فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (71- 72):

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}.
التفسير:
مما يضاعف حسرة المنافقين، ويزيد في بلائهم، أن يطلع عليهم المؤمنون في هذا الموكب العظيم، الذي يحفّه الجلال والإكرام، ويتغشّاه النعيم والرضوان، بعد أن انكشف للمنافقين سوء أمرهم، وعاقبة سعيهم، وما أخذهم اللّه به من نكال وبلاء.
وفى هذا الموكب الذي ينتظم المؤمنين، يرى الرائي لهم أن بعضهم أولياء بعض، تجمعهم الأخوّة، وتؤلف بينهم المودّة، يلتقون على الإيمان باللّه، والولاء له، والاستجابة لرسوله، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
فتلك هي سبيل المؤمنين، وذلك هو حبل اللّه الذي يعتصمون به، ويشدّون أيديهم عليه.. {أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} لأنهم لجثوا إليه والتمسوا مرضاته، وأخلصوا القول والعمل له.. {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يضام من لجأ إليه، واعتصم به.
{حكيم} في قضائه بين عباده، وحكمه فيهم، فيجزى المحسنين بإحسانهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ المسيئين بما عملوا إن شاء، أو يتوب عليهم.
كل ذلك عن قدرة متمكنة، وعزة غالبة، وحكمة بالغة.. سبحانه، عزّ فحكم، لا معقب لحكمه، ولا منازع لسلطانه.
هذا، وليس دخول حرف الاستقبال في قوله تعالى: {سيرحمهم}.
بالذي يجعل وعد اللّه غير محقق في الحال كما هو محقق في الاستقبال، بل هو وعد منجز في جميع الأحوال، والأزمان.. فالمؤمن محفوف برحمة اللّه دائما، ولولا هذه الرحمة لما كان من المؤمنين، الذين دعاهم اللّه إلى الإيمان، وهداهم إليه، وأمسك بهم على طريقه.
وفى قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} ما يشير إلى ما في المؤمنين من معانى الإنسانية، التي تعطى المؤمن وجودا مشخّصا، وذاتية مستقلة.. ثم هو- مع هذا الوجود الذاتي المستقلّ- يحكمه عقل رشيد، ويوجهه قلب سليم، فيلتقى مع أصحاب العقول الرشيدة، ويتجاوب مع أولى القلوب السليمة، على جبهة الحق، وتحت راية الخير، فإذا هو قوة عاملة في هذا الميدان، يعمل للحق مع العاملين، وينتصر للخير مع أهل الخير.. يبادلهم ولاء بولاء، وحبّا بحبّ، وإخاء بإخاء! وليس كذلك المنافقون والمنافقات.. {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
إنهم كتلة متضخّمة من الخبث.. أشبه بالديدان التي تتخلّق من الرّمم، ليس بينها تجاوب في المشاعر، أو تلاق في التفكير، وإنما هي كائنات تسبح فوق هذه الرمم، وتغتذى منها! قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو بيان لما أعدّ اللّه للمؤمنين والمؤمنات من جزاء حسن، ومقام كريم في الآخرة.. إنّ لهم عند اللّه جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ومساكن طيبة في جنّات عدن.. أي جنّات إقامة واستقرار.. يقال عدن بالمكان، أي أقام واستقر.. فهى جنات لا يتحول عنها ساكنوها إلى مكان آخر، حيث تطيب لساكنيها الإقامة، لما يجدون فيها من نعيم لا ينفد، ولا يملّ مهما طالت صحبته، وامتدّ الزمن في الحياة معه.
وقوله سبحانه: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
هو نعيم فوق هذا النعيم الذي يناله أصحاب الجنة.. بما يفيض اللّه سبحانه وتعالى عليهم من رضوانه، وما يضفيه عليهم من رضاه.. فكل نعيم- وإن عظم- هو قليل إلى رضوان اللّه، الذي يناله من رضى اللّه عنهم، ثم إن كل نعيم هو تبع لهذا الرضا، ونسمة من أنسامه الطيبة المباركة.. ولهذا جاء قوله تعالى: {ورضوان من اللّه أكبر} مستأنفا، غير معطوف على ما قبله، حتى لكأنه إضراب عما سبقه، بمعنى بل.
وعلى هذا يكون التقدير: بل.. ورضوان من اللّه أكبر.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الإشارة هنا إلى رضوان اللّه، الذي هو الفوز كل الفوز، والنعيم كل النعيم.

