فصل: تفسير الآيات (25- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (25- 27):

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}.
التفسير:
التجربة التي وضع اللّه سبحانه وتعالى المسلمين إزاءها في الآية السابقة، هي تجربة قاسية، تعالج منها النفس الشيء الكثير، من الضيق والألم، إلّا من عصم اللّه من عباده المؤمنين.. ولهذا جاء قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} جاء قوله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين، مذكّرا المسلمين بعظمة اللّه وقدرته، وفضله على المؤمنين من عباده.. وفى هذا ما يخفّ به ميزان كل شيء يتعلّق به الإنسان، من أهل ومال وموطن.. وبذلك يشتدّ عزم المؤمن، ويقوى يقينه، فيجد القدرة من نفسه على أن يجلى عنها كل ما يطوف حول إيمانه باللّه ورسوله والجهاد في سبيل اللّه، من دواعى الوهن والضعف، حين تطلع عليه الذكريات لأهله وماله ووطنه.
فلقد أيد اللّه المؤمنين، وأمدّهم بنصره في مواطن كثيرة.. في بدر، وفى الخندق، وفى فتح مكة.. وفى حرب اليهود، في خيبر، وفى المدينة.
ثم في يوم حنين.. وقد كان المسلمون في عدد عديد، وعدّة ظاهرة، حتى لقد قال قائلهم: {إننا لن نغلب اليوم من قلّة} فقد كانوا في اثنى عشر ألفا، بين راجل وفارس.
ومع هذا، فإنه ما كاد المسلمون يلتقون بهوازن في وادي حنين قرب مكة، حتى ولّوا مدبرين، وانكشف رسول اللّه للعدو، ولم يثبت معه إلا عدة من ذوى قرابته، منهم علىّ بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ونفر قليل من المؤمنين.
والذي كان يرصد المعركة في تلك اللحظة ما كان يشك أبدا في أن الدائرة على المسلمين، وأن الهزيمة واقعة بهم، لا محالة.
لقد تبدّد جيش المسلمين، وتناثرت جموعهم، وذهبت ريحهم، وما كان لقوة في الأرض أن تجمع هذا الكيان الممزق، وأن تبعث فيه الحياة والقوة من جديد.
ولكن أمداد السّماء، ونفحات الحق، جاءت في وقتها، فأحالت الهزيمة نصرا حاسما.. {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ} وفى هذا يرى المسلمون أن القوة للّه، وأن النصر والعزّة للمؤمنين، وأن البلاء والخزي على الكافرين.
فمن أراد النصر والعزّة.. فلا مبتغى لهما، ولا سبيل إليهما، إلا بالإيمان، ومع المؤمنين.
ومن رغب عن الإيمان، وآثر عليه الأهل والمال، فلن يلق إلا الذّلة والهوان.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استدعاء لمن خذلتهم عزائمهم، وتخلى عنهم السداده والتوفيق، فمالوا إلى جانب الضالين والمشركين.. فهؤلاء لا يزال الطريق إلى اللّه مفتوحا لهم، ولا زالت رحمة اللّه ومغفرته تنتظرهم على أول الطريق، إن هم راجعوا أنفسهم، ونزعوا عما هم فيه من تردد وارتياب! وهنا وقفة لابد منها مع {ثمّ} وهو حرف عطف للترتيب والتراخي.
وقد جاء مكررا ثلاث مرات في الحديث عن يوم حنين.. هكذا.
{وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ}.
والعطف يثم هنا في هذه المواضع الثلاثة، أفاد أمرين:
أولهما: الترتيب الزمنى في وقوع هذه الأحداث.. فقد وقع المسلمون أولا في اضطراب وذعر، والتمسوا الخلاص مما هم فيه من بلاء، ولم يكن ذلك بالميسور لهم.. ثم كان الفرار وتولية الأدبار هما طريق النجاة.. ثم كان من اللّه توبة ومغفرة لمن فرّ منهم وولىّ المشركين دبره في القتال.
وثانيهما: التغاير بين وجوه هذه الأحداث المتعاطفة، بحيث يبدو أن عنصر الزمن لابد أن يكون عاملا هنا في تحريك الأحداث، حتى تتغير وتبلغ الصورة التي جاءت عليها.
