فصل: تفسير الآيات (9- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (9- 11):

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)}.
التفسير:
يتعلق الظرف {إذ} بقوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} أي إنّ إرادة اللّه بإحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين- قد رأيتم تحقيقها في هذا الوقت الذي كنتم تستغيثون فيه ربكم، وقد التقيتم بالمشركين في كثرتهم، وقلتكم.
وقوله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي حين واجهتم العدو، وأفزعتكم كثرته، وفزعتم إلى اللّه أن يمدكم بنصره- استجاب لكم ربكم، وأمدكم بألف من الملائكة مردفين، أي يردف بعضهم بعضا، ويجيء بعضهم إثر بعض.
وقوله سبحانه: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الضمير في {جعله} يعود إلى هذا المدد السماوي.. أي ما جعل اللّه هذا المدد السماوي الذي أمدكم به إلا بشرى للنصر الذي وعدكم به، ولتطمئن به قلوبكم، فلا يهولنّكم العدو وكثرة عدده، بعد أن علمتم أن اللّه معكم، وأن إشارات النصر وبشرياته قد جاءت إليكم، تحملها ملائكة الرحمن التي بعثها اللّه لتقاتل معكم.. فهل يغلب من كان اللّه معه؟ وهل يهزم من كانت جنود الرحمن تقاتل في صفوفه، ولو كان فردا يقاتل الناس جميعا؟
وهذه الجند المرسلة من السماء، ليست إلا ألطافا من ألطاف اللّه بكم في هذا الموقف الحرج، ترون منها بشائر النصر، وتجدون فيها ريح السكينة والطمأنينة- أما النصر فهو بيد اللّه وحده، فهو الذي كتب لكم النصر، وليست الملائكة التي قاتلت معكم.. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} له سبحانه، العزة، يعزّ بها من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر بها من يشاء، ويخذل من يشاء، حسب ما اقتضت حكمته.
هذا، وقد جاء المفسرون بكثير من الأخبار المروية عن الملائكة وقتالهم في بدر، حتى لقد ذكر في بعض الروايات، الصورة التي كان عليها الملائكة، وهم يقاتلون، والعمائم البيضاء التي يلبسونها، والخيل البلق التي يمتطونها، كما ذكرت روايات أخرى بعض أفعال الملائكة بالمشركين، وكيف كان بعض المقاتلين من المسلمين يهمّ بأن يضرب بسيفه رأسا من رءوس المشركين، فإذا به يجد هذا الرأس قد سقط عن جسده قبل أن يناله سيفه.. إلى كثير من تلك الأخبار التي يكثر فيها الخيال، حيث وجد القصاص مادة خصبة في هذا الميدان الذي لم تشهد الحياة مثالا له.. فما أن أمسك القصاص بهذا الخبر السماوي الذي يحدث عن المدد الملائكى للمسلمين، حتى أطلقوا لخيالهم العنان، فنسجوا حول هذه الحقيقة العجيبة ما شاء لهم الخيال أن ينسجوه من عجائب وغرائب!.
وفى قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ} ما يقطع بأن هذا المدد الملائكى لم يكن- كما قلنا- إلا قوى من قوى الحق، تظاهر الذين آمنوا وتثبّت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، وبهذا يصبح الواحد من المؤمنين برجح عشرة من المشركين، كما يقول اللّه تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [65: الأنفال].
فوجود الملائكة بين المؤمنين هو مما يشد أزرهم، ويريهم في أنفسهم أنهم أكثر من المشركين عددا، وأقوى قوة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا} [43: الأنفال] فالمسلمون بهذا المدد الروحي يرون المشركين في كثرتهم قلة، وبهذا يطمعون فيهم، ويثبتون لهم، على حين يراهم المشركون قلة كما هم في قلتهم، فلا يفرون من بين أيديهم، حتى تقع الواقعة بهم، ويقتل منهم من يقتل ويؤسر منهم من يؤسر: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا}.
فلو أن الملائكة كانوا هم الذين قاتلوا دون المؤمنين- لما كان للمؤمنين فضل في هذه المعركة، ولما كان لهم شرف هذا البلاء الذي أبلوه في هذا اليوم، بل ولما كان من النبيّ هذا الحال الذي استولى عليه ساعة بدء القتال، وهو الذي تلقى وحي السماء بهذا المدد الملائكى.. فإنه عليه الصلاة والسلام- يعلم أن هذا المدد لا يخلى المؤمنين من مسئولية حمل العبء في لقاء المشركين، وإن كان من ورائهم تلك القوة السماوية التي تظاهرهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.
