فصل: تفسير الآيات (61- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (61- 63):

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}.
التفسير:
وهذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه من وجوههم المنكرة.. صنف يتخذ من الاستهزاء بالنبيّ والسخرية منه، مادّة يطعم منها في شراهة ونهم، ليشبع بذلك جوعا مسعورا من الحقد على الإسلام، والشنآن له، وللرسول الذي حمل رسالته.
وقد ضبط القرآن الكريم هذه الجماعة الآثمة، وهى قائمة على هذا الإثم، تلوكه في أفواهها المنكرة، كما تلوك الكلاب قطعا من العظم الرميم.
فكان ذلك فضحا لهم على الملأ، وخزيا متنقلا معهم في كل مكان، ينادى عليهم بالذلة والمهانة والصغار! يقولون- خرست ألسنتهم- عن النبي الكريم: هو {أذن} أي يعطى أذنه لكل قائل يلقى فيها ما يقول له! فكلمات النفاق الكاذبة التي يلقونها بين يدى النبيّ، ويحلفون عليها كذبا وزورا- هذه الكلمات يخيّل إليهم أن النبيّ الكريم- إذ يقبلها منهم، أو يسكت عليها فلا يبهتهم بها- أنه يحمل كلماتهم الكاذبة المنافقة تلك، محمل الصدق، ولهذا فهم يقولون في النبيّ هذا القول المنكر: {هو أذن} فحين آذن النبيّ الكريم المسلمين بغزوة تبوك، وندبهم جميعا إلى الجهاد في سبيل اللّه- جاء إليه- صلوات اللّه وسلامه عليه- كثير من المنافقين يعتذرون إليه بأعذار كاذبة، وقد قبلها النبيّ منهم، وتركهم وما اختاروا لأنفسهم، من القعود عن الجهاد، وإيثار العافية والسلامة لأنفسهم، على ما عند اللّه للمجاهدين، من رضى ورضوان.
وماذا يكون من النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- حيال هؤلاء المعتذرين عن الجهاد، غير الذي فعله معهم؟ إذ تركهم لشأنهم، وأعفاهم من مئونة الجهاد مع المجاهدين؟.
وماذا كان غناء أمثال هؤلاء المتكرهين للجهاد، إذا هم حملوا عليه حملا، وأخذوا به قسرا؟ أمثل هؤلاء يكون للمسلمين منهم قوة ينتفع بها في هذا المجال؟.
إن الجهاد في سبيل اللّه قرية من أعظم القربات إلى اللّه.. والقربات إنما لكى تقع موقعها من القبول عند اللّه سبحانه وتعالى- ينبغى أن تكون عن تطوع واختيار، وعن استعداد للتضحية والفداء، بل وعن اشتهاء للتضحية والفداء! إن هؤلاء المتكرهين للحرب، المؤثرين للسلامة والعافية في أنفسهم، على الجهاد في سبيل اللّه، والاستشهاد في سبيل اللّه- هؤلاء هم أشدّ على المجاهدين بلاء من العدو الذي يلقونه في ميدان القتال.. إن هؤلاء المنافقين هم صوت الهزيمة الذي يندسّ بين المجاهدين، وإنّهم لهم السلاح الخفىّ للعدوّ يضرب به في جبهة المجاهدين.. ولهذا، فقد كان ما فعله النبيّ، من عزل هذه الجماعة المثبطة، عن الجيش المجاهد- كان ذلك هو الحكمة في صميمها، ولهذا جاء قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} جاء مؤيدا لما رآه الرسول في هؤلاء المعتذرين، حيث قبل منهم ما اعتذروا به، ولم يراجعهم فيه، ولم يدخل معهم في جدل لا جدوى معه.
ولا ينقض هذا التأييد السماوي لرأى النبيّ في هؤلاء المعتذرين، ما جاء من عتاب للنبىّ من اللّه سبحانه وتعالى في قوله جلّ شأنه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ}.
فهذا العتاب، هو- في الواقع- مدح للنبىّ، ورضى كريم عنه، على حين أنه فضيحة لهؤلاء المعتذرين، وكشف لنفاقهم.
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين بما يكبتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال جلّ شأنه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}.
ففى قوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أمور:
منها: أن النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه، هو المأمور بتبليغ هذا الرد السماوي، بقوله تعالى: {قل}.
وفى هذا تكريم للنبىّ، بوضع هذا السلاح السماوىّ في يده، ليضرب به في وجه هؤلاء الذين آذوه بهذا المنكر من القول الذي قالوه عنه.
