ويلوذ بحماه، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} أي ينصرهم ويوفقهم للهدى، ويقويهم على مقاومة الشيطان ودفع كيده!.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.
فهذه هي آلهتكم التي تدعون من دون اللّه، لا يستطيعون لكم نصرا، لأنهم أعجز من أن ينصروا أنفسهم، فكيف يكون منهم نصر لغيرهم؟
وشتان بين من يدعو اللّه، ويطلب نصره وعونه، وبين من يدعو هذه الأحجار وتلك الدمىّ.
{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا}.
فهذه الآلهة التي يعبدونها من دون اللّه لا تعقل شيئا، ولا تفرق بين خير وشر فإذا دعاها داع إلى ما فيه خير لم تسمع، ولم تعقل، ولم تعرف ما هو هذا الخير الذي تدعى إليه.
إنها صورة مطابقة لهؤلاء الذين يعبدونهم، فكما لا تعقل هذه المعبودات خيرا، كذلك هؤلاء الذين يعبدونها، لا يعقلون شيئا، فإن دعوا إلى الهدى لا يسمعوه، ولا يستجيبون له، فهم والأصنام سواء بسواء.
{وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
قد يكون المشار إليهم بضمير الجمع هنا هم أولئك المشركون، أو تلك الأصنام التي يعبدونها، أو هم هؤلاء وأولئك جميعا.. فالمشركون وما يشركون بهم سواء في أنهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.
أما الأصنام فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا أبدا.. إذ كانت جمادا لا حياة فيه، ولا شعور له.
وأما المشركون، وإن كانت لهم آذان تسمع، وعيون تبصر، وعقول تعقل، فإنهم لا يسمعون إلا أصواتا، ولا يبصرون إلا صورا، ولا يعقلون إلا أوهاما، ومن هنا كانت حواسهم تلك، معطلة، أو شبه معطلة، لا يفيد أصحابها منها شيئا.

.تفسير الآيات (199- 206):

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}.
التفسير:
بهذه الآيات تختم سورة الأعراف، كما بدأت، فتلتقى بالنبيّ الكريم لقاء مباشرا، بعد أن كان مفتتحها ذلك الخطاب الموجه إلى النبيّ بأن يلقى قومه، ويواجههم بآيات ربّه، وبالكتاب الذي نزّله عليه، وإن كان في ذلك القطيعة بينه وبين أهله، إذ لا مهادنة في الحقّ، ولا حساب لصلات القرابة والصداقة فيه.. {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
هكذا بدأت السورة.. وبهذا تختتم.
وفيما بين هذين اللقاءين، في مفتتح السورة ومختتمها، عرضت السورة الإنسان في معارض الحياة كلها.. كيف خلق الإنسان، وكيف كان تحدّى الشيطان فيه للّه، واعتراضه على هذا التكريم الذي كرّم اللّه الإنسان به، ثم كيف كان عصيان آدم لربّه، وخروجه عن طاعته، ثم ما كان من آدم من ندم وتوبة، وكيف عاد اللّه بفضله عليه، وقبل توبته، ثم حذّره من الشيطان، وتربصه به، لإغوائه هو وذريته، ودفعهما إلى عصيان اللّه، والخروج عن طاعته.. ثم جاءت الآيات بعد ذلك لتعرض على أنظار أبناء آدم مشاهد القيامة، وما يلقى الطائعون من نعيم، وما يؤخذ به العاصون من نكال وعذاب، وكيف يستجدى أهل النار أصحاب الجنة، ويمدّون إليهم أيديهم في لهفة وذلة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم اللّه.. ثم تجيء الآيات بعد هذا فتعرض صورا من مواقف الإنسان مع دعوات الهدى التي يحملها رسل اللّه إليه، فيلقاها معرضا مستكبرا، ثم كيف كان أخذ اللّه للظالمين الضالين، الذين عصوا رسل اللّه وأعنتوهم، ومدّوا ألسنتهم وأيديهم إليهم بالضر والأذى.. ثم تجيء الآيات بعد فضح هذا الشرك الذي هم فيه، وتريهم رأى العين ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من ضعف ظاهر، لا تملك معه، أن تتحول من حال إلى حال، ولا أن تنجو بنفسها من أي أذى ترمى به.. وفى هذا العرض ينكشف ضلال المشركين وسفاهة أحلامهم، إذ يعطون وجودهم وولاءهم لهذه الدّمى الصماء.
