فصل: تفسير الآيات (34- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (34- 35):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.
التفسير:
جاء في الآية (31) قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهو يكشف عن الدور الذي يقوم به كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى، في إفساد المعتقد الديني لأتباعهم، وخاصة ما يتصل بتصورهم للالوهية، ونسبة الولد إلى اللّه، كما قال اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [30].
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
فى هذا فضح لأولئك الأحبار والرهبان الذين أفسدوا على النّاس معتقدهم في اللّه، فإنهم إنما فعلوا ذلك ليقوم لهم في الناس سلطان دينىّ، يقوم في ظله سلطان دنيوى لهم على أتباعهم.
ذلك أنهم إذ جعلوا للّه سبحانه أن يتخذ ابنا، وإذ أقاموا في معتقد أتباعهم هذا التصور، فإن ذلك يفسح لهم مجال القول بأنهم من اللّه بمنزلة الأبناء أو الأحفاد، ومن ثمّ ساغ لهم أن يفرضوا على الناس هذا السلطان الدينىّ يحكم صلتهم باللّه، وأن لهم الكلمة عند اللّه في قبول من يقبلونه، وفى ردّ من يردونه، وبهذا السلطان الذي جعلوه لهم عند اللّه كان فرضا لازما على أتباعهم أن يحكّموهم في كل شيء لهم، من مال ومتاع، بعد أن حكموهم في دينهم ومعتقدهم.. ومن هنا تسلّط كثير من الأحبار والرهبان على أكل أموال الناس بهذا الباطل، الذي زينوه لهم، ودخلوا عليهم منه.
وانظر إلى تلك الدعوة- دعوة الإسلام- التي تقوم على الإيمان باللّه وحده إيمانا خالصا من الشرك، مبرأ من الوساطات، التي تقوم بين الإنسان وربّه- أتجد لإنسان- مهما يكن في الناس- أن يتسلط على إنسان في معتقده، أو يعترض طريقه إلى اللّه، أو أن يضع بين يديه صكّا يأذن له فيه بلقاء اللّه وطلب مغفرته ورضوانه؟ ذلك ما لا يكون في دعوة تضع الناس جميعا أمام إله متفرد بالألوهية، لا شريك له، من صاحبة أو ولد، أو حبر أو راهب.. إن الحريّة الشخصية التي هي دين الإنسان العصرى اليوم، تنقضها تماما تلك الوصاية الدينية التي يفرضها عليه رجال الدين، ويحولون بينه وبين أن ينظر في أمور عقيدته، وأن يعرضها على عقله.. والإسلام وحده، هو الذي يمنح الإنسان هذه الحرية المطلقة في النظر فيه، وعرض كل حقائقه على عقله.. بل إن الإسلام لا يرضى ممن يؤمن به أن يأخذه عن طريق غير طريق عقله وإدراكه، وأن يتلقّاه متابعا مقلّدا.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
هو وعيد لهؤلاء الأحبار والرهبان، الذين يجمعون ما يجمعون من مال، أخذوه بالباطل من أتباعهم، وجعلوه لأيديهم، لا ينفقون منه في وجه من وجوه الخير العام، بل يجمعون هذا المال ويكدسونه، لا لغاية إلا حبّ التملك والاقتناء.
وفى قصر الاكتناز على الذهب والفضة، إشارة إلى أنهما النّقدان اللذان ترجع إليهما جميع العاملات، وتوزن بهما كلّ قيم الأشياء.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} هو بيان لهذا المصير المشئوم الذي سيصير إليه هذا المال الكثير يمن اكتنزوه.. وأنهم إذ خلّفوه وراءهم، فلم ينفقوه في سبيل اللّه، فإنه قد تبعهم إلى آخرتهم، ليلقاهم هناك في يوم القيامة، حيث لا بيع ولا شراء.