ومنها: الإشارة إلى النبيّ الكريم بضمير الغيبة هو وظاهر النظم يقضى بأن يكون النبيّ هو المتحدّث عن نفسه.. هكذا: قل إننى أذن خير لكم وفى هذا إشارة إلى أن الذي يتولى الدفاع عن النبيّ، هو اللّه سبحانه وتعالى، وأنه إذا كان النبيّ في غير محضر من هؤلاء الذين يقولون فيه هذا القول المنكر، فإن اللّه سبحانه وتعالى، هو وليّه، وهو الذي يدافع عنه، ويفضح المتآمرين عليه.
ومنها: ما تضمن هذا الردّ من أن النبيّ هو أذن خير لهؤلاء المنافقين: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}.
فكيف هذا، وهم في معرض العقاب والتقريع؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بالهدى والرحمة، وأنّ أذنه التي يعيبها أولئك المنافقون بتصديق ما يلقى إليها من أخبار، هي أذن خير، ووعاء رحمة، تتلقى ما ينزل إليها من كلمات اللّه وآياته، فتنقله إلى الناس، وتؤدّيه لهم كما سمعته.
فأذن الرسول، هي وعاء خير خالص للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، ذلك أن الرسول يؤذّن بكلمات ربّه التي سمعها من الرّوح الأمين- يؤذّن بها في الناس جميعا.. فمن سمع وعقل ووعى، فقد أخذ لنفسه بحظها من هذه الخير العام وتلك الرحمة الشاملة، ومن أصمّ أذنيه، وأعرض عن آيات ربّه، فقد حرم نفسه الخير كلّه، وأوردها الضلال والهلاك.
فلو أن هؤلاء المنافقين استمعوا لكلمات اللّه، ولم يمكروا بها، لكان لهم من ذلك الخير كلّ الخير.. ولكنهم نافقوا، ومكروا، فمكر اللّه بهم، وحرمهم أن ينالوا من تلك النعمة شيئا.
وقوله سبحانه: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} بيان لقوله تعالى: {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} يكشف عن صفات هذا الرسول الكريم، الذي يقول فيه المنافقون هذا القول المنكر.. أي أنه عليه الصلاة والسلام، أذن خير للناس جميعا.. يسمع كلمات اللّه فيصدّقها ويؤمن بها، ويسمع ما يحدّثه به المؤمنون فيصدّقهم، لأن من شأن المؤمن ألّا يكذب.
ثم هو عليه الصلاة والسلام، رحمة للمؤمنين، الذي صدّقوا الرسول وآمنوا بما جاءهم به من عند اللّه سبحانه وتعالى.
وفى هذا تعريض بالمنافقين، بأنهم آذان سوء.. لا تستمع آذانهم خيرا، وإن سمعته مجّته، وتغيّرت معالمه فيها.. فلا تعرف للحق وجها، ولا تنال من الخير المحمول إليها فيه شيئا.
قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو تهديد ووعيد لأولئك المنافقين، الذين يؤذون رسول اللّه بتلك الكلمات المنكرة، التي يصفون بها الرسول هذا الوصف الشنيع، ويتطالون بها على مقامه الكريم، في غير حياء من دين أو خلق.
فهؤلاء قد أعدّ اللّه لهم عذابا أليما، انتقاما منهم لرسول اللّه، وجزاء وفاقا لهذا العدوان الآثم على مقامه الكريم.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ} هو تسفيه لموقف هؤلاء المنافقين الذي يتخذونه من المؤمنين، حين يجيئون إليهم معتذرين، عما شاع عنهم من قولهم المنكر في رسول اللّه.. فهم يدفعون عن أنفسهم هذا الاتهام الذي يتهمهم به المؤمنون، بالحلف كذبا أنّهم ما قالوا شيئا يمسّ رسول اللّه.. وهم في هذا كاذبون منافقون.. لأنهم لو كانوا مؤمنين حقّا لكان أول ما يعنيهم من أمرهم، هو براءة ساحتهم عند اللّه، وذلك بإخلاص إيمانهم، وسلامة قلوبهم، وإخلاء ضمائرهم من النفاق الذي يموج فيها.. فلو أنهم فعلوا هذا لكانوا مؤمنين حقّا، ولرضى اللّه عنهم ورسوله، ولما كان بهم من حاجة إلى استرضاء المؤمنين والحلف لهم، لأن المرء إذا لم يكن متّهما عند نفسه، لا يجد داعية إلى دفع اتهام هو منه بريء، كما لا يجد داعية إلى الحلف، إن هو أراد دفع هذا الاتهام.
