فصل: تفسير الآيات (55- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (55- 60):

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
هو التعقيب المناسب لما أخذ به الظالمون من بلاء ونكال.
إنّ هذا الحكم هو الذي تشيّعهم به الحياة، وهم يعالجون سكرات الموت، إذ كانوا في حرب مع اللّه، ومع أولياء اللّه.. فكيف يرحمهم قلب، أو تدمع عليهم عين؟
وفى قوله تعالى: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بعد قوله سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا} في هذا ما يسأل عنه: إذ كيف يكون نفى الإيمان عنهم مسبّبا لكفرهم، مع أن عدم الإيمان هو عين الكفر.. والسبب لا يكون عين المسبّب، وإن كان نتيجة لازمة من لوازمه؟.
والجواب- واللّه أعلم-: أن كفر هؤلاء الكافرين الذين وصفوا بأنّهم شرّ الدّوابّ عند اللّه.. إنما يتلبس بنفوس خاصّة، من جماعة من الكافرين، لا بكلّ الكافرين.. وتلك الجماعة هي التي من شأنها ألا تخلع هذا الكفر أبدا، بل تشدّ قلوبها عليه، حتى تموت به! ومن هنا استحقت تلك الجماعة هذا الوصف الذي وصفها اللّه سبحانه وتعالى به، وهى أنها شرّ ما دبّ على الأرض من كائنات، وذلك لأنها لا تعقل كما يعقل الناس، ولا تسمع كما يسمع الناس، ولا تبصر كما يبصر الناس.. ثم هي ليست من دوابّ الحيوانات، تعيش، في حدود الطبيعة المتاحة لتلك الدواب، وإنما هي خلق آخر.
مزيج من الإنسان والحيوان.. وذلك مسخ للإنسان، وللحيوان معا، وبهذا المسخ يكون هؤلاء الآدميّون الحيوانيّون شرّ الدّواب، طبيعة وخلقا.
فقوله تعالى: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} حكم قاطع، قاض على هذا الصنف من الكافرين بأنه لن يدخل الإيمان قلبه أبدا.. وهذا الصنف هو الذي ذكره اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} [6- 7:
البقرة].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}.
هو بدل من الذين كفروا، وهذا البدل يكشف عن صفة من صفات هؤلاء الكافرين. وهى أنهم لا يحفظون عهدا، ولا يرعون ذمة، إذ لا وازع عندهم، من دين أو خلق.
وفى قوله تعالى: {عاهَدْتَ مِنْهُمْ} إشارة إلى أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم لم يدعهم إلى أن يعاهدهم بما عاهدوه عليه، بل إنهم هم الذين جاءوا إلى النبي يعرضون عليه عهدهم بالأمان والموادعة بينهم وبينه، وأن النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه أجابهم إلى ذلك، وقبل منهم العهد الذي أعطوه.
وفى نقضهم لهذا العهد الذي جاءوا هم به من تلقاء أنفسهم، وأعطوه عن رضى واختيار- في نقضهم لهذا العهد، الذي هو في الواقع عهدهم، خيانة لأنفسهم، فوق أنه خيانة للعهد من حيث هو عهد، يجب الوفاء به على أي حال.
وفى قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} بعد وصفهم بقوله سبحانه: {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} في هذا إشارة إلى أنّهم متحللون من كل قيد يمسك بهم على خلق فاضل، ويقيمهم على مبدأ كريم.. إنهم لا يتقون أي محظور تحظره الشرائع السماوية، أو تجرّمه القوانين الوضيعة والمواضعات الخلقية.
والمراد بهؤلاء الذين ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه الرسول، هم جماعات اليهود الذين كانوا بالمدينة، يثيرون الفتن، ويذيعون المنكر، ويحيكون الدسائس، وينتهزون الفرصة المواتية لينالوا من النبي والمؤمنين ما يريدون من شر.
ثم إن هذا الحكم هو حكم عام، يقيمه المسلمون دائما فيما بينهم وبين الكافرين.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
هو الجزاء الذي أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى به هؤلاء الكافرين، الذين لا يؤمنون باللّه أبدا، والذين ينقضون عهدهم مع النبيّ، ويلقونه في الجبهة المحاربة له كلما سنحت الفرصة لهم، سواء أكان ذلك بأشخاصهم، أم بأموالهم وأسلحتهم، يمدّون بها أعداء المسلمين.
فهؤلاء الذين يقفون من النبيّ ودعوته، هذا الموقف اللئيم المخادع، لا عهد لهم، ولا ذمة لهم عند النبيّ والمسلمين، ما داموا قد غدروا ونكثوا.. فليس لهم عند النبيّ والمسلمين إذا ظفروا بهم في حرب، أو أمكنتهم أيديهم منهم في أي موقف- ليس لهم إلا الضربة القاصمة القاضية، وإلا البلاء ينصب عليهم انصبابا، ينالهم في أنفسهم، وأموالهم وأهليهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، ومثلا سائرا في الناس، لكل من ينقض العهد مع النبيّ والمسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
والتعبير بالظفر بهم، ووقوعهم ليد النبي بقوله تعالى {تَثْقَفَنَّهُمْ} إشارة إلى أن الحرب ليست كلّها انتقاما، واستئصالا للمغلوب، وإنما هى- في صميمها- إصلاح له، وحيدة به عن طريق الضلال والغواية الذي يركبه، إلى طريق الحق والهدى، المدعوّ إليه.. إذ كثيرا ما تنتهى الحرب بين المسلمين وأعدائهم، وإذا أعداد وفيرة من هؤلاء الأعداء، قد تحوّلوا إلى أولياء، ودخلوا في دين اللّه، وكانوا من عباده المؤمنين.
وهذا هو السرّ في التعبير بكلمة {تثقفنّهم} بدلا من كلمة تظفر بهم.