.تفسير الآيات (73- 74):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)}.
التفسير:
لم تنته الآيات القرآنية بعد، من عرض الوجوه التي يظهر بها المنافقون في الناس، فما زالت هناك وجوه كثيرة لهم، سيكشف عنها القرآن في آيات تالية- ومع هذا، فقد جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} جاء معترضا سلسلة هذا العرض الكاشف عن مخازى المنافقين، ليذكّر النبيّ بما ينبغى أن يأخذ به المنافقين، الذين هم أشد أعداء الإسلام خطرا على الإسلام.
والكفار والمنافقون، هم على سواء في كفرهم باللّه، ومحاربتهم لدين اللّه، وكيدهم لرسول اللّه.. وإن على النبيّ أن يجاهد هؤلاء وأولئك جميعا، وأن يلقاهم بكل قوة وبأس.. فالمنافقون، كافرون، وأكثر من كافرين.. لأنهم يسترون كفرهم بالنفاق، ويدارونه بإظهار الإسلام.. فهم بهذا عدوّ خفىّ، يأمن المسلمون جانبه، ولا يأخذون حذرهم منه، فيطّلع منهم على ما لا يطّلع عليه العدوّ الظاهر، من مواطن الضعف منهم، وانتهاز الفرصة فيهم.
فإذا جاهد النبيّ الكفار، فليجاهد المنافقين كذلك، وليشتدّ في جهادهم، وليغلظ عليهم، فلا يرخى يده عنهم إذا أمكنته الفرصة فيهم.
وقوله: {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} هو بيان للحكم الواقع تحته الكافرون والمنافقون، وهو أن جهنم مأواهم الذي يؤوون إليه، والمصير الذي يصيرون له.. وأنهم إذا أفلتوا في هذه الدنيا من القتل أو الأسر، فلن يفلتوا في الآخرة من عذاب جهنم، وبئس المصير.
وقد جاء في سورة التحريم نص هذه الآية هكذا: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [9: سورة التحريم] وفى هذا تأكيد للأمر بجهاد النبيّ للكفار والمنافقين، وأخذهم بالبأساء والضرّاء، حتى يزول الخطر الذي يتهدد الإسلام والمسلمين منهم.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} هذا عرض لحال من أحوال المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة.
وهو أن من دأبهم أن يحلفوا كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول المنكر، الذي كان سرا بينهم، ففضحهم اللّه به، وأطلع النبيّ والمسلمين عليه.
وقد كذّبهم اللّه، وردّ أيمانهم الكاذبة بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}.
والمراد بكلمة الكفر، هو الكلام الذي تحدثوا به فيما بينهم، وتناولوا فيه النبيّ بالهزء والسخرية، وقالوا حين سئلوا: {إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وذلك منهم هو الكفر الصّراح.. فلو كان في قلوبهم شيء من الإيمان، لما حدّثتهم أنفسهم بهذا السوء، ولما طاوعتهم ألسنتهم على النطق بهذا المنكر من القول.
وفى التعبير عن كلمات السوء بكلمة الكفر، إشارة إلى أن حصيلة هذا الكلام الكثير الذي دار على ألسنتهم، هو كلمة واحدة، هي الكفر، الذي دمغوا به ظاهرا، بعد أن كان يعيش في كيانهم متخفيا، مستبطنا.
فكلامهم كله، هو الكفر، إذ لا ثمرة له إلا الكفر.
وقوله تعالى: {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}.
هو تأكيد لكفرهم الذي استعلن بكلماتهم المنافقة التي فضحهم اللّه بها.. وفيه إشارة إلى أنهم لم يكونوا مؤمنين أبدا، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، وإنما جرت كلمة الإسلام على ألسنتهم، فحسبوا بهذا من المسلمين لا المؤمنين.
فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات].
وقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا} هو فضح لخفيّة من خفايا المنافقين، وكشف لمكيدة من مكايدهم، وأنّهم قد بيتوا عدوانا، ودبروا كيدا، ولكنّ اللّه- سبحانه- أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. فقد أرادوا بالنبيّ- صلى اللّه عليه وسلم- شرا، وائتمروا فيما بينهم على أن يرصدوا له، وهم معه على طريق العودة من تبوك، فأطّلع اللّه سبحانه النبيّ عليهم، وأراه ما دبروا له.. فدعاهم النبيّ إليه، وكشف لهم عن تدبيرهم السيء.. فلم يجدوا غير الحلف كذبا وبهتانا، بأنّهم ما قالوا شيئا، ولا بيّتوا شرّا.