وقد جاءت هذه الآية في غزوة أحد هكذا: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [126: آل عمران] وبين الآيتين اختلاف في النظم اقتضته الحال هنا وهناك.
ففى آية بدر، جاء قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى} على حين جاء هذا المقطع في آية أحد: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ}، مقيدا هذه البشرى بأنها للمؤمنين، وقد جاءت مطلقة في آية بدر!.
وحكمة هذا- واللّه أعلم- أن إطلاق البشرى في بدر كان حيث لا حساب لأحد غير المسلمين في هذه البشرى، إذ هي خالصة لهم، إذ كانوا جميعا في وجه العدوّ صفّا واحدا، ويدا واحدة.
أما في أحد فقد انقسم المسلمون على أنفسهم، وهمّت طائفتان منهم أن تفشلا، وانحاز عبد اللّه بن أبى بن سلول بشطر كبير من المسلمين، وكانت قولته هو وأصحابه: {لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ}.
فجاءت البشرى هنا على غير إطلاقها للمسلمين جميعا، وإنما هي للذين واجهوا العدوّ في أحد، والتحموا معه في القتال.. فكان قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ} إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين وجّهوا وجوههم إلى لقاء العدوّ، دون هؤلاء الذين نكصوا على أعقابهم.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} وفى آية أحد: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وذلك لأن حاجتهم في بدر إلى مجرد الاطمئنان كانت هي مطلبهم الذي يطلبونه في تلك الحال، وينتظرونه من الأفق الذي سيطلع منه.. فالمطلوب أولا هو هذا الذي يبعث فيهم الطمأنينة، وقد جاءهم في هذا المدد السماوي من ملائكة الرحمن.
وفى آية أحد كانوا قد عرفوا هذا الذي يطمئنهم، وعرفوا الأفق الذي يجيء منه، فلم يكن ثمّة داع يدعو إلى تقديمه في النظم، ليفصل بين الفعل وفاعله، فجاء النظم على الأسلوب المألوف.
وفى آية بدر جاء قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وجاءت آية أحد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} حيث جاء الخبر مؤكدا، في آية بدر، على حين جاء مطلقا من غير توكيد في آية أحد.. وذلك أن المسلمين في بدر كانوا يواجهون أول وعد للّه سبحانه لهم بالنّصر، فحسن أن يؤكد لهم هذا الوعد.. أما في أحد فقد كانوا على يقين ثابت بوعد اللّه، الذي رأوا عزّته، وحكمته، رأى العين، فيما تحقق لهم من نصر يوم بدر.
وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}.
الظرف {إذ} هنا متعلق بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي من مظاهر عزّة اللّه وحكمته في هذا اليوم أن أرسل عليكم النّعاس، فغشيكم، وطرق عيونكم، ولبس أجسادكم، فكان ذلك من بواعث الأمن والطمأنينة لكم.
إذ لا يطوف النوم إلا حيث تكون السكينة، ويكون الاطمئنان.
والأمنة: بمعنى الأمن، ولكنها قطعة من الأمن، وليست كلّ الأمن والضمير في {منه} يعود إلى اللّه سبحانه وتعالى.
وفى الحديث عن النعاس الذي غشّى المؤمنين يومئذ بأنه كان نعاسا، ولم يكن نوما، أو استغراقا في النوم- إشارة إلى واقع الحال الذي كان يشتمل جوّ المعركة، من اضطراب النفوس، وجزع القلوب، وحيرة العقول، وأن من نعم اللّه الجليلة في هذه الحال أن يطوف بالإنسان طائف من الأمن، بحيث يطرقه النعاس، الذي يذهب بكثير من خواطر الجزع والقلق، ويكسب على كيان الإنسان الجسدى، والنفسي راحة وروحا، يستقبل بهما العدوّ، وهو أكثر نشاطا، وأثبت قدما، مما لو كان قد بات ليلة الحرب يعالج الهموم، ويحارب في غير حرب، حتى يبدّد قواه، ويستهلك نشاطه، فيلقى العدوّ مهدّما محطّما.
