فصل: تفسير الآيات (30- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (30- 33):

{وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}.
التفسير:
الإسلام.. دين المستقبل:
فى هذه الآيات يكشف اللّه سبحانه وتعالى عن الشبه التي وردت على أهل الكتاب، فأفسدت عليهم دينهم، وأدخلتهم في مداخل المشركين، أو الكافرين.. فوصفوا بقوله تعالى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}.
فاليهود يقولون- فيما يقولون من مفتريات على اللّه- {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}.
وشبهتهم في هذا، هي أن اللّه سبحانه وتعالى قد بعثه من بين الموتى، بعد أن أماته مئة عام.. وإلى هذا- واللّه أعلم- يشير اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [259: البقرة].
وقيل إن التوراة قد ضاعت أيام الأسر البابلىّ، وأن الألواح التي كانت كتبت فيها قد حملها بختنصر معه إلى بابل، وقيل أحرقها.. فلما عاد اليهود من الأشر، كانت الكلمات التي حفظوها من التوراة قد ذهب أكثرها من صدورهم.
وقد وقعوا في حيرة وقلق، بعد أن أعادوا بناء الهيكل، ولم يعيدوا التوراة التي فقدت.. فكان الهيكل في نظرهم أشبه بجسد لا روح فيه.
وفيما هم في هذا الهمّ والحيرة، طلع عليهم عزرا أو عزير وقال لهم: إن اللّه قد ملأ صدره نورا، فإذا التوراة محفوظة في قلبه، تجرى كلماتها على لسانه! ثم جمع أحبارهم، وأملى عليهم التوراة، من حفظه...!
وحدث بعد هذا أن عثروا على التوراة الضائعة، فقارنوا بها ما أملاه عليهم عزرا فإذا هي هى، لم ينخرم منها حرف، ولم تسقط منها كلمة..!
فكان عندهم عزرا كائنا علويا سماويا، لهذا العمل العظيم الذي جاءهم به.
فرفعوا نسبه إلى اللّه، وجعلوه ابنا له!! والنصارى، قالوا في المسيح عيسى بن مريم كما قالت اليهود في عزير.
قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
وشبهتهم في هذا، هي أن المسيح قد ولد من رحم امرأة، دون أن تتصل برجل.. وجهلوا أن هذا الميلاد وإن كان عجيبا، خارجا على مألوف الحياة، وغير مطّرد مع السنن المألوفة لنا، فإنه ليس خارجا عن قدرة اللّه، التي لا يعجزها شيء، ولا يقيّدها قيد من عادة أو مألوف، بل هي قادرة قدرة مطلقة، بلا حدود ولا قيود: {اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} توكيد لما يقولونه، من نسبة الابن إلى اللّه سبحانه وتعالى، وأنه قول لم يحكه أحد عنهم، أو ينطق به شاهد الحال عليهم، وإنما هو قول قالوه بأفواههم، لا يستطيعون دفعه، أو إنكاره، إذ كان ذلك مما نطقت به ألسنتهم، وسمعته آذانهم، فكيف السبيل إلى التنصّل منه؟ وكيف السبيل إلى جحده، وهم لا يزالون يرددونه بأفواههم؟
ويمكن أن يحمل قوله تعالى: {ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} على معنى آخر، وهو أن قولهم هذا مجرد كلام، يلقى على عواهنه، من غير أن يحتكم فيه إلى عقل أو منطق.. إنه كلام.. لا أكثر! ليس بينه وبين الحق نسب!
قوله تعالى: {يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي يشبهون في قولهم هذا قول الذين كفروا من قبلهم، والمضاهاة المشابهة والمماثلة، والمحاكاة.. أي أنهم فيما يقولون من نسبة الولد إلى اللّه، لم يكونوا إلا مقلّدين ومحاكين، لمن قال هذا القول من الذين كفروا من قبلهم.
والذين كفروا من قبل.. من هم؟
يمكن أن يكون هؤلاء الذين كفروا من قبل، مرادا بهم آباؤهم الأولون، الذين غيّروا في دين اللّه، وتأولوا آياته وكلماته هذا التأويل الذي صار بهم إلى الكفر.. فهؤلاء الكافرون من اليهود والنصارى الذي يخاطبهم القرآن هذا الخطاب، هم متابعون لآبائهم الأولين، محاكين لهم.