ولكن لابد أن يكون لهذا المال عمل، وقد صار إلى يد أصحابه.. وليس هناك إلا النار التي يعيشون فيها، ويتعاملون معها.. وحين يتصل هذا المال- من ذهب أو فضة- بالنار، سيتحول إلى كتل من الجمر، تكوى بها أجسامهم في المواضع التي تشوّه معالمهم، وتزيد في آلامهم.. جباههم، وجنوبهم، وظهورهم.. فإذا أنكروا هذا الذي يكوون به دون أهل النار جميعا، قيل لهم: {هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.
وهكذا يكون الجزاء من جنس العمل.. فقد أخذوا هذا المال ظلما وعدوانا، ثم اكتنزوه شحا وبخلا، فكان جزاؤهم أن كان هو سوط العذاب الذي يعذبون به، من حيث كان يرجى أن يكون مصدر نفع وخير لهم.
وسواء أكان عذاب الآخرة ماديا أو معنويا، فإن هذه الصور التي يعرضها القرآن من صور العذاب، لابد أن تقع على الصورة التي صوّرت بها.
فإن كان العذاب ماديا جاءت تلك الصور المادية على صورتها التي صورها القرآن، وإن كانت معنوية جاءت معنوية على تلك الصورة أيضا، فالعالم المحسوس إن هو إلا صورة مجسّدة ممثلة للعالم المعنوي المقابل له.. كالكلمة التي تصور المعنى، وكالجسد الذي يلبس الرّوح الذي له.

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)}.
التفسير:
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما هي أنهما تكشفان عن وجه من وجوه التأويلات الفاسدة، لشريعة اللّه، فتغير وتبدّل من صورتها التي أقامها اللّه عليها، وذلك أشبه بما عليه الأحبار والرهبان، من العبث بدين اللّه، وجعله وراء أهوائهم وما يشتهون.. فناسب أن تجتمع هاتان الصورتان في هذا المقام.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} أي في تقديره {اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أي هكذا عدّة شهور العام في كتاب اللّه، الذي أودع فيه مقررات علمه، وذلك يوم خلق السموات والأرض، وربط بينهما بهذا النظام الفلكي، فكانت دورة الأرض حول الشمس التي تتم بها الفصول الأربعة- مقدرة باثنى عشر شهرا.. لا تزيد ولا تنقص.
{مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي جعل اللّه سبحانه من هذه الشهور الاثني عشر، أربعة أشهر حرم، أي يحرم فيها القتال بين الناس.. فمن بدأ فيها بقتال كان معتديا على حدود اللّه، وكان الدم الذي يراق في هذا القتال واقعا إثمه على من بدأ القتال.. {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
أي هذا هو الشّرع القويم الذي شرعه اللّه.. أو ذلك هو الحساب السليم الذي وضعه اللّه لعدة الشهور، ولبيان الأشهر الحرم منها.. لأن الدين يأتى بمعنى الشريعة، كما يأتى بمعنى {الحساب} ومنه قول الرسول الكريم: «الكيّس من دان نفسه» أي حاسبها.. {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} باستباحة حرمتها وإراقة الدماء فيها، ففى هذا ظلم لأنفسكم بالدخول في هذه التجربة القاسية، وفى تعرضكم لهذا الامتحان الذي عافاكم اللّه منه، فجعل لكم هذه الأشهر الحرم سكنا آمنا، تفيئون فيها إلى العافية والسلام، وتستظلون فيها بظلّ الطمأنينة والأمن، فإنه ليس بكثير عليكم أيها الناس أن تعيشوا في سلام مطلق، أربعة أشهر من كلّ عام، إذ كانت حياتكم قائمة على الشرّ والعدوان.
والأشهر الحرم، دعوة إلى السلام الذي ينبغى أن يقوم بين الناس، حتى تطيب لهم الحياة، وحتى يكون سعيهم كلّه متجها إلى العمل المثمر، الذي يعود عليهم جميعا بالخير والبركة، والنّماء لما في أيديهم من عمل، في غير مجال الحرب والقتال.