إذ الثّقاف هو من يتولّي إصلاح الرماح، وتقويمها، بما يقتطع من أجزائها، وأطرافها، وبما يسوّى من نتوئها.
فالحرب في الإسلام أشبه بالثّقاف للرماح، غايتها الإصلاح، والتقويم، ولكن الحرب هنا مع هذا الصنف من الناس، الذين يغدرون بالنبيّ، وينصبون المكايد له بالخديعة والختل، إذ يجيئون إليه موادعين مسالمين، ثم ينقلبون ذئابا محاربين- هؤلاء، لا يرجى لهم إصلاح، ولا يتوقع منهم خير {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أبدا.. وإذن فليس لهم إلا الضربة القاضية، التي لا تبقى منهم على دار ولا ديّار، حتى يكونوا في ذلك عبرة لغيرهم.. {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} أي فرّق بهذا الذي تأخذهم به من بلاء ونكال، كلّ مجتمع للضلال وتبييت السوء للمسلمين، ممن ينتظرون ما وراء كيد هؤلاء الكافرين بالمؤمنين.
فكلّ من تحدثه نفسه بخيانة عهد المسلمين من بعد تلك الضربة التي نزلت بهؤلاء الخائنين- سيجد أمام ناظرية مثلا حيّا لما ينتظره من بلاء ونكال في هذا الذي أخذ به هؤلاء القوم، وبهذا تنحلّ عزائم الذين يدبرون الشرّ للمسلمين، ويتشتت جمعهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
إذ الضمير في كلّ من {لعلهم} و{يذكرون} راجع إلى هؤلاء الذين يأتون بعد هؤلاء الذي نكّل بهم النبيّ وضربهم الضربة القاضية.. ففى الضربة التي حلت بهؤلاء موعظة وذكرى لهؤلاء الذين لم يظهروا بعد على طريق الغدر والخيانة! قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} هذه الآية تكشف عن وجه مشرق وضيء من وجوه الإسلام- ووجوه الإسلام كلها مشرقة مضيئة- في رعاية العهد وحفظه والوفاء به.
لقد أشارت الآية السابقة إلى ما يدبر أعداء الإسلام للمسلمين من كيد، ومكر، ونكث بالعهد، ونفاق فيما عاهدوهم عليه.. وأنهم ينقضون العهد الذي أعطوه من أنفسهم للنبىّ.. في كل مرة يجيئون إليه فيها معاهدين.
وحتى لا يعامل المسلمون أعداءهم بمثل عملهم هذا، وحتى لا يدخل على نفوسهم شيء من هذا الداء الخبيث الذي استولى على نفوس أعدائهم، من نقض العهد، وخيانة الكلمة- حتى لا يكون شيء من هذا في مجتمع المسلمين، جاءهم أمر اللّه، فيما أمر به نبيه، ورسم له فيه أسلوب العمل، الذي يعامل به هؤلاء الناكثين للعهد.. فقال سبحانه: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ}.
أي إن استشعرت خيانة من قوم بينك وبينهم عهد، وتوقعت أن ينكثوا هذا العهد على غرّة، دون أن يؤذنوك بنكثه، والتحلل منه، فلا تفعل فعلهم، ولا تنقض العهد منهم في خفاء بينك وبين نفسك، كما يفعلون، بل أنذرهم بذلك، وأعلمهم إياه، {على سواء} أي على وضوح كامل، بصريح اللفظ، دون التلويح به.. وذلك ليكونوا على بيّنة من أمرهم، فلا يدخل في حسابهم بعد هذا، العهد الذي بينك وبينهم، وبهذا يسقط العهد من هذا الحساب، ويعدّون أنفسهم للحرب، كما أعدّ النبي والمسلمون أنفسهم لها.
قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} هو تطمين لقلوب المسلمين، ودفع لوساوس الخوف، التي تطرقهم وهم يعطون من أنفسهم الوفاء لعدوهم بالعهد الذي بينهم وبينه، على حين أنه يغدر بهم، ويباغتهم بهذا الغدر، فكيف يحاربهم العدو بسلاح ثم يحرم عليهم محاربته بهذا السلاح؟ فليطمئن المسلمون، وليعلموا أن هؤلاء الذين خانوا العهد، لم يسبقوا بتلك الخيانة إلى أخذ فرصة في المسلمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من خيانة- قد تعرضوا لبغض اللّه وغضبه. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ} وحسبهم هذا خسرانا وبلاء!
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
لقد سلط اللّه النبيّ والمسلمين على هذا العدوّ المتربّص بهم، الكائد لهم، وأمرهم بأن يضربوهم الضربة القاضية التي تأنى عليهم، وتكون مثلا وعبرة لغيرهم.
ولكن.. ما الذي يمكّن للنبى والمسلمين من أن يبسطوا يدهم على عدوّهم وينزلوه على حكمهم فيه؟ إنه لا شيء إلا القوة التي يكون عليها المسلمون في الرجال والعتاد.
ومن هنا أتبع القرآن الكريم الأمر بتأديب العدوّ وبسط اليد عليه- أتبع ذلك بالأمر باتخاذ الوسائل المحققة لهذا الأمر، وذلك بالأخذ بكل أسباب القوة، التي ترجح بها كفة المسلمين في ميادين القتال، ومصادمة العدوّ.
وفى قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، أمر باتخاذ القوة، والعمل على بنائها، والتوسل إليها بوسائلها، ومن أهم تلك الوسائل الخيل.
إذ كانت في هذا الوقت أقوى مظهر من مظاهر القوة والفروسية.. فحيث كانت الخيل، وكان فرسانها، كانت القوة والمنعة.