وفى مخالفة النظم في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}.
لما يقتضيه السياق، وهو أن يعود الضمير على اللّه والرسول هكذا: يرضوهما- في هذه المخالفة ما يشعر بأن في رضى اللّه رضى الرسول، وأن في رضى الرسول رضى اللّه سبحانه وتعالى.. إذ ليس فيما يرضى اللّه ما لا يرضى الرسول، ولا فيما يرضى الرسول ما لا يرضى اللّه.
ولو جاء النظم على ما يقتضيه ظاهر السياق، فجاء هكذا: واللّه ورسوله أحقّ أن يرضوهما..- لكان من معنى هذا، أن للّه سبحانه وتعالى ما يرضيه من عباده، وأن للرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما يرضيه منهم، وأن هذا الذي يرضى اللّه، وذلك الذي يرضى الرسول، قد يتفقان، وقد يختلفان.
أما الذي جاء عليه النظم القرآنى، فإنه لا يدع مجالا لهذا الاحتمال، بل يجعل التوافق تأمّا مطلقا، بين ما يرضى اللّه، ويرضى رسول اللّه.. وفى هذا- فوق أنه تكريم للرسول، وتنويه بقدره، وتشريف للرسالة الكريمة التي يحملها- هو إعجاز من القرآن، في إحكام نظمه، وصدق أدائه، ووزن كلماته وحروفه، بمعيار لا تستطيع قوة بشريّة أن تمسك به، لدقّته، وعلوّه عن مستوى الحواس والمدركات.
ومن جهة أخرى، فإنه لو عاد الضمير على اللّه والرسول معا، لكان فيه إخلال بمقام الألوهية، وتسوية الخالق بمخلوق من مخلوقاته، واللّه سبحانه وتعالى منزّه عن أن يشاركه في جلاله بشر، ولو كان أكرم الخلق عليه!. فاقتضى هذا المقام أن يجيء الضمير مفردا، يعود إلى اللّه سبحانه، وكفى الرسول الكريم شرفا أن يجيء تابعا للّه سبحانه فيما يرضيه.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ولم يجيء النظم هكذا: أن اللّه ورسوله بريئان من المشركين.
فهذا وذاك على سواء.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} هو تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، لهؤلاء المنافقين الذين يحادّون اللّه ورسوله، ويعلنون هذه الحرب السفيهة بألسنتهم على اللّه ورسوله، بما يذيعون من كلمات السوء في رسول اللّه.
وليس لمن يحارب اللّه ورسوله، إلّا أن يصلى عذاب اللّه، ويأخذ مكانه في جهنّم خالدا فيها.. وذلك هو الخزي العظيم للمنافقين، حين يساقون إلى جهنّم، ويدعّون فيها دعّا، على حين تفتّح أبواب الجنات للمؤمنين، الذين أسلموا وجوههم للّه، وأخلصوا دينهم له، فلم تحمل قلوبهم نفاقا، ولم تجر على ألسنتهم كلمة منافقة.

.تفسير الآيات (64- 70):

{يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ}.
هو نذير للمنافقين بفضح نفاقهم على الملأ، وكشف ما بيّتوا من نفاق.
بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد فضح اللّه كثيرا من المنافقين، ونزلت آيات اللّه تحدّث بما كان يسرّ به بعضهم إلى بعض، بل، وبما كان لا يزال مضمرا من السوء في صدورهم، لم يطلع عليه أحد، بعد! ومن هنا كان بلاء المنافقين، وكان الخوف الذي يطلّ عليهم من حيث لا يحتسبون.. فاللّه سبحانه وتعالى مطلع على ما يدور بينهم، عالم بما يجرى في خواطرهم.. ومحال أن يفلتوا من الفضيحة.