ويمكن أن يكون الذين كفروا من قبل، كلّ من سبق اليهود والنصارى، من الذين كانوا يدينون بهذا المعتقد الذي يجعل للّه ابنا، يعبد من دون اللّه، أو يعبد مع اللّه، مثل تلك المعتقدات التي كان يعتقدها اليونان في توليد الآلهة، بعضهم من بعض، وكما كان يعتقد الفراعنة في آلهتهم، وإضافة ملوكهم إلى آلهة سماوية علوية، وكما يعتقد المعتقدون في بوذا وأنه مولود إلهى.
وقوله تعالى: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ} هو طرد من رحمة اللّه ورضوانه، لهؤلاء الذين يقولون هذا القول المنكر في اللّه.. فإن {قاتَلَهُمُ اللَّهُ} يعنى أنهم نصبوا حربا للّه، فحاربهم اللّه، وقاتلهم..!
وانظر ماذا يكون من أمر من يحاربه اللّه ويقاتله؟ أتراه ينجو من البلاء والهلاك؟ أو يجد قدرة على احتمال ما يحلّ به من بلاء ونقمة؟ هيهات.. هيهات! وفى قوله سبحانه: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} إنكار عليهم هذا الإفك الذي هم فيه، وهذا الافتراء الذي يفترونه على اللّه.
و{أنّى} استفهام بمعنى كيف.. أي كيف يكون منهم هذا الإفك؟
وكيف يجدون له مساغا في عقولهم؟
قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} هو اتهام جديد لأهل الكتاب، وكشف عن وجه من وجوه الضلال الذي ركبوه، وهو أنهم انقادوا لأحبارهم ورهبانهم، وجعلوا لهم الكلمة فيهم، والعقل المدبّر لهم، فكلمة الأحبار والرهبان لهم، هي الكلمة التي لا معقّب عليها عندهم، حتى لكأنها كلمات اللّه عند المؤمنين باللّه.
وقدتأول الأحبار والبرهبان كلمات اللّه، وأخرجوها عن مفهومها الذي لها، إلى المفهوم الذي يرونه.. ومن هنا كان للأحبار والرهبان هذا السلطان المبسوط على أتباعهم، بحيث جعلوا إلى أيديهم أمر هؤلاء الأتباع، فيما هو من صميم العقيدة.. فيغفرون لمن شاءوا من المذنبين، ويحرمون من شاءوا من هذا الغفران.. وقد أدّى ذلك إلى أن أصبح الأحبار والرهبان آلهة يطلب رضاها، ويتقرب إليها بالقربات، حتى تنال منهم المغفرة والرضوان.
وهذا وضع شبه بالوضع الذي يقوم بين المؤمن وربّه.. ومن هنا كان قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} مصورا لهذه الحال القائمة بين عامة اليهود والنصارى وبين أحبارهم ورهبانهم، أدقّ تصوير وأئمّة.
والأحبار: جمع حبر، وهو عالم اليهود، ورجل الدين فيهم.. والرهبان:
جمع راهب، وهو عالم المسيحيين، وصاحب الكلمة في معتقدتهم وشريعتهم.
وأما قوله سبحانه: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فهو معطوف على قوله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي واتخذوا المسيح ربّا من دون اللّه.
وفى عطف المسيح بعد الفصل بقوله تعالى {أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} إشارة إلى أن المسيح في ربوبيته عند أتباعه، يأخذ وضعا خاصا، غير الوضع الذي للأحبار عند اليهود، وللرهبان عند النصارى.. فهؤلاء الأحبار والرهبان ليسوا أربابا عند أتباعهم بصورة قاطعة، وإنما هم أشبه بالأرباب.. أما المسيح فهو عند أتباعه- النصارى- ربّ بكل معنى الكلمة للفظة ربّ.
