فصل: تفسير الآيات (16- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (16- 18):

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} هو تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، في اللّه وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة في كيانه، كما تضمر الحبة في باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طلّ، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافجة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها في صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد في سبيل اللّه، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال.
فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفى الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم.
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} استبعاد لهذا الشعور الذي يداخل بعض المؤمنين من أن يكون حسبهم من إيمانهم ما تنطوى عليه صدورهم من حقائقه.. وكلّا فإنهم مبتلون بما يكشف عن معدن هذا الإيمان الذي في قلوبهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [1- 3: العنكبوت].
ففى الإيمان شريعة، وفى الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. إن الإيمان عقيدة وعمل.. وإنه لا معتبر لعقيدة إذا لم يزكّها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها.
وفى وقوله سبحانه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ} ما يكشف عن تبعات المؤمنين. أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد في سبيل اللّه وابتلاء في أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا في تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم اللّه سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم اللّه هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين في هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب.
وفى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.
إشارة إلى أن علم اللّه وإن كان محيطا بكل شيء، قبل أن يقع.. من المكلفين إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يحاسب المكلّف على ما وقع منه فعلا، وصار علما واقعا له، بعد أن كان في علم اللّه.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} معطوف على قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ}.
والوليجة: الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنّة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد في سبيل اللّه، وموالاة اللّه ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية اللّه ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم في خلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقّع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنّة التي وعدها اللّه المتقين من عباده.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} تحذير للمؤمنين الذين في صدورهم شيء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها.
قوله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} هو بيان لبعض الحكمة فيما أمر اللّه به المسلمين في شأن المشركين، وقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم.. كما جاء ذلك في أول السورة.. ثم هو إيذان لما سيأتى بعد ذلك من أمر في ألا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم الذي أنذروا فيه، ببراءة اللّه ورسوله منهم، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}.
وهو العام التاسع من الهجرة، الذي شاء اللّه سبحانه لرسوله الكريم ألا يحج هذا العام الذي حج فيه المشركون، ثم حج حجّة الوداع في العام الثاني، وقد طهر البيت من هذا الرجس.
فالمشركون بما في قلوبهم من كفر، ليسوا أهلا لأن يدخلوا بيوت اللّه ويعمروها.. إذ كيف يكفرون باللّه، ثم يعمرون مساجده؟
وقوله تعالى: {شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} هو حال من أحوالهم التي يدخلون بها المساجد، وهى أنهم يدخلونها وهم كافرون باللّه.
وشهادتهم على أنفسهم ينطق بها حالهم وأفعالهم، وإن لم تنطق بها ألسنتهم، فهم يدخلون بيت اللّه، ثم يسجدون فيه لغير اللّه، مما يعبدون من أوثان وأصنام.. وهذا العمل منهم أبلغ شهادة عليهم بالكفر والضلال.. {أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} أي بطل كل عمل لهم، وانقلب شرّا ووبالا عليهم {وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ} فتلك هي ثمرة ما كانوا يعملون.. النار، والخلود في النار.
قوله تعالى: {إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} تلك هي حقيقة الذين يعمرون مساجد اللّه، وهذه هي صفاتهم التي تؤهلهم لأن يكونوا من أهلها وعمّارها.. أن يكونوا مؤمنين باللّه واليوم الآخر، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وألا يكون في قلوبهم خوف إلا من اللّه، ولا رجاء إلا فيه، ولا متعلّق إلّا به.. فهؤلاء في معرض الهداية والتوفيق، وعلى طريق الاستقامة والتقوى. بهم تعمر بيوت اللّه، يذكر اللّه فيها، ذكرا خالصا من لزيغ، مبرأ من الشرك.

.تفسير الآيات (19- 22):

{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}.
التفسير:
كان بعض مشركى مكة يقومون على خدمات في المسجد الحرام، كالسقاية للحجيج، وإطعام الوافدين للحجّ، وتأمينهم، وعمارة المسجد، وفرشه، وغير هذا مما كانت تتقاسمه قريش بين بيوتها من أعمال البيت الحرام.