وأمر واحد هو الذي يضمن لصاحبه الأمن والسلامة، من هذا البلاء المبين، وهو أن يتخلّص من النفاق جملة، وأن يخلّص إيمانه من كل شائبة نفاق، وعندها يجد الإنسان أن سرّه وعلانيته على سواء، وأنه لا يسوؤه بحال أبدا أن ينكشف للناس باطنه، كما انكشف لهم ظاهره! وفى قوله سبحانه: {قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ} تهديد ووعيد لمن أمسكوا قلوبهم على نفاق، وعقدوا نياتهم عليه.. فاللّه- سبحانه- مخرج ما أمسكته قلوبهم، وما انطوت عليه نياتهم! وليس من الممكن أن يتصور أحد ما الذي كان يعيش فيه المنافقون يومئذ، من كرب وفزع، وهم يرون كل يوم صرعاهم، وقد رمتهم كلمات اللّه بسهام نافذة لم تخطئ صميم الداء منهم! ولقد كان ما صنعه اللّه بالمنافقين في عهد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- وفى فضح من فضح منهم- حماية للمجتمع الإسلامى الأول من هذا الداء الخبيث، ووقاية للمؤمنين من أن يطوف بهم طائف منه.. حتى لقد كان صحابة رسول اللّه- وهم من هم- يضعون أنفسهم تحت مراقبة دقيقة منهم، لكل خاطرة تخطر لهم، ولكل وسواس يطوف بهم.
ومن هنا ندرك السرّ في هذا الصفاء الروحىّ، الذي كان عليه صحابة رسول اللّه، وتلك العظمة الإنسانية التي اشتملت عليها نفوسهم، والذي كان من آثاره ما شهدته الحياة- وربما لأول مرة ولآخر مرة أيضا- من مجتمع مثالىّ، يحكمه وازع الضمير، ويقوم فيه مقام السلطان القاهر، الذي يتسلط على كل نفس، ويأخذ على كل جارحة؟
وفى قصتى ماعز والمرأة الغامدية شاهد مبين، يحدّث بأن المجتمع الإسلامى في عهد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان تحت مراقبة سماوية تتكشف للناس منها سرائرهم، كما تتكشف لهم صور المرئيات على المرايا العاكسة، فإن عمى الإنسان عن أن يرى نفسه فيها، رآه الناس من حوله، من قريب وبعيد! وتتلخص قصة ما عز بن مالك، في أنه قد غالب شهوته فغلبته، فأتى الفاحشة.. فلما استيقظ من سكرة تلك الشهوة الغالبة أنكر نفسه، ولم يطق صبرا على الحياة مع تلك النفس الأمارة بالسوء.
ففزع إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، يطلب النجاة عنده.. فقال:
يا رسول اللّه. طهرنى.. فعرف الرسول أنه جاء ليقام عليه حدّ الزّنا، وهو الرجم، إذ كان ماعز محصنا.
فقال الرسول الرحيم: «ويحك.. ارجع، فاستغفر اللّه، وتبّ إليه!» فرجع غير بعيد.. ثم جاء فقال: يا رسول اللّه.. طهرنى.
فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: «ارجع، واستغفر اللّه، وتب إليه..».
فرجع، ثم عاد فقال: يا رسول اللّه طهّرنى.!
فقال الرسول الكريم: «ارجع واستغفر اللّه وتب إليه».
فرجع، فقال: يا رسول اللّه طهرنى.
فقال صلوات اللّه وسلامه عليه: ففيم أطهّرك؟
فقال: من الزّنا.
فقال صلى اللّه عليه وسلم. «أيه جنون؟».
فأخبر أنه ليس بمجنون.
فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فشمّه، فلم يجد ريح خمر! فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم:
فأمر به.. فرجم! أما المرأة، فهى من غامد وغامد هذه بطن من بطون الأزد، والأزد قبيلة عربية معروفة.
جاءت هذه المرأة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، وقد فعلت الفاحشة، ولم يكن أحد من الناس قد كشف أمرها، فقالت: يا رسول اللّه: إنّى زنيت.
فطهرنى! فردّها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فلما كان الغد جاءت، فقالت يا رسول اللّه: لم تردّنى؟ لعلك أن تردّدنى كما ردّدت ماعزا؟ فو اللّه إنى لحبلى! فقال النبي الكريم: «أما الآن فاذهبى حتى تلدى» فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة.. ثم قالت: هذا قد ولدته! فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» فلما فطمته، أتت بالصبي في يده كسرة خبز، ثم قالت: هذا يا نبى اللّه قد فطمته، وقد أكل الطعام.. فدفع النبيّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فرجمت.
ووراء هذه القصة أكثر من آية معجزة من آيات السموّ الإنسانى، وعظمة الإنسان، حين يسكن الإيمان قلبه، ويملأ كيانه، فلا يخاف غير اللّه، ولا يطمئن إلا باللّجأ إليه والاستسلام له.