بعد هذا كله، تجيء خاتمة السورة داعية النبيّ إلى النهج الذي يأخذه في دعوته إلى اللّه، بعد أن كان متجه الدعوة إليه في مفتتح السورة أن ينهض للدعوة، وليلقى الناس بما أنزل إليه من ربّه- فجاءت الخاتمة هنا لترسم له الطريق الذي يلتزمه في دعوته.
وهذا الفاصل الممتدّ بين مفتتح السورة وخاتمتها، والذي كان بطبيعة الحال فاصلا بين مادّة الدعوة، وبين المنهج الذي تقوم عليه- هذا الفاصل لم يكن جملة اعتراضية بين مادة الدعوة ومنهجها، وإنما هو- في الواقع- منهج تطبيقى للدعوة، رأى فيه النبيّ، كما رأى فيه قوم النبيّ، صورا متعددة من الصدام بين الحق والباطل، وكيف كانت مصارع المبطلين، وعاقبة الظالمين. وهذا مما يعين النبيّ على الأخذ بهذا المنهج الذي رسمه اللّه للدعوة التي أقامه عليها.
وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}.
هو المنهج الذي يسلكه النبيّ مع الناس في أداء رسالته إليهم، من تبعه منهم ومن عصاه على السواء، وهذا المنهج ذو أصول ثلاثة، يقوم عليها:
أولها: المياسرة والرفق، في أخذ المؤمنين، بأحكام الشريعة، فلا إعنات، ولا إرهاق في شريعة اللّه، التي جاءت رحمة لعباده، واستنقاذا لهم من الهلاك.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} أي تقبل من الناس ما تسمح به أنفسهم، ويتسع له جهدهم، مما لا يشق عليهم من أمر أو نهى.
وهذا من شأنه أن يوثق العلاقة بين المؤمنين وبين دين اللّه الذي دخلوا فيه، حيث يجدون منه وجها سمحا مشرقا، يلقاهم بالصفح الجميل إذا هم أذنبوا، ويفتح لهم باب الرضا والقبول، إذا هم شردوا وضلوا، ثم تابوا، وأنابوا إلى اللّه من قريب.
وهكذا جاءت شريعة الإسلام، رفيقة بالناس، رحيمة بهم.. ليس فيها ما يعنتهم، أو ينكّل بهم، لأنها لم تجئ إليهم نكالا وانتقاما، وإنما جاءت إليهم رحمة وإحسانا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [1: إبراهيم] ويقول سبحانه: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [107: الأنبياء] ويقول جلّ شأنه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [2: الجمعة].. فالرسالة التي بين يدى رسول اللّه، هي رسالة خير ورحمة، فلا يكون منها للناس جميعا إلا الخير والرحمة، حتى لأولئك المشركين الذين تصدوا للرسالة وأعنتوا صاحبها، حيث لم يأخذهم اللّه بما أخذ به الأمم السابقة الذين تحدّوا رسل اللّه، وكفروا بهم، وبما يدعونهم إليه.
وثانيهما: ألا يخرج بالناس عن مألوف الحياة، وطبيعة البشر، وهذا يعنى أن أحكام الشريعة ليست غريبة على الناس، وإنما هي من صميم البناء السليم للحياة الإنسانية، وأنه لو ترك الناس وما تدعوهم إليه فطرتهم السليمة لكان ما تعارفوا عليه، وأخذوا أنفسهم به، هو والشريعة على سواء.