والأشهر الحرم كذلك، هدنة تقطع حبل القتال إذا كان واقعا بين جماعة وجماعة، وهذه الهدنة من شأنها أن تدعو المتقاتلين إلى مراجعة أنفسهم، وإلى العمل على الخلاص من هذا البلاء الذي حلّ بهم، فيطرقون باب السّلم، أو يفتحونه لمن يدعوهم إليه.
والأشهر الحرم هى: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وقد بينها الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه في خطبته في حجة الوداع بقوله: «ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض.. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان».
{وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي أن هذه الدعوة التي تدعو إلى السلام وتجنّب القتال في الأشهر الحرم، وإن كان حتما على المسلمين أن يمتثلوها، ويحققوها من جانبهم، إلا أنها لا تحمل المسلمين على التهاون في قتال المشركين، وترك الإعداد لحربهم.. لأن المشركين لا يحترمون هذه الدعوة، ولا يستقيمون عليها، ولا يدعون المسلمين في أمن وسلام، إذا هم قدروا على قتالهم، ووجدوا الفرصة السانحة لهم فيهم.
وهذا هو السرّ في عطف هذا الأمر: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} على النهى السابق في قوله سبحانه: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
إذ أن هذا النهى يقتضى الكفّ عن القتال في هذه الأشهر الحرم، خاصة، وفى غيرها، عامة، إذا لم يكن من المشركين عدوان على المؤمنين.. وهذا من شأنه- لو أطلق- أن يحمل المسلمين على طلب المسالمة والموادعة، وترك الاستعداد للحرب، والانخلاع عن مشاعر القتال، في حين أن المشركين على غير هذا الموقف، لأنهم أبدا على عداوة مضمرة أو ظاهرة للمؤمنين، وأنهم إذا وجدوا فرصة للنيل منهم فلن يمسكهم عن ذلك عهد أو قرابة: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}.
فكان إتباع هذا النهى بذلك الأمر: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.
كان وضعا للنهى بموضعه الصحيح، فيكون دعوة للسّلم، مع الحذر من خطر الحرب، ومع مراقبة العدوّ، والإعداد لدفع عدوانه إن حدثته نفسه بعدوان.
وقوله تعالى {كافّة} أي جميعا: وأصله من الكفّ عن الشيء.
بمعنى كفّ نفسه عن الأمر أي دفعها عنه، وكف العدوّ، أي دفعه وردّه.
وهذا لا يكون من الإنسان، إلا بنفس مجتمعة، وعزيمة غير موزعة، كما لا يكون من الجماعة المقاتلة إلا باجتماعهما جميعا، واستحضار كل ما لديها من قوى مادية ومعنوية.
هذا، وقد عدّ كثير من الفقهاء والمفسّرين قوله تعالى: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} عدوّا ذلك أمرا يوجب على المسلمين، قتال المشركين قتالا دائما متّصلا، على أية حال يكون عليها المشركون إزاء المسلمين، سواء أكانوا محاربين أم مسالمين.. واعتبروا هذه الآية ناسخة لكل ما جاء في القرآن من آيات تدعو إلى مهادنة غير المسلمين ومسالمتهم، إذا هم هادنوا المسلمين وسالموهم.. وسمّوا هذه الآية آية السيف، التي نسخت قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [194: البقرة] وقوله سبحانه: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [194: البقرة] وقوله سبحانه: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [190: البقرة] إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو المسلمين إلى القتال حين تقوم دواعيه، وهى ردّ عدوان المعتدين، أو الذين يقفون في وجه الدعوة الإسلامية، ويصدون الناس عنها، أو يفتنونهم فيها.. أما في غير هذا، فلا قتال ولا عدوان.