والذي ينظر إلى الموقعة- موقعة حنين- من الظاهر، يجد أنها حدثا واحدا، متلاحم النسج، وأن ليس هناك أي فاصل زمنى يفصل بين مجريات الأمور في هذا الحدث.. فهى معركة واحدة، احتواها زمن واحد، لم يجاوز غدوة يوم.. ولكن الذي ينظر إلى المعركة نظرا أعمق وأرحب، يجد أنها لم تكن معركة واحدة، وإنما هي معارك متصلة، بدأت بمعركة هزم فيها المسلمون، ثم انتهت بمعركة كتب اللّه لهم فيها النصر.
فالمعركة الأولى، لها حسابها وتقديرها، وحكمها، وهى الهزيمة المطلقة للمسلمين.. فقد أحاط بهم العدوّ، وأوقع في صفوفهم الفوضى والاضطراب.
الأمر الذي يسلم إلى الهزيمة التي لا مفرّ منها.
ومع هذا، فإنه ما كان للمسلمين أن يفرّوا بأيّ حال كانوا عليه، وعلى أي تقدير يقدّرونه لنتائج المعركة.. فلتكن الهزيمة واقعة بهم، ولكن الذي كان يجب ألا يكون منهم، هو الفرار.. فهذا أمر لا يصحّ أن يقع من المسلمين في ميدان القتال، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
فأى مسلم هذا الذي تحدّثه نفسه بالفرار من المعركة، وهو يعلم حكم اللّه فيمن يفرّ ويولّى العدوّ دبره؟
ولكن الذي حدث، هو أن المسلمين فرّوا، وولّوا الأدبار..!
ومن هنا كان هذا الأمر منهم حدثا غريبا، ما كان ينبغى أن يكون في ميدان القتال..!
وهذا هو بعض السرّ في عطفه بثم على الحدث الذي قبله، وهو الضيق والكرب الذي ركب المسلمين في أول القتال.. وفى هذا ما يشعر بأن هذا الحدث- حدث الفرار- وإن كان قد وقع في ميدان القتال، هو حدث مستقلّ بنفسه، منقطع الصلة بما قبله، غير مترتب عليه.. وعطفه على ما قبله هو من عطف حدث على حدث، أو قصة على قصة، أو حال على حال! أما عطف قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فهو كذلك عطف حال على حال، أو قصة على قصة.. وهذا ما يشعر بأن الحدث الأول، وهو الفرار والهزيمة، أمر قد وقع، وسوّى حسابه.. ثم بدأ أمر آخر، له حسابه الخاص به، وهو الممثل في تلك المعركة الجديدة التي دخل فيها المسلمون القتال مع العدوّ، بنفوس جديدة ومشاعر جديدة، بل قل وبأشخاص غير الأشخاص ومقاتلين غير المقاتلين.. إذ أنزل اللّه سكينته عليهم، ونزع لو كان قد استولى على قلوبهم من خوف وهلع، وأمدّهم بجنود من عنده، كانوا ردءا لهم، ويدا قوية ضاربة معهم، فكان لهم النصر والظفر.
وأمّا عطف قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ} فكان من عطف حال على حال، وقصّة على قصّة، وشأن على شأن، وأن الصّلة التي بينه وبين ما قبله ليست صلة سبب ومسبّب، أو علة ومعلول.
ذلك أن ما كان يتوقعه المسلمون بعد فرارهم وتولّيتهم الأدبار، هو وقوع غضب اللّه عليهم في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.. ولكن الذي حدث كان غير هذا، فقد عاد اللّه سبحانه وتعالى بفضله وإحسانه عليهم، وجاءهم برحمته ومغفرته، وتقبّل توبة التائبين منهم.
وقد جاءت رحمة اللّه ومغفرته إلى الذين فروا وولوا الأدبار في هذه الصورة المتراخية- وفى هذا ما يشعر بأن مغفرة اللّه ورحمته ما كانت لتنال هؤلاء الفارّين أبدا، وأنها إذ نالتهم في تلك المرّة، فإنها قد لا تنالهم بعدها.. لأن الحكم المسلّط على الفارّين الذين يولّون الأدبار في ميدان القتال هو الحكم المحكم الذي لا يردّ، وأن هذا الذي أصاب المسلمين الفارين من مغفرة ورحمة في هذا اليوم هو استثناء من أصل، ليس من الحتم أن يقع في كل حال تشبهه!