وفى التعبير عن الخيل بقوله تعالى: {وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} إشارة إلى الإكثار من الخيل، وإعدادها للحرب، وتدريبها على القتال، وحبسها على هذا المجال، فلا تتخذ لغرض آخر، بل تكون دائما مرصودة للقاء العدوّ، مهيأة للاشتباك معه في أية لحظة.. إنها مرابطة كما يرابط المجاهدون على الثغور لحماية المسلمين، وسد الثغور التي ينفذ منها العدو إليهم.!
وفى قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} الضمير في {به} يعود إلى رباط الخيل، وأنه مصدر رهبة للعدوّ. إذا كان هذا الرباط من الكثرة والإعداد على صورة يهابها العدوّ ويعمل حسابها.. وهذا يعنى استعراض تلك القوة المعدّة من الخيل وفرسان الخيل، وإظهارها بحيث يراها العدوّ، ويرى فيها ما يرهبه، ويقتل في نفسه كل داعية من دواعى الطمع في المسلمين، وفى لقائهم على ميدان القتال.. وهذا يعنى أيضا أن يكون هذا الرباط على صورة محقّقة لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدوّ، وإلا كان ستر هذا الرباط وإخفائه أولى وأحكم من إظهاره.
وهذا يعنى كذلك أن الإعداد للحرب ليس لإشباع شهوة الحرب، وإنما هو لإرهاب العدوّ أولا، حتى ينزجر، ولا تحدّثه نفسه بالحرب حين يرى القوّة الراصدة له. ومن هنا يرى أن الإسلام دين سلام، يعدّ للحرب، حتى تجتمع له القوة الممكنة له من النصر والغلب، ولكنه لا يبدأ الحرب، ولا يسعى إليها، وإنما يجيء إليها مكرها، ويدخل فيها مدافعا، لا مهاجما!! وفى قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} إشارة وتنبيه للمسلمين إلى ألّا يكون حسابهم في إعداد القوة مقصورا على هذا العدوّ الظاهر لهم، ومقدورا بقدره، بل يجب أن يعملوا في تقديرهم حسابا لأعداء آخرين، لم يظهروا لهم، ولم يواجهوهم بعداوة أو قتال.
وهذا يعنى أن يبذل المسلمون كثيرا لإعداد هذه القوة التي يحاربون بها أعداءهم الذين يرونهم، والتي يرصدونها للعدوّ الخفىّ الذي لم يظهر لهم بعد.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} جاء داعيا إلى البذل والإنفاق في سبيل اللّه، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى سيؤتى المنفقين أجرهم، ويجزل لهم العطاء، فلا يضيع شيء مما بذلوا وأنفقوا، لأن في ضياعه ظلما لهم.. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} أي إن مال الأعداء إلى السّلام والموادعة، ورغبوا فيهما فارغب فيهما أنت أيها النبي أيضا، فتلك دعوة إلى خير وأمن وعافية، لا ينبغى- حقّا وعدلا ومصلحة- رفضها والتأبّى عليها.
وأصل {الجنح} و{الجنوح} من {الجناح} إذ كان هو الذي يميل بالطائر إلى الجهة التي يريدها، فهو أشبه بقلع المركب، إذا فرده، وضمّ الجناح الآخر امتلأ ذلك الجناح المفرود بالهواء، ودفع بالطائر إلى الاتجاه الذي يقصده.
فهما إذن جناحان، على جانبى الطائر، يعملهما حيث يشاء، فيتجه يمينا أو يسارا، أو إلى أي اتجاه يقصد.
وكذلك الإنسان في دوافعه ونزعاته، له جانبان، أو جناحان يخفقان في كيانه، مهيآن لدفعه إلى أي اتجاه يشاء.. إلى السلم، أو الحرب، مثلا.. فإن هو أراد السلم، فرد جناح السّلم، فدفع به إلى جانب السلام والموادعة، وإن هو أراد الحرب، فرد جناح الحرب فألقى به في ميدان القتال وساحة الدماء.
فهذا هو بعض سرّ التعبير القرآنى عن دعوة السلام، بالجنوح {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}.
ذلك أنهم كانوا بين داعيين، داع يدعو إلى الحرب، وداع آخر يدعو إلى السلم، ثم رجح فيهم الداعي الذي يدعو إلى السلام، وفى هذا إغراء وتحريض على قبول تلك الدعوة التي تدعو إلى السّلم، فهى وجه جميل طيب، في مقابل الوجه الكريه الذميم، وجه الحرب.
قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تحريض آخر للنبى بقبول الدعوة إلى السّلم، إذ كان في حراسة، من توكله على اللّه واعتماده عليه.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} هو تحريض ثالث للنبىّ على الاستجابة إلى دعوة السّلم التي يعرضها عليه الأعداء، وألا يردّه عن قبول تلك الدعوة ما يكون عند القوم من نيّة للغدر، فاللّه سبحانه وتعالى سيكفى النبيّ والمسلمين سوء ما يفعلون.. ذلك أن هؤلاء الأعداء قد خانوا وغدروا، فتعرضوا لسخط اللّه وغضبه، فوق ما أخذهم اللّه به من سخط وغضب لكفرهم وشركهم باللّه.
أما النبيّ والمؤمنون، فقد اتقوا اللّه، ووفوا بالعهد الذي دعاهم اللّه إلى الوفاء به، فكان سبحانه وتعالى معهم، يؤيدهم، وينصرهم على عدوهم.
{فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي يكفى أن يكون اللّه معك، يؤيدك، وينصرك.. {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.
فلقد نصرك اللّه من قبل، وردّ عنك بأس القوم الظالمين، فلم تغنهم كثرتهم من اللّه شيئا.. وقد نصرك اللّه كذلك بالمؤمنين، الذين لم ترهبهم كثرة العدوّ وقوته، بل لقد ألقوا بأنفسهم في حومة القتال، وهم على نية الاستشهاد في سبيل اللّه.. فكانوا جندا من جنود اللّه معك.