وآية السيف هذه- كما يقول عنها القائلون- إنما هي دعوة للمؤمنين إلى جمع جماعتهم على أمر واحد في المشركين، وهو أن يعدّوهم جميعا جبهة معادية، لا فرق بين مشرك ومشرك، فكما أن كل مشرك هو حرب على الإسلام والمؤمنين به، سواء كان ذلك بقلبه، أو لسانه، أو يده، وسواء أكان في جماعة أو منفردا، فكذلك ينبغى أن يكون المؤمنون على تلك المشاعر، وهذه المواقف إزاء المشركين.. إن الذي ينبغى أن يكون من المؤمنين هو أن يكونوا قلبا واحدا، ولسانا واحدا، ويدا واحدة.. لأنهم مهما كثر عددهم، هم قلّة في هذه الدنيا، بالنسبة لأهل الشرك والضلال والكفر، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
فهذا من شأنه أن يدعو المسلمين إلى جمع كلمتهم، ووحدة صفّهم، فوق أن ذلك هو واجب المسلمين في السّلم، فكيف وهم في مواجهة العدوّ المتربّص بهم؟
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} هو دعوة إلى التقوى، وجعلها الميزان الذي يضبط عليه المسلمون موقفهم من المشركين.. فلا بغى ولا عدوان ولا ظلم.. لأن ذلك يخرج المسلمين عن صفة التقوى، ويقيمهم هم والمشركون على مقام واحد.. الأمر الذي من شأنه أن يفوّت عليهم أن يكون اللّه سبحانه معهم، يؤيدهم وينصرهم على عدوّهم.. لأنه سبحانه لا يكون إلّا مع المتقين.
وعن هذا الفهم لخاتمة هذه الآية كانت وصاة عمر بن الخطاب، رضى اللّه عنه، حين كتب إلى قائده سعد بن أبى وقاص يقول له: أما بعد، فإنى آمرك ومن معك من الأجناد، بتقوى اللّه على كل حال، فإن تقوى اللّه أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي منكم، من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم للّه، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا.
أما موقف المسلمين مع غير المسلمين، فهو سلم مع من سالمهم، حرب مع من اعتدى عليهم، وحاربهم.
وتاريخ الدعوة الإسلامية، وأسلوبها الذي قامت عليه منذ اليوم الأول على يد صاحب الرسالة- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يخرج عن هذا الخط الذي حدّد مسيرتها قوله تعالى لنبيّه الكريم: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [125: النحل] وقوله سبحانه: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [46: العنكبوت].. وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [198: الأعراف].
وهذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات، التي قامت على أساسها صلات المسلمين فيما بينهم وبين المجتمعات الإنسانية التي لم تدخل في الإسلام، سواء ما كان منها في ذمة المسلمين، أو كان في دار الحرب، أو خارج هذه الدار.
وكيف يكون من مفاهيم الإسلام أن يكون حربا على الناس من غير أن يبدءوا أتباعه بحرب؟ ألا يكون هذا عدوانا مما نهى اللّه عنه، في أكثر من آية من آيات الكتاب الكريم؟ وبأى تأويل يتأول القائلون بالحرب العامة على المجتمع الإنسانى، قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؟ (190: البقرة).
إنه لا تأويل، ولكن القول بالنسخ، وإبطال حكم هذه الآية وغيرها، هو الحجة القاطعة عند القائلين بالحرب العامة الشاملة على كل من لا يدخل في الإسلام!! ومع هذا فإن القول بنسخ الآيات التي تعارض آية السيف، أو آيات السيف- كما يسميها أصحاب هذا الرأى- ينقضه قوله تعالى. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ}.
فإن قبول الجزية ممن تقبل منهم الجزية بعد أن ينزلوا على حكم السيف- لا يجعل منهم مسلمين، بل هم مشركون أو كافرون، ولا تزال آيات السيف مسلطة عليهم.. فهل من أجل هذه الجزية، التي يحتفظ معها غير المسلم بدينه- تنسخ عشرات الآيات الداعية إلى السلام والموادعة، لتفسح المجال للسيف وآية السيف أو آيات السيف؟
ذلك لا معقول له!
