فصل: تفسير الآيات (161- 162):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (161- 162):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}.
التفسير:
أما الذين أصروا على الكفر وماتوا عليه، دون أن يتطهروا منه بالتوبة والإيمان، فقد ضلّ سعيهم، وساء مصيرهم، ووقع عليهم من ربهم رجس وغضب، ومن الوجود كلّه- أرضه وسمائه- المقت واللعنة.
والضمير في قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها} يعود إلى اللعنة في قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} أي هم واقعون تحت هذه اللعنة، خالدين فيها أبدا، لا يخفف عنهم عذابها، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة أبدا.

.تفسير الآيات (163- 164):

{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}.
التفسير:
هذه دعوة إلى كل مخلوق: أن يشهد أن لا إله إلا اللّه ربّ العالمين، لا شريك له، رحمن السموات والأرض ورحيمهما.
وبين يدى هذه الدعوة، معارض مختلفة الصور والألوان لما أبدعت يد الخالق، وما أودعت قدرته وحكمته في هذا الوجود من آيات وشواهد، تحدّث بجلال اللّه وعظمته ووحدانيته.
وفي كلّ شيء له آية ** تدلّ على أنه الواحد

فنظرة مستبصرة في هذا الوجود تفتح للناظر أكثر من طريق إلى اللّه، إن هو احترم عقله، واستفتى قلبه!

.تفسير الآية رقم (165):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)}.
التفسير:
وإنه لضلال ما بعده من ضلال، وسفه ليس وراءه من سفه أن تكون دلائل القدرة، وشواهد الوحدانية مبثوثة في كل أفق، ناجمة في كل مكان، ثم يكون مع ذلك في الناس من لا يعرف طريقه المستقيم إلى اللّه فتتفرق به السبل إليه، فيرى اللّه بعين مريضة، وبقلب سقيم، وإذا اللّه عنده ربّ مع أرباب، وإله بين آلهة، فولاؤه للّه قسمة بينه وبين ما أشرك معه من آلهة وأرباب، وحبه للّه موزع مشاع بينه وبين الشركاء الذين جعلهم معه، وليس كذلك حبّ الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم للّه، فهو الحبّ كل الحبّ للّه وحده، لا شريك له فيه.
وقوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ} وعيد مزلزل لكيان أولئك الذين أشركوا باللّه وجعلوا له أندادا، وانتقال خاطف بهم إلى يوم القيامة وأهوالها، والنار الجاحمة المعدة لهم، وعندئذ يرون أن الملك للّه وحده، وأن القوة كلها بيده، لا يملك أحد منها مع اللّه شيئا، يدفع عنهم هذا العذاب المحيط بهم.

.تفسير الآيات (166- 167):