وقوله تعالى: {وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
الضمير في {أمروا} يعود إلى هؤلاء المخاطبين من أهل الكتاب- من يهود ونصارى- كما أنه يشمل الأرباب الذين اتخذوهم، من الأحبار والرهبان، والمسيح ابن مريم.. فهؤلاء وأولئك جميعا مطالبون بأن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو.. فهذا هو الإيمان الذي لا يدخل إنسان في عداد المؤمنين إلا به، وهو الإيمان الذي أمر اللّه سبحانه وتعالى به رسله، وجاءت به كتبه التي أنزلها عليهم.. وقد تنزه اللّه تعالى عن الشرك الذي يدين به المشركون.. {سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} في هذه الآية الكريمة إشارة مضيئة إلى مستقبل الإسلام، وأنه {نور اللّه} الذي يريد المشركون، والكافرون، والمنافقون، أن يطفئوه بأفواههم.
وإضافة الإطفاء الذي يريده هؤلاء الضالون بنور اللّه- إضافته إلى أفواههم، لأن أفواههم هي التي تنطق بهذا الزور والبهتان، والافتراء على اللّه، ونسبة الولد إليه.. كما يقول سبحانه: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ}.
فهذه الأفواه التي تنطق بهذا الضلال، وما أشبهه، هي مما يضلّ الناس، ويفتنهم في دينهم، إذا كانوا مؤمنين، أو يمسك بهم على الكفر والضلال إذا كانوا كافرين ضالين.. وهذا من شأنه- لو مضى إلى غايته- أن يذهب بنور الحق، ويمحو معالم الهدى، ويقيم الناس في ضلال وعمى وظلام.. ثم إن هذه الأفواه، هي التي تكيد للإسلام، وتدس له، وتسعى بقالة السوء فيه.
ولكن اللّه سبحانه وتعالى بالغ أمره، ومنجز وعده الذي وعده نبيّه في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [9: الصف] وهذا ما يشير إليه قوله تعالى هنا: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
فهذا وعد مؤكّد من اللّه سبحانه، بأن يتمّ نوره، أي دينه.. وأن يبلغ به غاية الكمال والتمام.. وذلك يكون- وهو كائن لا شك فيه- حين يصبح الإسلام دين الإنسانية كلّها، يطلع عليها طلوع الشمس، فيغمر نوره كل صقع، ويتسرب شعاعه إلى كل قلب..!
وانظر إلى قوله سبحانه. {وَيَأْبَى اللَّهُ}، وإلى قوة الحقّ سبحانه وتعالى القائمة على نصرة دين اللّه، والتي تأبى أن يقف في وجه هذا الدين ما يحجب ضوءه، أو يضلّ الناس عنه.. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} وتمام النور وكماله، هو في أن يبسط سلطانه على الوجود الإنسانى كله.. {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} وذلك مما يسوء المشركين وأهل الضلال، وإنه لا حساب لهم، ولا لما يحلّ بهم من سوء.. فلترغم أنوفهم، ولتأكل الحسرة قلوبهم! وهذا المعنى الذي أخذناه من الآية الكريمة، من إطلاق نور اللّه على الإسلام، يشهد له قوله سبحانه في سورة الصف: {وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [6- 9: الصف] فهذه الآيات تكشف في وضوح صريح، عن أن نور اللّه هو الإسلام، الذي أرسل اللّه به رسوله محمدا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.
وإن هذا الدين سيظهر على كل دين، وينسخ كل معتقد! إنه نور اللّه، وإنه لدين اللّه.. {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
ويلاحظ أن قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} قد جاء في سورة التوبة.. والكافرون هم من لم يكونوا على دين أصلا، أو كانوا على دين ولكنهم لا يؤمنون باللّه إيمانا صحيحا، وهو ما عليه أهل الكتاب، الذين وصفهم اللّه سبحانه بقوله: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ}.
والمشركون هم الذين يدينون بدين يجمع بين الإيمان باللّه، والإيمان بشركاء مع اللّه.
والكافرون والمشركون هم في مجموعهم لا يؤمنون باللّه، ولا يدينون دين الحق، وهو الدين الذي جاء به الإسلام على تمامه وكماله.