ثمّ، أي دين هذا الدّين الذي يدخل فيه الناس قهرا وقسرا، تحت حكم السيف؟ وهل مثل هذا الدّين يعمر قلبا أو يمسّ وجدانا؟ وإذا ساغ أن يقبل مثل هذا في دعوة سياسية أو اجتماعية، فلن يقبل في دين تدعو إليه السماء، وإذا قبل في دين سماوىّ لمجتمع من المجتمعات لفترة محدودة، ولمجتمع محدود، فلن يقبل في الإسلام، دين الحياة الإنسانية كلها، في امتداد أزمانها، وفى اختلاف أممها وشعوبها.. وذلك ما يكشف عنه قوله تعالى لنبيّه الكريم:
{لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [256: البقرة].
ثم أين هي التقوى التي يدعو إليها اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} إذا كان المسلمون حربا على الناس من غير أن يؤذنهم أحد بحرب؟.
قوله سبحانه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} تكشف هذه الآية عن عبث المشركين بحرمات اللّه، والاستخفاف بها، والاحتيال على خداع أنفسهم بتزيين الباطل، وإلباسه لباس الحق.. وهذا إنما كان منهم لتصورهم الفاسد للألوهية، وفهمهم السقيم لجلال اللّه وعظمته وعلمه، والنزول به- سبحانه وتعالى- إلى مستوى آلهتهم التي يعبدونها، ويتعاملون معها بالمكر والخداع! فقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون هذه الأشهر الحرم، التي هي بعض البقية الباقية لهم من شريعة إبراهيم، التي كانوا يدينون بها، ثم أدخلوا عليها من أهوائهم ما أفسدها، حتى هذه الأشهر.. فقد استثقلوها، وضاقوا بأن تظلّهم ثلاثة أشهر متوالية دون قتال، هي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.. فكانوا يعمدون إلى شهر المحرم فينسئونه، أي يؤخرونه إلى صفر، ويقيمون صفر مقامه، وبهذا يخلعون على المحرم اسم صفر، ويبيحون فيه القتال، ويسمّون صفر محرّما، ويحرمون فيه القتال.. وكأنهم بهذا قد أقاموا الشريعة التي يدينون بها!! أليسوا قد حرّموا أربعة أشهر؟ وماذا في استبدال شهر بشهر؟
هكذا، يبدّلون في شرع اللّه، ليرضوا أهواءهم، وليقيموا لهم شرعا يحلّونه عاما، ويحرمونه عاما!.
والنسيء، والنّسأ: التأخير، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: {من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه}.
والضمير في قوله سبحانه: {يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً} يعود إلى هذا الشهر- شهر المحرم- الذي كانوا إذا اقتضت دواعيهم للحرب أنسئوه، وإذا لم تدع للقتال داعية عندهم، تركوه على حاله.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى {النسيء} بمعنى أنهم يعملون بالنسيء عاما، ولا يعملون به عاما، حسب ما تقتضى دواعى الحال عندهم.. وهنا يمكن أن يكون النسيء مرادا لكل شهر من الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون فيها حسب ما يشاءون.
وليس المراد بقوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً} أنهم يلتزمون ذلك عاما بعد عام.. وإنما المراد به عدم ثباتهم على وضع واحد مع هذه الأشهر، بل يتلاعبون بها حسب دواعى أحوالهم.
وقوله سبحانه: {لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ} أي ليوافقوا في عملهم هذا بإحلال الشهر الحرام، وتحريم شهر مكانه- تحقيق أربعة أشهر في العام، دون التقيّد بالأشهر الأربعة المحرمة.. أي أنهم يتقيدون بها عددا، ولا يتقيدون بها ذاتا، على ما جاء به حكم اللّه في بيانها بأعيانها.. والمواطأة: الموافقة، يقال واطأه على هذا الأمر، فتواطأ: أي اتفق معه فيه.
{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ} أي أنهم اطمأنوا إلى هذا الزّيف الذي صنعوه، وساغ لهم هذا الباطل الذي جاءوا به.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [8: فاطر].
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} أي أنه سبحانه وتعالى يخلى الكافرين وكفرهم، فلا يمنحهم هدايته، ولا يعدل بهم عن طريق الضلال الذي ركبوه، لأنهم استحبّوا العمى على الهدى، والبلاء على العافية، والكفر على الإيمان.!