ونحسب أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ما عزا والغامدية، لم يكن منهما هذا الإصرار العنيف على فضح أمرهما، بعد أن ستر اللّه عليهما- إلّا خوفا من فضيحة مهلكة، يتنزل بها القرآن في شأنهما، فتكون لعنتهما على لسان كل قارئ للقرآن إلى يوم الدين.. فهما إذ يطلبان الموت، وإذ يجدان هذه الحرارة في الإقدام عليه، واستساغة طعمه- إنما ليهربا من تلك السياط الملتهبة التي تتساقط عليهما بنذر الفضيحة، التي يشهدها الوجود كله، على امتداد الزمن، إلى يوم النّشور! وطبيعى أن ذلك الشعور الذي تسلط على ما عز والغامدية، والذي أراهما مدى الهوّة التي سيهويان فيها إذا هما وقعا تحت لعنة اللّه، وأنزل اللّه سبحانه في شأنهما قرآنا يفضحهما- طبيعى أن هذا الشعور إنّما بلغ به هذه الدرجة من اليقظة والحساسية، هو وثاقة الإيمان باللّه، وحسن الإدراك لكماله سبحانه وتعالى، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء.. العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. فإذا جاءت بعد ذلك شواهد عملية تكشف عن تلك القدرة وهذا العلم، فيما كشف القرآن الكريم من خبايا المنافقين، وخفايا صدورهم- لم يكن ثمّة مهرب من اللّه إلا إليه، ولم يكن ثمة سبيل للنجاة إلّا في طلب التطهير من الإثم، وإقامة حدّ اللّه على من اعتدى على حرمات اللّه! هذا، ولمّا لحق الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى، وانقطع وحي السماء- تنفّس المنافقون الصعداء، وزايلهم هذا الشعور من الحذر والخوف أن يمسوا أو يصبحوا على أعين الناس فضيحة مفضوحة للعالمين- فاستعلن نفاقهم، وتحركت ألسنتهم، بما كانت تكنّه صدورهم من منكر القول، وآثم التدبير.
ولكن- مع هذا- لم يكن للنفاق ولا للمنافقين أثر في حياة المجتمع الإسلامى، الذي تركه الرسول، بعد أن أزاح تلك العلل التي كانت مستولية عليه، وسلك به مسالك الهدى والتقوى.. فما يكاد يظهر في المجتمع انحراف، أو يطلّ عليه وجه منحرف، حتى تنكره الحياة كلها من حوله، وحتى ليأخذ المجتمع عليه كل سبيل للإقامة على هذا الانحراف، أو الإفلات من العقاب الراصد له.
ولقد تركت هذه التجربة أثرها في نفوس المؤمنين، الذين عاشوا في عهد النبيّ، ثم امتدّت بهم الحياة بعد النبيّ.. إذ أحسوا بهذا الفراغ الذي خلّفه فراق النبيّ الكريم لهم، كما استشعروا تلك الوحشة، من انقطاع الوحى السماوي، الذي كان يؤنس حياتهم، وينير لهم طريقهم فيها، ويرصد الانحرافات التي تحدث فيهم.
لقد كان المسلمون في عهد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- تحت مراقبة دائمة، يؤمنون معها من أن يدخل عليهم حلل، دون أن يشعروا به، ويعرفوا مكانه فيهم، فيما ينزل من آيات القرآن الكريم، مما يتلبس به الأفراد.
وأما وقد مات الرسول، وانقطع الوحى، فإنه لم يعد للمؤمن ما يعرف به حقيقة إيمانه، إلا بأن يعرض نفسه على كتاب اللّه، وسنة رسوله، وإنه على قدر قربه أو بعده منهما، يكون حظه من الإيمان، ومكانه من المؤمنين.
وبهذا صار إلى المؤمن أمر دينه، كما صارت إليه حراسته من كل آفة تعرض له، دون أن ينبّه إلى ذلك، أو يلفت إليه.
روى أن عمر بن الخطاب، رضى اللّه عنه، كان يمضى إلى بيت حذيفة بن اليمان، ويقول له: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
فانظر ما في من النفاق، فعرفنى به!! فيقول حذيفة: واللّه يا أمير المؤمنين ما أعلم فيك نفاقا.. فيقول: انظر وحقق النظر! فيبكى حذيفة، ويبكى عمر رضى اللّه عنهما، فلا يزالان يبكيان حتى يغشى عليهما.