فلما جاء الإسلام، وحرّم على المشركين الاتصال بالمسجد الحرام، والقيام بأى عمل فيه، أوله- وقع في نفس هؤلاء الذين كانوا يقومون على تلك الأعمال، أنهم بعد أن دخلوا الإسلام، لا زالوا في حاجة إلى ما يملأ هذا الفراغ، ويذهب بذلك القلق النفسي الذي استشعروه، حين زال سلطانهم الديني على المسجد الحرام، وقاصديه.
وفى قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
موازنة بين تلك الأعمال التي كان يعدّها المشركون من القربات، وبين الإيمان الذي عمر قلوب المسلمين، ووصلهم باللّه ربّ العالمين.
وفى هذه الموازنة، تبدو تلك الأعمال التي كانوا يعملونها وهم متلبسون بالشرك- تبدو ضئيلة تافهة، لا وزن لها إلى جانب الإيمان باللّه وما يملأ كيان المؤمن من الإيمان باللّه واليوم الآخر والجهاد في سبيل اللّه.. {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}.
وفى الموازنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وبين من آمن باللّه واليوم الآخر- في هذه الموازنة ما يسأل عنه.. وهو:
لما ذا جاءت الموازنة بين أعمال، هي السقاية وعمارة المسجد الحرام، وبين أشخاص هم المؤمنون باللّه واليوم الآخر؟ وكيف تقوم موازنة بين أعمال وأشخاص،؟ إن المتصور هو أن تقوم الموازنة بين أعمال وأعمال، أو بين أشخاص وأشخاص.. حتى يمكن أن يعرف الفاضل والمفضول، والطيب والخبيث، بالنظر في المتجانسين والموازنة بينهما.
فكيف هذا؟
والجواب- واللّه أعلم- أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يؤدّون تلك الأعمال، ويحسبون أنها قربات عند اللّه، وأنها تجعل لهم شأنا وذكرا عنده، هي أشياء لا حساب لها في ميزان الأعمال، إذ كانت غير مستندة إلى إيمان، ولم يكن الذين يأتونها بالمؤمنين باللّه.
والحديث عن هذه الأعمال، دون الحديث عن أصحابها، يشير إلى أن أصحابها لا معتبر لهم في موازين الناس، ماداموا على غير الإيمان.. وعلى هذا التقدير جاء النظم القرآنى بأعمالهم، ولم يجيء بهم، إذ كانت الأعمال في ظاهرها حسنة طيبة، ولكنها لا نعود بثمرة عليهم، ولا تضاف لحسابهم.
أما المؤمنون باللّه، واليوم الآخر والمجاهدون في سبيل اللّه، فإنهم بإيمانهم باللّه وباليوم الآخر وبالجهاد في سبيله، أصبحوا هم الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي ينظر إليه وإلى أعماله، كأصل أصيل في تقويم الناس وأعمال الناس.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إشارة إلى أن أصحاب هذه الأعمال الطيبة قد ظلموا هذه الأعمال، إذ لم يزكّوها بالإيمان، كما أنهم قد ظلموا أنفسهم، إذ لم يظهروها من الرجس والشرك.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} في هذه الآيات عرض لمنازل المؤمنين فيما بينهم، بعد أن ميّز الإيمان بينهم وبين المشركين، وجعلهم جميعا في مقام كريم عند اللّه، يتقبل أعمالهم الطيبة، ويتجاوز عن سيئاتهم، على حين لا يقبل من غير المؤمنين عملا، ولو كان مما يدخل في باب الطيبات الصالحات من الأعمال.
والمؤمنون الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، أعظم درجة عند اللّه، من الذين آمنوا وجاهدوا ولم يهاجروا.. والذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه، أعظم درجة عند اللّه من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا.. وهكذا يتفاوت المؤمنون في منازلهم ودرجاتهم عند اللّه.
وأعلى درجة عند اللّه للمؤمنين، هي درجة المهاجرين الذين جاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم بعد أن اجتمع لهم الإيمان والهجرة- وقد وعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالفوز برضوانه وجناته، ينعمون فيها بنعيم مقيم، لا ينفد ولا ينقطع أبدا.. {خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

.تفسير الآيات (23- 24):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)}.