فإذا تحقق وعد اللّه بإتمام دينه- وهو متحقق حتما- وذلك على كره من غير المؤمنين جميعا، كان معنى هذا أن الإسلام سيصبح يوما ما دين الإنسانية كلها.. ولو كره الكافرون والمشركون.
وهنا شبهتان قد تندفعان في صدور أولئك الذين يأخذون الأمور بما يلوح على ظاهرها، دون أن ينفذ نظرهم إلى ما وراء هذا الظاهر من حق وصدق.
والشبهة الأولى: هي ما يبدو على ظاهر الحياة اليوم من انكماش ظلّ الدين عموما في النفوس، واستيلاء الإلحاد على مواقع الإيمان عند كثير من الشعوب والأفراد.
وهذا يعنى بظاهر واقعه، أن عصر الإيمان قد ولّى، وأن الناس في طريقهم إلى إيمان آخر غير هذا الإيمان المستند إلى ما وراء المادة.. إيمان بالطبيعة وبالحياة في صورها المادية المختلفة وما تولده منها العلوم والفنون.. وهذا يعنى أيضا أنه لا الإسلام ولا غير الإسلام من الأديان الأخرى، سيبقى على ما هو عليه الآن، فضلا عن أن يمتد ظله، ويقوى سلطانه! ونقول: إن هذه الظاهرة، هي مقدمة طبيعية لإقامة الإنسانية على دين صحيح، يتجاوب مع العقل ومنطقه، ويدخل إلى عقول الناس كما تدخل الحقائق العلمية.
فالعقل الحديث الذي بعد عن الدّين، إنما بعد عن تلك المعتقدات التي لا تثبت لأدنى نظر ينظر به إليها، ثم يفرض عليه- مع هذا- أن يقبلها، وأن يتعامل معها، لأنه لابد له من دين يعيش به، ويحيا معه.
فإذا وقف العقل من تلك المعتقدات، هذا الموقف، وإذا أبى أن يخضع خضوعا أعمى لسلطانها- فذلك حق مشروع له، وإلّا فما كان لهذا العقل الذي ميّز اللّه الإنسان به عن عالم الحيوان، وظيفة يؤديها للإنسان، أو عمل يعمله في هدايته، وكشف معالم الطريق له، وخاصة في أهم شأن حيوى من شئونه، وهو ما يمسّ الحياة الروحية منه.
فليس إذن هذا الموقف المنحرف الذي يقفه العقل العصرى من الدين- ليس هذا الموقف عن آفة في هذا العقل، أو عن استغناء منه عن الدين.
وإنما ذلك، لهذا الخلاف البعيد الذي بينه وبين الدّين الذي ينظر فيه، ويدعى إلى الإيمان به.
ولا تحسبنّ أن هذا العقل العصرى الذي بعد عن الدين هذا البعد- قد اطمأنّ إلى تلك الحياة التي يحياها بلا دين.
وكلّا، فالإنسان متديّن بطبعه، والدين مطلب من مطالب الإنسان، على أي مستوى من مستويات الإنسانية، كان عقله، وكان علمه..!
فالإنسان البدائى، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والفارابي، وابن سيناء، وابن رشد، هم سواء في الحاجة إلى الدين، وإلى تصور المعتقد الديني، الذي يرضيهم، ويغذّى عاطفتهم، ويروى الجدب الروحي الذي يجده الإنسان- أي إنسان- إذا هو بات ليلة أو بعض ليلة على غير دين! والملحدون الذين تعجّ بهم الدنيا في الغرب والشرق، هم أكثر الناس ظمأ إلى الدين، وتطلعا إليه، وبحثا عنه، ووسواسا به.
