فصل: سورة الأنفال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الأنفال:

نزولها: نزلت بالمدينة في أعقاب غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وتسمى سورة بدر.
عدد آياتها: سبع وسبعون آية.
عدد كلماتها: ألف ومائة وخمس وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان وثمانون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 4):

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}.
التفسير:
كانت غزوة بدر أول موقف وقفه المسلمون إزاء الغنائم التي وقعت لأيديهم من يد أعدائهم في ميدان القتال.. ولهذا اضطربت مشاعر المسلمين فيها، واختلفت أنظارهم عليها.. فمن قائل إنها لمن جمع الغنائم وحازها ليده، ومن قائل إنها لمن قائل والتحم بالعدو.. ومن قائل- إنها لمن شهد القتال، قاتل أو لم يقاتل، حاز غنيمة أو لم يحزها.. ومن قائل إنها للجماعة الإسلامية التي كانت تضمها المدينة.. وهكذا توزعت مشاعر المسلمين وعواطفهم، في مواجهة هذا الطارق الغريب، الذي أطلّ عليهم بوجهه، لأول مرة.
ولو ترك هذا الموقف للمسلمين يقضون فيه برأيهم، ويلتقون فيه على رأى، لما كان في هذا ما يحسم الموقف، ويجمع هذا العواطف المشتتة، وتلك النوازع المختلفة.. فإن أي رأى يلتقى عنده المسلمون، لم يرض نفرا منهم أيّا كان عدده.
وتلك لا شك ثلمة في بناء الجماعة التي لا تزال على أول الطريق، في استكمال كيانها، ودعم بنائها، بل هو صدع في هذا البناء، تزيده الأيام عمقا واتساعا، إن لم يكن في الحساب توقّيه قبل أن يقع.. حتى يحفظ هذا الجسد سليما معافى من أيّة آفة، تندس إليه، وتنفث سمومها فيه.
ولهذا جاءت كلمة الفصل من السماء، حتى لا يكون لقائل قول، ولو كان الرسول الكريم نفسه، والذي لو قال كلمة هنا لتلقاها المسلمون بالقبول والرضا، ولسكن عندها كل خاطر، ولماتت بعدها كل نازعة أو وسواس، لما للرسول في نفوس المسلمين من حب وطاعة، وولاء.. إذ كانوا على يقين، بأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا يقضى إلا بالحق، ولا يقول إلا بما أراه اللّه: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى}.
ومع هذا، فإن حكمة الحكيم العليم اقتضت أن تكون كلمة اللّه هي القضاء الفصل فيما اختلف فيه المسلمون، حتى يعودوا من هذه المعركة، وقد خلت نفوسهم من أي همّ من هموم الدنيا، وحتى يكونوا جندا خالصا لدين اللّه، لا يجاهدون إلا في سبيل اللّه، وفى إعلاء كلمة اللّه، دون التفات إلى شيء من هذه الدنيا، وما يقع لأيديهم من مغانم الحرب.. فتلك المغانم- وإن كثرت- لا حساب لها في هذا الوجه الكريم الذي يتجه إليه المجاهدون في سبيل اللّه.
ومن أجل هذا، كان حكم اللّه قاضيا على المجاهدين بألّا شأن لهم بهذه الغنائم، وأن أمرها إلى اللّه، ثم إلى رسول اللّه يضعها حيث يشاء، ويتصرف فيها كما يرى.
تلك هي كلمة اللّه، وهذا هو قضاؤه.
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.
وانظر كيف كانت الحكمة في هذا الحكم، وهذا التدبير الحكيم.
لقد كان ذلك أول الإسلام، ومع أول تجربة يقع للمسلمين فيها خير مادىّ، بعد أن احتملوا ما احتملوا من أذى وضر في أموالهم وأنفسهم.
ولو كان الذي حدث في بدر جاريا مع موقع النظر الإنسانى، لكان أول ما يتبادر إلى العقل هو التمكين للمسلمين الذين قاتلوا، أن يحوزوا هذه الغنائم، ليكون منها بعض العزاء لما ذهب منهم، سواء أكانوا مهاجرين أو أنصارا.. حيث هاجر المهاجرون تاركين وراءهم الديار والأموال، وحيث شاطرهم الأنصار ديارهم وأموالهم..!
ولكن تدبير اللّه يعلو هذا التدبير، وحكمته تقضى بغير ما يقضى به هذا النظر البشرى المحدود.
فلو أن المسلمين شغلوا أنفسهم من أول خطوهم بهذه الغنائم، لكان في ذلك جور على الدعوة التي دعاهم اللّه إليها، وندبهم لها، ولكان حسابهم معها قائما على الريح والخسارة في جانب الدنيا، أكثر منه في جانب الدين..!