وهذا النعاس- الذي غشى المسلمين- إنما كان ليلة الحرب، لا في ميدان القتال، كما يرى ذلك بعض المفسّرين.. فإن النعاس مطلوب قبل الالتحام في القتال، لا ساعة الالتحام، لأنه إعداد للمعركة وزاد من الاستجمام والنشاط يتزود به المقاتل.. أما وقوعه والمعركة دائرة والقتال محتدم، فهو عامل من عوامل الخذلان، لا عدّة من عدد النّصر.
والذي يؤيد أن هذا النعاس كان ليلة الحرب، وأنه كان نعمة من النعم التي ساقها اللّه للمؤمنين فيما ساق إليهم من نعم- الذي يؤيد هذا، أنه وصل بنعمة أخرى، صحبته، أو جاءت بعده، وهو نزول المطر في تلك الليلة، كما يقول اللّه تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ}.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ}.
هو بيان لما ساق اللّه إلى المسلمين يوم بدر من أمداد نصره وتأييده.
فإلى جانب الملائكة المرسلة إليهم، كان النعاس الذي غشّاهم اللّه به، فطرقهم جميعا.. ثم كان هذا المطر الذي نزل عليهم، فتطهروا به من الحدث الأكبر والأصغر، فكانوا على طهارة ظاهرة، تلتقى مع طهارة نفوسهم، وصفاء نيّاتهم للّه، والموت في سبيل اللّه.. وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان ووسواسه، الذي كان يلقى في روعهم أنهم لو قتلوا لماتوا على غير طهارة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعث فيهم شيئا من التخاذل والفتور، عند لقاء العدوّ.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} فيكشف عن أثر هذا الماء الذي أنزل اللّه عليهم فطهرهم به، وأذهب عنهم رجز الشيطان وثبت به أقدامهم، حيث اطمأنت قلوبهم بعد أن طهروا، فثبتت أقدامهم في موطن القتال، وسعوا إلى لقاء اللّه طاهرين! ومن جهة أخرى، فإن هذا الماء الذي أنزله اللّه عليهم ليلة القتال قد كان له أثره في تماسك الأرض من تحت أقدامهم، حيث اختلط الرمل بذرات التراب، فلما أمسك المطر، وجفت الأرض صار وجهها طبقة صلبة أشبه بالطين اللازب، فثبتت عليه أقدامهم، بعد أن طهرت أجسامهم، واطمأنت قلوبهم.

.تفسير الآيات (12- 19):

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} هو عطف بيان على قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} ولم يعطف على ما قبله عطف نسق، إذ كان الأمران كأنهما أمر واحد، إذ وقعا جميعا مرة واحدة، فلم يكن هناك فاصل زمنى بينهما. وذلك دليل على قدرة اللّه، الذي لا يشغله حدث عن حدث، والذي لا يغيّر من قدرته امتلاء الزمان أو المكان بالأحداث.
وقوله تعالى للملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ} إشارة إلى أن الملائكة، وإن كانوا على قوة لا حدود لها بالنسبة لقوة البشر، إلا أنهم مع ذلك يستمدّون القوة والعون من اللّه سبحانه وتعالى، شأنهم في ذلك أضعف مخلوقات اللّه، وأقلها حولا وحيلة.
وقوله سبحانه: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} بيان لما كان من الملائكة يوم بدر، وأنهم كانوا قوة معنوية، تبعث الطمأنينة في القلوب، أشبه بالدرع الواقي الذي يلبسه المحارب، وإن لم يكن له شأن معه في المعركة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}.
وقوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} إشارة إلى ما وقع في قلوب المشركين يومئذ من رعب، اضطربت له صفوفهم، وزاغت به أبصارهم.. وبهذا وذاك تمكّن المسلمون من رقابهم، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وقوله سبحانه: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} هو دعوة للمسلمين أن يحصدوا هذا الزرع الذي أصبحت قطوفه دانية لأيديهم، وبهذا يضاف هذا المحصول كله لهم، ويحسب من عمل أيديهم.. وهذا فضل من اللّه عليهم، ورحمة واسعة من رحمته بهم.
ولو شاء اللّه سبحانه أن يهلك المشركين من غير أن يبتلى بهم المؤمنين لفعل.. ولكن أين بلاء المؤمنين؟ وأين العمل الذي يضاف إليهم، ويؤجرون عليه؟
إنه من تدبير اللّه تعالى وحكمته، أن يبتلى الناس بعضهم ببعض، وذلك ليظهر في كلّ إنسان ما عنده من خير أو شر، وبهذا تنكشف للناس وجوههم، وتتحدد مواقفهم.