وليست هذه المذاهب التي يعيش فيها الماديون، من طبيعية، ووجودية، وغيرها، إلا سعيا وراء الدين، وإلا ملأ لهذا الفراغ الديني الذي يجدونه في كيانهم، ولا يجدون الدين الحقّ الذي يملؤه! وهم في هذا معذورون.. وإلا فماذا يمنع الجائع الذي لا يجد الطعام الطيب الذي يسد جوعه، إذا هو مد يده إلى الخبيث الذي تعافه النفوس من الطعام وتستقذره؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! والشبهة الثانية، هى: هل الدين الإسلامى دين يحمل في كيانه من الحقائق ما يتقبله العقل العصرى، ويجد فيه شيئا يمسك به، ويقيمه على منطقه؟
وكيف تدّعى للإسلام هذه الدعوى، وهذه ثمراته ظاهرة في أهله الذين يدينون به، وهى ثمرات معطوبة، لا تشتهيها نفس، ولا يستريح إليها نظر!! فحال المسلمين- في أفرادهم وجماعاتهم وأممهم- في المستوي الذي لا يرضى أحد من الشعوب المتقدمة أن يكون عليه، من الفقر والضعف، في ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا.. فكيف يكون للإسلام وجه يطلع به على الحياة العصرية، ويدعو أهلها إليه؟
والحق أن الذي ينظر إلى الإسلام من خلال أهله، ويأخذه بحسابهم، يفرّ من الإسلام، ويصرف وجهه عنه، إن لم يكن هناك طريق آخر يصله بالإسلام، وبمبادئه اتصالا مباشرا، لا يمرّ به على طريق يطلع منه على العالم الإسلامى وأحوال المسلمين.. اليوم!.
إن الدين بأهله.
ولقد صغرت نفوسنا- نحن المسلمين- وضمرت ذاتيتنا، فصغر فيها كل معنى كريم، وضمر فيها كل مثل فاضل.
إن النفوس المريضة تتغير فيها حقائق الأشياء، كما تتغير حقائق المرئيات وصورها في العين المريضة، وكما تنحرف مذاقات الطعوم في الفم السقيم.
والواقع أننا قد أصبنا في القرون الأخيرة بعلل وأوجاع، أفسدت حياتنا، وأنزلتنا منازل الهون في دنيا الناس.. فاستعمرت أوطاننا بالدخلاء، وصار إلى غيرنا تدبير شئوننا، وتوجيه حياتنا.. وكان من خداع المستعمر ومكره بنا، وكيده لنا، أن جعل من همّه الأول، إفساد عقيدتنا، وعزلنا عن ديننا، وخلق جفوة بيننا وبينه.. إذ كان يعلم إن الدين هو الذي يقف عقبة في سبيل إماتة مشاعر الحياة الإنسانية الكريمة في الشعوب التي يحتلّها، وأنه ما دام للدين الإسلامى سلطان على النفوس، وتحكك بها، فإن الاستعمار لن يبلغ الغاية التي يريدها من استسلام الناس استسلاما مطلقا له، يتمكن به من تضييع معالمهم، ومسخ إنسانيتهم، وتحويلهم إلى دمّى تتحرك حسب مشيئته، وتبع إشارته.
ومن هنا كانت حرب الاستعمار للدين الإسلامى في نفوس أهله، وفى تصويره لنا بصورة الداء الذي أصابنا في الصميم من حياتنا، فصار بنا إلى ما نحن فيه، من ضعف وفقر وتخلّف، وإنه لولا تمسكنا به، لما كانت تلك حالنا، ولما قامت علينا تلك الوصاية القاهرة الظالمة من الأمم التي استولت على مواطن الإسلام.. هكذا ألقى الاستعمار إلينا بهذا الضلال المسموم، فتلقّاه كثير منّا وكأنه نصيحة ناصح أمين، وتذكرة طبيب حاذق لمريض يشفق عليه، ويلتمس الدواء لعلته القاتلة!.
ولقد عمل الاستعمار جاهدا على أن يمكّن لهذا الضلال من نفوسنا، وأن يغرى به الشباب، خاصة، بما أذاع بأساليبه وصنائعه من مفتريات على الإسلام، وتهجم عليه، وازدراء لأهله، واستخفاف بمكانهم في الحياة، وحرمانهم من كل مكان كريم فيها.
بل، وأكثر من هذا.. فلقد أرانا الاستعمار صورة عملية تعيش بيننا، وتشهد لما يحدّثنا به عن الإسلام، وعن جنايته على المسلمين..!