.تفسير الآيات (28- 29):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29)}.
التفسير:
النّجس: القذر، الذي تنفر منه النفوس السليمة، وتتحاشاه.
والعيلة: الفقر والحاجة، وأصله من العول، وهو الزّيادة في النفقة على الأصل الذي ينفق منه.. وفى المأثور: «لا عال من اقتصد».
والجزية: ما يفرض على أهل الذمة في الإسلام، وهو قدر من المال يؤدونه في مقابل الإبقاء على حياتهم، وقد أصبحوا ليد المسلمين بعد الغلب عليهم.
وفى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} حكم على المشركين بفساد كيانهم الداخلى، وأنهم بشركهم باللّه قد أفسدوا طبيعتهم، كما يقع ذلك في الأمور المادية، حيث يختلط الخبيث بالطيب، فيفسده!.
والمشرك نجس كلّه، باطنا وظاهرا.. ولهذا نهى اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، كما نهى عن تناول المسلمين من طعامهم.
والمسجد الحرام، معلم من معالم الهدى، ومنارة من منارات الحق.
فهو بهذا كائن طيّب.. ظاهره وباطنه، ومورد عذب يستقى منه المؤمنون، ويروون ظمأهم الروحي من جوّه الطهور.. ومن هنا كان على المسلمين حراسته من أن يلمّ به خبث، فيفسده عليهم، ويعكر موارده.
والمشركون نجس، وإلمامهم، بالمسجد الحرام تقدير له، وإفساد لطبيعته.
ولهذا أمر اللّه المسلمين بأن يحولوا بين المشركين وبينه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا} وهو العام التاسع من الهجرة، الذي أعلن اللّه- سبحانه- المشركين فيه، بأنه بريء منهم، وأن رسوله بريء منهم.. وأن المسلمين- موالاة للّه ولرسوله- بريئون منهم.
وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ} هو تطمين لقلوب المؤمنين، وإغراء لهم بدفع المشركين عن البيت، ولو كان في هذا ما قد يسبب لهم كسادا في تجارتهم، وتبادل المنافع بينهم وبين المشركين في موسم الحجّ.. فالأرزاق بيد اللّه، ويده سبحانه مبسوطة بالعطاء، وفضلة واسع عميم.. فليستقم المسلمون على أمر اللّه، وليبتغوا بذلك مرضاته، وهو سبحانه الذي يتكفّل بأرزاقهم، وبإعطائهم الجزيل من فضله.
وقوله تعالى: {إن شاء} ليس قيدا واردا على الحكم الذي حكم به في قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
وإنما هو إشارة إلى أن مشيئة اللّه هي المسلطة على كل شيء، وأنها لا تتوقف في نفاذها على أفعال العباد، إذ أن أفعال العباد كلها داخلة في مشيئة اللّه، واقعة تحت سلطانها.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} هو وصف كاشف لهذه المشيئة، وأنها مشيئة {عليم} لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. {حكيم} فلا تقع مشيئته إلا على ما يقضى به علمه وحكمته، فتقع إذ تقع على أكمل الكمال، وأحكم الحكمة.
قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} الجزية: هي ما يفرض على أهل الذمّة من مال يؤدونه للمسلمين، وسمّيت جزية لأنها إمّا من الجزاء، في مقابل الذنب الذي ارتكبوه بإفساد عقيدتهم، وإمّا من المجازاة، في مقابل حفظ نفوسهم، وصيانتهم من القتل.
ويجيء الأمر هنا بقتال الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، بعد أن انكشف للمسلمين موقفهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، وبعد أن نهاهم اللّه سبحانه وتعالى عن موالاة غير المؤمنين، حتى ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم.. ثم بعد أن ذكر اللّه سبحانه نصره لهم في مواطن كثيرة، لم يكن بين أيديهم فيها من وسائل الغلب والنصر شيء.