وفى عطف {المؤمنين} على قوله تعالى {بنصره} تكريم لهؤلاء المؤمنين الذين اجتمعوا إلى النبيّ، وقاتلوا تحت رايته.. وأنهم قوة من قوى الحق، وجند من جنود اللّه، ينصر بهم من يشاء من عباده.
وقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}.
معطوف على قوله سبحانه: {أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي إن من فضل اللّه عليك، ومن القوى التي أمدّك بها، أنه سبحانه أمدك بأسباب النصر والظفر على العدوّ، بما جمع لك من جند آمنوا باللّه، وأخلصوا النية للجهاد في سبيل اللّه.. وأن اللّه سبحانه قد نظر إليك وإليهم، فألف بين قلوب جندك هؤلاء، وجمعهم على الإيمان باللّه، والإخاء في اللّه، فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا، ومشاعر واحدة.
وذلك ما لا يكون إلا عن فضل من اللّه، وبهذا الفضل توحدت قلوب المؤمنين، واجتمعت على الولاء للّه، ولدين اللّه، ولرسول اللّه.. الأمر الذي لا تستطيع قوة بشرية أن تحققه في أي مجتمع إنسانى، على تلك الصورة، ولو أنفقت في سبيل ذلك كل ما في هذه الدنيا من مال ومتاع.
الحرب والسلام.. في الإسلام:
الإسلام دين رحمة وسلام، وليس كما يفترى عليه المفترون أنه دين سيف ودماء.. وكيف وظاهر الإسلام وباطنه جميعا، سلم، وسلام؟ فاسمه الإسلام مشتق من السلام، والسلامة، والسلم، وشارات التحية بين أتباعه، ومن أتباعه، السلام، والرحمة، والبركة.. أما شريعته وأحكامه، فكلها قائمة على اليسر والرحمة، والسلام، بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الناس جميعا.
وحقّا إن الإسلام قد دعا أتباعه إلى الحذر من العدوّ، والإعداد للحرب، والأخذ بأسباب القوة.. وذلك لأن الإسلام دين واقعىّ، يعايش الحياة في أعدل أحوالها، ويستقى من أعذب عيونها، وأصفى مواردها، وليس مجرّد أحكام ومقررات نظرية، يتمثلها الناس ولا يحققونها، ويتصورونها ولا يتعاملون بها، أشبه بما يقع في تصورات الفلاسفة وخيالات الشعراء، إن سعد بها أصحابها في أحلام يقظتهم، فإنهم لم يمسكوا منها بشيء إذ هم فتحوا أعينهم على الحياة وواقعها.
والإسلام يريد لأتباعه يكونوا قوة عاملة في الحياة، وأن يعمروا الأرض، ويبسطوا سلطانهم على القوى الكامنة في الطبيعة، ليحققوا قول اللّه تعالى لهم:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}.
ولن يكون ذلك إلا إذا أخذ المسلمون الحياة كما هى، بواقعها، وما يزخر فيها من خير وشر! فليست الحياة إلا مزيجا من الخير والشر، وليس الناس إلا عالما من الأخيار والأشرار.. ولن يسلم لإنسان وجوده، ولن ينتظم لجماعة شأنها إلا بصحبة الحياة والناس على هذا المفهوم، الذي يجمع الخير والشر، ويقابل بين الأخيار والأشرار.
فمن الحكمة ومن الواجب إذن، أن يقيم الإسلام أتباعه في الحياة على طريق بين الخير والشر.. وهم في هذا الطريق مدعوون إلى التعامل مع الخير، ثم هم في الوقت نفسه مطالبون بتجنب الشر والأشرار، وأخذ حذرهم منه ومنهم جميعا.
والشر والأشرار دائما مسلّطون على الأخيار.. إن سالموهم فلن يسلموا منهم، وإن كفّوا أيديهم عنهم بسطوا هم أيديهم إليهم بالبغي والعدوان.
هكذا تجرى الحياة فيما بين الشر والخير، وفيما بين الأشرار والأخيار! كانت دعوة المسيح- عليه السلام- دعوة كلها سلام خالص، بل هي استسلام مطلق لكل ظلم وبغى وعدوان.. هكذا كانت دعوة المسيح، وهكذا كانت سيرته وسيرة حوارييه وأتباعه، تحكمهم جميعا دعوة المسيح المشهورة، والتي تكاد تكون عنوان الرسالة المسيحية: سمعتم أنه قيل عين بعين، وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا (5: إنجيل متى).
فماذا كان نتاج هذه الدعوة؟ هل سلم أتباعها من الأشرار؟ وهل كان موقفهم السلبي من المعتدين الآثمين شفيعا يشفع لهم عند هؤلاء المعتدين، أو يخفف ممّا يرمونهم به من ضر وأذى؟ وهل سلم المسيح نفسه إذ سالم الناس، واستسلم لهم؟
الحق أنّ ذلك كان إغراء لأهل السوء بأهل الصلاح والتقوى.. إذ أنهم ما إن علموا بأن المسيح وأتباعه لا يقابلون الشرّ بالشرّ والعدوان بالعدوان، حتى تسابقوا إلى مدّ يديهم إلى هذه المائدة الممدودة، لكل من يريد إشباع شهوته إلى البغي والعدوان، أو إرواء ظمئه إلى التسلط والقهر وإذلال الناس.. فما أكثر الجياع في الناس إلى البغي والعدوان، وما أكثر الظمأى فيهم إلى التسلط على الناس وقهرهم وإذلالهم..!