ولهذا، جاء أمر اللّه قاطعا على المسلمين هذا الطريق، آخذا على أيديهم أن تمتدّ إلى تلك الغنائم، التي جعلها اللّه سبحانه له، ثم وضعها بين يدى رسوله.
إنهم مجاهدون في سبيل اللّه وحسب، باعوا أنفسهم للّه، ورصدوها للجهاد في سبيله.
أما الغنائم فأمرها خارج عن هذا العهد الذي عاهدوا اللّه عليه.
فإذا جاء بعد هذا قضاء من عند اللّه في شأن ما يقع للمجاهدين من غنائم.
وإذا جعل اللّه للمقاتلين نصيبا مفروضا فيها، فذلك فضل من اللّه، ومنّة منه على عباده، وبهذا يظل المجاهدون على هذا الشعور الأول الذي أقامهم اللّه عليه، وهو أن تلك الغنائم هي للّه ولرسوله، وأن ما فرض لهم بعد ذلك هو استثناء من الحكم الأصلىّ، جاء برّا بهم، ورحمة لهم.
ومن أجل هذا، فإنه بعد أن انتهت معركة بدر، ومغانمها، وعاش المسلمون مع تلك التجربة زمنا كافيا، اطمأنوا فيه إلى ما تقرر من ألّا شيء لهم فيما يغنمون- جاء حكم اللّه بعد هذا مقررا لهم نصيبا مفروضا فيما يغنمون، وفى هذا يقول اللّه تعالى في هذه السورة: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
وقوله تعالى: {قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هو تعقيب على هذا الحكم الذي تلقاه المسلمون من اللّه في شأن غنائم بدر.. وفى دعوتهم إلى تقوى اللّه تذكير لهم باللّه الذي استجابوا لدينه، ودخلوا فيه، وقاتلوا في سبيله، فإذا ذكروا هذا، فاءوا إلى السّلامة والعافية، وأقاموا وجوههم على الوجه الذي استقبلوا به الإسلام من أول يوم.
موطنين الأنفس على احتمال الضرّ، والصبر على المكاره، ولم يقع في نفوسهم شيء من هذه المشاعر، التي وقعت لهم بين يدى تلك الغنائم، قبل أن يتلقوا حكم اللّه فيها.
ومن هنا جاء أمر اللّه إليهم بعد ذلك بقوله: {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} أي حيث أخليتم أنفسكم من هذا المتاع الذي كان سببا في التنازع والاختلاف بينكم، فعودوا إلى ما كنتم عليه، إخوانا مجاهدين في سبيل اللّه، لا تبتغون بذلك إلا رضا اللّه ورضوانه.. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمرا بالطاعة المطلقة، والتسليم الخالص للّه، ولرسوله.
فذلك هو شأن المؤمنين، إذ لا إيمان بغير طاعة وتسليم..!
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
هو كشف للصورة الكريمة للمؤمنين، يعرضها اللّه سبحانه، لأولئك الذين دعاهم اللّه إلى طاعته وطاعة رسوله، في شأن هذه الغنائم ليدخلوا في عداد المؤمنين، بما استقبلوا به أمر اللّه سبحانه من طاعة ورضى.
فالمؤمن حقا، هو الذي يخشى اللّه ويتّقيه، فإذا ذكر اللّه، أو ذكّر به امتلأ قلبه خشية ووجلا- أي خوفا- من جلاله وسطوته، وإذا تلى آيات اللّه أو تليت عليه، خشع لها، وأشرق قلبه بنورها، فازداد بذلك إيمانا على إيمان، ثم انتهى به ذلك إلى أن يكون عبدا ربّانيا، يسلم أمره كله لمن بيده الأمر كلّه.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}.
هو استكمال لتلك الصورة الكريمة للمؤمن.. فلا يكتمل إيمان المؤمن حتى يقيم الصلاة على وجهها، ويؤديها في خشوعها وخضوعها، ولا يكمل إيمانه حتى يكون- مع إقامة الصلاة- من المنفقين مما رزقه اللّه، في وجوه البرّ والإحسان.
فإذا فعل المؤمن ذلك، فأطاع اللّه ورسوله، وذكر اللّه خاشعا متضرعا، وتلا آياته وجلا خائفا، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه اللّه في سبيل اللّه- إذا فعل ذلك كان من المؤمنين حقّا.. أي كان مؤمنا ظاهرا وباطنا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
فالمؤمن إيمانا كاملا، ظاهرا وباطنا، هو في مقام كريم عند ربه، يحفّه بمغفرته ورحمته، ويفيض عليه من إحسانه وفضله.