فالاستعمار، إذ وضع يده على أوطان الإسلام كلّها، ترك في وسط العالم الإسلامى، بلادا غير مسلمة- كالحبشة مثلا- دون أن يمدّ إليها يدا، ليرى المسلمين من ذلك أن دينهم هو الذي جعل أوطانهم- دون سائر الأوطان- على هذه الحالة من الضعف، الذي أغرى المستعمرين بهم، ومكّن له منهم، وأقامه قيّما عليهم، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال.. ولن يكون لهم ذلك إلا إذا تحللوا من هذا الدين، وتركوه وراءهم ظهريّا.
ولكن الإسلام شيء.. وأهله شيء آخر، في هذا العصر الأقل.
وأنه إذا كانت قد عرضت للمسلمين عوارض الضعف والوهن في فترة من فترات تاريخهم الطويل، فليس من الإنصاف للإسلام أن يقام ميزانه على حساب تلك الفترة العارضة.
وإن على الذي ينشد الحق للحق، أن ينظر إلى الإسلام أولا وقبل كل شيء.
فى مبادئه، وأحكامه، وفى تصوره للألوهية، وللحياة الآخرة، وفى دعوته الأخلاقية لبناء الكيان الإنسانى، وصلته بالمجتمع الإنسانىّ وبالحياة.. فإن وجد نظاما وضعيا أو دينيا عرفته الحياة، قديما أو حديثا، في سياسة الأمم والشعوب، وفى إقامة موازين العدل بين الناس، وفى تنظيم العلاقات بينهم في الحرب والسلم- إن وجد نظاما وضيعا أو دينيا يقارب نظام الإسلام، في اعتداله وتوازنه، وتواقفه مع متطلبات الناس وواقع الحياة، فليقل في الإسلام ما يقول، وليرمه بالسّهم القاتل، وهو أنه ليس من عند اللّه، إذ لا يكون من عند اللّه شيء يكون فيه خلل أو اضطراب..!
ثم إن من ينشد الحقّ للحق، وينظر إلى الإسلام نظرا مباشرا، ينبغى ألّا يغفل عن تلك الفترة المشرقة من تاريخ المسلمين، يوم كان الإسلام قائد حياتهم، وراية دولتهم، ودستورهم العامل في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فذلك من شأنه أن يعطى الإسلام فرصته، ليقيم بين عينى الناظر إليه، مجتمعا بشريا لم تعرف الحياة مثيلا له، في ماضيها وحاضرها.. مجتمعا ملأ يديه من طيبات الحياة في أصفى مواردها، وأكرم منازلها، دون أن ينسى نصيبه من معطيات الروح.. فكانت قدمه على الأرض، ورأسه في السماء! والسؤال الذي نسأله هنا.. هو:
إذا كانت بعض الأديان- بما دخل عليها من تبديل وتحريف- قد فضحها العلم الحديث، وانكشف للمتدينين بها ما تلبس بها من أوهام وخرافات.
فهل وقع الإسلام تحت هذا الحكم الذي أصدره العلم الحديث على هذه الأديان؟
وهل امتحن الإسلام ومحّصت حقائقه على ضوء العلم، وفى مخابير الحياة، ثم ظهر منه ما لا يرضاه العلم وما لا تقبله الحياة؟
إن الإسلام- وثوقا منه بما ضمّ عليه من حق وخير- ليفتح ذراعيه للعلم الحديث، ويرحّب به كل الترحيب، ويسعد السعادة كلها بلقاء العقول الناضجة المستنيرة له، بكل ما وضعه العلم بين يديها من سائل التمييز بين الحق والباطل، والنافع والضار، والسليم والسقيم.
فتلك هي فرصة الإسلام التي يظهر فيها كرم معدنه، وتتجلّى فيها عظمة حقائقه، ويسفر بها وجهه المشرق الكريم.
إن هذا العصر- عصر العلم والشك.. عصر الامتحان لكل شيء.
عصر الإلحاد وغربلة الأديان- هو عصر الإسلام، وهو اللسان المجدّد لدعوته، حيث يجلّى حقائق هذا الدين، ويكشف عن الخير الكثير المخبوء للناس فيه.