فكم لقى المسيح ولقى أتباعه من ضرّ وأذى؟ وكم احتملوا من بلاء وعذاب؟ لقد كانت خطوات المسيح وخطوات أتباعه معه، على طريق ملطخ بالدماء.. دمائه ودماء أتباعه وحدهم.. وليس قطرة دم مراقة من هؤلاء الذين أراقوا دماءهم.
ولحكمة ما أراد اللّه سبحانه للمسيح أن يأخذ هذا الطريق، وأن يحمل تلك الدعوة، ويجرى تلك التجربة في الحياة.
إنها دعوة قاسية، تسير في اتجاه مضاد لسير الحياة.. وقد أرادها اللّه سبحانه هكذا، لعنة من اللعنات التي صبّها على اليهود وأخذهم بها في كل مرحلة من مراحل تاريخهم مع الأنبياء والرسل.
فالمسيح- عليه السلام- هو نبىّ إلى اليهود خاصة، ودعوته مقصورة عليهم لا تتعداهم إلى غيرهم.
وقد جاءهم المسيح بتلك الدعوة التي إن استقاموا عليها، كان فيها إذلالهم، وجعلهم موطئا لأقدام الناس.. وإن هم أبوا أن يقبلوها، ويأخذوا أنفسهم بها كانوا كافرين باللّه، مأخوذين بما أعدّ اللّه للكافرين من خزى في الدنيا عذاب مهين في الآخرة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن اللّه قد أخذ اليهود بأحكام دينية، غايتها تأديبهم وإعناتهم وإذلالهم، لا إصلاحهم، وتقويمهم.. فقد حرم عليهم العمل في يوم السبت، كما حرم عليهم ما أحل لغيرهم من طيبات الطعام.. وذلك مما لا تحتمله النفس، أو تصبر عليه.. واليهودىّ من هذا بين أمرين: إما أن يمتثل أمر اللّه فيه فيهلك، أو لا يمتثله فيكفر.!
نقول: إن تجربة السّلم أو الاستسلام تلك التي دعا إليها المسيح، وعاش فيها قد كشفت عن حقيقة لا شك فيها، وهى أن الحياة ترفض هذه التجربة، ولا تقبلها كمبدأ من المبادئ العاملة فيها.
والمسيح نفسه قد أنهى هذه التجربة في الأيام الأخيرة من حياته، وردّ إلى أتباعه وحواريّيه حقهم في الحياة في الدفاع عن أنفسهم.
يقول المسيح في آخر موقف له مع تلاميذه: (حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية.. هل أعوزكم شيء؟ فقالوا: لا، فقال لهم:ممكن الآن من له كيس فليأخذه. ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا). [22: لوقا]!! إن السيف أمر لابد منه لدفع العدوان، ولردع المعتدين.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}.
تلك هي سنّة اللّه في خلقه، وذلك هو واقع الناس فيما أخذهم اللّه به من سنن.
فالقول بأن الإسلام دين قام على السيف، دعوى كاذبة مضلّة، يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم، كما يراد بها النيل من الإسلام وشريعته.. إنها دعوة خبيثة مسمومة، يراد بها أن تنهزم في نفس المسلم معانى العزة والقوة، لأنه إن أراد أن يسقط تلك الدعوى الباطلة، ويدفع هذه التهمة الظالمة، كان أقرب سبيل إليه هو أن يتجرد من كل سلاح، وأن يتعرّى من كل قوة.. وما حاجته إلى السلاح إن كان السّلاح سبّة تدين دينه، وتريه منه أنه دين بداوة وهمجية، وشريعة غاب، يحكم مجتمعها التناطح بالقرون، والتقاتل بالمخالب والأنياب؟
هذه هي الحركة النفسية التي تحدثها تلك الدعوى الماكرة في نفوس المسلمين، حين يلقون آذانهم إلى هذه التخرصات الفاسدة، التي تجعل القوة التي يبعثها الإسلام في مجتمعه، شارة دالّة على بدائية هذا الدين وتخلّفه.
وتلك الحركة النفسية من شأنها أن تفعل فعلها في تفكير المسلمين، وفى سلوكهم، فتصرفهم صرفا حادا عن كل سبب من أسباب القوة، وبذلك يخلو الطريق للعدوّ المتربص بالإسلام والمسلمين، فتمكنه الفرصة من التسلط عليهم، والاستبداد بأوطانهم وأرزاقهم.. الأمر الذي وقع على أبشع صورة وأشنعها، إذ وقعت أوطان المسلمين جميعها فريسة للاستعمار، الذي سلط عليها سيف القوة، فسلبها كل مقومات حياتها المادية والخلقية، وكاد يسلبها حياتها الروحية، لولا وثاقة هذا الدين، الذي يجرى في مشاعر أهله، جريان الدم في العروق.
والحق أن هذه الدعاوى الباطلة التي يدعيها المدّعون على الإسلام، وأنه دين بداوة وشريعة غاب، يتعامل مع الناس بالظّفر والناب- هذه الدعاوى لا يقف أمرها وخطرها عند حدّ تشكيك المسلمين في الإسلام وانحلال الرابطة التي تربطهم به أو توهينها، أو في صرف غير المسلمين عن الالتفات إلى الإسلام، بإثارة هذا الجوّ المريب حوله، حتى لا ينظر فيه أولئك الذين خلت نفوسهم من الدّين، من أهل أوربا وأمريكا، الذين اصطدمت معارفهم العلمية بقضايا الدّين الذي ورثوه ميراثا عن آبائهم وأجدادهم، والذي استبان لهم منه بعد أن عرضوه على أضواء العلم الحديث أنه لا يلتقى مع عقل، ولا يستقيم على منطق، فهجروه، وزهدوا فيه، وأصبحوا على غير دين، الأمر الذي لا يبصرون طويلا عليه، إذ لابد أن يطلبوا دينا، تعيش فيه مشاعرهم، وتتغذى منه أرواحهم، حيث لا يمكن أن يعيش إنسان- أي إنسان- من غير دين.