وفى قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ} إشارة إلى ما ينبغى أن يتجه إليه ضرب المؤمنين في جبهة المشركين، وهو أن يكون في المواطن التي تخمد بها أنفاسهم، أو تشل حركاتهم، وذلك بضرب الرءوس التي عشّش فيها الشرك، وأفرخ فيها الضلال، وضرب تلك الأيدى التي كانت تمتد بالأذى إلى المسلمين، وها هي ذى تريد القضاء عليهم.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.
هو بيان للسبب الذي من أجله أمر اللّه المسلمين بضرب هؤلاء المشركين هذا الضرب الذي مكنهم اللّه به من رءوس أعدائهم.. فهم قد شاقّوا اللّه ورسوله، أي خالفوهما، وعصوا أمرهما.. وليس جزاء من يشاقق اللّه ورسوله إلّا أن يلقى جزاءه عند اللّه، واللّه شديد العقاب.
قوله تعالى: {ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ} هو خطاب للمشركين، والإشارة هنا إلى هذا العذاب الذي صبّه اللّه عليهم، وجرّعهم كئوسه على أيدى المؤمنين.. وذلك هو جزاؤهم في الدنيا.. أما في الآخرة فلهم أنكى وأمرّ.. إنه عذاب النار.
وقوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ} هو درس للمؤمنين، يتلقونه في هذا الموقف، الذي شهدوا فيه آيات اللّه، ورأوا بأعينهم أمداد نصره وتأييده، فليكن ذلك درسّا لهم يتلقون منه العظة والعبرة، وليصحبهم هذا الدرس في كل موقف بعد هذا، يكون فيه بينهم وبين المشركين والكافرين قتال.. فهو نداء عام للمؤمنين، المجاهدين في سبيل اللّه، بأن يثبتوا للعدو، وأن يلقوه لقاء جادّا مصمما على النصر، أو الاستشهاد في المعركة، دون أن يدخل على أحد منهم شعور بالفرار من وجه العدوّ، أيّا كان الموقف، وأيّا كانت قوة المشركين وشوكتهم.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هو وعيد شديد لمن يدخل على نفسه من المؤمنين شعور بالهزيمة، فينكص على عقبه، ويعطى العدوّ دبره، في أي موقف من مواقف القتال بين المؤمنين والمشركين.. وقوله تعالى: {يومئذ} هو أىّ كان، لا يراد به يوم بعينه، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين بجعل، هذا اليوم خاصّا بيوم بدر.. وهذا فوق أنه غير متفق مع الدعوة العامة التي حملها القرآن الكريم إلى المؤمنين في آيات كثيرة بالثبات في الجهاد- غير متفق كذلك مع ترتيب الأحداث إذ أن سورة الأنفال، نزلت بعد بدر وأحداثها، وذلك باتفاق.
وحال واحدة هي التي يحقّ للمؤمن فيها أن يعطى العدو ظهره، وهو أن يتحرّف لقتال، أي يرى تغيير موقفه الذي هو فيه، ويتخيّر موقفا آخر، أمكن له، وأصلح لموقفه في القتال، أو أن يتحيز إلى فئة من المؤمنين، فينتقل من جماعة إلى جماعة، حيث يرى في ذلك مصلحة في النكاية بالعدوّ.. فهذا التولّى بالوجه عن مواجهة العدوّ هنا، هو لحساب المعركة، لا لحسابه، ولا للضنّ بنفسه عن أن يواجه العدوّ، ولو كان فيه الموت.
وفى التعبير عن الصدّ عن العدوّ، والفرار منه بتولية الدّبر، تشنيع على من يأتى هذا الفعل، وفضح له، إذ كان كأنما يكشف سوأته لعدوّه أو يعطيه دبره! وقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى} هو إشارة إلى أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو الذي مكنّ للمسلمين يومئذ من عدوّهم، وأن يد اللّه هي التي ضربتهم تلك الضربة القاضية، وأن المسلمين لم يكونوا إلا أسبابا ظاهرة، أجرى اللّه على أيديهم ما أخذ به عدوهم من بلاء في هذه المعركة.. وكذلك ما فعله النبيّ يومئذ حين قبض قبضة من تراب فرمى بها في وجه الكافرين، داعيا اللّه سبحانه أن يعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، ويأخذ على أيديهم.. فإن ذلك الذي كان من النبيّ لم يكن ليحدث أثره، إلا لأن اللّه سبحانه هو الذي جعل لهذه الرمية تأثيرها وأثرها.