التفسير:
فرّق الإيمان باللّه، بين المؤمنين والمشركين، وجعل ولاء المؤمن للمؤمنين عامّة، أيّا كان لونهم وجنسهم، وأيّا كانت درجة القرابة في النسب بينهم وبينه، على حين قطع ولاءه لأهله، وأقرب المقربين إليه إذا لم يكونوا من المؤمنين باللّه وبرسول اللّه.
وقبل فتح مكة كان المهاجرون بعضا من أهليهم المشركين في مكة.
فمنهم من آمن وهاجر، وترك وراءه أبا، أو أمّا، أو إخوة، ما زالوا على شركهم، وما زالت علائق القرابة تشدّه إليهم، وتذكره بهم، وتبعث أشواقه وحنينه نحوهم.. ثم بعد فتح مكة، دخل النّاس في دين اللّه أفواجا، وأسلم أهل مكة ومن حولهم، ولكن لم يكن كثير منهم مؤمنا بقلبه، مطمئنا إلى الدين الجديد الذي دخل فيه، بل لقد ظل بعضهم يحمل الحقد والعداوة للإسلام، الأمر الذي دعا الرسول الكريم إلى أن يتألّفهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ}.
جاء منبّها المسلمين إلى ما قد يدخل عليهم من مشاعر القرابة نحو أهليهم الذين خلّفوهم وراءهم من المشركين.. تلك المشاعر التي قد تبلغ حدّ الجور على حقّ المسلمين على المسلم، من إخاء وموالاة.
وفى الآية الكريمة أمران، نحبّ أن نقف عندهما:
أولهما: أن النهى ورد مقصورا على الآباء والإخوان، ولم يذكر غيرهم من ذوى القربى، وخاصة الأبناء، الذين هم أقرب قرابة من كل قريب.. فلم هذا؟
وما حكمته؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن المخاطبين بهذه الآية هم المهاجرون والأنصار، الذين سبقوا إلى الإسلام، وخلّفوا وراءهم أهلا وعشيرا.
وهؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام- من المهاجرين والأنصار- لم يتخلّف وراءهم غالبا إلا آباؤهم وإخوانهم.. إذ أبى الآباء أن يتابعوا أبناءهم، أنفا وكبرا، كما أبى الإخوة أن ينقادوا للسابقين من إخوانهم، حمية وحسدا.. أما الأبناء فقلّ منهم من أسلم آباؤهم ثم لم يتابعونهم ويقفوا أثرهم.. فلما دخل هؤلاء المتخلفون في الإسلام، دخله كثير منهم بقلب مريض، ونفس متكرهة.
وعلى هذا، فإن الصورة التي كان عليها المؤمنون يومئذ، هى: أن كثيرا منهم دخل في الإسلام تاركا وراءه أبويه وإخوته، أو أحد أبويه وبعض إخوته، وقليل منهم من دخل في الإسلام، ولم يدخل معه أبناؤه.. ومن أجل هذا كان النهى عن موالاة هؤلاء الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم- كان النهى متجها إلى هؤلاء الآباء والإخوة، دون الأبناء، الذين كانوا- بصفة عامة- مع آبائهم.
وثانى الأمرين: أن النهى لم يتناول المشاعر، والأحاسيس التي يجدها المسلمون نحو آبائهم وإخوانهم من المشركين، وإنما جاء واقعا على الولاء والإيثار، وتغليب مصلحتهم على مصالح المؤمنين، فهذا هو الذي نهى عنه الإسلام، وذلك أن النهى عن المشاعر والأحاسيس أمر لا تحتمله النفوس، وإن كانت تحتمله بعض النفوس، فإن ذلك لم يكن إلا عن مشقة ومعاناة وحرج.
الأمر الذي برئت منه الشريعة الإسلامية السمحاء.
هذا، وفى الآية إشارة على أن الشبان أقرب من الشيوخ استجابة للدعوات الجديدة، والتجاوب معها، حيث كان السابقون إلى الإسلام من الشبان غالبا.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} في هذه الآية وضع للمسلمين في مواجهة التجربة والاختبار لإيمانهم، واختيار ما يحبون وما يؤثرون.