ويلاحظ هنا أن هذا العرض للمؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم باللّه، هو- وإن كان مطلوبا لكل مؤمن باللّه، في جميع الأحوال والأزمان- هو من المطلوبات التي استدعتها تلك الحال التي كان عليها المؤمنون بعد معركة بدر، في مواجهة الغنائم التي وقعت لأيديهم في هذه المعركة.
فلقد أثارت تلك الغنائم غبارا كثيرا في آفاق المسلمين، فكان من تدبير اللّه لهم، وصنيعه بهم، أن أجلى هذا الغبار من سمائهم، وعرض عليهم تلك الصورة الكريمة للمؤمنين، وأراهم- سبحانه- أنه يدعوهم إليه، ويرسم لهم الصورة التي ينبغى أن يكونوا عليها، وهم يستجيبون له، ويقبلون عليه.

.تفسير الآيات (5- 8):

{كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ} هو طرف من طرفى تشبيه، وقد تقدم المشبّه، والكاف هنا داخلة على المشبه به.
والصورة التي قام عليها التشبيه هنا، هي تشبيه حال بحال.
فالحال التي كان عليها المؤمنون، من اضطراب واختلاف، عند ما وقعت لأيديهم غنائم بدر، هي كالحال التي كانوا عليها حين خرجوا مع النبيّ لملاقاة قريش، وقد وعدهم اللّه إحدى الطائفتين: إما العير التي كان يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش وتجارتها المقبلة من الشام، وإما النفير، وهو الجيش الذي قاده أبو جهل لينقذ به العير من يد النبيّ وأصحابه، وليثأر لكرامة قريش، حيث كان التصدّي لقوافل تجارتها، امتهانا لها، وتحديّا لمكانتها العرب.. كما كانت تفكر وتقدّر! وقد خرج المؤمنون- من مهاجرين وأنصار- مع النبي على نية للعير، وقطع الطريق على قريش في تجارتها مع الشام، انتقاما لما فعلته مع المهاجرين، حين أخرجتهم من ديارهم وأموالهم.
وكان خروج المسلمين على وجه المبادرة والاستعجال، حتى لا يفوتهم أبو سفيان والعير التي معه، ولهذا كان الذين خرجوا لهذا الوجه نحو ثلاث مئة، ليس فيهم إلا فارس واحد، وقيل فارسان، أما الباقون فكانوا رجّالة، لا يحمل أحدهم معه غير سيف أو رمح.
وقد استطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير، ويفلت من يد المسلمين، حين أخذ طريقا غير الطريق الذي اعتادت القوافل أن تسلكه بين مكة والشام.
وتلفّت المسلمون فإذا هم وجه لوجه مع قريش التي جاءت لتستنقذ عيرها، ولتنتقم لكرامتها ممن تصدّوا لها.
وكانت قريش في أكثر من ألف مقاتل، بينهم أكثر من مائة فارس، والمسلمون- كما علمت- نحو ثلاث مئة ليس فيهم إلا فارس، أو فارسان!.
ونظر المسلمون فإذا هم بين أمرين: إما الحرب، وهى تعنى بالنسبة لهم الفناء، والاستئصال.. وإما الفرار، وما معه من خزى وعار.. ولكن إلى أين يفرون؟ إلى المدينة؟ وهل يبعد على قريش أن تدخلها عليهم، وتهلك الحرث والنسل؟ وفى المدينة عدو يتربص بهم هم اليهود الذين يفتحون لقريش حصونهم، ويمدونهم بالعتاد والسلاح!؟
وإذ كان الموقف على هذين الاحتمالين، اللذين لابد من أحدهما، فقد رأى النبيّ أن يستشير أصحابه، ويسألهم الرأى فيما يأخذون من أي هذين الأمرين.
فجمع- صلوات اللّه وسلامه عليه- أصحابه إليه، وقال: «أيها الناس أشيروا علىّ!».
وصمت الجميع.. لا يدرون ما يقولون.. وإن كان مع كل واحد منهم قولا يقوله.
إنهم خرجوا على غير أهبة واستعداد، ولم يكن الوقت الذي خرجوا فيه مسعفا للكثير منهم أن يخرج معهم.
لقد كان الموقف حرجا، اضطربت فيه القلوب، واختلطت معه المشاعر، وغامت فيه الرؤية الكاشفة حتى لم يعد أحد يدرى أين موقفه، وأين مجتمع رأيه!.. تماما كما كان ذلك بعد أن وقعت غنائم بدر لأيديهم..!
