فصل: تفسير الآيات (6- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (6- 15):

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}.
التفسير:
تمضى الآيات بعد هذا في تقرير الأحكام التي تنتظم الصّلات التي بين المؤمنين وأعدائهم من المشركين والكافرين.
فبعد أن قضى اللّه بنقض العهود التي بين المشركين والمسلمين، وإمهالهم أربعة أشهر يتدبّرون فيها أمرهم، استثنى اللّه سبحانه وتعالى من هؤلاء المشركين من عرف المسلمون منهم الوفاء بالعهد، فأبقى على عهودهم إلى انتهاء أجلها المضروب لها، ثم أمر اللّه المسلمين بأن يأخذوا المشركين حيث وجدوهم، وأن يقتلوهم حيث ظفروا بهم، وذلك مع استثناء من بقي لهم مع المسلمين عهد.
وهنا في هذه الآيات استكمال لهذه الأحكام.
ففى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} بيان لحكم من جاء من المشركين مستجيرا بالنبيّ، طالبا الأمان منه.
ففى غير ميدان القتال، وفى حال السّلم، قد يرى بعض المشركين أن يلتقى بالنبيّ، ليعرف الدعوة الإسلامية، وليعرض على عقله وقلبه ما يدعو إليه الإسلام، وذلك حقّ له، يجب ألّا يحرم منه.. ليكون إيمانه على علم، وفى غير إكراه.
ولهذا أمر اللّه سبحانه النبيّ الكريم أن يستجيب لدعوة من يدعوه إلى طلب الأمان في جواره، وذلك حتى يسمع كلام اللّه، أي حتى يسمع ما نزل على النبي من قرآن يقرر أصول الإسلام، وأحكام شريعته، ثم إن لهذا المستأمن أن يطلب النّظرة إلى الوقت الذي يسمح له بالنظر والتدبر فيما سمع من كلام اللّه، وأن يجاب إلى هذا، حتى ينقطع عذره، وتقوم عليه الحجة.
فإن وجد فيما سمع ووعى من كلام اللّه ما يدعوه إلى الإيمان، ثم آمن.
فهو في المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم.
وإن أصمّ اللّه سمعه، وأعمى بصره، وحجب بصيرته، فلم تنفذ شعاعات الهدى إلى قلبه، وآثر الضلال على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، فإن له ما اختار.. لا سلطان لأحد عليه، ولا سبيل لأحد أن يناله بضرّ أو أذى، فهو الآن في ذمة النبيّ، وذمة المؤمنين جميعا.. وعلى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يضمن سلامته، وأن يكفل له الأمن والطمأنينة ما دام في رحاب المسلمين.. ثم إن أراد النبيّ، أو رغب هو في أن يلحق بأهله، أجيب إلى هذا، ووكل به النبيّ من المسلمين من يقوم على حراسته، وسلامته، حتى يبلغ مأمنه، أي المكان الذي يجد فيه الأمن بين أهله وعشيرته.
ألا فلتخرس ألسنة الذين يقولون إن الإسلام دين قام على السيف وإراقة الدماء!! فهذا صنيع الإسلام مع أعدائه حين لا يكون منهم حرب معه، أو عدوان عليه.. إنه سلم خالص، وإنسانيّة في أرفع منازلها.. فلا إكراه في الدين، ولا عدوان على من يختلفون مع المسلمين اختلافا قائما على البحث والنظر.
وليس في الدعوات دعوة تحترم العقل، وتمنحه حقه المطلق في النظر والاختيار- كدعوة الإسلام، التي لا تفرض سلطان الحق الذي بين يديها، على أي ذى عقل، ولو كان عقلا جهولا محمّقا! ذلك أن الإسلام ليس من همّه امتداد ظلّه على مساحات ممتدة من الأرض، ولا التسلط على أعداد كثيرة من الناس، شأن الغزاة والفاتحين، فمثل هذا لا يقيم في القلوب دينا، ولا يثبت في الأرض عقيدة.. وإنما الذي يهمّ الإسلام أولا وأخيرا، هو أن يجد العقول التي تتقبّل دعوته، والنفوس التي تستجيب لها، والقلوب التي تعمر بها.. ولا عليه بعد هذا أن يقلّ أتباعه أو يكثروا، وأن تتسع دولته أو تضيق.. إذ ليست دعوة الإسلام لحساب فرد أو جماعة، وإنما هي خير ممدود للناس، فمن طعم منه، واستطابه، فذلك له، ومن أعرض عنه وتحاشى الأخذ منه فليس لأحد عليه سلطان:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} إشارة داعية إلى الرفق بهؤلاء المشركين الذين جاءوا ليعرضوا الإسلام على عقولهم، فهم على جهل وجفاء، وفى ظلام جاهلية طال عليهم الأمد فيها.. وإذ كان هذا شأنهم، فإن من شأن من يتولّى الاستشفاء لهم من دائهم، أن يترفق بهم، حين يراهم يعشون عن النور، ويعمون على الهدى.