ولا يريد الإسلام، ولا نريد له أن يتلقّى الناس دعوته قضية مسلّمة، بل إن ذلك لتأباه طبيعته، التي تدعو العقل دائما، وتأنس بصحبته، وتسعد بالحديث إليه، والاستماع له.
فالذى يريده الإسلام، ونريده له، هو أن يضع العلماء والفلاسفة والمفكرون هذه العقيدة موضع الشك أو الإنكار- إن شاءوا- ثم ليعاملوها معاملة القضايا التي ينكرونها أو يتشككون فيها، وليسلطوا عليها نظراتهم باحثة فاحصة، ثم ليقلّبوها في أيديهم ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، وليمتحنوها بكل ما فتح به عليهم العلم، من أساليب الامتحان.. ثم ليحكموا بعد هذا على الإسلام، بما يظهر لهم على محكّ الفحص والاختبار.
وإن الإسلام ليتقبّل هذا الحكم في غبطة ورضى، لأنه لن يكون إلا شهادة بيّنة الحجة، ساطعة البرهان، على أن هذا الدين هو دين الحق، دين اللّه، الذي أراده لخير الإنسانية وإسعادها.
إن العلم الحديث هو فرصة الإسلام، التي تتجلّى فيها معجزته، من جوانبها العلمية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، فيرى العقل الحديث منها أنه أمام معجزة قاهرة متحدّية، لا يملك إلا التسليم لها، والسجود بين يديها.. تماما كما تجلّت معجزته البيانية للأمة العربية، يوم كان سلطان البيان هو الذي يحكم هذه الأمة، ويستولى على مواطن الإدراك والشعور منها.. فآمنت به، وسجدت بين يديه.
وهذا هو كتاب الإسلام، وتلك هي حجته القائمة، ودستوره المسطور في القرآن الكريم:
إنه يقدّم نفسه لكل من يريد النظر فيه، والتعرف إليه.. غير مستند إلى تأويل أو تفسير.. فلسانه أفصح من كل لسان، وبيانه أوضح من كل بيان.
فالذين يعرفون العربية، يعرفون طريقهم إليه في غير عناء، ويضعون أيديهم على حقائقه من غير معاناة.
والذين لا يعرفون العربية، يمكن أن تترجم لهم حقائقه، كما تترجم الدساتير القانونية، والحقائق العلمية.. ولا عليهم إن فاتهم إعجاز الكلمة، ومعجزة البيان.. فإن الحقائق التي تصل إليهم من خلال الترجمة، كافية في الكشف عن وجوه أخرى من الإعجاز، ممثلة في محكم أحكامه، وروعة حقائقه، وخلود مقرراته.
والإسلام- في يسره، وسماحته، ومواءمته للفطرة الإنسانية- قريب من كل نفس، واضح لكل ذى نظر، واقع في فهم كل ذى فهم.. تلتقى عنده عقول المتعلمين والعلماء، وتجتمع عليه أنظار العامة والفلاسفة، بحيث يجد فيه كل عقل ما يغنيه ويرضيه، ويأخذ منه كل نظر ما يرشده ويسعده.. هكذا دائما آيات اللّه المبثوثة في هذا الوجود، ممّا يمسك على الناس حياتهم، ويحفظ وجودهم، لا تقصر عنها يد، ولا يستأثر بها إنسان دون إنسان، أو تختص بها جماعة دون جماعة، أو أمة دون أمة.. إنها من اللّه، ولعباد اللّه.. كالماء والهواء، والشمس، والقمر، والنجوم.. وإن كان لأحد أو لجماعة أو أمة نصيب أوفر، أو حظ أعظم، فهو مما زاد الحاجة التي لا تتطلبها ضرورات الحياة، وإن كان فيها متعة فوق متعة، ورضى فوق رضى.. فصاحب النظر الحديد يرى من جمال الوجود وروائع آياته ما لا يراه صاحب النظر الكليل، وصاحب الشمّ السليم، يجد من طيب الزهر وعبيره، ما لا يجده المزكوم.