وقوله سبحانه: {وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}.
هو تسفيه لهم، واستنكار لهذا المنكر الذي هم فيه.. وأنهم لم يتخذوا هذا الموقف المنحرف اللئيم من اللّه ورسوله، إلّا لما أفاء اللّه ورسوله به عليهم من فضله.. وهكذا أصحاب الطباع السيئة، والنفوس المريضة، تنقلب حقائق الأشياء عندهم، فإذا النور ظلام، والحق باطل، والنعمة نقمة.
واللّه سبحانه وتعالى يقول في مثل هؤلاء الحمقى والسفهاء من الناس:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ}.
وانظر كيف جاء النظم القرآنى بقوله تعالى {وَما نَقَمُوا} ليكشف بذلك عما بلغه القوم من سفه وضلال، حتى إنهم ليجدون في النعم التي بفضل اللّه سبحانه وتعالى عليهم بها، ما يحرك في نفوسهم داعية الانتقام ممن أنعم عليهم، حتى لكأن هذه النعم شرّا قد سيق إليهم، وبلاء وقع بهم.. وهذا هو في الواقع ما لنعم اللّه عندهم.. إنها لا تلبث حتى تتحول في أيديهم إلى أسلحة مهلكة.
قوله تعالى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
هو تنبيه لهؤلاء الضالّين، وإشارة مضيئة تطلع في ليلهم المطبق عليهم، رجاء أن يتوبوا إلى اللّه، ويستقيموا على طريق الحقّ، فإن فعلوا رشدوا وأمنوا، وإن أبوا، ضلوا وهلكوا، وأخذهم اللّه بالعذاب الأليم في الدنيا، بما يصيبهم على يد المؤمنين من خزى وبلاء، وبعذاب السعير في الآخرة، حيث لا ولىّ لهم، ولا نصير، يردّ عنهم بأس اللّه الواقع بهم.

.تفسير الآيات (75- 80):

{وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)}.
التفسير:
هذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه كريه من وجوه النفاق.. يكشف عنه- قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
إن هذا الصنف من المنافقين، يلقى اللّه في حال العسر والضيق، مستكينا مستسلما، ويبسط إليه يده، ضارعا طامعا، يتمنى على اللّه أن يبسط له في الرزق، وأن يملأ يديه من المال، وأنه إذا استجاب اللّه له فيما طلب، بسط يده بالعطاء والإنفاق في وجوه الخير، وشغل قلبه ولسانه بالحمد والشكران للّه ربّ العالمين.
هذا موقف من مواقف المنافقين مع اللّه.. حين يمسّهم الضرّ، وينزل بهم العوز، ويصيبهم الفقر.
فماذا يكون منهم إذا كشف اللّه ما بهم من ضرّ، وصرف عنهم العوز والفقر، ووسع لهم في الرزق، وأفاء عليهم من فضله؟.
هنا يغلب عليهم طبعهم اللئيم، فإذا هم على طريق النفاق، ينقضون العهد الذي عقدوه مع اللّه، ويتحلّلون من الوفاء به! {فلمّا آتاهم من فضله بخلوا به} أي ضنّوا بهذا الفضل الذي هو من عند اللّه، على الإنفاق منه في سبيل اللّه.
{وتولّوا وهم معرضون} أي نكصوا على أعقابهم، وأعرضوا عن الحق الذي لزمهم.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي تبعهم النفاق، وركب معهم الطريق الذي ركبوه، مبعدين عن اللّه، مطرودين من رحمته {إلى يوم يلقونه} أي سيصحبهم هذا النفاق إلى يوم القيامة، حيث يطلع عليهم هذا النفاق بوجهه الكريه، ليقف معهم بين يدى اللّه، وليكون شاهد إدانتهم، ورفيق طريقهم إلى عذاب السعير {بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ} أي هذا النفاق الذي لبسهم، واشتمل عليهم، وأصبح بعضا منهم، هو الثمرة الخبيثة التي أثمرها إخلافهم وعدهم للّه، وقولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وهم يحسبون أن اللّه- سبحانه- محدود القدرة، محدود العلم، وأنه إذا لم يشهد شهود عيان هذا العهد الذي عاهدوه عليه، لم تقم عليهم حجة، وكان لهم أن يمكروا به، وينكروا العهد الذي أعطوه من أنفسهم له؟.