وإذ يجيء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون باللّه، بعد هذا الموقف الذي أثار مشاعر المسلمين، وقوّى عزائمهم، ووثق إيمانهم- فإنه يقع موقعه من نفوسهم، ويثمر ثمرته الطيبة فيهم، إذ يقبلون على القتال، وقد خلت نفوسهم من مشاعر المودة بينهم وبين الذين لا يؤمنون باللّه، ولو كانوا أقرب الناس.. فلا يلتفت المجاهد إلى أهل أو مال، ولا ينظر إلى نفسه أكثر مما ينظر إلى دينه، والانتصار له، ودفع يد العدوّ عنه.
وقد جاء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر في صيغة العموم هكذا: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...} الآية.
وهذه الآية من سورة التوبة كما ترى، وقد نزلت بعد أن فتح النبيّ مكة، وبعد أن هزمت هوازن في حنين، وبعد أن بسط الإسلام سلطانه على الجزيرة العربية كلّها.
والسؤال هنا هو: إلى من يتّجه الأمر إلى المسلمين بقتالهم، بعد أن دخل العرب في الإسلام؟.
والجواب على هذا، هو ما تضمنه قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ}.
.. وقد أشارت الآية الكريمة إلى ثلاثة أصناف:
فالذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر.. هم الكافرون كفرا صراحا، وهم الملحدون.
والذين لا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله.. هم المشركون، الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر إيمانا تلبّست به الضلالات، واختلطت به البدع.. وذلك إيمان المشركين من العرب.. الذين كانوا على دين إبراهيم، فأفسدوه بما أدخلوا عليه من تلقّيات أهوائهم، ووساوس شياطينهم، حتى لقد عبدوا الأصنام وقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}.
والذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، هم اليهود النصارى، الذين أفسدوا دينهم بما حرّفوا من كتاب اللّه الذي في أيديهم، وبما تأوّلوا من كلمات اللّه التي بقيت معهم.
فهؤلاء هم الذين أمر المسلمون بقتالهم.. بعد الإعذار إليهم، ودعوتهم إلى الإسلام، دعوة قائمة إلى العدل والإحسان، داعية إلى الإخوة الإنسانية في ظلّ الإيمان باللّه.
أما الكافرون فهم الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، وليس معهم كتاب سماوى.
وأما المشركون، فهم الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر، إيمانا مشوبا بالضلال.. والمثل الواضح للشرك ما كان عليه مشركو العرب قبل الإسلام.
وأما أهل الكتاب، فإن في كفرهم شبهة، إذ معهم كتاب موسوم بأنه من عند اللّه، وهو وإن حرّف، وبدّل، وتأوله المتأولون على غير وجهه، لا يزال يحتفظ بأصول صالحة، لأن تكون معتقدا سليما، لو أعيد النظر فيه، على ضوء القرآن الكريم، الذي هو مصدق لهذا الكتاب الذي في أيديهم، ومهيمن عليه.
ولشبهة الكفر، أو شبهة الإيمان عند أهل الكتاب، فقد أخذهم اللّه بحكم غير حكم الكافرين والمشركين.. فهم ليسوا مؤمنين، وإن لم يكن الإيمان بعيدا منهم.
ومن هنا كان أمر اللّه فيهم أن يدعوا إلى الإيمان الحقّ، فإن استجابوا وآمنوا، كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم.. وإن أبوا كان على المسلمين قتالهم، حتى يستسلموا، ويصبحوا في يد المسلمين، يجرى عليهم حكمهم، وتبسط عليهم يدهم.. ثم إنه ليس للمسلمين قتلهم، كما يقتل الكافرون والمشركون.. ولكن إذا سلمت لهم أنفسهم، فلن تسلم لهم أموالهم، بل عليهم أن يؤدوا منها جزية للمسلمين، وأن يؤدوها صاغرين، أي مقهورين مغلوبين.
وقد ألحقت السّنّة المجوس باليهود والنصارى في أخذ الجزية منهم بدلا من القتل المضروب على المشركين والكافرين، وغيرهم، ممن لا كتاب لهم.
يقول الإمام الشافعي- رضى اللّه عنه- إنها (الجزية) تؤخذ من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا، لثبوتها في أهل الكتاب، بالكتاب، وفى المجوس، بالخبر.
وعند أبى حنيفة أنها تؤخذ من أهل الكتاب مطلقا، ومن مشركى العجم والمجوس لا من مشركى العرب.