ومن هنا ندرك السرّ فيما كان من التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا المرض الخبيث- مرض النفاق- ورصد تحركاته في المجتمع الإسلامى، وفضح أهله. وكشف وجوههم للملأ، حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وحتى لا تصيبهم عدواه، الأمر الذي إن فشا في الناس، أفسد عليهم حياتهم، وأراهم الأمور في أوضاع مقلوبة، لا يلتقون معها إلا إذا قلبوا هم أوضاعهم، ومشوا على رءوسهم، بدلا من أرجلهم! قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ} هو كشف عن وجه آخر، من وجوه النفاق التي يظهر بها المنافقون في الناس.. وهو أنهم إذا ضبطهم القرآن متلبسين بجريمة من جرائمهم المنكرة، أو لامهم لائم على ما انكشف من مستور تدبيرهم السيّء، وما جرى على ألسنتهم من هزؤو سخرية برسول اللّه وبالمؤمنين باللّه، قالوا معتذرين: {إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي لم نكن جادّين فيما كنا فيه، وإنما هو لعب وعبث، ومفاكهة! وهكذا المنافق.. لا يجد ما يستر به نفاقه إلا الكذب.. فهو كدب يستر كذبا، ونفاق يدارى نفاقا.
وقد أمر اللّه سبحانه نبيه الكريم أن يردّ عليهم زعمهم هذا، وأن يسفّه باطلهم الذي هم فيه، وأن يفضح عذرهم المفضوح الذي اعتذروا به.. {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ}.
أفهذا مقام يخوض فيه الخائضون ويلعب اللاعبون؟ إنه لعذر أقبح من ذنب! قيل إن جماعة من المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك مع المسلمين، وقد كانوا يذيعون في الناس أحاديث يسخرون فيها من النبيّ وأصحابه، ويقولون فيما يقولون: إن محمدا وأصحابه لن يثبتوا للروم، وما هم إلا غنيمة باردة ليد الروم إذا التقوا بهم.. وقد كشفهم اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ، وأراه وجوههم، وأطلعه منهم على ما كانوا يقولون.. فلما أنبأهم النبيّ بهذا الذي كان منهم- قالوا إنما كنا نخوض ونلعب! وقيل إنه ضلّت للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ناقة في هذه الغزوة، فجعل أصحابه يبحثون عنها.. فقال المنافقون: لو كان محمدا متصلا بربّه- كما يقول- لأخبره بالمكان الذي فيه ناقته! فكيف يدّعى- مع هذا- أنه يوحى إليه من ربه!؟ وقد أطلع اللّه سبحانه النبيّ على ما دار بين هؤلاء المنافقين، فلما أنبأهم النبيّ بهذا الإثم الذي تعاطؤه، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب!! وقد أخزاهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله:{أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون}.
ثم أخزهم خزيا بعد خزى، إذ أطلع النبيّ على المكان الذي شردت إليه الناقة، فأشار إلى أصحابه إليه، فوجدوها حيث أشار! قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} في هذه الآية يأخذ اللّه المنافقين بنفاقهم.. فلا يقبل لهم عذرهم الذي اعتذروا به، لأنه كذب إلى كذب، ونفاق إلى نفاق.. ثم يحكم- سبحانه وتعالى- عليهم بالكفر، بسبب هذا النفاق الذي لبسوه، بعد أن نزعوا ثوب الإيمان الذي كانوا يخفون به ما انطوت عليه قلوبهم من نفاق.. وبهذا- وبعد أن افتضح أمرهم- صاروا كافرين ظاهرا وباطنا. بعد أن كانوا كافرين باطنا، مؤمنين ظاهرا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ}.
وفى قوله سبحانه: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ}.
فالذين يتوبون إلى اللّه، ويرجعون إليه من قريب من هؤلاء المنافقين، سليقون من اللّه سبحانه، عفوا، ومغفرة.. والذين يصرّون على هذا النفاق الذي هم فيه، سيلقون من اللّه ما أعد للكافرين والمنافقين من عذاب ونكال.. {بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ}.
أي بسبب ما كانوا عليه من ضلال، ومحادّة للّه ورسوله، الأمر الذي اقترفوا به ما اقترفوا من جرائم وآثام.
قوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ} هكذا هم المنافقون، وذلك هو مجتمعهم، لا ينضح بغير الإثم والمنكر، ولا يلد إلا البغي والفجور.. {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي على طبيعة سواء يجمعهم النفاق، ويؤلف بينهم، من رجال ونساء، حتى لكأنهم أفراد أسرة واحدة، تجمعها لحمة النسب والقرابة، وتؤلف بينها مشاعر الحب والولاء.. وذلك أن المنافق لا يجد المرعى الخصيب الذي يغذّى فيه نفاقه، ويحقق به وجوده، ويرضى فيه مشاعره- إلا في بيئة منافقة، تتجاوب معه، وتروّج لهذه البضاعة التي يتعامل بها.