وفى قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
هو عرض للوجه العام للمشركين، بعد هذا العرض لأفراد منهم، استجابوا للرسول، واستأمنوه، ليروا ما بين يديه من الدين الذي يدعوا إليه.
وفى هذا العرض ينكشف ما عليه المشركون عامة، من غدر وخيانة، وتربّص بالمسلمين.. فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، عند المسلمين.. باستثناء أولئك الذين أمضى المسلمون عهودهم معهم إلى المدة المتفق عليها فيما بينهم وبين هؤلاء الجماعات من المشركين، وهم الذين استثناهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ}.
فهؤلاء المشركون سيظل المسلمون على عهدهم معهم، ما داموا هم على الوفاء بعهدهم، فإن بدا منهم ما يستشعر منه المسلمون غدرا أو خيانة، نقضوا هذا العهد، وقطعوا تلك المدة التي تضمنها العهد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
وفى قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} تحذير للمؤمنين من أن يأمنوا جانب المشركين أيّا كانوا، حتى هؤلاء الذين لم يظهر للمسلمين منهم غدر أو خيانة.. فذلك إن يكن وجه مقبول من وجوههم، فإن وراء هذا الوجه وجوها كثيرة منكرة، وإنه ليس بالمستبعد منهم أن يغدروا وأن يخونوا في أية فرصة تسنح لهم.. وإنه لو أمكنتهم الفرصة في المسلمين لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة.
و{الإلّ} القرابة.. كأنها مشتقة من الآل التي بمعنى الأهل والأقارب.
{والذمة}: العهد الذي يصير به كل من المتعاهدين في ذمة الآخر، أي في ذمامه وحوطه، بحيث لا يجيء إليه منه أذّى.
والاستفهام في قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} استبعاد من أن يبقى المشركون على عهد بينهم وبين المسلمين.. وإن كانت بينهم وبين المشركين قرابة نسب أو عهود موثقة، والمستفهم عنده هنا محذوف، لدلالة الحال عليه، وهو: كيف يحفظون لكم عهدا، وهم عداوة تمتلئ بها صدورهم بغضة وشنانا لكم، حيث لا يجدون شفاءا لما في صدورهم من هذا الداء إلا أن يأخذوكم بالبأساء والضرّاء؟... فهم- والحال كذلك- لا يمسكون معكم بعهد إلا ربّما تمكنهم الفرصة فيكم، وإذن فاحذروهم، وكونوا منهم دائما على توقع الغدر بالعهد، والتحفز للوثوب عليكم.
وفى قوله تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ}.
هو كشف للمؤمنين عمّا في نفوس المشركين من عداوة وبغضاء لهم، وأنهم إذا ألانوا الكلام مع المؤمنين، وأسمعوهم طيّب الكلم ومعسول القول، فإن ما في صدورهم على خلاف هذا.. {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} أي خارجون عن الطبيعة السليمة للإنسان السليم. ومع هذا فإن قليلا منهم فبه بقيّة من خير، يمكن أن تكون طريقا هاديا له إلى الحق، والإيمان، إذا هو عرف كيف ينتفع بها، ولم يذهب بها، مذهب الضياع والفساد.
وقوله تعالى: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين رغبوا عن آيات اللّه، وأعرضوا عن الهدى الذي تحمله إلى من يتصل بها، ورضوا بما هم فيه من حياة لاهية هازلة.
{يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
لقد صدّوا عن سبيل اللّه، فساء عملهم، وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وليس في الأمر بيع ولا شراء.. ولكن لما كانت آيات اللّه في معرض النظر لكل إنسان، وكان من شأن هؤلاء المشركين أن يؤمنوا بها، وأن يجعلوها بضاعتهم التي يتعاملون بها، وزادهم الذي ينزودون منه، فهم- والأمر كذلك- في حكم من أخذوا آيات اللّه، وإذ لم ينتفعوا بها، ولم يأخذوا بحظهم منها، فكأنهم باعوها واشتروا بها هذه الحياة التي يحيونها، وهذا المتاع القليل الذي يعيشون فيه! {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ}.
قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}.
هو توكيد لبيان ما يحمل المشركون للمسلمين من عداوة، وما يرصدون لهم من كيد، وما يدبّرون من بغى وعدوان.. وذلك أمر يجب أن يعلمه المسلمون، وأن يستيقنوه، وأن يأخذوا حذرهم منه، وإلّا استحوذ عليهم المشركون، وفتنوهم في دينهم، وأوقعوهم في بلاء عظيم.