وهذا الذي يراه أبو حنيفة هو الأولى بأن يؤخذ به، لأنه يجرى مع الحكمة في أخذ الجزية من أهل الكتاب، وعدم أخذها من مشركى العرب.. وذلك لأن العرب قد شهدوا دلائل النبوة كاملة، واستمعوا إلى آيات اللّه، وعرفوا مواقع الإعجاز منها، وأن القرآن عندهم ليس بالذي يخفى عليهم علوّ متنزّله، وأنه من كلام رب العالمين.. فلم يكن كفرهم باللّه وتكذيبهم لرسول اللّه إلا عن عناد واستكبار، وإلا عن حمية جاهلية.. فكان أن أخذهم الإسلام بهذا الحكم إذا هم وقعوا ليد المسلمين: إما الإسلام، وإما القتل، ولا ثالث..!
فمثل هؤلاء الذين يشهدون الحقّ، ويرون آياته رأى العين، ثم لا يتبعونه، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم له- مثل هؤلاء، ينبغى أن تهدر آدميتهم، وأن تقام عليهم هذه الوصاية، التي تأخذهم بهذا الحكم الملزم.
أما مشركو العجم والمجوس، ممن لا كتاب معهم، فإنه لم يستبن لهم على وجه القطع من دلائل النبوة، وصدق الرسول ما استبان لمشركى العرب، فكانوا لهذا أقرب إلى أن يلحقوا بأهل الكتاب، وأن يدخلوا في تلك التجربة التي يدخلها أهل الكتاب- من أن يلحقوا بمشركى العرب.
أما من يؤدون الجزية ممن يدخلون في حكمها، فقد اختلف الأئمة فيهم.
فبينما يرى مالك والأوزاعى أنها تؤخذ من جميع الواقعين تحت حكمها فردا فردا، إذ يرى أو حنيفة أنها لا تؤخذ من امرأة، ولا صبّى، ولا زمن، ولا أعمى.
ورأى أبى حنيفة أقرب إلى سماحة الإسلام، وإلى مرامى أهدافه البعيدة.
فى تأليف القلوب، ودعوتها إليه بالتي هي أحسن.
وأخذ الجزية من أهل الكتاب، وأداؤهم لها على هذا الوجه الذي يؤدونها عليه في ذلة وصغار هو في الواقع ليس عن دافع من التعالي والكبر من المسلمين، وإنما هو إثارة لدوافع الإنسانية عند هؤلاء الذين يؤدون الجزية، ولتحريك الرغبة فيهم إلى الخلاص من هذا الوضع المشين، وذلك بمراجعة معتقدهم.. من جهة، والنظر في وجه الدعوة التي يدعوهم الإسلام إليها.. من جهة أخرى.. وهذا إن فعلوه فإنه لابد أن يصحح عقيدتهم، ويفتح عقولهم وقلوبهم للدين الحق، دين اللّه، دين الإسلام.
وهذا هو السرّ في الإبقاء على أهل الكتاب حين يقعون ليد المسلمين، وصيانة دمهم من القتل، وقبول الدّية منهم.. فإن هذا التدبير إنما غايته هو وضع أهل الكتاب في هذا الامتحان، وتلك التجربة.. ولقد أثمر هذا الامتحان ونجحت تلك التجربة، فإنه ما من أحد من أهل الكتاب، دخل في هذا الامتحان وعاش تلك التجربة، وأخذ مكانه مع المسلمين على هذا الوضع، حتى وجد الفرصة سانحة، والوقت متسعا، للبحث والنظر في معتقده، والمعتقد الذي يدعى إليه.. وكان من هذا أن دخل في الإسلام، وآمن به عن اختيار واقتناع.
ومن بقي على دينه من أهل الكتاب- وهم قلة شاذة- فقد كانت آفة ذلك إلى تعصب أعمى، وانقياد لهوى جامح، لا يمسكه عقل، ولا يردّه رأى! فلم تكن الجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب ضربا من التحكم، ولا نزعة من نزعات القهر والتسلط، وإنما هى- كما رأينا- دعوة حكيمة من دعوات الإسلام إلى الإيمان باللّه، وأسلوب من أساليبه المحكمة، في فتح الأبصار المغلقة، إلى النور، ولفت العقول الشاردة، إلى الهدى، وإيقاظ القلوب الغافية، لاستقبال آيات اللّه وكلماته.