ذلك أن بضاعة المنافقين، بضاعة خبيثة، وطعام فاسد عفن، لا تقبله إلا النفوس المريضة، ولا تستطعمه إلا الطبائع الخبيثة.. إنه عملة زائفة، لا تروج إلا في الظلام، ولا يتعامل المتعاملون بها إلا في أوكار اللصوص، وفى حانات الخمر، حيث تدور الرءوس، وتذهب العقول! {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} هذه هي بضاعة القوم، وتلك هي رسالتهم في الحياة، وشأنهم في الناس.
{يأمرون بالمنكر}! فلا يكفيهم أنهم يطعمون من هذا الطعام الخبيث، ولا يرضيهم أن يعرضوه على الناس- بل يأمرونهم به، ويحرضونهم عليه، ويزينون لهم تعاطيه.
إنهم لا يهنؤهم هذا الطعام الخبيث العفن، حتى يستكثروا له من الأيدى التي تشاركهم فيه، ومن الأفواه التي تمضغه معهم.
{وينهون عن المعروف}! فمن دعا إلى منكر وأمر به، وحرض عليه، فهو ناه- ضمنا- عن معروف، صادّ عن خير.. ولكن القوم، لا يقفون عند هذا، بل إنهم حين يدعون إلى المنكر، يقومون بدعوة أخرى، هي تبغيض الحلال إلى الناس، وتزهيدهم في الخير، وذلك إذا تأبّوا عليهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم إلى المنكر.
وحسبهم في هذا أن يصرفوا وجوه المؤمنين عن الإيمان، ويكفّوا أيديهم عن التعامل بالخير، فذلك إن تمّ لهم كان كسبا للمعركة التي يخوضونها مع المؤمنين، وهو عزل أكبر عدد يمكن عزله منهم عن المعركة، بحيث لا يكونون مع المؤمنين ولا على المنافقين!
{ويقبضون أيديهم} أي أن هؤلاء المنافقين الذين يسعون في الناس هذا السعى الحثيث في مجال الإفساد، والإهلاك للناس- هم في الوقت نفسه أشحة على الناس بأى خير يمكن أن تحمله أيديهم إلى الناس، إن كان في يدهم أي خير.
إنهم أسخياء كرام، يبذلون- في تبذير شديد- كلّ منكر، ويجودون بلا حساب، بكل مفسدة وكل ضلال.. أما في مجال الخير والإحسان، فهم بخلاء أشحّاء، لا تندّ أيديهم بذرة خير، ولا تسخو أنفسهم بعارفة من إحسان! {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} إنهم لا يذكرون اللّه أبدا، إذ لو ذكروه، لما كان لهم في عباد اللّه هذا البلاء الذي يرمونهم به، في غير حرج أو تأنّم.
إنّهم نسوا اللّه، فنسيهم اللّه، وتركهم وما هم فيه من ضلال.. فلو أنهم ذكروا اللّه لوجدوا في قلوبهم خشية له، ولكان لهم في خشيتهم للّه ما يمسك بهم عن هذا الضلال الذي يهلكون به أنفسهم، ويهلكون به كثيرا من الناس معهم.
ونسيان اللّه لهم، هو تركهم لأنفسهم، وحرمانهم من توفيق اللّه.
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ}.
أي هم الذين فسقوا عن أمر ربّهم، وخرجوا عن الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال والهلاك.
قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} هذا هو الجزاء الذي أعدّه اللّه لأهل النفاق والكفر.. نار جهنم خالدين فيها، لا يتحولون عنها أبدا.. هي حسبهم، أي هي كلّ ما لهم عند اللّه.
لا شيء لهم غيرها.. ثم من وراء جهنّم وعذابها، لعنة اللّه القائمة عليهم، وعذاب مقيم لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون.
قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} هو عرض لصورة أخرى من صور الضالّين والمفسدين، تطلع على هؤلاء المنافقين من ثنايا الزمن الغابر، وترتفع لأبصارهم، ممن كان قبلهم من الأمم السالفة.
إنّهم لن يخلدوا في هذه الدنيا، كما لم يخلّد من كان قبلهم من الماضين، ممن كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا، وأشدّ قوة، وأمكن سلطانا.