وليست موجات الإلحاد التي تغزو أوربا وأمريكا الآن إلا عرضا طارئا، جاء نتيجة لازمة لما كشف عنه العقل الحديث، من مفارقات بعيدة، بين الدّين الذي كان في أيديهم، وبين منطق العقل، وواقع الحياة.
إن أهل أوربا وأمريكا ينشدون اليوم دينا، يملأ هذا الفراغ الروحي الذي يعيشون فيه، ولو أنهم التقوا بالإسلام على حقيقته، وتعرفوا على موارده الصافية، لما مدّوا أبصارهم إلى دين غيره، ولكانوا من المؤمنين باللّه، إيمانا قائما على دعائم ثابتة، تملك عقولهم وقلوبهم على السواء.
وتلك حقيقة يعرفها عن الإسلام أولئك الذين يحاربون الإسلام، ويخشون منه هذا الغزو السلمى المكتسح، الذي من شأنه- لو قدّر له أن يتصل بالنّاس اتصالا مباشرا من غير أن يثار في وجهه غبار الضلال ودخان الإفك- أن يقوض سلطان المتسلطين على الناس هناك باسم الدين، وأن يسلبهم هذا الجاه العريض الذي يعيشون فيه.. تماما كما فعل مشركو قريش حين جاءهم الإسلام فأنكره سادتهم وحاربوه، وهم يعلمون أنه الحق من ربّهم، ولكنه الحق الذي يسلبهم منزلتهم في الناس، ويسوّى بينهم وبين عامة الناس، فآثروا السلطان الذي في أيديهم، مع العمى والضلال، على الحق الذي عرفوه وأنكروه!.
ومن أجل هذا كانت تلك الحرب المسعورة التي يشنها أصحاب الرياسات الدينية ومن في حكمهم، على الإسلام، حتى يسلم لهم ما في أيديهم من جاه وسلطان، ولو هلك الناس، وغرقوا في الضّلال، ودانوا بالكفر والإلحاد!.
ومع هذا كله، فإن المستقبل للإسلام، وستكشف الأيام وجهه المشرق الوضيء للناس يوما، إن عاجلا أو آجلا، وسيصبح هذا العنوان الذي اتخذه {الإسلام} عنوانا له، وسمة دالة عليه- هو دين الإنسانية كلها، وبهذا يتحقق قول الحق جلّ وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}، وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
هذه حقيقة نؤمن بها إيماننا باللّه، وبدين اللّه، وبكتاب اللّه.. وإن هذه الرّميات العمياء التي يرمى بها الإسلام لن تنال منه، ولن تقف في طريق أنواره أن تملأ الآفاق، وأن تبسط على الأرض سلطانها، لأنها نور من نور اللّه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
ونعود إلى قضية السيف التي يدّعيها المدّعون على الإسلام، وأنه قام عليه، وفتح طريقه إلى القلوب به- فنقول:
إنه لو كان أمر الإسلام أمر قوة، لما كان في الحياة اليوم إنسان يدين بالإسلام، ولما كانت دعوة الإسلام أكثر من حدث من أحداث التاريخ، عاش في الحياة زمنا، ثم طواه الزمن فيما طوى من وقائع وأحداث.
فهل هذا هو واقع الإسلام؟ وهل هذا هو شأنه في وقائع الحياة وأحداثها؟
إن الأمر لعلى عكس هذا تماما.
وإن شهادة الواقع لا تحتاج إلى بيان.. فهى ناطقة بأفصح لسان، بأن دولة الإسلام تزداد على الأيام امتدادا واتساعا، وأن زحفه السلمىّ المكتسح لم يتوقف لحظة واحدة، حتى في أقسى الظروف وأحلكها، التي مرّت بالإسلام وألقت بكل ثقلها عليه.
لقد قطع الإسلام من حياته المباركة أربعة عشر قرنا.. وأنه إذا سلّمنا بالقول بأن الإسلام قام على السيف والقوة، في أول حياته، فإنه محال أن يسلّم بالقول بأن ذلك السيف وتلك القوة قد صحبا الإسلام، وكانا مستندا له على امتداد هذا الزمن كلّه.
فما عرف الناس في الحياة قوة تظل حارسة ساهرة لمبدأ من المبادئ أو نزعة من النزعات، أكثر من سنوات معدودات.. لجيل أو جيلين.. أما أن تظل هذه القوّة قرونا متطاولة من الزمن، قائمة على حراسة مذهب من المذاهب، أو نزعة من النزعات، فذلك ما لم يكن ولن يكون أبدا.. فإن القوة إنما تخدم غرضا ذاتيا يعيش في كيان إنسان من الناس، أو جماعة من الجماعات، ولن تتجاوز حياتها بحال حياة هذا الإنسان أو تلك الجماعة.. ثم يموت المبدأ أو المنزع، بموت القوة التي أقامته، وحرسته! ونفترض جدلا أن تقوم قوة ما لخدمة غاية من الغايات أجيالا متعاقبة، ونفترض جدلا كذلك، أن هذه الأجيال قد تواصت فيما بينها على اتخاذ هذه القوة حارسة على هذه الغاية التي تنشدها وتعيش فيها.
فهل حدث هذا في المجتمع الإسلامى؟ وهل كانت القوة دائما إلى جانب الإسلام، تحرسه، وتدافع عنه؟
التاريخ يشهد شهادة لا شك فيها- وواقع المسلمين اليوم ينطق بها- بأن دولة المسلمين التي قامت في صدر الإسلام، والتي كان لها ما كان من قوة وسطوة- هذه الدولة، قد تفككت وانحلت بعد ثلاثة قرون، وعراها الوهن والضعف، وأصبحت دولة الإسلام إمارات ودويلات متنابذة متخاصمة، وخضع كل صقع من أصقاع هذه الدولة، لقوى غاشمة طاغية، تضمر للمسلمين كل عداوة، وترصد للإسلام كل شر.