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
التفسير:
هنالك في هذا الموقف المتأزم الخانق، وبين يدى هذا الجحيم الآخذ بالنواصي والأقدام، يكثر التلفت إلى الوراء، وترتفع صيحات الحسرة والندم من الآثمين الضالين! وفى مشهد من تلك المشاهد تقع الملاحاة بين الأتباع والمتبوعين، ويتبرأ المتبوعون من الأتباع، وتتقطع بينهم أسباب التقارب والتواصل، ويترامون بالعداوة والبغضاء! والأتباع والمتبوعون هنا هم جميعا من أهل الضلال.. أما الأتباع فهم العامة، وأما المتبوعون فهم العلماء وأصحاب القيادة الدينية فيهم، إذ هم الذين زينوا للعامة هذا الضلال، وهم الذين حرّفوا لهم الكلم عن مواضعه، فأهلكوهم وهلكوا معهم جميعا.
فالمشهد هنا بين الأتباع والمتبوعين قائم على شفير جهنم التي يساق إليها الأتباع والمتبوعون معا.
ولما كان هؤلاء المتبوعون هم الذين زينوا لأتباعهم هذا الضلال الذي أوردهم موارد الهلاك، فقد وقع في أنفسهم حين رأوا العذاب الذي ينتظرهم، أن أتباعهم سوف يتعلقون بهم، ويسوقونهم للقصاص منهم، بتهمة التحريض والغواية لهم، إذّاك بادر هؤلاء المتبرعون وتبرءوا من أتباعهم، ونفضوا أيديهم من كل صلة بهم! وحين يجد الأتباع أنهم وقادتهم حصب جهنم، كما يقول اللّه تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ}: (33: الصافات) يتضاعف حزنهم وتشتد حسرتهم، ويقطّع اليأس نياط قلوبهم، حين لم ينالوا منالا من هؤلاء الذين غرروا بهم، وأوردوهم هذا المورد الوبيل! وإذ ذاك تنطلق ألسنتهم بكلمات تتميز غيظا ويأسا: {لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا} فهم إنما يتمتمون- في يأس مغلق- أن يردّوا هم ورؤساؤهم إلى هذه الدنيا، ليراجعوا حسابهم معهم على ضوء ما تكشّف لهم في هذا الموقف، وليصموا آذانهم عن كل دعوة باطلة يدعونهم إليها.
أما تبرؤهم منهم في الآخرة فإنه لا يجدى نفعا.. فقد دعوا إلى الضلال وأجابوا، وهاهم أولاء يجنون ثمرة ما زرعوا من شرّ، وما ثمّروا من إثم! {كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

.تفسير الآيات (168- 169):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)}.
التفسير:
تكشف هاتان الآيتان عن وجه آخر من وجوه الضلال، فكما يفسد بعض الناس على الناس تفكيرهم، ويفتنونهم في دينهم، كذلك تفسد نفس الإنسان على الإنسان تفكيره وتفتنه عن دينه، حين يسلم المرء زمامه لنفسه فلا يراجعها، ويتبع هواها حيث يميل به، والإنسان بما فيه من عقل وإدراك مسئول عن نفسه مسئولية لا يدفعها عنه إغواء المغوين ولا إضلال المضلين، حتى ولو كان وارد هذا الإغواء، ومهب ذلك الضلال نابعا منه، ومن نفسه التي بين جنبيه. وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالشيطان.. فسواء أكان الشيطان هنا أو هناك، بعيدا أو قريبا، فإنه لا يبدو للإنسان، ولا يجد له وجودا قائما في كيانه، وإنما هي وسوساته وخطراته، التي يقذفها في النفس، فتتحرك أهواؤها، وتتناغى بلابل شهواتها، فإذا لم يتنبه الإنسان لها، ويأخذ السبيل عليها، ملكته، وأسرته، وألقت به ليد الشيطان! فالشيطان، هو دعوة الضلال التي تساق إلى النفس، على لسان إنسان ضال مضلّ، وذلك هو شيطان الإنس، أو التي تتحرك من داخل كيان الإنسان فيجد مسّها في صدره ووقعها على نفسه، من وارد خفى، لا يدرى من أين جاء، وذلك هو شيطان الجن: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.

.تفسير الآيات (170- 171):