وإذن فإن فوق يد المسلمين كانت يد اللّه.. وفوق يد النبي كانت يد اللّه.. وإذن فلا يحسب المسلمون أنهم بغير هذا المدد السماوي قد غلبوا عدوهم وقهروه، ولا يحسب النبيّ أنه برميته تلك التي رمى بها في وجوه المشركين قد فتح للمسلمين طريق النصر، لولا أن يد اللّه تقبلت رميته وباركتها.. وفى هذا وذلك ما يشعر بأن اللّه سبحانه مع نبيه ومع المجاهدين معه.
وإذا كان اللّه سبحانه هو الذي مكّن للمسلمين من عدوهم، ومنحهم هذا النصر، فما ذلك إلا {لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} حيث أعطاهم أجر هذا العمل العظيم، الذي هو في حقيقة الأمر لم يكن لهم يد فيه، فلو جرت الأمور على ظاهرها لكانت الدائرة عليهم، ولكان القتل والبلاء فيهم.. فليذكروا هذا، وليتزودوا منه يزاد الإيمان باللّه، وعقد العزم على الجهاد في سبيله.
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [40: الحج].
وفى وصف البلاء بأنه حسن إشارة إلى الوجه الآخر من وجوه الابتلاء وأنه قد يكون غير حسن كما يقول اللّه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [35: الأنبياء].
فقد عافى اللّه المؤمنين من أن يبلوا بالقتل، وأن يمتحنوا بالأسر، فذلك مما يبتلى اللّه به المؤمنين، ويجزيهم عليه.. ولكن رحمة اللّه بالمؤمنين في هذا الموقف الذي يلقون فيه الشرك لأول مرة، وينتصرون فيه لأنفسهم- جعلت الابتلاء بالخير دون الشر، وبالعافية دون البلاء.. فظفروا وانتصروا، وسلموا، وغنموا.. ورجعوا بالحسنيين جميعا.. المغانم في الدنيا، والجنة ونعيمها في الآخرة.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ}.
الإشارة هنا إلى ما للّه سبحانه وتعالى من رعاية لأوليائه، وتمكين لهم من أعدائهم.. فأولياؤه، المجاهدون في سبيله، هم أبدا محفوفون بنصره وتأييده، وأن ما يكيده الكافرون لهم لا يصل إليهم، إلا واهيا، ضعيفا، متخاذلا.
وقوله سبحانه: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.
هو تهديد ووعيد للكافرين، الذين يدلّون بقوتهم، ويعتزّون بكثرتهم.
فهاهم أولاء يشهدون بأعينهم كيف كان فعل اللّه بهم، وكيف أخذهم اللّه بيد أوليائه، ورماهم بالبلاء والذلة والهوان..؟
والاستفتاح: طلب الفتح، وهو النصر والغلب.
والخطاب في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ} هو للمشركين، وهو بلاء فوق البلاء الذي أصيبوا به في يوم بدر.. فقد جاءوا مستفتحين، أي طالبين النصر والغلب.. فهذا هو النصر الذي طلبوه، وذلك هو شأنهم أبدا مع المؤمنين.. إنهم لن يرجعوا إلا بنصر هكذا النصر الذي انقلبوا به، يحملون الخزي والعار، ويتركون في ميدان المعركة سادتهم وأشرافهم، أشلاء ممرغة في التراب! وفى قوله تعالى: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} في هذا ما يكشف عن المستقبل المظلم الذي ينتظر المشركين، إذا هم أصرّوا على موقفهم من المسلمين، ولم ينتهوا عماهم عليه من بغى وعدوان، فإن كثرة عددهم، وشوكة قوتهم، لن تغنى عنهم شيئا، ولن تدفع قضاء اللّه فيهم.
وفى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} تيئيس للمشركين من أنهم لن ينالوا من المسلمين منالا، وأن العاقبة للمؤمنين، لأن اللّه معهم.. فلينظروا.
هل ينتصرون على جبهة يكون اللّه معها؟ فليجربوا!! وقد جربوا فعلا، فكان هذا الذي سجله التاريخ للدعوة الإسلامية، وما كتب اللّه لأهلها من النصر والفتح المبين.. وكان هذا الوعد من القرآن الكريم في مطلع الدعوة الإسلامية معجزة من معجزاته، فيما كشف به عن حجب الغيب، وأنباء المستقبل.