ولو كان من شأن الإسلام التسلط والقهر، والعدوان والبغي، لأخذ أهل الكتاب الذين وقعوا ليده، ونزلوا على حكمه، بما أخذ به الكافرين والمشركين، ولما قبل منهم إلّا الإيمان أو القتل، ولما استبقاهم ابتغاء إصلاحهم، وشفائهم ممّا ألمّ بهم، من زيغ في العقيدة، وضلال في الدين.
فالجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب، هي دواء لداء، واستطباب لعلّة، وعملية جراحيّة لاستئصال مرض قاتل.. وإنه لا بأس من أن يكون الدواء مرّا، إذا أنمر ثمرته في شفاء الداء.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} إشارة إلى علوّ يد المسلمين، وتمكنهم من عدوّهم، بما لهم من بأس، وقوة.
وهذا يعنى أن يحتفظ المسلمون دائما بتلك القوة التي مكّنت لهم، وإلا كان عليهم أن ينزلوا عن هذه المنزلة التي هم فيها، فإنهم إن لم ينزلوا عنها طائعين، نزلوا عنها مكرهين.. بل وربما تحولت الحال، فكانوا تحت يد من كانوا تحت يدهم! فالمراد باليد هنا، القوة والقدرة، التي يعلو بها المسلمون على غيرهم.
والقوة التي يعتمد عليها المسلمون، تقوم دعائمها أولا وقبل كل شيء، على الإيمان باللّه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.. فإذا حقق المسلمون حقيقة الإيمان في قلوبهم، مكّن اللّه لهم من كل أسباب العزة، والقوّة، وملأ أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا، وأقامهم في هذه الدنيا مقاما كريما، وجعل كلمتهم العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى! فليس المراد بقوله تعالى: {وَهُمْ صاغِرُونَ} تحريضا للمسلمين على امتهان أهل الذمة وإذلالهم، بقدر ما هو تحريض للمسلمين على اكتساب القوة والاحتفاظ، بها حتى لا يكونوا يوما في هذا المنزل الذليل المهين، الذي ينزله المغلوب على أمره بها، النازل على حكم غالبه.. فهذا هو واقع الحياة، وتلك هي سنة اللّه في خلقه.. الغالب متحكم متسلط، والمغلوب مقهور مهين.. وإذا كان هناك من المبادئ الخلقية، أو المواضعات السياسية، ما يخفف من هذا المبدأ العامل في الحياة، فإن سماحة الإسلام، وإنسانية شريعته، قد كان لهما في هذا الباب ما لا يمكن أن يلحق بغباره القوانين الدولية، أو المنظمات الإنسانية.. ذلك أن دعوة الإسلام إلى التسامح، والرفق، والإخاء، دعوة مشدودة إلى ضمير الإنسان، موصوله بإيمانه باللّه، بحيث لا يكمل إيمانه إلا بها.. أما ما تحمله القوانين الدولية، وما تنادى به المنظمات الإنسانية، فلا يعدو أن يكون مجرد نصائح ووصايا، تخاطب أذن الإنسان، دون أن تبلغ مواطن الإدراك، أو الوجدان منه.
فالقوة التي يملك بها المسلمون مصائر الأمور في الناس، قوة رحيمة، عادلة.. ومن الخير للناس جميعا، أن تنمو هذه القوة، وأن يمتد سلطانها.. فحيث كانت فهى بر ورحمة، فإذا صارت تلك القوة إلى يد غير مؤمنة باللّه، آخذة بشريعته، كانت قوّة ظالمة غشوما، تطلع على الناس كما تطلع العواصف العاتية، لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
هذا وكثير من الفقهاء والمفسّرين على أن قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ...} الآية هو أمر ملزم للمسلمين بقتال غير المسلمين، قتالا عاما، في أي حال يجد فيها المسلمون قدرة على القتال. بمعنى أنهم يكونون في حرب دائمة مع غير المسلمين، حتى يدخلوا في الإسلام، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. على الوجه الذي أشرنا إليه.
وسنعرض لهذا الرأى الذي يجعل المسلمين في حرب دائمة مع غير المسلمين عند شرح الآية (36) من هذه السورة.. وذلك إلى ما أشرنا إليه في مبحث: الحرب والسلام في الإسلام.