وهذا عدوان على اللّه، أوقعهم فيه سوء فهمهم وتقديرهم لجلال اللّه، وعظمته، وقدرته وعلمه.. ولهذا أنكر اللّه عليهم سوء ظنهم به، وخطأ تصورهم لكمال صفاته، فقال سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.
ولو أنهم علموا هذا واستيقنوه، لما كان منهم هذا الظنّ السيّء، الذي زيّن لهم التحلّل ممّا عاهدوا اللّه عليه، فيما حكاه القرآن عنهم من قولهم: {لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
والسرّ: ما أسرّه الإنسان في نفسه ولم يطلع عليه غيره، والنجوى:
ما ناجى به غيره من حديث، وأفضى به إليه في سر.. وأصل النجوى، والنجوة: المكان المرتفع الظاهر للعيان.
ويذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات، أن أحد أصحاب رسول اللّه، واسمه ثعلبة بن حاطب، كان من فقراء المسلمين، وممن يلزمون الجماعة والجمعة في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد حدثته نفسه أنه لو كان من الموسرين لأرضى اللّه ورسوله بما ينفق في سبيل اللّه، ولما فاته هذا الفضل الذي سبقه إليه أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه.. فقال يا رسول اللّه: ادع اللّه أن يرزقنى مالا!. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «يا ثعلبة.. قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه. أمالك في رسول اللّه أسوة؟» ثم عاد إلى النبي يسأله أن يدعو اللّه له أن يرزقه مالا، وأن لو استجاب اللّه له ورزقه المال الذي يطلب، لأعطى كل ذى حق حقه من هذا المال.. فقال الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه-: «اللهم ارزق ثعلبة مالا..».
قالوا: وقد رزق ثعلبة مالا كثيرا.. وكان ماله من الغنم، فتكاثر ونما حتى ضاقت به المدينة، فخرج إلى البادية، وشغله ذلك عن حضور الجماعة والجمعة في مسجد رسول اللّه، وتفقّده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يجده في أصحاب الجماعة والجمعة، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «يا ويح ثعلبة!» ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمّال الصدقة ليأخذوها من أهلها، فلما جاء عامل الصدقة إلى ثعلبة، وعرف القدر المطلوب منه للصدقة استكثره، وأنكره وقال: ما هذه الصدقة، بل هي الجزية أو ردّ العامل، قائلا له: أنظرنى لأرى!! وحين لمغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان من ثعلبة، قال: «يا ويح ثعلبة.. يا ويح ثعلبة» ثم نزلت هذه الآيات قيل، وجاء ثعلبة بعد ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالصدقة، فقال له رسول اللّه: «إن اللّه منعنى أن أقبل منك» فجعل يحثوا التراب على رأسه، فقال رسول اللّه: «هذا عملك! قد أمرتك فلم تطعنى» ثم لما توفّى رسول اللّه، جاء بالصدقة إلى بكر، فلم يقبلها منه، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فردّها.. ثم هلك في خلافة عثمان!.
وليس ثعلبة وحده- إن صح ما روى فيه- هو الواقع تحت حكم هذه الآيات، بل هو حكم واقع على كل من نكث مع اللّه عهدا.. وما أكثر الناكثين عهود اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [21- 23: يونس] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} اللّمز: القرص، والغمز، بالكلمة الجارحة، يرمى بها في موارية.
تلويحا لا تصريحا.
والمطوّعين: جمع متطوع، وهو الذي يأتى بعمل الخير من تلقاء نفسه، تطوعا، غير مطالب به.. وهو يثاب عليه إذا فعله، ولا يعاقب إذا تركه.
وأصل المطّوع- لغة- المتطوع.. قلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء.
والجهد: هو غاية ما في وسع الإنسان، وطاقته، واحتماله.
والآية هنا، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وعن سلاح من أسلحتهم الخفية، التي يضربون بها في كيان المجتمع الإسلامى.