فليست هذه الدنيا دار بقاء وخلود، وليس ما فيها من متاع، إلا ظل زائل، وعرض ذاهب.. ثم يجيء من بعد هذا الحساب، والقضاء والجزاء.
لقد استمتع هؤلاء الذين ذهبوا، بما كان بين أيديهم من مال وبنين، وبما كان لهم من جاه وسلطان.. ثم ذهبوا وذهب كل ما كان لهم، وما كان معهم.. استمتع كلّ بخلاقه أي بنصيبه المقسوم له، وبحظه المتاح له، إن كثيرا، وإن قليلا.. ثم انتهى كلّ إلى نهايته، وصار كلّ إلى ما قدّم من خير أو شر.. وقد كانوا أكثر من هؤلاء المنافقين مالا، وأقوى قوة، وأعزّ نفرا.
وهؤلاء المنافقون.. الذين يكيدون للنبىّ، ويحادّون اللّه ورسوله.
إنّهم ليسوا بدعا في النّاس، ولن يخرجوا على سنة اللّه التي خلت في عباده.. فلن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا.. وإنهم ليأخذون حظّهم المقدور لهم مما في أيديهم من مال وولد، ثم يلحقون بمن سبقهم إلى عالم الموت، وينتظمون في ركب الضّالّين والمكذّبين، ليقفوا بين يدى اللّه، ولينالوا الجزاء الذي هم أهله، من عذاب أليم.
فلقد حبطت أعمالهم كلّها، فلم يسلم لهم منها شيء، حتى تلك الأعمال التي كان يمكن أن تحسب لهم في جانب الإحسان.. لأنّهم إذ فعلوها لم يريدوا بها وجه اللّه، ولم يطلبوا بها ما عند اللّه.. لأنهم لا يؤمنون باللّه، ولا يتعاملون مع اللّه.
{حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا} فلم يحمدوا بها.. وحبطت في {الآخرة} فلم تدفع عنهم عذاب اللّه الذي أعده لهم، وأنزله بهم.. {وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ}.
إذ لا خسران بعد هذا الخسران، ولا ضياع بعد هذا الضياع.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وإذا تصفحّ هؤلاء المنافقون تاريخ القرون الماضية، فلم ينكشف لهم منها- لماهم فيه من غفلة وعمّى- ما أخذ اللّه به الظالمين من نكال وبلاء- فها هي ذى المثلات، يضعها اللّه بين أيديهم، ويكشف لهم ما خفى منها.
قوم نوح.. وعاد.. وثمود.. وقوم إبراهيم.. وأصحاب مدين.
والمؤتفكات.
هؤلاء جميعا، قد جاءتهم رسل اللّه، تحمل إليهم الهدى والخير.. فمكروا بآيات اللّه، وكذّبوا رسل اللّه.
فماذا كانت عاقبة أمرهم؟
لقد أخذهم اللّه بذنوبهم، وأوقع بهم نقمته، وصبّ عليهم عذابه، ألوانا متعددة من البلاء، وصورا متباينة، من المهلكات.
قوم نوح.. أغرقهم اللّه بالطوفان.
وعاد، قوم هود.. أهلكهم اللّه {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ}! وثمود.. قوم صالح.. أخذتهم الصيحة.. فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
وقوم إبراهيم.. ألقوه في النار، فجعلها اللّه بردا وسلاما عليه، وجعل في ذريته الكتاب والحكم والنبوّة.
وأصحاب مدين.. قوم شعيب.. أخذهم اللّه بالصيحة، كما أخذ قوم صالح.
فأصبحوا في ديارهم جاثمين.. {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ} [94: هود] والمؤتفكات.. أي المنقلبات على أهلها، وهى الدّور التي كان يسكنها قوم لوط.
إذ أمطرهم اللّه بحجارة من سجيل منضود، فطحنتهم طحنا، وقلبت عليهم قريتهم، فأصبح عاليها سافلها.. ومنه الإفك، وهو الحديث المفترى، الذي تقلب فيه وجوه الأمور، وتغير معالمها.
هؤلاء جميعا.. كذبوا رسل اللّه، فأخذهم اللّه بذنوبهم، وجزاهم جزاء الظالمين.. {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ}.
بهذا العذاب الذي أنزله بهم، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
فلقد ظلموا أنفسهم، بأن صرفوها عن الخير الذي جاءهم على يد رسل اللّه.. فماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟ وماذا بعد الضلال إلا البلاء والعذاب؟.