ومثل هذا تماما، موقف الناس جميعا أمام القرآن الكريم، وما تحمل سوره من آيات اللّه البينات.. الناس كلهم بين يديه- على اختلاف حظوظهم من العلم والمعرفة- على مائدة طيبة، طعامها هنيء لكل عقل، وشرابها مريء سائغ لكل قلب.. من طعم منها لا يجد الجوع العقلي أبدا، ومن روى منها لا يعرف الظمأ الروحي أبدا.
وتلك هي معجزة القرآن القائمة على الناس أبد الدهر، وتلك هي حجة اللّه على من أخلى عقله وقلبه من الدين، أو دان بغير دين الحق، دين اللّه، الذي ارتضاه لعباده.. كما يقول الحق جلّ وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} وكما يقول سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
إن الأيام ستثبت صدق هذه الدعوى التي ندعيها لعالميّة الإسلام، لأننا لا نقيم هذه الدعوى على عاطفة دينية نحو الدّين الذي ندين به، وإنما نقيمها على ما نستشفه من كلمات اللّه، بل على ما تكاد تصرح به كلمات اللّه، لمن أصغى إليها بأذن واعية، والتفت نحوها بقلب سليم، ونظر فيها بعقل متحرر من التعصب والهوى.
وإنى لأدعوك دعوة مجدّدة إلى أن تتلوقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ثم صل هذا بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [7- 9: الصف] اتل هذه الآيات، ولا تنظر فيما حدثتك به عن بعض مفاهيمها، وأقم لنفسك فهما خاصّا، معتمدا فيه على النظر المباشر في قسمات وجهها السماوي الوضيء، فإنك ستجد ملء مشاعرك يقينا بأنك أمام معجزة من معجزات الكتاب الكريم، تكشف لك عن مستقبل الإسلام، وتشير إلى يوم قريب في دورة الزمن، تصبح فيه الإنسانية كلها وقد دانت بهذا الدين، ورضيت ما ارتضاه اللّه لها في قوله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
هذا، وقد استظهر بعض العلماء المشتغلين بالدراسات الإسلامية-
استظهر من مسيرة الإسلام في فلك النبوة، والذي كانت دورته فيها ثلاثا وعشرين سنة- أن للإسلام دورة في فلك خارج فلك النبوّة، أشبه بهذه الدورة، مدتها ثلاثة وعشرون قرنا، أي أن كل سنة من عصر النبوّة، تمثل قرنا كاملا في تلك الدورة الجديدة.
كما استظهر أيضا، أن الثلاثة عشر عاما الأولى التي عاشتها الدعوة الإسلامية في دائرتها الضيقة، وفى مواجهة الكيد لها، والمكر بها، والتضييق على أتباعها، قبل الهجرة النبوية- هذه المدة تمثل الثلاثة عشر قرنا التي انسلخت بعد عصر النبوة.. والتي تحرك فيها الإسلام تحركات محدودة خلال هذه الدورة، أشبه بما كان له من تحركات في تلك الفترة، بالهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة قبل الهجرة النبوية.. وأن الإسلام بعد هذه القرون الثلاثة عشر، التي مضت، سينطلق من محبسه، كما انطلقت دعوته بعد الهجرة، وستكون له فتوحات في آفاق الأرض كلها، كما كانت له فتوحاته في الجزيرة العربية، التي دانت كلها بدين الإسلام، قبل أن يلحق النبيّ بالرفيق الأعلى، وقد تحقق له ما وعده اللّه سبحانه وتعالى به، في قوله جلّ شأنه: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}.
فالقرون العشرة المقبلة- كما استظهر هذا العالم العليم- هي انطلاقة جديدة للإسلام، أشبه بانطلاقته التي كانت له بعد الهجرة في سنواتها العشر.. وستكون هذه القرون العشرة، كما كانت تلك السنوات العشر، تمكينا للإسلام، وتثبيتا لقواعده، وامتدادا لدولته، حتى تدين به الجزيرة الأرضية جميعها، كما دانت له الجزيرة العربية كلها من قبل.. {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
أما بعد هذه القرون العشرة، فقد تبدأ دورة جديدة، للحياة الإنسانية كلها، أو قد ينتهى عمر الإنسان على هذه الأرض.. وعلم ذلك عند علام الغيوب.