لقد وقع الإسلام والمسلمون في وجه عواصف عاتية جائحة، للغزو البربري، الذي كان من شأنه أن يدمر كل شيء، ويأتى على كل شيء، لولا قوة هذا الدين، وما غرس في أتباعه من معالم الحق والخير.. وحسبك أن تذكر هنا الغزو التترى، أو الغزو المغولى.. فما مرّ أحدهما بمواطن من المواطن إلا أحاله خرابا يبابا.. ثم حسبك أن تذكر الحروب الصليبية، ثم الاستعمار الغربي الذي تسلط على قارتى أفريقيا وآسيا، حتى لقد كانت مواطن الإسلام كلها تحت يده.. فما حلّ الاستعمار بأرض إلا أجدبت من كل خير، وأصبحت مرعى خصبا لآفات الجهل والفقر والضعف.. ومع هذا كله، ومع ما أصاب المسلمين من بلاء، فقد بقي الإسلام في قلوب أهله متمكنا قويّا، لا يتحولون عنه أبدا، ولو أخذوا بكل ألوان الضر والأذى، في أموالهم وأنفسهم، أو جيء إليهم بكل مغريات الحياة من مال ونساء على يد المستعمرين والمبشرين.
فتاريخ الاستعمار للدول الإسلامية، يؤلف كتابا ضخما، أسود الصفحات، لما كان يأخذ به المستعمرون الأمم الإسلامية بصفة خاصة، والعربية بصفة أخص، من بغى وعدوان، وتسلط قاهر، على مقومات الحياة في تلك الأمم، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية، وما تلقّاه عنها أهلها من لغة وعادات وتقاليد، وذلك ليضعفوا الصّلات التي تصل المسلمين بدينهم، وليوهنوا من الأسباب التي تربط بين جماعاتهم.. ومع هذا كله فقد بقي الإسلام متمكنا في القلوب، راسخا في الضمائر، مختلطا بالمشاعر، لم يسلم للمسلمين شيء غيره، مما كان لهم في هذه الدنيا، التي سلبهم الاستعمار إياها، أو قتلها، حيث لم يكن له حاجة فيها.. وكان الإسلام دائما هو القوة التي يستند إليها المسلمون، كلّما خذلتهم قوى الحياة جميعا، من علم، ومال، ورجال.
وتاريخ التبشير في المحيط الإسلامى يحدّث عن أكبر هزيمة، وأعظم خيبة منى بها عمل من الأعمال، أو أصيب بها حركة من الحركات، أو انتهت إليها دعوة من الدّعوات.
فما استطاعت تلك الحملات التبشيرية التي رصدت لها دول أوربا وأمريكا الأموال الضخمة، وجنّدت لها العقول الجبارة- ما استطاعت هذه الحملات أن تنال من الإسلام منالا، أو أن تحوّل مسلما واحدا عن دينه، أو تفتنه فيه، بل كان المسلم الأمّىّ الساذج، يفحم بفطرته السليمة، وبعقيدته السمحة الواضحة كلّ منطق، ويخرس كل ذى لسان، حتى يرفع بصره إلى السماء قائلا:
{لا إله إلا اللّه}.
!
فإذا ادّعت حملة من حملات التبشير أنها استطاعت بحولها وحيلتها أن تخرج مسلما عن إسلامه، فقد كذبت وافترت، لتخدع أولئك الذين يمدونها بالمال، كى يدوم لها هذا المدد. فإنها- وقد فاتها الكسب الديني- حريصة على ألا يفوتها الكسب المادىّ من هذا المال الذي يتدفق إليها في سخاء من كل جهة، وإنه لمال كثير، أثرى به عدد وفير من أدعياء الدين، الذين يتخذون التبشير تجارة لهم، ودعاية للاستعمار، وتمكينا للمستعمرين.
نريد من هذا أن نقول: إن الإسلام بقوته الذاتية، هو الذي حمى المسلمين في ساعات العسرة، وأمسك بهم على ضربات الزمن القاتلة، وأمدهم بأمداد لا تنفد من القوى الروحية، التي لم تنل منها يد التسلط والبغي، ولم تنفذ إليها ضربات المتسلطين والباغين.. وإنه لولا الإسلام لما بقي لمواطن المسلمين معلم من معالم الحياة، يعرفون به مكانهم في هذا التيه الذي رماهم الزمن به.
فالمسلمون ليسوا هم الذين وسعوا رقعة الإسلام، ومكّنوا له في الأرض، ودفعوا به إلى كل أفق من آفاقها، بل الإسلام نفسه هو الذي جعل للمسلمين دولة.. والإسلام نفسه هو الذي غذّى هذه الدولة بأسباب الحياة والنّماء.
والإسلام نفسه هو الذي كان الدرع الواقية والحصن الحصين لأهله، يلوذون به، ويستظلون بجناحه، كلما لفحهم هجير الحياة، وتعاوت حولهم الذئاب.
إن الذي كان يمكن أن يكون موضع طعن في الإسلام لمن تسوّل له نفسه الطعن فيه، هو أن يتجه بذلك إلى مبادئه وأحكامه.. أهي حقّ أم باطل؟ أهي خير ورحمة للإنسانية أم هي شر ووبال عليها؟ وهل سعدت الإنسانية في ظل الإسلام أم شقيت؟ وهل هذه الملايين التي تدين بالإسلام اليوم مكرهة عليه، وواقعة تحت قوة قاهرة، تحملها عليه، وتلجئها إلى التمسك به؟.