قوله تعالى: {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} في هذا ما يكشف عن سماحة الإسلام، وإنسانيته، وأنه ليس لحساب فرد، أو جماعة، أو أمة، وإنما هو حظ متاح للناس جميعا.. وأن هذه الحرب التي تدور بين أتباعه وأعدائه، والتي يحتمل فيها هؤلاء الأتباع ما يحتملون من ابتلاء في أموالهم وأنفسهم- هذه الحرب ليست لحساب أحد، وإنما هي من أجل هذا الدين، ولحساب هذا الدين.. ومن هنا كان مطلب المسلمين المجاهدين أولا وقبل كل شيء، هو هداية الناس، وابتغاء الخير لهم.. فإذا اهتدى الضال، وآمن المشرك، ونزع الكافر عن كفره- كان ذلك هو الجزاء الحسن الذي يسعد به المسلم، والغنيمة العظيمة التي يجد فيها العزاء لكل ما أصيب به، في نفسه، أو ماله.
ولهذا، فإن هؤلاء المحاربين للمسلمين، والمعتدين على الإسلام، هم على تلك الصفة، والمسلمون على موقفهم العدائى معهم، ما داموا على حالهم تلك، فإذا هم تحولوا عن موقفهم هذا، ودخلوا في دين اللّه- انقلبوا في الحال أولياء للمؤمنين، وإخوانا لهم، قد ذهب إيمانهم باللّه بكل ما كان لهم في نفوس المؤمنين من بغضة وعداوة.
وفى قوله تعالى: {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} دعوة للمشركين أن يتدبروا أمرهم فيما بينهم وبين هذا الدين الذي يدعون إليه، وإنهم لو نظروا بقلوب سليمة، وعقول تنشد الحق، وتطلب الهدى، لعلموا أن دعوة الإسلام لا تقوم على عصبية قبليّة، أو طائفية، أو من أجل جاه أو سلطان، وأنه لو كان هذا شأنها لما كان دخولهم الإيمان شفيعا يشفع لهم عند المسلمين، ويعفى على ما اقترفوه في حقهم من آثام، ولما قبل منهم المسلمون إلا الاستسلام لهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، شأن الحروب التي تقع بين الناس والناس، من أجل أمور الدنيا المتنازع عليها بينهم أبدا.
قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} هذا هو الوجه الآخر الذي يلقى به المؤمنون، المتمردين من المشركين، الناكثين للعهد، وهو أنه إذا لم يستقم المشركون على الوفاء بالعهد، ونكثوه، أو همّوا بنكثه، وأطلقوا ألسنتهم بقالة السوء في الإسلام والمسلمين، أو مدّوا أيديهم إلى المسلمين بأذى- فعندئذ ينبغى على المسلمين أن يحلّوا أنفسهم من أي عقد عقدوه مع هؤلاء المشركين، وأن يضربوهم بيد باطشة قاهرة، لعلّ في هذا ما يقطع ألسنتهم وأيديهم المتطاولة على الدين، ويقصّر من خطوهم إلى التمادي في الشرك والضلال.
وفى العدول عن الضمير إلى الظاهر في قوله تعالى: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} بدلا من أن يجيء النظم {فقاتلوهم} في هذا ما يكشف عن وجه هؤلاء المشركين، ذلك الوجه، الذي لا يستحق غير الخزي والهوان.. إنه وجه يطلّ منه الكفر في أنكر صورة وأبشعها.. وإنه، وجه تنعقد على جبينه أمارة الزعامة، والإمامة، لدولة الكفر والضلال.
قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هو تحريض للمؤمنين على الجدّ في قتال المشركين، وفى قتل كل المشاعر التي تدعو إلى مهادنتهم، والتراخي في تأديبهم والانتقام منهم.. فإذا وقع في نفس مسلم شيء من هذا المشاعر، فليذكر ما صنع هؤلاء المشركون به وبالنبيّ الكريم، وبجماعة المسلمين عامة، وما كان منهم من كيد وبغى وعدوان، على دين اللّه، وعلى المؤمنين باللّه.
فهؤلاء المشركون، الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم- لم يكونوا في يوم ما على حال مستقيمة مع المسلمين.. وحسبهم أن كان منهم تلك المواجهة المنكرة التي واجهوا بها الرسول في أول دعوته، وكيف آذوه وآذوا كل من استجاب له، حتى همّوا بإخراجه، وتآمروا على اغتياله، لولا أن ردّ اللّه كيدهم، وأخرج النبيّ سليما معافى من بينهم.