فهذه الجماعة من المنافقين، لم يكفها أنها كفّت يدها عن الجهاد في سبيل اللّه، وغلّتها عن الإنفاق في وجوه الخير، بل جعلت تترصّد المنفقين في سبيل اللّه، وتتخذ منهم مادة للهزء والسخرية، سواء المكثرون منهم والمقلّون.
فالذين بسط اللّه لهم في الرزق من المؤمنين، فبسطوا أيديهم بالبذل في سبيل اللّه، وجاءوا بالكثير من أموالهم إلى رسول اللّه، يضعها حيث يشاء- هؤلاء هم عند الجماعة المنافقة مراءون، لا يطلبون بما أنفقوا إلا أن يظهروا في الناس، وإلا أن يكونوا حديث المتحدّثين! وأمّا الذين قصرت أيديهم عن العطاء الكثير من المؤمنين، فأعطوا ما وسعهم الجهد، وجاءوا بما ملكت أيديهم- فإنهم لم يسلموا من تلك الألسنة المنافقة، إذ جعلوا منهم مادّة سخرية واستهزاء وتندر، فيقولون فيما قالوا:
ماذا تغنى الحفنة من التمر التي جاء بها فلان؟ وما جدوى هذه الكسرات من الخبز التي قدمها فلان؟ وما هذا الثوب الخلق الذي بذله فلان؟.. إن هؤلاء لم يفعلوا ما فعلوا من هذا العبث إلا ليذكروا مع المتصدّقين، وإلا ليذكّروا بأنفسهم إذا وقعت للمسلمين غنيمة، وأصابهم خير!.
وهكذا، يكيد المنافقون للإسلام، ويحاولون جاهدين أن يفسدوا كل صالحة فيه.
وفى قوله تعالى: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو دفاع من اللّه سبحانه وتعالى عن المؤمنين، الذين سخر منهم المنافقون.. وفى هذا تكريم للمؤمنين المنفقين، وإيذان منه- سبحانه- بأنّه تقبل صدقات المتصدقين، قليلها وكثيرها، وأنه- سبحانه- هو الذي يتولىّ حماية هذه الصدقات وحماية أصحابها من كل سوء.. فإذا سخر ساحر من الصدقات، واستهزأ بأهلها، سخر اللّه منه، واستهزأ به.. إنه عدوّ للّه. محارب له، وحسب من يعادى اللّه ويحاربه، ضياعا، وهلاكا، وسوء مصبر!.
قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} هو تيئيس لهؤلاء المنافقين من رحمة للّه، وقطع لطريق النجاة من العذاب الذي أعدّه اللّه لهم.
إنّه لن ينقدهم من اللّه منقذ، ولن يشفع لهم شفيع.. حتى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- وهو من هو عند اللّه- لن تقبل شفاعته فيهم، ولن يستجاب استغفاره لهم، ولو حرص النبيّ على هذا الاستغفار وبالغ فيه. وذلك لأنّهم كفروا باللّه ورسوله، وحادوا اللّه ورسوله، ومن كان هذا موقفه مع اللّه ومع رسول اللّه، فلن يقبل اللّه فيه شفاعة، ولن يصرف عنه العذاب الذي رصده له.
وليس حصر الاستغفار بسبعين مرة، مرادا به أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لو جاوز هذا العدد، وخرج به عن قيد الشرط- جاز أن يغفر اللّه لهم.
وكلّا، فإن المراد بهذا العدد هو الدلالة على أن استغفار النبيّ لهم، لن يقبل من اللّه فيهم على أية حال، كثر العدد أو قلّ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فإن هذا معناه أنه لن يغفر لهم على أية حال.
سواء استغفر لهم النبي أو لم يستغفر لهم.. قلّ استغفاره لهم أو كثر! والخبر الذي يروى من أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية: «واللّه لأزيدنّ عن السبعين» هو خبر آحاد، لا يعوّل عليه هنا عند معارضته لصريح المفهوم من الآية الكريمة.. لأن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يعلم ما في هذه الآية من القطع بأن اللّه سبحانه لن يغفر لهم، ولن يقبل شفاعة شافع فيهم. فلا يعقل- مع هذا- أن يقول النبي هذا القول، بعد أن تلقّى هذه الآية. وكذلك الشأن في الخبر الذي يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرّة غفر اللّه لهم لفعلت».
فإنه خبر لا يصحّ عن رسول اللّه.. لأنه فيه ما يشبه التحدّى لحكم اللّه!!.