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)}.
التفسير:
هؤلاء الذين لم يستمعوا لنداء الحق، ولم يستجيبوا لدعوة العقل، فاتبعوا خطوات الشيطان، وأسلموا زمامهم ليده- هؤلاء قد ألغوا عقولهم، وباعوها بيع المفلسين.. بلا ثمن.
فإذا دعاهم داعى الحق: أن آمنوا بما أنزل اللّه، قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} هكذا يريحون أنفسهم من عناء التفكير والنظر، وحسبهم أن يقفوا آثار آبائهم، وأن يرثوا عنهم عقيدتهم، ويتلقوا منهم دينهم، كما يرثون ما خلّفوا من متاع، وكما يتلقون ما استقر فيهم من تقاليد وعادات!! والمجتمع الذي يحيا هذه الحياة، مجتمع مصيره إلى الضياع والبوار، لأنه أشبه بالبركة الراكدة، التي لا يلبث ماؤها طويلا حتى يفسد ويتعفّن! أما المجتمعات التي يكتب لها النماء والازدهار فهى المجتمعات التي يتجدد شبابها بالعمل المادي والعقلي، فتفيد من تجارب أسلافها، وتضيف إلى تلك التجارب جديدا يجلو صدأها، وينمّى ذاتها، ويستولد الجديد الكريم منها.
وماذا على هؤلاء الذين يدعون إلى الإيمان بما أنزل اللّه، لو نظروا بعقولهم في هذا الذي يدعون إليه، فإن صحّ في عقولهم، واستقام مع الحق البعيد عن الهوى، اتبعوه عن علم، ولا عليهم أن يكون موافقا أو مخالفا لما عليه آباؤهم.
فإن كان موافقا له، زاد إيمانهم إيمانا، ويقينهم يقينا، وإن كان مخالفا وقوا أنفسهم شرّ الهاوية التي كانوا سيهوون إليها، لو أنهم اقتفوا آثار آبائهم، وسلكوا مسلكهم! وفى قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً} تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا، فجمدوا على ما هم فيه، وأبوا أن يتحولوا عنه، ولو زلزلت الأرض بهم.
إنهم- وهذا شأنهم- لا يستمعون لداع، ولا يستجيبون لمناد، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه، يهتف به: أن أقبل، أو اتجه يمينا أو يسارا، أو ما أشبه ذلك، فلا تترجم هذه المعاني في سمعه إلا على أنها أصوات هائمة، لا معقول لها عنده، فتسقط الكلمات على أدنه كما تسقط الحجارة على الحجر! {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فلقد سدّت عليهم منافذ العلم، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة.
وفى قوله تعالى: {يَنْعِقُ} إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هي بالنسبة إليه نعيق، ولهذا عبّر عنها بما هي صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها!

.تفسير الآيات (172- 173):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.
التفسير:
هذا نداء إلى الذين آمنوا، والتفات إليهم بعد الانصراف عن أولئك الذين أصمّوا آذانهم عن دعوة الحق، وأغلقوا قلوبهم على ما أشربوا من التعلق بما كان عليه أسلافهم من ضلال.
وطيبات الرزق، هي الصفو الخالص من كل شائبة، وقد أبيح للمؤمنين كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث، حتى لا يدخل على أجسامهم من الطعام إلا الطيب، كما لم يدخل على عقولهم من الدين إلا الحق.
وما أهلّ به لغير اللّه، هو ما لم يذكر اسم اللّه عليه، وذبح قربانا لمعبود غير اللّه.
وفى قوله تعالى {غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} ضبط للقدر الذي يقف عنده المضطر حين يدعوه الاضطرار إلى تناول شيء من هذه المحرّمات، فلا يفتعل الاضطرار، ولا يركب الأمور التي يعلم أنها ستدخله مداخل الاضطرار وهو قادر على ركوب غيرها فإذا دخل منطقة الاضطرار من غير بغى، فلا ينال من هذه المحرمات إلا القدر الذي يمسك عليه حياته، ولا يلقى به في التهلكة.
من غير عدوان ومجاوزة الحدّ، الذي يحفظ النفس من التلف.