ثم هاهم أولاء قد نكثوا أيمانهم، وتحللوا من كل عقد عقدوه مع المسلمين.
فكيف يرعى المسلم لهم عهدا..؟ وكيف تعطفه عليهم عاطفة؟
وفى التعبير بلفظ {همّوا بإخراج الرسول} إشارة إلى واقع أمرهم مع الرسول فعلا، فهم لم يخرجوه، بل كانوا يعملون على أن يمسكوه بينهم، ويحولوا بينه وبين أن يلقى الناس، وأن تلتقى دعوته بالناس- ولكن لما كان هذا الموقف المتعنت الذي وقفوه منه- صلوات اللّه وسلامه عليه- سببا في أن يخرج من بلده مهاجرا، فقد حسن أن يضاف إليهم إخراجه، نيّة لا عملا.. وفى التعبير بكلمة {همّوا} التي تفيد معنى النيّة المنعقدة على هذا الأمر- في هذا ما يكشف عن مكنون ضمائرهم، من كراهية للنبىّ، واستثقال لمقامه فيهم، وأنهم يهمّون بإخراجه، ولكن يرون أن إخراجه أشدّ بلاء عليهم من إمساكه معهم.
فهم يمسكون بالنبيّ على مضض وتكرّه.
ومن فعلات المشركين بالمؤمنين أنهم هم الذين بدءوا بالعدوان، وجاءوا إلى بدر بجيوشهم، يمنّون أنفسهم بالقضاء عليهم، والتنكيل بهم.
فهذه كلها أمور إذا ذكرها المسلمون أثارت حفيظتهم على المشركين، وأوقدت عزائمهم لجهادهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، حتى يستجيبوا للّه وللرسول.
وفى تنكير المشركين في قوله تعالى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً} تحقير لهؤلاء القوم، وتعرية لهم من كل صفة، إلا تلك الصفات التي دمغهم اللّه سبحانه وتعالى بها، وهى ما أشار إليه قوله تعالى: {نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ} وقوله تعالى: {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هو إغراء للمسلمين بلقاء المشركين وقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر اللّه.
فبعد أن أثار اللّه حميّة المسلمين، وملأ قلوبهم موجدة وسخطا على الكافرين- جاء وعده سبحانه وتعالى للمسلمين بالنصر على عدوّهم، وأنه سبحانه سيعذب هؤلاء المشركين بأيدى المؤمنين، بما يصيبهم في أنفسهم من قتل وأسر، وما يصيبهم في أموالهم، التي تقع غنيمة لأيدى المؤمنين في ميدان القتال، أو في فداء الأسرى منهم.. وليس هذا فحسب، فإن الذي لهم في العرب من مكان الرياسة والسيادة ستذهب به تلك الهزيمة المنكرة التي سيلقونها، ويلقون معها الخزي والعار.
وفى قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وفى ذلك تنويه بشأن المؤمنين، ورفع لقدرهم، بالنأى بهم عن هذا الموطن الذي ينزل فيه العذاب على المشركين، ويقع عليهم الخزي والهوان.
وفى العدول عن تعريف القوم إلى تنكيرهم، تفخيم لهؤلاء القوم، وأنهم ليسوا قوما بأعيانهم، وإنما هم المؤمنين حيث كانوا، سواء من قاتل هؤلاء المشركين أو من لم يقاتل، وسواء من شهد هذه الأحداث وعاصرها أو من جاء بعدها، حيث يرى المؤمن في حديث التاريخ عنها ما نقرّ به عينه، وينشرح به صدره، حين يحدّثه التاريخ عن هزيمة الباطل وانتصار الحق، وامتداد ظلّ الإسلام، وانكماش دولة الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} وفى عطف هذا الفعل على الأفعال قبله في قوله تعالى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
إشارة إلى أن من تقدّر له التوبة من هؤلاء المشركين ويدخل في دين اللّه يجد نفسه مشاركا للمؤمنين فيما آتاهم اللّه من فضله، ينصرهم وإعزازهم، وشفاء ما بصدورهم.. وبهذا يتحول في لحظة واحدة من تلك الحال التي يلبس فيها لباس الهزيمة والخزي والعار، إلى الجبهة الأخرى، فيشاركها أفراحها ومسرّاتها، ويقاسمها ما بين أيديها من نصر، وما في قلوبها من رضى وحبور، وفى هذا تحريض قوىّ للمشركين على ان يستجيبوا للّه وللرسول، وأن يدخلوا في دين اللّه، ويسلموا له مع المسلمين.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يمضى حكمه بعلم العليم، وحكمة الحكيم، فما وقع شيء في ملكه إلا على هذا التقدير الذي يقدّره العلم، وتحكمه الحكمة.