هذا ما كان ينبغى أن يكون مدار هذه الدعوى، إن كان لابد من دعوى يدعيها أعداء الإسلام على الإسلام.
أما تلك الدعوى الخبيثة التي تتجه اتجاها مباشرا إلى تجريد المسلمين من القوّة، وخلق عقدة نفسية بينهم وبينها، فذلك هو الغرض الذي تحاول تلك الدعوى أن تحقّقه في المجتمع الإسلامى، ليتعرّى من القوة وأسبابها، وليظل أعزل من كل سلاح، على حين يعمل أعداء الإسلام والمسلمين جاهدين على الإعداد للقوة، والأخذ بكل أسبابها.
ثم ما الإسلام؟ أهو مجرّد مبادئ وأحكام ملقاة في العراء، لا يلتفت إليها أحد، ولا يتأثر بها إنسان، أم هو مبادئ وأحكام، يؤمن بها الناس، ويعيشون في ظلها، ويعملون بوحيها؟
وقد يصح أن يكون الإسلام مجرد مبادئ وأحكام، وذلك في معرض الدراسات النظرية التي تعنى بدراسة الأفكار وتمحيصها، دراسة فلسفية نظرية، بعيدة عن مجال التطبيق العملي لها.
أما حين تصبح هذه المبادئ وتلك الأحكام في مواطن العقول، وفى قرارة القلوب، وفى خلجات الضمائر، ومسرى المشاعر، فإنها إذا ذاك لا يمكن أن تكون شيئا منفصلا، له حقيقة مستقلة، تقع عليها أحكام خاصة بها.
فدعوى أن الإسلام قام على السيف، لا يمكن أن توجه إلى الإسلام في مبادئه وأحكامه، وقد رأينا كيف عاش وسيعيش الإسلام بلا سيف ولا قوة، قرونا متطاولة، لا تنتهى إلا بانتهاء الحياة.
وإنما تتجه هذه الدعوى- قبل كل شيء- إلى المجتمع الذي يدين بالإسلام، ويعيش في ظلّ أحكامه وتعاليمه.
ومع هذا نستطيع أن نقول إن وجه الدعوى يجب أن يكون على هذا الوضع: المجتمع الإسلامى مجتمع قام على السيف.. وحينئذ يمكن أن تسمع هذه الدعوى، وتكون موضع نظر وبحث.
فالدعوة الإسلامية- في ذاتها- لم تقم على السيف، وإنما الذي قام على السيف وكان لابد أن يقوم عليه دائما، هو المجتمع البشرى الذي انضوى تحت لواء هذه الدعوة، ثم امتدّ وامتدّ حتى صار دولة عريضة طويلة، تنتظم شطر العالم أو أقلّ من شطره قليلا.
وطبيعى أن مجتمعا كهذا المجتمع في الامتداد والسّعة، لا يمكن أن يكون أعزل من السلاح، مجرّدا من القوة.. فإن طبيعة الحياة تأبى أن يعيش الضأن مع الذئاب.. بل لابد أن يكون هناك توازن في القوى، وإلّا، فالويل للضعيف! إن المجتمع الإسلامى- كأى مجتمع في الحياة- له ذاتيته المتميزة، وله وجهته وفلسفته في الحياة.. وطبيعى أن تقوم في ظلّ هذه المعاني عصبية، هي التي تجتمع عليها الأمم والشعوب، وتقيم منها وحدة مميزة في مشاعرها، ومنازع أفكارها، ومتجه سلوكها.. كما كان لابد أيضا أن يتعصب على هذه الأمم وتلك الشعوب أعداء يخافون قوتها، أو يطمعون في ضعفها، ومن هنا يكون الصراع الذي لابد منه في الحياة، والذي لابد له من قوة، ولابد لهذه القوة من سيف، بل ومن سيوف! ونعود فنذكّر من نسى، فنقول: إن اليوم الذي تخلّى فيه المسلمون عن القوة، كان هو اليوم الذي فيه حينهم ومصرعهم، بأيدى من يملكون القوة.
ثم لم يكن للمسلمين من قوة يستندون إليها إلا الإسلام، الذي منحهم الإيمان، والصبر، والعزم، وعمر قلوبهم باليقين بأن شاطئ النجاة قريب منهم، إن هم تمسّكوا بدينهم، وقاموا على شريعته، وأخذوا بهديه، والتمسوا أسباب القوة المادية التي أمرهم اللّه بها في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} إلى جانب القوة الروحية التي عمر الإسلام قلوبهم بها.. ومن خلال هذه المشاعر كانت تنقدح في صدور المسلمين شرارات الأمل والرجاء، فيشتدّ عزمهم، ويقوى إيمانهم، وتذهب وحشتهم، وهم في صحبة دينهم، وفى ظلّ مما يفيء عليهم من خيره الكثير.
فلنحذر إذن هذه الدعوى الخبيثة، التي تجعل من تهم الإسلام عندها، أنه قام على السيف، ولنعدّل موقفنا تجاه هذه الدعوى، فإننا- عن حسن نية- قد علمنا جاهدين على دفعها، وتبرئة ساحة الإسلام منها، كما أننا حمدنا لبعض المستشرقين- ونواياهم معروفة- ما كان منهم من دفاع في تبرئة ساحة الإسلام من هذه التهمة!! فليكن الإسلام قام على السيف أو لم يكن، وإنما الحقيقة التي لا جدال فيها هو أننا الآن- أمم المسلمين- ندين بالإسلام.. دينا في قلوبنا، ينير طريقنا في الحياة، ويسدّد ويثبت خطانا على مواقع الحقّ، كما أننا ندين أو يجب أن ندين بالقوة، سلاحا في أيدينا نحمى به مجتمعنا، ونصون بها مقدّساتنا، وندفع بها يد المعتدين على أوطاننا.