فالشريعة السماوية- في حقيقتها- ليست شيئا زائدا على الحياة الإنسانية السليمة، وإنما هي تنظيم لها، وضبط لحدودها، وجمع لأصولها التي عرفها الناس في الحياة.. عن تجربة، وممارسة واختبار.
إن الناس بفطرتهم، يعرفون ما يضرّهم وما ينفعهم، ويفرقون بين ما هو شر وما هو خير.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «الحلال بيّن والحرام بيّن».
ولكن ليس كل من عرف الشرّ توقّاه، وحرس نفسه منه، وليس كل من عرف الخير أقبل عليه، وأخذ نفسه به، إذ ما أكثر تلك الأهواء التي تتحكم في الناس، وتغلبهم على ما يدعوهم إليه العقل، وتناديهم به الحكمة.
ولقد جاءت الشرائع- كما جاءت القوانين الوضعية- لترسم للناس الحدود، وتوضح المعالم، بين الخير والشر، والحق والباطل، ولترصد العقاب الرادع لمن استخفّ بهذه الحدود وعبث بتلك المعالم.
فقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} هو كشف عن وجه من وجوه تلك الشريعة السمحاء، وأنها شريعة إنسانية في صميمها، تحترم الوجود الإنسانى، وتلتقى بالناس وتتعاطف معهم، فيكون حسابهم عندها قائما على طبيعتهم، وما ركّب فيهم من غرائز، وما استقرّ فيهم من عواطف ومشاعر.
فالمعروف، هو ما تتعرف إليه النفوس الطيبة، وتتفتح له الفطر، السليمة، فيقع منها موقع الرضا والقبول، ويصبح من المعروف لها، والمألوف عندها.
وفرق كبير بين ما يتعارف عليه الناس من أهواء، وبدع، ومنكرات، وبين ما يتعارفون عليه من حق، وبر، وخير.
فما كان من واردات الأهواء والبدع والضلال، فإنه وإن فشا في الناس، وغلب على عامّتهم، هو قلق في مكانه، غريب في موضعه، حتى عند أهله المتعاملين به، والمتعاطفين معه.. ذلك أن من يركب الشرّ يعلم أنه على غير الطريق السوىّ، وأنه قائم على منكر، يتطلع إلى اليوم الذي يقهر فيه أهواء نفسه، ودواعى نزواته، ليأخذ طريقه مع الحق والخير، والإحسان.
ومن هنا، كان الإجماع في الشريعة الإسلامية أصلا من أصول الشريعة، ومادة من مواد التشريع لهذه الأمة التي اصطفاها اللّه سبحانه، لتكون محمل الرسالة الخاتمة لرسالات السماء، إذ كانت كما أرادها اللّه، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: «لا تجتمع أمتى على ضلالة».
وليس الإجماع في صميمه إلا ما رضيه أهل الحلّ والعقد من عقلاء الأمة، وأهل الرأى والنظر فيها، وذلك فيما جدّ من أمور لم يكن للشريعة رأى فيه.
وهذا من الإسلام، اعتراف بالجماعة الإنسانية، وبحقّها في المشاركة في وضع دستور حياتها، الذي رسمت لها الشريعة حدوده.
وفرق كبير بين اعتراف الشريعة الإسلامية بالإجماع، وبين ما تعترف به الديانات الأخرى من سيادة الرئيس الديني لها وحقه في التشريع.. حيث يقوم الإجماع في الشريعة الإسلامية على الشورى، التي تعطى كل إنسان حقّه في إبداء رأيه، وفى قبول ما يقبل، ورفض ما يرفض، على حين تقوم سيادة الرئيس الديني على الاستبداد بالرأى وحده، دون أن يكون لأحد معه حق المراجعة أو المعارضة!! وثالثهما: قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ}.