.تفسير الآيات (174- 176):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
التفسير:
من الذين يأكلون السحت ويملئون بطونهم بالحرام، أولئك الذين عندهم علم الكتاب من أهل الكتاب، ثم يكتمون علمهم هذا، ولا يؤدون الشهادة على وجهها إذا دعوا ليدلوا بما عندهم من علم، في أمر ما، بل يحرّفون ويبدلون، لقاء الاحتفاظ برياسة دينية لهم على الناس، أو انتصارا للمشركين على المؤمنين في مقابل ثمن معلوم.
فهؤلاء إنما يأكلون في بطونهم النّار في هذه الحياة الدنيا، لأن هذا الطعام الذي يأكلونه إنما هو مما باعوا به دينهم، وبهذا صاروا أهلا للنّار، وقد أعدت أجسامهم التي نمت من هذا الطعام الحرام لتكون وقودا لتلك النار! وفى قوله تعالى: {فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} صوت يتردد من خارج النار التي تلتهم أولئك الذين مكروا بما أنزل اللّه، فاشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، إنه صوت أولئك الذين نجاهم اللّه من هذا البلاء، يعبّرون به- في دهشة واستغراب- عن صبر هؤلاء الأشقياء الذين تأكلهم النار وهم يتقلبون على جمرها.. إن كل من يطلع عليهم لا يملك إلا أن يستهول هذا الهول الذي هم فيه، ويتعجب من احتمالهم له، وصبرهم عليه! واستحضار هذه الصورة في الدنيا، فيه تنفير من هذا الموقف الأليم، وتحذير من هذا المصير المشئوم! والإشارة في قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ} واردة على هذا المصير البغيض، الذي صار إليه أولئك الذين كتموا ما أنزل اللّه من الكتاب واشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا، وأنهم إنما استحقوا هذا الجزاء السيّء لانحرافهم عن الحق عن علم.. ذلك بأن اللّه نزل الكتاب ناطقا بالحق، وقد عرفوه، فلا عذر لهم إذا هم تنكبوا طريق الحق، وركبوا شعاب الباطل والضلال!.

.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}.
التفسير:
يحسب علماء أهل الكتاب أن مراسيم العبادات وصورها وأشكالها التي يقفون عندها، بحيث لا تنفذ آثارها إلى باطنهم، ولا تؤثر في سلوكهم- يحسبون أن ذلك هو غاية الدين، ومقصد الشرع، فنعى اللّه عليهم ذلك، وكشف سوء فهمهم للدين، وقصر نظرهم إلى الشرع.
فالدين معتقد وعمل، وعبادة وسلوك، وغرس وثمر! وفى الآية الكريمة أكثر من نظر:
ففى قوله تعالى: {وَفِي الرِّقابِ} وهو معطوف على ما قبله.. وكان سياق النظم يقضى أن يكون: والأرقاء أو نحو هذا، حيث أن المال المدعوّ إلى بذله، إنما يبذل لذوى القربى واليتامى، والمساكين وابن السبيل والسائلين، أي أنه يقدم لأيد محتاجة إليه، ولأشخاص يسدون به حاجاتهم، وهو مع الأرقاء لفك رقابهم، ولكن لما كان الرقيق يمكن أن تفك رقبته من غير أن يأخذ هو المال في يده، بأن يشترى من مالكه ثم يعتق بيد شاريه، أو يكون ملكا بشراء أو بغير شراء ثم يعتقه مالكه- فعتقه هنا إنما هو بذل المال، وإن لم يكن مقبوضا. ولهذا كان لفظ القرآن هو اللفظ الذي لا لفظ غيره في هذا المقام: {وفى الرقاب} أي وإنفاق المال في فك الرقاب، وتخليص الأرقاء وتحريرهم.
وفى قوله تعالى: {وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ} عطف جملة على جملة، حيث عطف الفعل {أقام الصلاة} على قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي البرّ:
من آمن باللّه... وأقام الصلاة وآتى الزكاة!.
وإيتاء الزكاة، بعد بذل المال على ذوى القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفى الرقاب- هو فرض واجب، على حين أن البذل المدعوّ إليه قبل ذلك، هو من قبيل التطوع الذي لا تسقط به فريضة الزكاة!.
قوله تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} معطوف على {من آمن} أي البر هو آمن باللّه واليوم الآخر، و... و... والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي والذين أوفوا بعهدهم إذا عاهدوا.
قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} قطع للصابرين عما قبلها، منصوبة على الاختصاص، إظهارا لفضل الصبر، وأنه ملاك كل أمر، كما بينا ذلك من قبل.. إذ لا وفاء بتكليف إلا مع عزيمة، ولا عزيمة إلا مع الصبر، وبالصبر.
والبأساء: الحاجة والفقر، والضراء: ما يصيب الإنسان في ماله أو نفسه، أو أهله، وحين البأس: أي حين الحرب والقتال.