وعاد النبيّ الكريم يسأل أصحابه: «أيها الناس أشيروا علىّ» وكانت عين الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه تتطلع إلى الأنصار.. إذ كانوا هم كثرة الناس، وأصحاب البلد الذي يواجه الخطر، ويتلقى الضربة القاضية، كما أنهم حين بايعوا النبي قبل الهجرة، كانت بيعتهم أن يمنعوه في بلادهم مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم. ولم يكن في البيعة أن يقاتلوا معه مهاجمين.
وجاءت كلمة الأنصار، فقال سعد بن معاذ: لكأنك تعنينا يا رسول اللّه؟ قال:أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع الطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد فاستبشر رسول اللّه بهذا القول الذي جاء على لسان الأنصار، ونطق به رجلها.
وبهذا كان الحسم لهذا الموقف المائج المضطرب.. تماما كما كان حكم اللّه فيما حكم به في شأن الغنائم التي وقعت للمسلمين بعد هذه المعركة.. حيث سكنت النفوس، واجتمع الرأى الشتيت.
ومن هنا صح أن يقع التشبيه بين الحالين: حال المسلمين في مواجهة العدو بعد أن دارت رءوسهم، واضطربت قلوبهم.. وحالهم في الغنائم، بعد أن اختلفت آراؤهم فيها، واضطربت مشاعرهم حيالها.
وانظر كيف أمسكت كلمات اللّه، بكل خالجة كانت تختلج في نفوس القوم هنا، وهناك.. في مواجهة العدو، ثم في مواجهة الغنائم.
ففى مواجهة العدو.
لم يكن المسلمون يتوقعون أن تقع حرب، أو يدور قتال بينهم وبين المشركين.. لقد خرجوا يطلبون العير، ويأخذون ما يقع لأيديهم مما تحمل من أموال ومتاع.. فكان أن جاء الأمر على غير ما قدّروا، فأفلتت من أيديهم العير، وفاتهم ما منّوا أنفسهم به منها.. فواجهوا المعركة، والتحموا في القتال.
وفى مواجهة الغنائم والأنفال:
كان المقاتلون يقدّرون أن ما وقع لأيديهم منها، هو خالص لهم، وأنه لن يخرج شيء منها إلى غيرهم.. فكان أن جاء الأمر على غير هذا التقدير الذي قدّروا، وخرجت الغنائم كلها من أيديهم، حيث وضعها اللّه سبحانه، في يد الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.
وهكذا يصنع اللّه للإسلام، فيقيم وجه أنصاره على أمره وحده، لا يلتفتون معه إلى شيء آخر غيره.. فمن كان على نيّة الإيمان باللّه والجهاد في سبيله، فهذه هي سبيله: أن يصرف وجهه عن الدنيا، وأن يوطّن نفسه على الجهاد خالصا للّه، لا يبغى به إلّا وجه اللّه، ولا يطلب إلا مثوبته ورضوانه.
ففى قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} إلفات للمسلمين الذين كسبوا المعركة، وحازوا ما كان مع قريش من سلاح، ومتاع ثم صرفهم اللّه عن هذا السلاح والمتاع- إلفات لهم إلى تلك الحال التي كانوا عليها، بعد أن صرف اللّه عنهم العير، وجعلهم وجها لوجه مع العدوّ في ميدان القتال.
فهذه من تلك، سواء بسواء.
والبيت الذي خرج منه النبيّ هنا، هو المدينة.. فهى بيته- صلوات اللّه وسلامه عليه- الذي يأوى إليه، ويقرّ فيه.
وخروجه- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالحق، أي للحقّ، ومن أجل الدفاع عن قضيّة الحق.. وليست قضية الحق هي هذا المتاع الذي كانت تحمله العير، ولا هذه الأنفال التي خلصت لأيدى المسلمين، وإنما قضية الحق هي إعلاء كلمة اللّه، وإزاحة العقبات التي تقف في وجه الدعوة إلى اللّه، بمحاربة أولئك الذين يحاربون اللّه، ويصدّون الناس عن سبيله.
والحقّ دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلّا من رزقهم اللّه الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد.. إذ الحق- في حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وتصدّ لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان في حرب متصلة مع نفسه، حتى إذا أقامها على الحق، وأسلم زمامها له، كان عليه أن يواجه النّاس، وأن يجاهد في سبيل الحقّ الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه، ولسانه، ويده.
ومن هنا كان الصبر قرين الحقّ في كل دعوة يدعو إليها الإسلام، في مجال الخير، والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان، والإنسانية، على صراط مستقيم.
ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هو عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، إذ يقول اللّه تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ثم يقرن- سبحانه- تلك الدعوة بقوله تعالى: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [24- 25: السجدة].
وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يتهدّده من تسلّط أهوائه، ووسوسة شيطانه، حيث يقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} لا يستثنى- سبحانه وتعالى- أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة العصر).
وفى قوله تعالى: {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} في هذا إشارة إلى ما وقع في نفوس فريق من المؤمنين- لا كل المؤمنين- من مشاعر الكراهية، حين عدل بهم عن وجهتهم التي اتجهوا إليها لاقتناص العير، والاستيلاء على ما تحمل من مال ومتاع، إلى حيث يلقون قريشا وجيشها الجرار في ميدان القتال.. ولهذا كان منهم هذا الجدال الذي تعللوا به للنكوص عن لقاء العدوّ، فقال قائلهم: ما خرجنا للقتال، ولا أخذنا أهبتنا له، ولاصحبنا إخوانما الذين خلفناهم وراءنا إليه!
والسؤال هنا: كيف يجادلون في الحق بعد ما تبين لهم؟ وكيف يكونون مؤمنين مع هذا؟ وهل من شأن المؤمن أن يجادل في الحق إذا عرف وجهه، واستبان له طريقه؟
والجواب:
أن الحقّ- وهو قتال المشركين- كان أمره ظاهرا لهم، بعد أن أفلتت منهم العير، إذ كان اللّه- سبحانه- قد وعدهم على لسان نبيّه الكريم بأنّهم سيظفرون بإحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير.. فلما أفلتت منهم العير، لم يبق إلا النفير والحرب.. فهذا حق مستيقن لهم، لاخفاء فيه.
ولكن يقوم إلى هذا الحق، تلك الرغبة القوية التي كانت مستولية على المؤمنين من قبل، وهى الاستيلاء على العير، وذلك شأن النفس دائما حين يكون خيارها بين أمرين، أحدهما محبوب، والآخر مكروه.. فإنها حينئذ لا تلتفت إلى غير المحبوب، حتى ليصبح المكروه عندها كأنه غير مفترض أصلا، فتنساه، أو تتناساه.. فإذا فاجأها هذا المكروه الذي أخرجته من حسابها وتقديرها، كان وقعه شديدا عليها، حتى لكأنه حدث طارئ لم تكن تتوقعه.. ومن هنا يكون إنكارها أو تنكرها له.
ولهذا جاء قوله تعالى: {كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} جاء كاشفا عن تلك الحال التي استولت على بعض المؤمنين، الذين وجدوا أمر القتال ثقيلا باهظا، حيث تمثلت لهم مصارعهم، وشهدوا الموت عيانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
فالطائفتان: هما.. العير والنفير.
وقوله تعالى: {أَنَّها لَكُمْ} هو وعد للمؤمنين بأنه ستقع ليدهم إحدى هاتين الطائفتين: العير أو النفير.
وذات الشوكة: أي صاحبة الشدّة والبلاء، وهى النفير ووصف النفير بأنه ذو شوكة، لما يلقاه المسلمون في لقاء النفير من أذى وضر.. إنه القتال والقتل!! وفى قوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} ما يسأل عنه.
وهو: ما هي كلمات اللّه التي يحقّ بها الحق، ويقطع بها دابر الكافرين؟
والجواب- واللّه أعلم- أن المراد بكلمات اللّه هي أحكامه التي يقضى بها في خلقه، وأن تلك الأحكام تصدر بقوله- سبحانه- للشيء: كن فيكون، وكل قول للّه تعالى، هو حقّ، يحق به حقّا، أي يقيمه، ويظهره.. فإذا قام الحقّ بطل الباطل.
ومعنى آخر لكلمات اللّه هنا، أحبّ أن أشير إليه، وهو أن المؤمنين الذين يعملون على إحقاق الحق، ويقاتلون في سبيله، هم أنفسهم كلمات اللّه، قد جعل اللّه إليهم الانتصار للحق، وإعلاء كلمته، وإبطال الباطل، وإزهاق أنفاسه.
وفى هذا تكريم للمؤمنين، وإعلاء لقدرهم، ورفع لمنزلتهم، بحيث كانوا كلمات اللّه، وجند اللّه.. بهم يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.
وإرادة اللّه لا شك غالبة قاهرة.
ومن هنا كان النصر دائما للحق، وكان الغلب دائما للمحقين، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ودابر الكافرين: دابر الشيء آخره، والمراد به قطع آخرهم واستئصالهم جميعا، إذ كان أولهم هو الذي يتلقى الضربة، فإذا بلغت تلك الضربة آخرهم كان معنى ذلك القضاء عليهم جميعا.