وهو من تمام هذا الأدب الربّاني، الذي أدّب اللّه سبحانه به نبيه صلى اللّه عليه وسلم، وجعله ملاك أمره في سياسة الناس، وفى وصل المجتمع الإنسانىّ برسالة الإسلام.
فالإعراض عن السفهاء والجاهلين، تأديب حكيم لهم، وقطع لحبال الملاحاة واللّجاج معهم، وفلّ لأسلحتهم التي لا تحسن العمل إلا في ميدان السفاهة والجهل.. إذ أنه ليس أرضى لنفوس السفهاء، ولا أهنأ لقلوبهم من أن يجدوا من يمدّ لهم في حبال السفاهة والجهل، حين يلقى سفاهتهم بسفاهة وجهلهم بجهل.. إنها حينئذ فرصتهم التي تظهر فيها ملكاتهم، وتشحذ بها أسلحتهم، في هذا الميدان، الذي يصولون فيه ويجولون.
ثم إن في إعراض النبيّ عن السفهاء والجاهلين- فوق أنه حماية له، وحراسة لمقامه الكريم من أن يصيبه رذاذ من هذا الشر المتطاير- إطلاقا للنبى بكل قوته للعمل في آفاق أكرم وأولى بهذا الخير الذي في يديه، حيث يكون لقاؤه كاملا مع أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ولهذا عاتب اللّه- سبحانه- نبيّه الكريم، هذا العتاب الرقيق الجميل، حين أعطى وجهه لهؤلاء الجاهلين المتطاولين من رءوس القوم، طمعا في هداهم، على حين صرف وجهه عن ابن أم مكتوم- الأعمى- وقد جاء يسأل النبي، ويستزيد من العلم بأحكام دينه، فقال تعالى معاتبا النبيّ هذا العتاب الموصول باللطف والرحمة والإحسان: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ}.
قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} النزغ: أدنى المسّ، والإلمام بالشيء دون الوصول إلى صميمه.
والمراد بالنزغ الذي يكون من الشيطان للنبىّ، هو أن يدخل على النبيّ في صفائه وإشراقه، بشيء من ضبابه ودخانه، وهنا يتنبه النبيّ لما وقع في سمائه الصافية المشرقة، فيعلم أن ذلك من كيد الشيطان، فيستعيذ باللّه منه، وإذا اللّه سبحانه وتعالى معيذ له، صارف عنه كيد الشيطان: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
والمؤمنون هم الذين أخذوا بهذه السبيل التي أخذها النبيّ عند لمّة الشيطان به.
فهم {إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ} وكاد يستولى على حالهم التي هم فيها مع اللّه، تذكّروا العداوة التي بينهم وبين هذا الشيطان، وذكروا ما بينهم وبين اللّه، وعندئذ تنجلى هذه الغمّة عنهم، وينصرف هذا السحاب المتراكم الذي لفّهم الشيطان به، وإذا نور الهدى يطل عليهم من بين هذا السحاب، وإذا حرارة الإيمان تتحرك في صدورهم، فتبدّد غواشى هذه السحب، وإذا سماؤهم مشرقة بنور اللّه.. وإذا هم مبصرون طريقهم إلى الحق والخير.
وفى التعبير بالنزغ في مقام النبيّ، وبالمسّ وبالطائف في جانب المتقين، إشارة إلى أن ما يكيد به الشيطان للنبىّ هو شيء عارض، لا يكاد يجاوز اللحظة العابرة، واللمسة المذعورة.. أما ما يكيد به الشيطان للمؤمنين فهو مس يكاد يحتويهم، ويطوف بهم، ويشتمل عليهم.. وذلك لأن النبي الكريم في مقامه العالي، من التقوى، ومن اليقظة، هو في حصن حصين، بحيث لا يكاد يجد الشيطان منفذا، وإن وجده فهو أضيق من سمّ الخياط.. وهكذا المؤمنون وما في قلوبهم من تقوى، فكلما كان رصيد المؤمن من التقوى عظيما، كلما أثر الشيطان فيه ضعيفا، لأن التقوى هي الحصن الذي يحتمى فيه المؤمن من أن يطوف الشيطان به، وكلما كان هذا الحصن متين الأركان، متماسك البنيان كلما ضاقت منافذ الشيطان وسدّت دون كيده الأبواب! قوله تعالى: {وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}.