فالإيمان في جانب.. والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والديار.. في جانب آخر.
وعلى المؤمن أن يختار بين الإيمان باللّه ورسوله والجهاد في سبيله، وبين أهله، وماله ودياره.
والاختيار هنا يمكن أن يجرّ به الإنسان بينه وبين نفسه، حين يورد على مشاعره هذين الطرفين المتنازعين في كيانه، وأن يستعرضهما واحدا بعد الآخر، وأن يفترض أنه إذا لم يكن من الممكن الجمع بينهما، فأيهما يؤثر أن يمسك به، ويعيش معه؟
فإذا آثر الإيمان على الولد والأهل والمال والموطن، كان على الصفة التي يتحقق بها الإيمان الذي يقبله اللّه منه، ويرضاه له.. وإن كان العكس، وآثر الولد والأهل والمال والموطن، على الإيمان باللّه ورسوله والولاء للمؤمنين، والجهاد في سبيل اللّه، فهو أقرب إلى الجبهة المعادية للإسلام، منه إلى الجبهة الموالية له.. {والمرء مع من أحبّ}.
وفى وصف الأموال، بأنها أموال مقترفة إشارة إلى أن المال غاد ورائح.. وأنه أشبه بالمنكر، إذ كان أكثر ما يجيء المال من حصيلة الصراع بين الناس والناس.
وفى قوله تعالى: {وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها} إشارة إلى ما قد يصيب السّوق التجارية من كساد، حين تقوم القطيعة بين المؤمنين والمشركين.
وفى قوله تعالى: {فتربصوا} تهديد ووعيد لأولئك الذين يؤثرون علاقاتهم الدنيوية، على الإيمان باللّه ورسوله والجهاد في سبيل اللّه.. والتربص:
الانتظار.. ووراء هذا الانتظار ما يسوء أولئك الذين آثروا الآجلة على العاجلة حين يرون نصر اللّه للمؤمنين، وما فتح اللّه عليهم به من مغانم في الدنيا، ورضوان في الآخرة، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم.
ويلاحظ أن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ...} الآية قد انتظم كل ما تتعلق به النفوس، وتحرص عليه.. وليس وراءه من أمور الدنيا ما يطلبه الإنسان، ويعلق به.
كما يلاحظ أيضا أن هذه الأمور قد جاءت في النظم القرآنى مرتبة الدرجات.. الأهمّ، فالمهم، فما هو دونه.. وهذا ما يجعل المؤمن أمام تجربة ذات شعب، وأنه قد يؤثر إيمانه على بعضها دون بعض، أو يؤثرها جميعا عليه، أو يؤثر إيمانه عليها جميعا.. كما أن هذه التجربة تنتظم المسلمين جميعا، لا يكاد أحد منهم يفلت من الدخول فيها، فمن لم يكن له أب كان له ولد.. ومن لم يكن له ولد، ولا والد، كان له زوج.. ومن لم يكن له واحد من هؤلاء كان له مال، ومن لم يكن له مال، ولا تجارة يخشى كسادها، كان له موطن يحنّ إليه، ودار يرنو ببصره إليها.
وهكذا، في كلمات معدودة، تتحرك مشاعر المجتمع الإسلامى، وتتقلب القلوب، ويدور الصراع في كيان كل مسلم، ثم تنجلى المعركة بعد صراع طويل أو قصير، عن سلام وعافية، أو شكّ وتردّد.. ثم يجيء قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} تعقيبا على هذا الصّراع، ممسكا بهؤلاء الشاكّين المترددين، لينتزعوا أنفسهم مما هم فيه من شك وتردد، فإمّا إلى اليمين، وإما إلى اليسار.. وللّه سبحانه وتعالى في هؤلاء المترددين الشاكّين، الذين ظلموا أنفسهم بهذا الموقف الذي وقفوه- للّه فيهم أعداء لم يرد اللّه أن يهديهم، وأن يمضى لهم طريقهم إلى آخره مع الإيمان.. فليحذر كلّ من هؤلاء أن يكون فيمن خذلهم اللّه وجعلهم من أعدائه.. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} الذين دخلوا في دين اللّه، ثم مال بهم الطريق إلى ما لا يرضى اللّه!