فهم أكثرالمفسرين هذه الآية على أن الإخوان هنا هم إخوان الشياطين، من المشركين وأهل الضلال، وأن الشياطين يمدونهم بالغيّ والضلال، فلا يقصرون، ولا يرجعون عن غيهم وضلالهم، بل يزدادون ضلالا إلى ضلال، وغيا إلى غىّ.
والفهم الذي أطمئن إليه في هذه الآية، هو أن المراد بإخوانهم، هم إخوان المؤمنين، من المنحرفين، وأصحاب الأهواء والبدع، ومن المشركين والضالين.
وأن هؤلاء جميعا هم شياطين مسلطون على المؤمنين، يحاولون جاهدين أن يمدوهم بالغي والضلال، والمؤمنون- مع هذا- في إعراض عنهم، ولكنهم- مع هذا- دائبون على هذا الكيد للمؤمنين.. لا يقصرون، ولا ينتهون.
وتسمية هؤلاء الغواة من المشركين والضالين إخوانا للمؤمنين، هو لما بينهم من صلات القرابة والنسب.
ومن جهة أخرى فإن هؤلاء المشركين الضالين، كان من شأنهم- لو عقلوا- أن يكونوا إخوانا لهؤلاء المؤمنين، أخوّة إيمان وتقوى، بعد أن كانوا إخوانا لهم، نسبا وقرابة، ولكن فرّق بينهم هذا الضلال الذي هم فيه.
وقوله تعالى: {وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هو عطف على قوله تعالى: {وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ}.
أي أن هؤلاء المشركين إذا لم تأتهم بآية مما يقترحون عليك من آيات، قالوا لك: هلا اجتبيتها، أي اخترتها أنت بنفسك من بين تلك الآيات التي كانت تتنزل على الرسل السابقين، كناقة صالح، وعصا موسى، ويده، ومعجزات عيسى في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؟ فهذه الآيات وأمثالها هي التي نطلب إليك أن تأتينا بواحدة منها أو مثلها، ونحن لا نشق عليك بأن نطلب إليك آية بعينها، بل نترك ذلك لك، لتتخير الآية التي تقدر عليها!! وليس ذلك منهم عن صدق وجدّ، وإنما هو استهزاء، وسخرية، وتحدّ وقاح للنبىّ، وإظهاره بمظهر المغلوب على أمره في تحدبهم له.
وقد أمر اللّه نبيّه الكريم أن يلقاهم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ} أي أننى لست إلا رسولا من اللّه إليكم، أبلغكم ما أرسلت به، وأنه ليس ممّا لى أن آتى لكم بما لم ينزّله علىّ ربّى، ويأذن لى به.
{إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ}.
فلو أنكم أيها المشركون قدرتم اللّه حقّ قدره لما جعلتم إلى عبد من عباد اللّه- ولو كان رسولا من رسله- أن يكون له شأن مع اللّه، وأن يأتى بآيات ومعجزات لم يضعها اللّه سبحانه في يده، ولم يأذن له بها.
ثم ما لكم- أيها المشركون الضّالون- تطلبون الآيات، وتقترحون منها ما تمليه عليكم أهواؤكم؟ وهذا كتاب اللّه، وتلك آياته بين أيديكم لو أنها وجدت منكم آذانا صاغية، وقلوبا واعية، لاستغنيتم بها عما تطلبون من آيات ماديّة تلمسونها بأيديكم، فتبهر عقولكم بأفعالها القاهرة المعجزة؟
وفى كل آية من آيات الكتاب الكريم معجزة قاهرة متحدية، تخشع لجلالها القلوب، وتعنو لروعتها الوجوه، ولكن لا ينكشف منها هذا الجلال، ولا تتبيّن منها تلك الروعة إلا لأصحاب البصائر السليمة، التي تتهدّى إلى الحق، وتتّبع آثاره، وتستجيب لدعوته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فالبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة بمعنى باصرة، أي أنها عيون مبصرة لمن ينظر بها إلى هذا الوجود، ويتخذها دليله وهاديه في الحياة.. إنه لن يضلّ معها، ولن يجد في صحبتها غير الهدى والرحمة.. هذا لمن يؤمنون بها، ويصحبونها على وفاق، لا لمن يمكرون بآيات اللّه، ويتخذونها لهوا ولعبا.
وقوله تعالى: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} هو إشارة إلى ما ينبغى أن تكون عليه صحبة آيات اللّه، لمن يبغى الخير منها، ويطلب الهدى عندها.. إنها لا تعطيه من خيرها، ولا تمدّه من أضوائها، إلا إذا أعطاها حقّها من الاحترام والتوقير، فإذا استمع إليها، وهو يتلوها على نفسه، أو يتلوها عليه غيره، وأنصت لها، وأخلى حواسّه وجوارحه وكيانه كلّه من أي شاغل يشغله عنها- عندئذ يؤذن له أن يفيد منها، وينتفع من الخير المخبوء في كيانها، وفى هذا ما يدنيه من ربّه، ويقرّبه من رحمته.
وقوله سبحانه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ}.
هو خطاب للنبىّ الكريم، ينضوى تحته المؤمنون جميعا.
ومطلوب هذا الخطاب، هو ذكر اللّه، وشغل القلب به، في صمت وخشوع، وفى ضراعة لكبرياء اللّه، وخوف ورهب لسطوته وجبروته.
وهذا هو ذكر القلب، حيث تسكن كل جارحة، وحيث يكون الإنسان كله مشاعر خاشعة، تلين بها الجلود، وتفيض منها العيون، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [23: الزمر].
وهناك ذكر باللسان، هو في درجة بعد هذه الدرجة، ومنزلة دون تلك المنزلة، التي هي من شأن القلب وحده.
وليس الذكر باللسان مجرد أصوات تردّد بكلمات اللّه وآياته، فإن مثل هذا الذكر لا محصّل له، ولا ثمرة وراءه.. وإنما يكون ذكر اللسان موردا من موارد الخير، وطريقا قاصدا إلى الحق والهدى، حين يستملى من قلب خاشع، ويتلقّى من مشاعر مجتمعة ساكنة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ}.
فهو معطوف على قوله تعالى: {فِي نَفْسِكَ} أي اذكر ربّك في نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول.
بمعنى: واذكر ربّك بلسانك كما ذكرته بقلبك، ولكن بصوت خفيض ضارع تناجى فيه ربّك، في غير ضوضاء أو جلبة، وفى هذا استجماع للقلب، واستحضار لما عرب من سوانحه وخواطره، فكما في ذكر اللّه بالقلب دون اللسان إتاحة الفرصة للقلب أن يصغى إلى نداءاته المنبعثة من داخله، كذلك في ذكر اللّه باللسان هو إيقاظ للقلب بتلك الكلمات الرقيقة الهامسة التي تربت عليه في رفق وتناد به في عطف ولين.
والغدوّ: جمع غدوة، وهى أول النهار، والآصال: جمع أصائل، والأصائل: جمع أصيل، وهو الساعة الأخيرة من النهار.
والمراد بالغدو والآصال، ليس هو قصر ذكر اللّه في هذين الوقتين، وإنما المراد هو شغل القلب واللسان بذكر اللّه، ذكرا دائما متجددا، بحيث يخلى الإنسان نفسه من الشواغل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليكون بينه وبين اللّه تلك اللقاءات المسعدة، التي يجدّد فيها إيمانه، ويقوّى بها صلته بخالقه.. ولهذا جاءت خاتمة الآية بهذا الأمر الكريم: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ}.
وأما السر في اختيار هذين الوقتين، فلأنهما أصلح الأوقات وأنسبها لذكر اللّه، واستحضار جلاله وعظمته.
ففى أول النهار يتزود الإنسان بهذا الزاد الطيب، الذي يغذّى به مشاعره وأحاسيسه، ويشحن به عواطفه ونوازعه.. ثم يخرج إلى الحياة، ومعه هذا الرصيد العظيم من أمداد اللّه، ورحماته، فيواجه الحياة بقلب سليم، وعزم موثق، ولسان عفّ، ويد نقية.. فيكون من هذا كله في حراسة أمينة يقظة، فلا يزلّ ولا ينحرف!.
فإذا كان آخر النهار، كان له إلى نفسه عودة ومراجعة، فيعرضها على اللّه، ويصلح ما وقع لها من خلل أثناء رحلتها مع الحياة طوال اليوم.. وبهذا يظل المؤمن المتصل باللّه هذا الاتصال- يظل على الصحة والسلامة أبدا، فيقطع العمر، معافى في دينه، سعيدا في دنياه، طامعا في رضى اللّه ورضوانه، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.
هو بيان للصورة المثلى لعبادة اللّه، والتي ينبغى أن ينشدها المؤمن، ويعمل لها، ويستعين اللّه على بلوغها.
والصورة هنا هي لملائكة الرحمن الذين هم أقرب خلق اللّه إلى اللّه.
فهم مع هذا القرب، وفى تلك المنزلة التي هم فيها، لا يفترون عن عبادة اللّه، بل هم على عبادة دائمة، وذكر متصل، بين تسبيح، وسجود.
وفى قوله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ} إشارة إلى أن هذه المنزلة التي لهم عند اللّه، لم تدخل عليهم بشيء من الكبر والإدلال على اللّه، حيث لا متطلع لهم إلى منزلة غير تلك المنزلة، بل إن ذلك كان داعية لهم إلى دوام العبادة، ومواصلة التسبيح، حمدا للّه على ما هم فيه، وشكرا له على ما أنعم به عليهم، واستدامة لتلك النعمة.
وإذا كان هذا هو شأن هؤلاء العباد المكرمين، فأولى بمن هم دونهم درجة، أو درجات أن يجتهدوا في العبادة، وأن يسعوا السعى الحثيث إلى اللّه، بالذكر والتسبيح، حيث لا يزال أمامهم مدى فسيح يسعون فيه إلى اللّه، لينالوا عنده درجات فوق درجات.
هذا، ويصح أن يكون المراد بالذين عند ربك، هم الذين اصطفاهم واختارهم من بين الناس، وهم المؤمنون الذين عرفوا اللّه حق معرفته، فأخلصوا له دينهم، وأسلموا له وجودهم، فعبدوه في ولاء وخشوع، لا يسبحون غيره ولا يسجدون سواه.
ومعنى أنهم عند اللّه، أي من أهل ودّه، ورضاه.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا}.
وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه- مخالفين في ذلك ما أجمع عليه المفسرون- هو المناسب لسياق النظم القرآنى، حيث كانت الآية السابقة على هذه الآية دعوة إلى ذكر اللّه، على تلك الصورة التي تؤهل الذاكر لأن يكون من أهل اللّه، ومن عباده المكرمين.. وهى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ}.
فهذا الذكر هو الذي يقرب الإنسان من ربه، ويرفعه إلى هذا المقام الكريم، وإنه لن يرتفع إلى هذا المقام إلا من ذكر اللّه هذا الذكر، فلا يستكبر عن عبادة اللّه، ولا يولّى وجهه إلى غيره في تسبيح أو سجود.
ثم إن هذا المعنى يناسب مطلع السورة التي جاءت تالية لسورة الأعراف وقد جاء في هذا المطلع قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [2- 4: الأنفال].